تُمثل بنية القصيدة واحدةً من القضايا التي شغلت التفكير النقدي ، وتتفاوت الدراسات في كيفية تحليلها وتفسير معضلاتها ومشكلاتها ، ويمكن تأمل بنية القصيدة من خلال منظورين ،يتأمل أحدهما البنية من جهة المتلقي ، ويتأملها الآخر من ناحية المبدع ، وأبرز من يمثل المنظور الأول ابن قتيبة الذي حاول إرجاع بنية القصيدة إلى مكونات تقع خارج النص الأدبي ، فلقد قام باستقراء ناقص للقصيدة العربية ثم عمد إلى تفسير ذلك على وفق تصور تحكمه مقولات عقلية ترد الكثرة والتنوع والتعدد إلى وحدة ذات طابع شبه منطقي، فهو يؤسس بنية القصيدة انطلاقاً من المكان، ويتطور بها على وفق مسببات منطقية تقود إلى نتائج تتوقف في النهاية عند المديح الذي يقود هو الآخر إلى الجائزة والمكافأة التي يحصل عليها الشاعر .
إنَّ المكان يمثل مثيراً يدفع الشاعر ـ في تصور ابن قتيبة ـ إلى ذكر آهليه، ومن ثم الانتقال إلى التحدث عن حبيبته وذكرياته معها، فهو انتقال من العام إلى الخاص، أي الانتقال من المكان إلى عموم قاطنيه، ثم الانتقال إلى أخصهم وهي حبيبة الشاعر، يقول ابن قتيبة : « إنَّ مقصّد القصيد إنما ابتدأ فيها بذكر الديار والدمن والآثار، فبكى وشكا، وخاطب الربع، واستوقف الرفيق، ليجعل ذلك سبباً لذكر أهلها الظاعنين عنها، .... ثم وصل ذلك بالتشبيب فشكا شدة الوحدة وألم الفراق وفرط الصبابة والشوق » [1].
وإذا كان ذكر الديار أمسى » سبباً لذكر أهلها الظاعنين عنها « فإنّ التشبيب بالحبيبة يصبح هو الآخر سبباً » ليميل نحوه القلوب، ويصرف إليه الوجوه، وليستدعي به إصغاء الأسماع إليه، لأنّ التشبيب قريبٌ من النفوس، لائطٌ بالقلوب، لما قد جعل الله في تركيب العباد من محبة الغزل، وإلف النساء، فليس يكاد أحدٌ يخلو من أنْ يكون متعلقاً منه بسبب، وضارباً منه بسهم، حلال أم حرام »[2].
إنّ المؤثر الخارجي متمثلاً في المكان وفي قاطنيه صار مثيراً يدفع إلى التعبير الشعري، وإنّ النص الأدبي يتحول إلى مؤثر في المتلقي لاستمالة قلبه وإصغائه للقصيدة والشاعر، ويمكن قياس الأمر ذاته على وصف الرحلة والمديح فإنّ الشاعر إذا علم أنه قد «استوثق من الإصغاء إليه، والاستماع له، عقب بإيجاب الحقوق، فرحل في شعره، وشكا الغضب والسهر، وسرى الليل وحر الهجير، وأنضاء الراحلة والبعير، فإذا علم أنه قد أوجب على صاحبه حق الرجاء وذمامة التأميل، وقرر عنده ما ناله من المكاره في المسير، بدأ في المديح فبعثه على المكافأة، وهزه للسماح، وفضله على الأشباه وصغر في قدره الجزيل »[3].
إنّ الغاية تتحول إلى سبب يولد غاية أخرى تتوقف في نهايتها السلسلة المنطقية من التعاقب السببي التي تنتهي بالمديح الذي يجني فيه الشاعر المكافأة، إنّ الغاية النهائية من هذا كله غاية نفعية « تربط الأفعال جميعها بغاياتها العملية، ومؤداها الأخير هو المصلحة المادية»[4] .
إنّ بنية القصيدة عند ابن قتيبة تكتنفها وحدة منطقية « وليست الوحدة المنطقية إلا جزءاً ضئيلاً من الوحدة التي يلزم وجودها في الشعر الرفيع، إن الشاعـر أحياناً قـد يضحي بهذه الوحدة المنطقية لأنه قد يعيش تجربته أو جزءاً من تجربته على مستوى شعوري لا يستطيع أنْ يبلغه المنطق »[5].
