السنة كأصل ثان في شريعة الإسلام تشمل أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته. فهل الأخذ بالسنة النبوية، الذي يجب على المسلم، يمكن أن يقتصر على فعل الواجب واجتناب المنهي عنه والتوسع في المأذون بحسب المفهوم الأصولي، أو ينبغي أن يشمل كل شيء، كما هو مفهوم أهل الحديث؟
هذا التساؤل وجه نظري لبعض التمايز العملي الموجود بين طوائف من المسلمين، فإن من المسلمين من يعتبر كل ما نقل في السنة يجب العمل به، خاصة ما حكم عليه بأنه صحيح أو حسن، حسب قواعد الرواية. وأكثر المحدثين يميل إلى هذا المذهب. ومن المسلمين من يعتبر أن ما نقل في السنة متنوع وفيه بعض أولى من بعض.
وسؤال آخر: هل الحديث الصحيح يقطع به ويجب العمل به، أو أن هذا خاص بما إذا كان المرء غير مقتد بإمام مذهب، لأن عدول إمامه عن العمل به ناتج عن مراعاة مقتضيات اجتهادية أخرى؟
لعلماء الإسلام في ذلك أقوال متفاوتة.
ولقد كانت هناك دائما فجوة بين الفقهاء والمحدِّثين، فهؤلاء لا يحسنون أحيانا توظيف المادة المروية، وأولئك يعتمدون أحيانا مرويات واهية. ولكن المجتهدين من أصوليين وفقهاء، قد أكملوا في الحقيقة مهمة المحدثين في المحافظة على السنة. فلم يأخذوا بنصوص صححها أو حسنها محدثون، لأنه اعتبروها مخالفة لقاعدة شرعية محكمة أو اعتبروها فاقدة لصفة الخلود، فهي تحكي سنة ظرفية فعلها الرسول من جهة قيادته الزمنية لجماعة المسلمين. وبالمقابل قد يأخذ المجتهدون بنصوص فيها مقال من جهة الصنعة الحديثية، ولكنها من حيث ماهيتها ومغزاها تنسجم مع روح التشريع في الإسلام.
ولقد نبه ابن تيمية إلى أن المنقول عن الرسول (ص) شيئان: ألفاظه وأفعاله، ثم معاني ألفاظه ومقاصده بأفعاله. وكلا القسمين منه ما هو متواتر عند العامة والخاصة، ومنه ما هو متواتر عند الخاصة، ومنه ما يختص بعلمه بعض الناس وإن كان عند غيره مجهولا أو مظنونا أو مكذوبا[i].
لقد اتخذت السنة شرعا دلالة خاصة، فأضحت تعني ما صدر عن الرسول صلى الله عليه وسلم غير القرآن الكريم. وبما أن مهمة الرسول (ص) هي البيان لما أنزل للناس، فإنه لا يقتصر في الأخذ على الكتاب، بل لا بد من الأخذ ببيانه المتمثل في فعله (ص) وقوله وتقريره. ومن ثم صار أهل الإسلام جميعا يطمحون إلى العمل بالكتاب والسنة، ويبحثون عن شرعية رؤاهم في الدين انطلاقا من مرجعية الكتاب والسنة. ويدعي كل مذهب أن أصل عمله هو الكتاب والسنة، حتى طائفة الشيعة في الإسلام لا تقول أنها تتجاوز الأخذ بالسنة، وإنما تنازع شيئا في اعتبار عمل الصحابة من السنة وتتشبث بإدخال أعمال آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم في مفهوم السنة. والشيعة لم تسم شيعة في مقابل أهل السنة إلا بموجب اختيار سياسي مظروف في ظروف تاريخية معلومة ترجع إلى إنكار تولي الخلفاء الراشدين للإمامة قبل علي كرم الله وجهه، فاختص القائلون بشرعية خلافتهم باسم أهل السنة.
