1 ـ مسألة الإبصار
"إن المتقدمين من أهل النظر قد أمعنوا البحث عن كيفية إحساس البصر، وأعملوا فيه أفكارهم، وبذلوا فيه اجتهادهم، وانتهوا منه إلى الحد الذي وصل النظر إليـه، ووقفوا منه على ما وقفهم البحث والتمييز عليه. ومع هذه الحال فآراؤهم في حقيقة الإبصار مختلفة، ومذاهبهم في هيئة الإحساس غير متفقة، فالحيرة متوجهة، واليقين متعذر، والمطلوب غير موثوق بالوصول إليه. وما أوسع العذر مع جميع ذلك في التباس الحق وأوضحَ الحجة في تعذر اليقين، فالحقائق غامضة، والغايات خفية، والشبهـات كثيرة، والأفهام كدرة، والمقاييس مختلفة، والمقدمات ملتقطة من الحواس، والحواس ـ التي هي العُدد ـ غير مأمونة الغلط. فطريق النظر مُعفَّى الأثر، والباحث المجتهد غير معصوم من الزلل، فلذلك تكثر الحيرة عند المباحث اللطيفة، وتتشتت الآراء، وتفترق الظنون، وتختلف النتائج، ويتعذر اليقين.
والبحث عن هذا المعنى مع غموضه وصعوبة الطريق إلى معرفة حقيقته مركب من العلوم الطبيعية والعلوم التعليمية. أما تعلقه بالعلم الطبيعي فلأن الإبصار أحد الحـواس، والحواس من الأمور الطبيعية. وأما تعلقه بالعلوم التعليمية (= الرياضيات) فلأن البصر يدرك الشكل والوضع والعظم والحركة والسكون، وله مع ذلك تخصص بالسُّمُـوت المستقيمة، والبحث عن هذه المعاني إنما يكون بالعلوم التعليمية. فبحق صار البحث عن هذا المعنى مركبا من العلوم الطبيعية والعلوم التعليمية.
وقد بحث المتحققون بعلم الطبيعة عن حقيقة هذا المعنى بحسب صناعتهم، واجتهدوا فيه بقدر طاقتهم، فاستقرت آراء المحصلين منهم علـى أن الإبصار إنـما يكون من صورة تَرِد من المُبْصَر إلى البَصر، منها يدرك البصر صورة المبصر. فأما أصحاب التعاليم فإنـهم عنوا بهذا العلم أكثر من عناية غيرهم، واستقصوا البحث عنه، فاهتموا بتفصيله وتقسيم أنواعه، وميزوا المعاني المبصرة، وعللوا جزئياتـها، وذكروا الأسباب في كل واحد منها، مع اختلاف يتردد بينهم على طول الزمان في أصول هذا المعنى، وتفرق آراء طوائف من أهل هذه الصناعة. إلا أنـهم على اختلاف طبقاتـهم وتباعد أزمانـهم وتفرق آرائهم متفقون بالجملة على أن الإبصار إنـما يكون بشعاع يـخرج من البصر إلى المُبْصر، وبه يدرك البصر صورة المبصر، وأن هذا الشعاع يمتد على سموت خطوط مستقيمة أطرافها مجتمعة عند مركز البصر، وأن كل شعاع يدرَك به مبصر من المبصرات: فشكل جملته شكل مخروط،، رأسه مرَْكز البصر وقاعدته سطح المبصر. وهذان المعنيان ـ أعني رأي أصحاب الطبيعة ورأي أصحاب التعاليم ـ متضادان متباعدان إذا أخِذا على ظاهرهما.