ولم يقتصر ابن قتيبة على هذه الوحدة المنطقية في تتابع وحدات القصيدة ولكنه اشترط توازناً منطقياً بين هذه الوحدات، فالشاعر المجيد لديه «من سلك هذه الأساليب، وعدل بين هذه الأقسام، فلم يجعل واحداً منها أغلب على الشعر، ولم يطل فيمل السامعين، ولم يقطع وبالنفوس ظمأ إلى المزيد »[6] ومن الواضح أنّ المتلقي يمثل غاية الشاعر، في كلا الأمرين، سواء في تتابع الأقسام أو في توازنها، وعندها يصح أن نقول مع أحد الباحثين إن ابن قتيبة قد ذهب إلى « الأخذ بالوحدة النفسية عند المتلقي، أي قدره الشاعر على جذب انتباه السامع أولاً ليضعه في جو نفسي قابل لتلقي ما يجيء بعد ذلك»[7].
وليس غريباً ـ من هذه الزاوية ـ أنْ تقود هذه المعالجة المنطقية الصارمة إلى موقف يلزم به الشاعر ما أقره له أقسام بنية القصيدة التي يقول فيها : « وليس لمتأخر الشعراء أنْ يخرج عن مذهب المتقدمين في هذه الأقسام، فيقف على منـزل عامر، أو يبكي عند مشيد البنيان، لأنّ المتقدمين وقفوا على المنـزل الداثر، والرسم العافي، أو يرحل على حمار أو بغل ويصفهما، لأنّ المتقدمين رحلوا على الناقة والبعير. أو يَرِدُ على المياه العذاب الجواري، لأنّ المتقدمين وردوا على الأواجن الطوامي، أو يقطع إلى المروج منابت النرجس والآس والورد، لأنّ المتقدمين جروا على قطع منابت الشيح والحنوة والعرارة »[8].
واستكمالا لهذا التصور أود الإشارة إلى أنّ ناقداً يؤكد أنّ ابن قتيبة «يحتفظ من الثقافة القديمة بملامح رئيسية، أولها : أنه لا يزال يفترض في الشعر أن يكون إنشاء على الرغم من شيوع التدوين في عصره ..... وثانيها : أنه لا يزال يتمسك بالعناصر البدوية في القصيدة ولاسيما الوقوف على الأطلال ووصف الراحلة .... وثالثها : كثرة الانتقالات، ولم تفلح الروابط التي افتعلها ابن قتيبة بين الأجزاء في إظهار أي نوع من الوحدة، يمكن أن يسوغ اعتبار القصيدة عملاً واحداً »[9].
ويمثل المنظور الثاني « فالتر براونه » وعز الدين إسماعيل ، إذ يتجاوز الباحثان تصورات ابن قتيبة لتأمل الشاعر وعلاقته بالطلل ، ويقيمان علاقة بين الذات وموضوعها ، ومن ثم لا يمثل الطلل مجرد مثير يدفع مثير يدفع الشاعر إلى تأمل ذاته وموضوعه فحسب ، وإنما يعبر في الوقت نفسه عن مشكلة وجودية يعيشها الشاعر الجاهلي بخاصة ،وتتصل المشكلة الوجودية عند فالتر براونه بالقضاء والفناء والتناهي ، ليجد مبررا لهذا البكاء والحزن الذي يشيع في قصائد الجاهليين ، فمن يقرأ أوصاف الشاهد الفرحة بتدقيق يدرك ما يضايق الإنسان ويقلق الشاعر اللطيف الحس من مخاوف الوجود . من الذي ينكر أن كثيرا من الشعراء القدماء يتذكرون الأيام السعيدة ويصفون ساعات اللهو والشرب والهزل والمداعبة ولكنهم يتكلمون عن هذا كله بصرخة الألم ... هذا هو موقف الإنسان في تاريخه كله فإنه يشعر دائما بتهديد القضاء وتوعد الفناء ... اختبار القضاء والفناء والتناهي هذا ما كان يشعر به شعراء العرب وهذا الشعور معبر عنه في نسيب قصائدهم»[10]
ويقيم عز الدين إسماعيل تصوره على أساس علاقة الشاعر بالواقع الخارجي ، وأثرها في ذات الشاعر فلقد كانت الحياة الجاهلية تنطوي في نفس الشاعر على عناصر خفية اصطدم بها حسه وهي التناقض والتناهي والفناء وكان الشاعر يحس بهذه العناصر أساسا منبها ومما زاد من وطأة الموقف وقسوته افتقار الشاعر الجاهلي إلى نظرية «تفسر له هذه العناصر الحيوية المختلفة وتشيع في نفسه شيئا من الراحة والطمأنينة كما حدث بعد ظهور الإسلام »[11] .