وكما اتخذت السنة مفهوما زائدا في التداول السياسي، اتخذت مفهوما آخر في المجال العقائدي، فأصبحت تدل في وقت من الأوقات على تصور معين –موضوعا ومنهجا- في الذات الإلهية والصفات والأسماء، وما يتبع ذلك من بحث في القرآن والرسل والملائكة، في مقابل تصورات أخرى، خاصة منها منظور أهل الاعتزال.
ويلحق مفهوم السنة تقييدان.
أولهما: الاختلاف الحاصل بين علماء الإسلام بين من يرى أن السنة هي فقط ما صدر عن الرسول (ص)، فأما ما صدر عن صحابته فليس بسنة. وبين من يرى أن السنة شاملة لما صدر عن الرسول (ص) ولما صدر عن صحابته الكرام أيضا. وهؤلاء يعضدون مذهبهم بالحديث الشهير: "من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ". وهؤلاء منهم من يجعل سنة الصحابة هو ما أجمعوا واتفقوا. ومنهم من يعتبر ما انفرد به قلة من الصحابة أو آحادهم كذلك من السنة.
وثانيهما: الاختلاف الحاصل بينهم في اعتبار الفعل النبوي في مستوى القول النبوي من حيث الوجوب أم لا؟ ولا شك أن ما أمر به النبي (ص) قولا ظاهر الوجوب. فأما ما فعله فقط فمنه ما يحتمل الوجوب ومنه غير ذلك.
فالقول أقوى في الدلالة على التشريع من الفعل لاحتمال الفعل أن يكون مختصا به عليه السلام. والفعل أقوى من التقرير لأن التقرير يطرقه من الاحتمال ما لا يطرق الفعل. وفي ميدان الأحكام المحضة المدروسة في إطار المذاهب الفقهية، انطلاقا من أصولها وانتهاء بفروعها، صارت السنة ذات دلالات متعددة تتنوع من مذهب إلى آخر.
من ذلك أن السنة هي النافلة في مقابل الفرض، أي ما يثاب المرء على فعله ولا يعاقب على تركه، فهي إذن عبادة غير واجبة. والسنة عند الحنفية خاصة، سنة مؤكدة –وتسمى أيضا هدى- إذا تعلقت كراهة بتركها، وسنة غير مؤكدة –وتسمى أيضا سنة زوائد- إذا لم تتعلق كراهة بتركها. وقد افترقت المذاهب عن بعضها في اعتبار العبادة النافلة هي ما واظب عليه الرسول (ص) -مع الترك أحيانا- فقط أو ما واظب عليه الصحابة أيضا، كصلاة التراويح مثلا، وهذا كله في العبادات.
أما في العادات فقد رأى الحنفية مثلا أن ما فعله الرسول (ص) منه ما هو من السنن الزوائد أو في مرتبة أدون من السنة أطلقوا عليها اسم المستحب. إذ "مواظبة النبي (ص) على ثلاثة أنواع: واجب وهو الذي يكون على سبيل العبادة ولا يترك أحيانا، وسنة وهو الذي يكون على سبيل العبادة ويترك أحيانا، ومستحب وهو الذي يكون على سبيل العادة سواء ترك أحيانا أو لا"[2].
ويرى المالكية[3] أن أفعال النبي (ص) بالنسبة إلى وجوب التأسي به وعدمه خمسة أقسام:
1 ـ أفعاله الجبلية كالقيام والقعود، والأكل والشرب ونحوها مما لا يخلو منه إنسان. وهذا القسم لا نزاع في أنه لا يعد ملة أي شريعة نتأسى به فيها. وقال بعضهم: إنه للاستحباب في حقنا.
2 ـ أن يكون فعله (ص) بيانا لمجمل مما هو واجب، فهذا قسم يجب على المسلم اتباعه فيه.
3 ـ أن يكون الفعل من خصائصه بدليل دل عليه. وحكم هذا القسم عدم الاتباع.
4 ـ ما تردد من فعله بين الجبلي والشرعي بأن كانت الجبلة تقتضيه في نفسها لكنه وقع متعلقا بعبادة كالركوب في الحج، والضجعة بين صلاة الصبح وركعتي الفجر. وهذا قسم وقع فيه خلاف ناشئ عن القولين في تعارض الأصل الذي هو عدم التكليف والظاهر الذي هو بعثه للتشريع.