ثم مع ذلك فأصحاب التعاليم مختلفون في هيئة هذا الشعاع وهيئة حدوثه. فبعضهم يرى أن مخروط الشعاع جسم مصمت متصل ملتئم. وبعضهم يرى أن الشعاع خطوط مستقيمة هي أجسام دِقاق أطرافها مجتمعة عند مركز البصر، وتمتد متفرقة حتى تنتهي إلى البصر، وأن ما وافق أطراف هذه الخطوط من سطح المبصر أدركه البصر، وما حصل بين أطراف خطوط الشعاع من أجزاء المبصر لم يدركه البصر، ولذلك تخفى عن البصر الأجزاء التي في غاية الصغر، والمسامُّ التي في غاية الدقة التي تكون في سطوح المبصرات. ثم إن طائفة ممن يعتقد أن مخروط الشعاع مصمت ملتئم ترى أن الشعاع يـخرج من البصر على خط واحد مستقيم إلى أن ينتهي إلى المبصر، ثم يتحرك على سطح المبصر حركة في غاية السرعة في الطول والعرض لا يدركها الحس لسعتهـا، فيحدث بتلك الحركة المخروط المصمت. وطائفة ترى أن الأمر بخلاف ذلك وأن البصر إذا فتح أجفانه قبالة المبصر حدث المخروط في الحال دفعة واحدة بغير زمان محسوس. ورأى طائفة من جميع هؤلاء أن الشعاع الذي به يكون الإبصار هو قوة نورية تنبعث من البصر وتنتهي إلى المبصر، وبتلك القوة يكون الإحساس. ورأى طائفة أن الهواء إذا اتصل بالبصر قبل منـه كيفية فقط، فيصير الهواء في الحال بتلك الكيفية شعاعا يدرك به البصر المبصرات.
ولكل طائفة من هذه الطوائف مقاييس واستدلالات وطرق أدَّتـهم إلى اعتقادهم وشهادات، إلا أن الغاية التي عليها استقر رأي جميع من بحث عن كيفية إحساس البصر تنقسم بالجملة إلى المذهبين المتضادين اللذين قدمنا ذكرهما. وكل مذهبين مختلفين إما أن يكون أحدهما صادقا والآخر كاذبا، وإما أن يكونا جميعا كاذبين والحق غيرهما جميعـا، وإما أن يكونا جميعا يؤديان إلى معنى واحد هو الحقيقة، ويكون كل واحد من الفريقين القائلين بذيَّنْك المذهبين قد قصَّر في البحث فلم يقدر على الوصول إلى الغاية وقصر الآخر عنها، فعرض الخلاف في ظاهر المذهبين، وتكون غايتهما عند استقصاء البحث واحدة. وقد يعرض الخلاف أيضا في المعنى المبحوث عنه من جهة اختلاف طرق المباحث، وإذا حُقِّق البحث وأُنعِم النظر ظهر الاتفاق واستقر الخلاف.
2 ـ منهج تجريبي
ولما كان ذلك كذلك، وكانت حقيقة هذا المعنى مع اطراد الخلاف بين أهل النظر المتحققين بالبحث عنه على طول الدهر ملتبسة، وكيفية الإبصار غير متيقنة، رأينا أن نصرف الاهتمام إلى هذا المعنى بغاية الإمكان، ونخلص العناية به، ونتأمله، ونوقع الجد في البحث عن حقيقته، ونستأنف النظر في مبادئه ومقدماته، ونبتدئ في البحث باستقراء الموجودات، وتصفح أحوال المبصرات، ونميز خواص الجزئيات، ونلتقط بالاستقراء ما يخص البصر في حال الإبصار، وما هو مطرد لا يتغير وظاهر لا يشتبه من كيفية الإحساس. ثم نترقى في البحث والمقاييس على التدريج والترتيب، مع انتقاد المقدمات والتحفظ في النتائج، ونجعل غرضنا في جميع ما نستقرئه ونتصفحه استعمال العدل لا إتباع الهوى، ونتحرى في سائر ما نميزه وننتقده طلب الحق لا الميل مع الآراء، فلعلنا ننتهي بـهذا الطريق إلى الحق الذي به يثلج الصدر، ونصل بالتدرج والتلطف إلى الغاية التي عنـدها يقع اليقين، ونظفر مع النقد والتحفظ بالحقيقة التي يزول معها الخلاف وتنحسم بـها مواد الشبهات. وما نحن، مع جميع ذلك، برآء مما هو في طبيعة الإنسان من كدر البشريـة، ولكنا نجتهد بقدر ما هو لنا من القوة الإنسانية، ومن الله نستمد المعونة في جميع الأمور". (من مقدمة كتابه : "كتاب الناظر" تحقيق عبد الحميد صبره. الكويت 1982، ج1، ص 59 ـ )62 .
3- من سيرة ابن الـهيثم
" الحسن ابن الحسن بن الهيثم أبو علي ؛ المهندس البصري، نزيل مصر، صاحب التصانيف والتواليف المذكورة في علم الهندسة. كان عالما بهذا الشأن متقنا له متفننا فيه قيما بغوامضه ومعانيه مشاركا في علوم الأوائل أخذ الناس عنه واستفادوا منه.