ويرجع عز الدين إسماعيل تفسير المقدمة الطللية إلى التناقض الوجودي الذي يعيشه الشاعر ، ولذا فإنه « قد جمع في قطعة النسيب التي تتصدر قصيدته بين عنصرين أحدهما يذكر بالفناء وهو الأطلال ،والآخر يذكر بالحياة وهو الحب ،وليس اجتماع هذين النقيضين : الحياة والفناء في الموقف الواحد ، وارتباط أحدهما بالآخر ، إلا تأكيد لإحساس الشاعر بالتناقض العام الماثل سواء في العالم الخارجي ، أو عالمه الباطني ، فالتناقض الذي ستمثله قطعة النسيب ليس تناقضا لفظيا أو فكريا ، وإنما هو تناقض وجودي ،يتمثل في واقع الحياة كما يتمثل في كيان الفرد الحي »[12].
( 2 )
ولا ريب أن تطورا حل بالمجتمع العربي أسهمت فيه تغيرات فكرية وسياسية واجتماعية ، وتتابعت في الدولة العباسية مرجعيات معرفية مختلفة ، كان للمرجعية العقلية ـ الاعتزالية بالتحديد ـ أثر كبير في تطور القصيدة العباسية ، وبخاصة القصيدة الحداثية ، غير ان مرجعية معرفية أخرى ، المرجعية المعرفية النقلية ، كانت تمثل المقابل المضاد للمرجعية العقلية على المستويات كلها ، كان منشأها أن تدعو إلى الإعلاء من النقل والمأثور بسنن العرب حتى في مستوى الإبداع الشعري .
وكانت قصيدة المدح أكثر القصائد التزاما بالموروث على نحو العموم ، وكان الخلفاء يحاولون المحافظة إلى السمات العامة التقليدية فيها ،يحثون الشعراء على ذلك ، وكان البحتري ممثلا للمرجعية المعرفية النقلية في العصر العباسي ، ومعبرا عن الطبع التعبير الفني الممثل لهذه المرجعية ، ترى كيف كانت بنية القصيدة لديه ، هل هي صورة للقصيدة الجاهلية ،بحيث يصدق تلك التفسيرات التي سردنا بعضها ، أم أن هناك تطورا طرأ على رؤية الشاعر ،أسهم في تغيير طبيعة بنية قصيدة المدح .
وتحاول هذه الدراسة الإفادة من روح الدرس اللغوي الحديث ،وتقيم تصورها على فرضية مفادها إمكان إرجاع المتعدد إلى متوحد ، أو أصل ثابت واحد ، تماما كما فعل تشومسكي في إثناء تحليله الجملة ، وزعها إلى بنيتين عميقة وسطحية ، ونمثل البنية العميقة الثابت ، في حين تمثل البنية السطحية المتنوع ، ويمكن إرجاع العدد اللامتناهي من الجمل إلى بنى عميقة موحدة .
ومن خلال تأمل قصائد البحتري يتبدى إمكان دراستها في ضوء محورين ، أحدهما يحاول الكشف عن التجليات المتعددة التي تشتمل عليها قصيدة المدح ، ويحاول الآخر إرجاع تلك التجليات المتعددة إلى بنية عميقة تحكمها ، ولما كانت الأغلبية الساحقة من قصائد المدح عند البحتري تنقسم إلى مقطعين : مقطع المحبوبة ، ومقطع الممدوح ، فإن البحث سيركز على هذا المنحى بشكل عام ، والتطبيق على بعض نماذجه .
إن البنية العميقة التي تحكم تجليات قصيدة المدح تتمثل في التعارض بين السلب والإيجاب بين مقطعي المحبوبة والممدوح ، ويمثل هذا التعارض إطارا عاما تقع تحت شموليته أنماط متعددة من تجليات متعارضة عديدة ، وينطبق ذلك على قصيدة البحتري في مدح الخليفة المعتمد :
جائر في الحكم لو شاء قصد اخـذ النـوم وأعطانـي السهــد
غاب عما بت ألقى في الهوى وهـو النـازح عطفـا لـو شـهد
وبنفسـي والأمانـي ضلـة سيـد يصـدف عنــي ويصــد
حـال عن بعض الذي اعهده وارانـي لـم احـل عمـا عهــد
كيـف يخفى الحب منا بعدما قـــام واش بهــوانـا وقعــد
لسـت أنسى ليلتي منه وقد أنجــزت عينـا بخيـل مـاوعـد
علقـت كـف بكـف بيننـا واعتنقنــا فـالتقـى خـد وخـد
وتشاكينا من الحـب جـوى مــلا الأحشــاء نــارا تتقــد