5 ـ غير ما تقدم من الأفعال، وهو على نوعين: ما عرفت صفته من الأفعال في حق النبي (ص) بكونه واجبا أو مندوبا أو مباحا، وفيه خلاف ذهب الجمهور في ذلك إلى أن أمته مثله لأن الأصل الاستواء في الأحكام. وأما ما لم تعلم صفته ففيه خلاف أيضا أصح الأقوال فيه أنه للوجوب لأنه الأحوط والأبعد من لحوق الإثم.
وأما في مجال الأوامر القولية، فإن صيغة الأمر المتجردة عن القرينة موضوعة عند الجمهور للوجوب وعند البعض للندب فقط، وللقدر المشترك بينهما عند آخرين، وللإباحة فقط عند قوم. ثم إن القرينة عند الجمهور تنزل بالأمر إلى الندب ثم إلى الإرشاد ثم إلى الإباحة. وكذلك صيغة النهي فهي تحتمل التحريم وتحتمل الكراهة والدعوة إلى التنزيه. وللقرائن دور في ضبط المعامل المحدد للأهمية.
وقد قال الشاطبي في الموافقات: "القول من النبي (ص) إذا قارنه الفعل فذلك أبلغ ما يكون في التأسيس بالنسبة إلى المكلفين، لأن فعله عليه الصلاة والسلام واقع على أزكى ما يمكن من وضع التكاليف. فالاقتداء به في ذلك العمل في أعلى مراتب الصحة، بخلاف ما إذا لم يطابقه الفعل، فإنه وإن كان القول يقتضي الصحة فذلك لا يدل على أفضلية ولا مفضولية"[4]. والشاطبي هنا يخالف ما ذكرناه قريبا من قوة القول على حساب الفعل، ويجعل العمل أقوى في الدلالة على التشريع جريا على طريقة المالكية في الاستناد على العمل وتقديمه.
ويرى الشافعية كما ينقل الآمدي[5] مذهبهم أن: ما كان من أفعال الرسول (ص) الجبلية، كالقيام والعقود والأكل والشرب ونحوه، فلا نزاع في كونه على الإباحة بالنسبة إليه وإلى أمته. وأما ما سوى ذلك، مما ثبت كونه من خواصه التي لا يشاركه فيها أحد، فلا يدل ذلك على التشريك بيننا وبينه فيه إجماعا. وأما ما عرف كون فعله بيانا لنا فهو دليل من غير خلاف، وذلك إما بصريح مقاله كقوله: "صلوا كما رأيتموني أصلي، وخذوا عني مناسككم" أو بقرائن الأحوال..
وأما ما لم يقترن به ما يدل على أنه للبيان لا نفيا ولا إثباتا، فإما أن يظهر فيه قصد القربة أو لم يظهر، فإن ظهر فيه قصد القربة فقد اختلفوا فيه. فمنهم من قال: إن فعله محمول على الوجوب في حقه، وفي حقنا، كابن سريج والأصطخري وابن أبي هريرة وابن خيران والحنابلة وجماعة من المعتزلة. ومنهم من صار إلى أنه للندب، وقد قيل إنه قول الشافعي، وهو اختيار إمام الحرمين. ومنهم من قال إنه للإباحة، وهو مذهب مالك. ومنهم من قال بالوقف، وهو مذهب جماعة من أصحاب الشافعي، كالصيرفي والغزالي وجماعة من المعتزلة. وأما ما لم يظهر فيه قصد القربة فقد اختلفوا أيضا فيه على نحو اختلافهم فيما ظهر فيه قصد القربة. غير أن القول بالوجوب والندب فيه أبعد مما ظهر فيه قصد القربة، والوقف والإباحة أقرب..