وبلغ الحاكم صاحب مصر من العلويين (= الحاكم بأمر الله الفاطمي)، وكان يميل إلى الحكمة، خبره وما هو عليه من الإتقان لـهذا الشأن فتاقت نفسه إلى رؤيته. ثم نقل له عنه أنه قال: لو كنت بمصر لعملت في نيلها عملا يحصل به النفع في كل حالة من حالاته من زيادة ونقص. فقد بلغني أنه ينحدر من موضع عال وهو في طرف الإقليم المصري (= خزان، أسوان ؟ السد العالي؟) فازداد الحاكم إليه شوقا وسير إليه سرا جملة من مال، وأرغبه في الحضور.
فسار نحو مصر، ولما وصلها خرج الحاكم للقائه والتقيا بقرية على باب القاهرة المُعِزيّة تعرف بالخندق وأمر بإنزاله وإكرامه وأقام ريثما استراح وطالبه بما وعد به من أمـر النيل، فسار ومعه جماعة من الصناع المتولين للعمارة بأيديهم ليستعين بـهم على هندسته التي خطرت له.
ولما سار إلى الإقليم بطوله ورأى آثار من تقدم من ساكنيه من الأمم الخالية وهي على غاية من إحكام الصنعة وجودة الهندسة وما اشتملت عليه من أشكال سماوية ومثالات هندسية وتصوير معجز تحقق أن الذي يقصده ليس بممكن، فإن من تقدمه لم يعزب عنهم علم ما علمه، ولو أمكن لفعلوا. فانكسرت همته ووقف خاطره ووصل إلى الموضع المعروف بالجنادل قِبْلى مدينة أسوان وهو موضع مرتفع ينحدر منه ماء النيل فعاينه وباشره واختبره من جانبيه فوجد أمره لا يمشي على موافقة مراده، وتحقق الخطأ عما وعـد به وعاد خجلا منخذلا واعتذر بما قبل الحاكم ظاهره ووافقه عليه.
ثم إن الحاكم ولاه بعض الدواوين فتولاها رهبة لا رغبة، وتحقق الغلط في الولاية، فإن الحاكم كان كثير الاستحالة، مريقا للدماء بغير سبب أو بأضعف سبب من خيال يتخيله. فأجال فكرته في أمر يتخلص به فلم يجد طريقا إلى ذلك إلا إظهار الجنون والخبال. فاعتمد ذلك وشاع، فأحيط على موجود له بيد الحاكم ونوابه، وجُعل برسـمه من يخدمه ويقوم بمصالحه، وقيد وترك في موضع من منزله، ولم يزل على ذلك إلى أن تحقق وفاة الحاكم، وبعد ذلك بيسير أظهر العقل، وعاد إلى ما كان عليه، وخـرج من داره واستوطن قبة على باب الجامع الأزهر أحد جوامع القاهرة، وأقام بـها متنسكا متقنعا، وأعيد إليه ماله من تحت يد الحاكم واشتغل بالتصنيف والنسخ والإفادة. وكان له خط قاعدته في غاية الصحة.
وذكر لي يوسف الناشي الإسرائيلي الحكيم نزيل حلب قال سمعت أن ابن الهيثم كان ينسخ في مدة سنة ثلاثة كتب في ضمن اشتغاله، وهي أقليدس، والمتوسطات، والمجسطـي، ويستكملها في مدة السنة. فإذا شرع في نسخها جاءه من يعطيه فيها مائة وخمسين دينارا مصرية، وصار ذلك كالرسم الذي لا يحتاج فيه إلى مواكسة ولا معاودة قول، فيجعلها مُؤْنته لسنته. ولم يزل على ذلك إلى أن مات بالقاهرة في حدود سنـة ثلاثين وأربعمائة أو بعدها بقليل، والله أعلم، ورأيت بخطه جزءا في الهندسة وقد كتبه في سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة وهو عندي، لله المنة".
(تاريخ الحكماء، وهو مختصر الزوزني المسمى بالمنتخبات الملتقطات من أخبار العلماء بأخبار الحلماء، لجمال الدين أبي الحسين علي بن يوسف القفطي. ليبزغ، 1903، ص 165 ـ 167.)