أيهـا الجـازع اجواز الفلا يطلـب الجـدوى مـن القوم الجمد
10. خل عنك الناس لاتغرر بهـم واعتمد بحـرالإمـام المعتمــد
11. مــلك يكفيـك منـه انـه وجــد الدنيـا فاعطـى مـاوجـد
12. لو من الغيث الذي تجري به راحتـاه مـن عطــاء لنفــــد
13. همة نعرفهـا مـن جعفـر وخــلال فيــه يكـثرن العــدد
14. أشرقت أيامنـا فـي ملكـه وازدهت حسنـا ليالينـا الجــدد
15. حقـق الآمـال فيـه كـرم مـــلا الدنيـا عطــاء وصفــد
16. نصـرت راياتـه أو ناسبت رايــة الديـن ببــدر واحـــد
17. فله كل صباح فـي العـدى وقعـــة تثلــم فيهــم وتهــد
18. وأبو الصهباء قد أودى على حولـه الخيــل كمـا أودي لبــد
19. فر عنه جيشه حـيث الظبـا شـرع تفـري طــلاهـم وتقــد
20. من قريـات بـلاس ينتهـي بهـم الركـض إلـى حيطـان لــد
21. ولقـدراع الأعــادي خـبر مـن طلمجـور وقــد قيــل يفـد
22. مستقـلا في رهـارجراجـة للقنــــا فيهــا اعتــدال واود
23. ارم بالكهـل على جمهورهم تـرم منــه بالشهــاب المتقــد
24. علني اسرى على منهاجـه أو أوافــى معـــه ذاك البلــد[13]
ويمكن تقسيم القصيدة إلى مقطعين على النحو الآتي :
مقطع المحبوبة : 1 – 8
مقطع الممدوح : 8 – إلى آخر القصيدة
وبتجلى التعارض في القصيدة ابتداء من الكلمة الأولى ، ويدل التعارض على ان أحد طرفي التعارض يستدعي الآخر بالضرورة ، ويكشف عن ذلك بمجرد قراءة البيت الأول في القصيدة ، فإن الشاعر حين يصف حبيبته :
جـائر فـي الحكم لـو شـاء قصـد اخـذ النوم وأعطـاني السهــد
يستدعي الصورة المعارضة للممدوح ، وهو كونه عادلا في الحكم ، وهي صورة متضمنة في النص ، ويعبر الشاعر عنها بوضوح في نصوص أخرى ،يقول البحتري في مدح المتوكل:
مـلك حصّـنت عزيمتــه الملـ ك فأضحــت لــه معانــا وردا
اظهر العـدل فاستنـارت بـه الأر ض وعـم البـلاد غـورا ونجــدا[14]
ولعلنا نستطيع ان نستكمل الصورة المتعارضة على مستوى السلب في مقطعي المحبوبة والممدوح ، على الرغم من اننا نعثر على المقابل في أغلب الأحوال ،فإذا كانت المحبوبة في المقطع الأول تتميز بخصائصها السلبية فهي جائرة في حكمها إزاء عاشقها الشاعر ، وانها تهب الرديء ، وتسلب الجيد ، فإن معارضها الممدوح يتميز بالعطاء المطلق ، فهو يعطي ولا يأخذ ، يقول :
مــلك يكفيــك منـه انـه وجـد الدنيا فـأعطى مـا وجــد
لو من الغـيث الذي تجـري بـه راحتـاه من عطـاء لنفــــد
وإذا كان الشاعر يتحدث عن المحبوبة الغائبة يقوله :
غـاب عمـا بـت القى في الهوى وهـو النــازح عطفـا لـو شهــد
فلعله يدل على تشبيه لم يذكره الشاعر ، إذ يوحي الغياب ، هنا ، بغياب القمر ، ويستدعي ذلك الإيحاء ، مبيت الشاعر الذي يعاني من الهوى ، وهذا يدل على ظاهر جميل للمحبوبة ، ولكنه غائب ، ولهذا الظاهر الجميل اثر سيئ على ليل الشاعر المليء بالحزن والباعث على الهزال ، فإن معارضه الممدوح يتميز بحضوره وبهائه الذي يؤثر إيجابا في الطبيعة بحيث يتعارض تماما مع صورة المحبوبة التي أثرت سلبا على الطبيعة :
أشـرقت أيامنــا فـي ملكـه وازدهت حسـنا ليالينا الجــدد
ولم تكن هاتان الصفتان المتعارضتان مقتصرتين على القصيدة التي مدح بها الخليفة المعتمد ، بك تكاد تشيع في قصائد المدح عند البحتري ، إذ يشتمل مقطع المحبوبة على تعارض داخلي بين ظاهر المحبوبة وباطنها ، إذ تتميز المحبوبة بجمال حسي ظاهري باهر ، يدل على البهاء والامتلاء ، غير ان عالمها الداخلي سبي على نحو الإجمال ، إذ تتميز بالصدود والبخل ، أو كما قال البحتري « وحسناء لم تحسن صنيعا »