والمختار أن كل فعل لم يقترن به دليل يدل على أنه قصد به بيان خطاب سابق، فإن ظهر فيه قصد القربة إلى الله تعالى فهو دليل في حقه عليه السلام على القدر المشترك بين الواجب والمندوب. وهو ترجيح الفعل على الترك لا غير. وأن الإباحة، وهي استواء الفعل والترك في رفع الحرج، خارجة عنه، وكذلك في حق أمته. وما لم يظهر فيه قصد القربة، فهو دليل في حقه على القدر المشترك بين الواجب والمندوب والمباح، وهو رفع الحرج عن الفعل لا غير، وكذلك عن أمته. فمذهب الشافعي كما يقدمه الآمدي هنا أن الإلزام يتجه فقط إلى ما عرف من الأفعال أنه دليل صريح في التشريع، وأما ما وقع التردد بشأنه فهو مندوب فقط، بل ولو ظهر فيه قصد القربة إلى الله تعالى.
ولم أقف على رأي مبسوط للحنابلة في الموضوع، إلا أن الآمدي يجعلهم في هذا النص من القائلين بوجوب كل ما كان دليلا أو ظهر فيه قصد القربة. ولعل الحنابلة يرون فعلا ذلك لاشتباههم بجماعة المحدثين عموما.
ويميل جمهور الشيعة إلى القول بأن جميع ما يصدر عن النبي (ص) لا بد أن يكون صادرا عن تشريع حكم، وله دلالته في مقام التشريع العام إلا ما اختص به. وينازع الشيعة في اعتبار ما صدر عن الصحابة مما يدخل في السنة، وفي المقابل يوسعون مدلولها ليشمل كل ما يصدر عن الأئمة "المعصومين" من آل البيت قولا وفعلا وتقريرا.
وعلى الجملة فالأصوليون قسموا ما صدر عن الرسول (ص) إلى أقسام بعضها مطلوب وبعضها غير مطلوب، كما جاء في سلم الوصول: "ليس كل ما روي عن الرسول (ص) من أقواله وأفعاله وتقريراته تشريعا يطالب به المكلفون، لأن الرسول بشر كسائر الناس اصطفاه الله رسولا لهداية الناس وإرشادهم"، فما صدر يتنوع إلى الأنواع الآتية:
1 ـ ما صدر منه على وجه التبليغ عن الله تعالى، بصفته رسولا يجب الاقتداء به والعمل بما سنه من الأحكام، مثل تحليل شيء أو تحريمه والأمر بفعل أو النهي عنه وكبيان العبادات وتنظيم المعاملات، فهذا نوع يجب على المسلم المكلف العمل به، وما روي من هذا النوع يسمى بأحاديث الأحكام.
2 ـ ما صدر منه بحسب طبيعته البشرية كالأكل والشرب والنوم، وهيئة اللباس، وما إلى ذلك من الأمور التي مرجعها طبيعة الإنسان وحاجته.
3 ـ ما صدر منه بحسب خبرته وتجاربه في الحياة وفي الأمور الدنيوية، وبحسب تقديره الشخصي للظروف والأحوال الخاصة والحجج المقدمة من طرف المتخاصمين، وذلك مثل شؤون التجارة والزراعة والتدبيرات الحربية، ويلحق بها المعارف الطبية وما شابه هذا.
وهذان النوعان الأخيران ليسا تشريعا لأنهما يستندان إلى الحاجة البشرية، والطبيعية، والحضارة، والخبرة، وإلى التقدير الشخصي.
وتضاف إلى هذه الاختيارات الأصولية احترازات نظرية. فإذا كانت السنة هي ما نقل إلينا من تصرفات النموذج المحتذى، الرسول المقتدى، فلا يمتنع نظريا أن يكون نزر يسير منه لم يتم نقله، وإن كان هذا الاحتمال لا يقدح في قيمة الرسالة ككل، ولذلك لم يدع أحد من المتصدين للتصنيف في الحديث أنه قد استوعب السنة بالتمام والكمال. وإنما أقصى ما يرمون إليه هو جمع ما انتهى إليهم حسب اجتهادهم في تطبيق قواعد الضبط والرواية. ولا ننسى في هذا المقام أن الرواة منهم مقلون ومنهم مكثرون.