وقـد راعنـي منها الصـدود وإنما تصد لشـيب في عذاري يروعهــا
وحسناء لم تحسن صنيعـا وربمــا صبـوت إلى حسنـاء سـاء صنيعهـا[15]
ويقول :
إن البخيلــة لـم تنعـم لسائلهـا يـوم الكثـيب ولـم تسمـع لداعيها
مرت تأود فـي قـرب وفـي بعـد فالهجــر يبعدهـا والـدار تدنيهـا[16]
كما أنها تبعث على الهزال والسقم ، وان الشاعر معنّى من حسنها ومن صدودها ، فهي تحلل وتحرم ، ولكنها تحلل المحرم وتحرم المحلل : يقول :
وهـل علمـت أنـي ضنيت وأنهـا شفـائي مـن داء الضنـى وسقامي
ومهزوزة هـزالقضـيب إذا مشـت تثنـت عـلىدل وحسـن قـوامـي
أحـلت دمـي من غير جرم وحرمت بـلا سـبب يـوم اللقـاء كـلامي
فليـس الـذي حللتــه بمحــلل وليــس الـذي حرمتـه بحــرام[17]
إن المحبوبة تتسم بملامح الجمال والبهاء ، من حيث الفتنة بألفاظها ، وجمال شكلها ، وحسن قوامها ، أما فعلها فهي تلج في الهجر ، وتعيد الصدود ، وتري الشاعر أنماطا من الجفاء ، يقول :
لـي حـبيب قـد لج في الهجر جدا وأعـاد الصـدود منـه وأبــدى
ذو فنـون يريـك فـي كـل يـوم خلفـا مـن جفــائه مستجــدا
يتـأبـى منعـا وينعــم اسعـافا ويـدنـو وصـلا ويبعـد صــدا
وبنفسـي افـدي عـلى كـل حـال شادنـا لـو يمـس بالحسن اعدى
مـربـي خالـيا فاطمع في الوصـ ل وعـرضـت بالســلام فـردا
وثنــى خـده إلـي عـلى خـو ف فقبــــلت جلنــارا ووردا
سيدي أنـت مـا تعرضـت ظلمـا فاجـازى بـه ومـا خـنت عهدا
حــاش لله أنــت افتـرالحــا ظا واحسن شكـلا واحسـن قـدا[18]
إن المحبوبة كانت سببا في معاناة الشاعر ، فلقد فلقد ظل الشاعر وفيا لحبيبته ، ولكنها كثيرة التقلب والتغير ، وذا يمثل نمطا آخر من تعارض بين المحبوبة والشاعر ،يقول :
وبنفــس والأمــاني ضلـــة سيــد يصــدف عـني ويصــد
حال عن بعـض الـذي أعهــده رانــي لــم أحـل عمـا عهــد
ويتبدى تعارض من نوع آخر ،إذ ما يكون سببا للجمال عند المحبوبة ، إنما هو سبب للسقم والهزال والألم عند الشاعر ، يقول البحتري :
عــن أي ثغــر تبتســـم وبـــأي طـــرف تحتكـــم
حســن يضــن بحسنـــه والحســـن أشبــه بالكــرم
افديـه مـن ظلــم الوشــا ة وان أســـاء وان ظلــــم
وكـان فـي جسمــي الـذي في نـاظريــه مــن السقــم
يهنيــك انــك لـم تــذق سهـــرا وانــي لــم انــم
أقسمــت بالبيــت الحــرا م وحرمــة الشهـــر الأصـم[19]
إن مقطع المحبوبة يمثل الموجة السالبة في القصيدة ، في حين يمثل مقطع الممدوح الموجة الموجبة ، فإذا كانت المحبوبة تبعث على السقم والهزال والجدب ، وأنها حسناء سيئة الصنيع ، فإن الخليفة يتميز بحسن المحيا من ناحية ، وحسن الفعل من ناحية أخرى ، ولذلك جعل الشمس والقمر دالين على جماله وبهائه ،ويرتبط هذا في اغلب الأحوال بملامح دينية ترجع إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، لأن الممدوح ـ الخليفة ـ هو امتداد للنبي ، كما أن أفعاله تحيي الإسلام ،وتدافع عن الرعية ، يقول :
وشبيــه النـبي خلقـا وخلقــا ونســيب النبـي جــدا فجــدا[20]
ويقول :
نجلـو بغرتــه الدجـى فكأننـا نســري ببـدر فـي الـدادي السود
حتـى وردنـا بحــره فتقطعــت غـلل الظمـا عـن بحـره المـورود[21]
ويقول :
لقـد جمــع الله المحاسـن كلهــا لابـيض مـن آل النــبي همـــام
نطيـف بطلـق الوجـه لا متجهــم علينـا ولا نـزر العطــاء جهــام