ولا يمتنع ثانيا أن يكون بعض من السنة قد روي في الابتداء ثم اختفى شيئا فشيئا خصوصا قبل عصر التدوين وظهور التصانيف الحديثة. والأسباب في حصول ذلك كانت موجودة من جهة التمحيص العلمي والتحقيق المنهجي، ومن جهة الترجيح بين مختلف روايات الحديث، ومن جهة تحكم القناعات المتعددة والانتماءات المذهبية.
وإلى اليوم من المعلوم أن هناك أحاديث وقع الاختلاف في الحكم عليها.
وليس كل حديث ضعفه بعض الأئمة من المحدثين هو ضعيف قطعا، ولا كل حديث صححه آخرون هو كذلك قطعا. وإنما ذلك باعتبار استدلالات معينة. فالتصحيح أو التضعيف أمر اجتهادي غير مقطوع به لأنه ناشئ عن أحكام قيمية مظنونة في مسألة تزكية الناقلين للأخبار. ولما كان القبول أو الرد في الروايات متفرع عن الجرح أو التعديل في الرواة، فإن بضعا منهما لا يسلم تماما، خصوصا إذا أخذنا بعين الاعتبار ظاهرة التنافس بين العلماء وتبادل الأحكام القيمية بينهم بالنظر إلى الانتماءات المتعددة، فإن ذلك لا يخلو تماما من تحامل. وقد ذكر العلامة ابن دقيق العيد من ضمن آفات الرواية: "المخالفة في العقائد، فإنها أوجبت تكفير الناس بعضهم لبعض أو تبديعهم، وأوجبت عصبية اعتقدوها دينا يتدينون به ويتقربون به إلى الله تعالى، ونشأ من ذلك الطعن بالتكفير أو التبديع.. والذي تقرر عندنا أنه لا تعتبر المذاهب في الرواية إذ لا نكفر أحدا من أهل القبلة"[6].
ومن ثم فإن نوعا من الرواية والدراية عن نوع من الرواة والعلماء ليس أولى نظريا بالسنية من نظائره. وللإشارة في هذا المقام أكتفي بمثال واحد، هو الحديث النبوي المشهور عن الثقلين اللذين تركهما النبي (ص) في أمته، الذي روي بصيغتين متغايرتين. فقد روته جماعة، ومنهم الإمام مسلم، برواية: "إني تارك فيكم ثقلين كتاب الله في الهدى والنور، وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي[7]. وروته جماعة أخرى، ومنهم الحاكم، برواية: إني تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدا كتاب الله وسنة نبيه. وروت جماعة أخرى، ومنهم البزار والطبراني، رواية ثالثة اقتصر فيها على القرآن. وجاء فيها: أبشروا فإن هذا القرآن طرفه بيد الله وطرفه بأيديكم فتمسكوا به فإنكم لن تهلكوا ولن تضلوا بعده أبدا.
هذا وليس من البعيد أن يكون هذا التنبيه قد صدر عن الرسول (ص) في مناسبات مختلفة، وبروايات متقاربة، كما يجنح إلى ذلك العلماء الذين اهتموا بالجمع بين مختلف الحديث. ولذلك فلا يمتنع أيضا أن يكون بعض ما نقل إلينا نقل على غير وجهته الصحيحة. فهو منقول بحسب سماع وفهم وإدراك من رواه. فالاحتمال قائم على أن يكون قد أخطأ في بعضه. ولا يعني هذا أن الرواة بالضرورة كانوا ذوي نية سيئة، خصوصا منهم الصحابة الذين اتفق أهل الفن على عدالتهم بعد شهادة الله ورسوله بتزكيتهم، وإنما فقط لأن الخطأ ظاهرة إنسانية قديمة حديثة.
وأحب أن أنقل هنا قولا للصحابي عمران بن حصين. فقد روى مطرف بن عبد الله أن عمران بن حصين قال: والله إن كنت لأرى أني لو شئت لحدثت عن رسول الله (ص) يومين متتابعين. ولكن بطأني عن ذلك أن رجالا من أصحاب رسول الله (ص) سمعوا كما سمعت وشهدوا كما شهدت، ويحدثون أحاديث ما هي كما يقولون. وأخاف أن يشبه لي كما شبه لهم، فأعلمك أنهم كانوا يغلطون لا أنهم كانوا يتعمدون[8].