يحببــه عنــد الرعيـة انـــه يدافـع عــن أطـرافها ويحــامي
لقد حطت ديـن الله خـير حياطــة وقمــت بأمــر الله خـير قيــام[22]
ويقول :
حمـى حـوزة الإسـلام فارتـدع العدى وقـد علمـوا الا يــرام منيعهــا
ولمـا رعـى سـرب الرعيـة ذادهـا عن الجدب مخضر البـلاد مريعهـا
علمــت يقينـا مذ تـوكــل جعفـر عـلى الله فيهـا انـه لا يضيعهــا
جـلا الشـك عـن أبصارنـا بخلافـة نفـى الظلـم عنـا والظلام صديعها
هي الشمس أبدى رونق الحـق نورهـا واشرق في سـر القلـوب طلوعـها[23]
إن المحبوبة في قصائد المدح عند البحتري تخذل الشاعر ، ولا تحقق أمانيه ،وتحرمه من التواصل ، وحين يتحقق التواصل ـ كما هو الحال في قصيدة مدح المعتمد ـ فهو تواصل قصير ، مرة واحدة لليلة واحدة ، فهي تمثل تواصلا نادرا ، وانفصاما غالبا، ويقابل هذه الصورة معارضها الممدوح الذي يمثل لا تواصل المستمر ، وأكثر من هذا أنه يحقق آمال الشاعر وآمال الجماعة بأسرها ، يقول :
حــقق الآمــال فيــه مـــلك مــلا الدنيـا عطــاء وصفــد
ومن الجدير بالذكر أن هنا تعارضا من نوع آخر بين المحبوبة والممدوح ، إذ تمثل المحبوبة مفردا مؤنثا تحدث عنه الشاعر بصيغة المذكر ، وأن فعلها لا يتجاوزها ولا يتجاوز الشاعر ،أما الممدوح فإنه يمثل المفرد المذكر الخارق ، الذي يتميز بخصائص تقترب من الملامح القدسية بفعل الصفات الدينية التي يخلعها عليه الشاعر وتقابله الجماعة ، ويتجلى في فعل الممدوح تعارض من نوع آخر ،حيث يكون الممدوح سببا في بعث الخصب في الحياة والحيوية في الجماعة المناصرة له ، والموت الدمار في الجماع المعارضة له ،فعلى مستوى الجماعة المناصرة له ، يقول:
أشـرقــت أيامنـا فـي ملكــه وازدهــت حسنـا ليالينــا الجـدد
حــقق الآمـال فيــه مـــلك مــلا الــدنيا عطــاء وصفــد
نصـــرت راياتـه أو نـاسـبت رايــة الــدين ببــدر واحـــد
فلـه كـل صبـاح فـي العــدى وقعـــة تثلــم فيهــم وتهــد
وعلى مستوى الجماعة المعارضة يقول :
فلـه كـل صبـاح فـي العــدى وقعـة تثلــم فيهــــم وتهـــد
مــن قـريـات بـلاس ينتهــي بهـم الركض الـى حيطــان لــد
ارم بالكهـل عـلى جمهـورهــم تـرم منــه بالشهــاب المتقـــد
ولقـــد راع الاعــادي خــبر مـن طلمجـور وقــد قيـل يفــد
( 3 )
إن هذا التعارض جزء من تعارض أشمل يكشف عنه أيضا التحليل الأسلوبي لطبيعة التراكيب في كل المقطعين ، فمن حيث الكم أفرد الشاعر لمقطع الممدوح عددا من الأبيات بمقدار الضعف تقريبا ، اذ يتكون مقطع المحبوبة من ثمانية أبيات شعربة ، في حين يتكون مقطع الممدوح من ستة عشر بيتا ، وذلك بإضافة بيتي الانتقال من الغزل إلى المدح.
ولو قمنا بعمل احصائي نحاول فيه رصد عدد الأفعال في كلا المقطعين ، فسنلاحظ أن عدد الافتعال في المقطع الاول هو 27 فعلا في ثمانية أبيات ، وهي : شاء ، قصد ، أخذ ، أعطى ، غاب ، بت ، ألقى ، شهد ، يصدف ، يصد ، حال ، أعهده ، أراني ،احل ، عيد ، يخفى ، قام ، قعد ، أنسى ، أنجزت ، وعد ، علقت ، فاعتنقنا ، التقي ، تشاكينا ،ملأ، تتقد . كما أن عدد الأفعال في المقطع الثاني 31 فعلا في ستة عشر بيتا شعريا ، وهي :يطلب ، خل ، تغرر، اعتمد ، يكفيك ،وجد ، أعطى ، وجد ،تجري ، نفد ، نعرفها ، يكثرن ، أشرقت ، ازدهت ، حقق ، ملأ ، نصرت، ناسبت ،فر ، تفري ، تقد ، تثلم ، تهد ، ينتهي ، ارم ، ترم ، راع ، قيل ، يفد ، أسرى ، أوافي .
ومن اللافت للانتباه أن حرف الروي « الدال » قد استدعاه اسم الخليفة المعتمد ، وعلى الرغم من ذلك فإن حرف الروي يغلب عليه كونه جزءا من فعل في المقطع الأول إذ ورد ست مرات جزءا من فعل في الأبيات : 2 ، 3 ،4 ، 5 ، 6 ، 7 ، 8 ، ، وورد مرتين جزءا من اسم في الأبيات : 1، 7 ، وكونه جزءا من اسم في المقطع الثاني ، إذ ورد عشر مرات في الأبيات : 9، 10 ، 13 ، 14، 15 ، 16 ، 18 ، 20 ، 21 ، 23 ، وورد جزء من فعل في الأبيات 11، 12 ، 17 ، 19 ، 22 .
إن هذا الرصد الإحصائي له دلالة لأنه يؤكد صفة التعارض ويعمقها ، لأن الفعل يدل على الحدث والتغير ، في حين ان الاسم يدل على الدوام والثبات ، ومن ثم فإن كثرة الفعل في المقطع الأول يؤكد معنى السلب ،وقلته في المقطع الثاني يؤكد معنى الإيجاب ،ومن ثم يتحقق التعارض هذه المرة من خلال الرصد الأسلوبي الإحصائي .
ويشيع في المقطع الأول الأفعال التي تنطوي دلالاتها على ملامح سلبية ، سواء أكانت هذه السلبية متضمنة في الفعل بحسب دلالته المعجمية العامة، ام بما يضفيها عليه السياق ،فأفعال مثل : غاب ،ويصد ، وحال ، تشتمل على دلالة سلبية بذاتها ، وأفعال مثل : لو شاء قصد ، اخذ النوم ، أعطى السهد ،بت ألقى ، قام واش وقعد ، إنما هي أفعال سلبية بحسب موقعها في سياق القصيدة ، أما المقطع الثاني فتشيع فيه الافتعال التي تشتمل دلالاته على ملامح إيجابية ، بحسب طبيعتها المعجمية ، مثل :وجد ، أعطى ، تجري ،أشرقت ، ازدهت ،حقق ،ملأ نصرت،ناسبت ،أو تكون إيجابية بحسب موقعها في سياق القصيدة ، مثل : نفد ، فر ، تجري.
ومن الجدير بالذكر ان المقطع الأول يشتمل على تعارض على المستوى اللغوي ، في حين يخلو المقطع الثاني ، من ذلك : جائر ، قصد ، اخذ ، أعطى ، غاب ، شهد ، حال ، لم احل ،اعهده ،عهد ، قام ، قعد .
إن هذه التعارضات المختلفة إنما هي اوجه متعددة لتعارض اشمل ، يرجع المتعدد إلى اصل ثابت واحد ، وهي جزء من تجليات مختلفة لتعارض عميق ، يمكن ان نطلق عليه البنية العميقة لقصيدة المدح عند البحتري.
( 4 )
يحيط بنا المكان في كل لحظة ، ومن ثم فإنَّ هناك تداخلا في الإحساس بالمكان والزمان معا ،ولذا فإن الانعتاق منهما يعد أمرا مستحيلا ، لأن وجود الإنسان وصيرورته مقترنة بهما ، غير ان الإنسان يسقط عليهما رؤيته وتجربته وانفعالاته ، ولذا فهما ليسا محايدين ، ما دام الإنسان يشرع في التحدث عنهما .
إن صورة الطلل في القصيدة الجاهلية تعني وقفة مكانية متكررة ، تستدعي زمانين مختلفين ، حاضر ، وماض ،وتتجلى تجليات الخطاب في زمن الحاضر الذي يشهد التحول والاستمرار ، في رحلة نحو المجهول الغامض ، أي الانتقال من المعلوم الماضي إلى المجهول المستقبل ، ولذلك كانت اللحظات الطللية مضطربة تعبر عن نفس متأزمة قلقة .
وتختلط في صورة الطلل أشياء متعددة ،وقفة الشاعر التي تستدعي صور الماضي ، الخصبة ، الوثابة ،المليئة بالحركة والحياة ،وزمن حاضر ، زمن هشاشة وتحول ،وبكاء وحزن ،ويبدو ان صورة المرأة / المحبوبة تلتحم بالمكان وتصبح جزءا من نسيجه ، ولذلك يتحدث عنها الشاعر بوصفها ماضيا لا تواصل فيه بالماضي غالبا ، وليس بالإمكان عودته في الحاضر .