وروى ابن ماجة في سننه أن زيد بن أرقم كان يقال له: حدثنا. فيقول: كبرنا ونسينا، والحديث عن رسول الله شديد. وكان أنس بن مالك يتبع الحديث عن النبي (ص) بقوله: "أو كما قال" حذرا من الوقوع في الكذب عليه. وقد روى مسلم في كتاب الصلاة عن ابن عباس عندما أصيب أمير المؤمنين جاء صهيب يقول: وا أخاه، وا صاحباه! فقال عمر: ألم تعلم أن رسول الله (ص) قال: إن الميت ليعذب ببعض بكاء أهله. قال: فقمت فدخلت على عائشة فحدثتها بما قال عمر، فقالت: "لا والله ما قال رسول الله (ص) قط إن الميت يعذب ببكاء أحد! ولكنه قال: إن الكافر يزيده الله ببكاء أهله عذابا. وإن الله لهو أضحك وأبكى! ولا تزر وازرة وزر أخرى.
وحدث القاسم بن محمد قال: لما بلغ عائشة قول عمر وابن عمر قالت: إنكم لتحدثون من غير كاذبين ولا مكذبين، ولكن السمع يخطئ!
هذه إشارات إلى احتمال وقوع الأخطاء الحاصلة من جهة السمع، فما بالك أيها المسلم بالأخطاء المتعددة الحاصلة من جهة الفهم! أو من جهة النسيان. ولنا أن نعتبر ببعض الإشارات المنبثة في مصادر ثقافتنا. فقد روى مسلم مثلا في كتاب الصلاة بسنده إلى عمرو بن دينار عن أبي معبد مولى ابن عباس أنه سمعه يخبر عن ابن عباس، قال: ما كنا نعرف انقضاء صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بالتكبير. قال عمرو: فذكرت ذلك لأبي معبد –راوي الحديث- فأنكره وقال: لم أحدثك بهذا! قال عمرو: وقد أخبرنيه قبل ذلك!
وروى مسلم أيضا في موضوع الغسل والوضوء وأن الخطايا تخر من الماء حديثا للصحابي عمرو بن عبسة عن النبي (ص) جاء فيه: فإن هو قام فصلى فحمد الله وأثنى عليه ومجده بالذي هو له أهل وفرغ قلبه لله إلا انصرف من خطيئته كهيئته يوم ولدته أمه. فحدث عمرو بن عبسة بهذا الحديث أبا أمامة صاحب رسول الله (ص) فقال له أبو أمامة: يا عمرو بن عبسة انظر ما تقول! في مقام واحد يعطى هذا الرجل!؟ فقال عمرو: يا أبا أمامة لقد كبرت سني ورق عظمي واقترب أجلي وما بي حاجة أن أكذب على الله ولا على رسوله. لو لم أسمعه من رسول الله (ص) إلا مرة أو مرتين أو ثلاثا –حتى عد سبع مرات- ما حدثت به أحدا. ولكني سمعته أكثر من مرة!
وينضاف إلى كل ما سبق تزايد الاهتمام بناحية دون أخرى من نواحي السنة، عند طائفة أو عند أهل بلد، حتى تصير النواحي الأخرى باهتة اللون ضئيلة الحضور. وقد ميز مثلا أحد السلف الأول أهل البصرة وأهل الكوفة مقارنا بينهم في درجة التحديث فقال: أهل الكوفة أروى لأحاديث القضاء، وأهل البصرة أروى لأحاديث البكاء!