إن التحول الحاصل في المكان يشتمل بالضرورة على تحول كائن في المرأة ، وان الشاعر يحاول إعادة اللحظة الماضية وتثبيتها عبر أوصاف مطلقة للمحبوبة ، وإذا كانت الوقفة الطللية رثاء للمكان المتحول ،فإنها في الوقت نفسه رثاء للذات الشاعرة ،لتماهيه مع المكان .
ويستدعي البحتري في مقطع المحبوبة كل هذه الدلالات ، ليس بوصفه شاعراً بدوياً ، وإنما لكونه إنسانا تكتنفه مؤرقات الرحلة من الماضي إلى المستقبل ،ومن رثاء الذات إلى احيائها بعد موات .
وتظل صورة التعارض قائمة ـ هنا ـ فالمكان الذي يكتنف المحبوبة البخيلة طلل مجدب ، والزمان الذي تعيش فيه زمن ماض ، وكله يقع في دائرة التغير والصيرورة الآيلة إلى الهشاشة والزوال ،ولا بد إذن من الارتحال إلى آخر .
دلالات التعارض المكاني والزماني :
المحبوبة :
امرأة : انوثة ـ ضعف ولين
امرأة : ظاهرها جميل ، وباطنها قبيح
امرأة : محدودة الخصائص ،لاعلاقة لها بالمطلق
امراة : تتسم بالعقم
امرأة : تبعث السقم والهزال في الشاعر
امرأة : لا تحقق التواصل
امرأة : عالمها تخيلي متوهم
الممدوح ( الخليفة غالبا )
رجل : ذكورة ـ قوة وخصب
رجل : ظاهره حسن ، وباطنه حسن
رجل : جزء من حركة المطلق ، هو امتداد للنبي ، ومن ثم مرتبط بالمطلق.
رجل :ولود
رجل : يبعث الخصب والنماء في الشاعر
عالم الممدوح : حقيقي واقعي
مكان المحبوبة وزمانها :
المكان : مكان مجدب لا حياة فيه « طلل »
الزمن : زمن ماض وحركته بطيئة
الحالة : التلاشي والهشاشة
المستوى الحضاري : البداوة
مكان الممدوح وزمانه :
المكان : مكان خصب ، قصور وحدائق ومياه .
الزمن : زمن الحاضر والمستقبل ، وحركته متسارعة
الحالة : الخصب والنماء
المستوى الحضاري : المدينة
ويسعى البحتري إلى التنقل والتحرك من الطلل إلى القصر ،والحركة هذه تعني نفيا للمكان وخصوصيته الثبوتية ، ورمزا لانعتاق الإنسان وتحرره ، ولذلك فإنه يفر من الأولى إلى الثانية ، فلا يعطي المقطع الأول مساحة اكبر ، ثم ينتقل إلى المقطع الثاني الذي يتوقف عنده طويلا ، مساحة وحضورا ، بمعنى : إلغاء للطل ، وتثبيت للقصر ، وانحراف عن البداوة وانحياز إلى المدنية .
[1] ـ ابن قتيبة، الشعر والشعراء، 1/74 ـ 75 .
[2] ـ نفسه، 1/75 .
[3] ـ نفسه، 1/75 .
[4] ـ شكري عياد، جماليات القصيدة التقليدية بين التنظير والخبرة الشعرية، مجلة فصول، ع 2 / 1986 ص 61 .
[5] ـ محمد زكي العشماوي، فلسفة الجمال في الفكر المعاصر، ص 126
[6] ـ ابن قتيبة، الشعر واشعراء، 1/75 ـ 76 .
[7] ـ إحسان عباس، تاريخ النقدالأدبي عند العرب، ص 32 .
[8] ـ ابن قتيبة، الشعر والشعراء، 1/76 ـ77 .
[9] ـ شكري عياد، جماليات القصيدة التقليدية بين التنظير والخبرة الشعرية، ص 61 .
[10] فالتر براونه ، الوجودية في الجاهلية ، مجلة العرفة اسورية ، العدد: 4 ، حزيران ، 1964 ، ص 160 .
[11] عز الدين إسماعيل ،النسيب في مقدمة القصيد الجاهلية ، في ضوء التفسير النفسي ،مجلة الشعر ، العدد: 2 ، 1964 ن ص 3 .
[12] نفسه ، ص 9 .
[13] البحتري ، ديوان البحتري ، 1 / 290 ـ 291 .
[14] نفسه ، 1 / 27 .
[15] نفسه ، 1/9.
[16] نفسه ،1 /34 .
[17] البحتري ، ديوانه ، 1 /15 .
[18] نفسه ، 1/ 27 .
[19] نفسه ، 1 /18 ـ 19 .
[20] نفسه ، 1 /27 .
[21] نفسه ، 1 /13 .
[22] نفسه ، 1/16 ـ 17 .
[23] نفسه ، 1/10 .