إني لا أقصد إطلاقا من إيراد هذه الاحتمالات الانتهاء إلى ما انتهى إليه بعضهم، حيث اعتمر وجدانهم بالنسبية الكبيرة الموجودة في المرويات، فأفتوا بالاستغناء عنها جملة وتفصيلا والاقتصار على النص القرآني المتواتر، فسقطوا في آفة عظمى وتوجه عليهم الوعيد الشديد الصادر عن رسول الله (ص) فيمن يستغني عن سنته ويتجاهلها، وإنما القصد هنا تجلية الأبعاد السنية، والتأكيد على المواطن التي تجمع كل المسلمين أو أكثرهم من حيث معانيها ومغازيها ودروسها وأحكامها الثابتة، ثم منازعة البعض دعوى التسنن –والتباهي بذلك فوق رقاب العامة- انطلاقا من فروع يسيرة ظنية في الثبوت وظنية في الدلالة وموغلة في الشكلية والمحاكاة العمياء.
فكما أن الرواية عنه عليه السلام كبيرة تشمل آفاق كثيرة من أبعاد الإنسان قد يشغل المرء منها بعد واحد أكثر من غيره، كذلك الدراية لمرامي السنة وأحوالها قد يتفاوت الآحاد أو الطوائف في إدراكها بشكل مباشر أو غير مباشر.
ولقد كان الرسول (ص) يتوقع غفلة الراوي في نقله للسنة عن مغازيها الحقيقة وقصوره عن علومها الدقيقة فتنبأ بأنه رب منقول إليه أذكى وأفهم من الناقل، وفي ذلك ورد الحديث المشهور: رحم الله امرؤا سمع مقالتي فوعاها وأداها كما سمعها فرب مبلغ أوعى من سامع. وفيما يجاري هذا المعنى أيضا تحذيره عليه السلام من تأويل الجاهل للسنة وانتحال المبطل وتحريف الغالي لها. قال عليه السلام فيما رواه أبو نعيم والدارقطني عن غير واحد من الصحابة: يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين.
ولذلك لما كان البعض في تاريخ الإسلام يتناسى قيم السنة ويتحجر في فهمها كان هناك في الغالب صوت عالم آخر يرده إلى الحق وينبهه إلى ما اعتراه من لبس. ويكاد يكون الفكر الإسلامي عامة يتضمن خطين متعانقين يرد أحدهما الآخر إلى الصواب، ويحد من جنوحه إلى آفة الشطط والإفراط: خط أهل الظاهر المشتغلين بالرواية والوقوف على المعنى الظاهر، وخط أهل المعاني المهتمين بالتجريد وفحوى المخابر.
إن كان الذين بحثوا في فهم السنة قالوا إنها تعني الطريقة المتبعة وإنها عند الإطلاق تنصرف إلى سنة صاحب الرسالة محمد (ص): ما فعله وما قاله وما أقره، وأضاف الحافظ أبو محمد ما هم فعله، فهي طريقته التي كان يتحراها. وتحتمل السنة من حيث أصلها كلفظ عام ما تم تشريعه من الفروع والآداب، مما لم يكن ثم كان. فهي بحدوثها تتضمن أيضا احتمال تغيرها. ولذلك نبه القرآن الكريم إلى أن سنن الله في الكون لا يلحقها كسواها من السنن التبديل والتغيير. قال تعالى: "سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا". ولذلك فسروا قوله تعالى: لم يتسنه أي لم يتغير. وقوله حمأ مسنون: أي متغير.
بعض علماء اللغة ذهب إلى عكس هذا المعنى. فالكسائي مثلا يرى أن قولنا سنة معناه الأمر بالإدامة، وإن كان الدوام لا يقتضي بالضرورة عدم التغير. ولكن إن كانت سنن الأنبياء تختلف من زمان لآخر تبعا لاختلاف شرائعهم، فإن الملحظ الذي تهفو إليه كل السنن قديما وحديثا هو تربية النفس الإنسانية. قال الراغب الأصفهاني في معجم المفردات عقب الآية السالفة: تنبيه إن فروع الشرائع وإن اختلفت صورها فالغرض المقصود منها لا يختلف ولا يتبدل، وهو تطهير النفس وترشيحها للوصول إلى ثواب الله وجواره. ومن هذه الزاوية نتفهم حسن نية قوم يتعصبون لصور مستقرة وأوضاع اجتماعية وصفات حضارية رويت لنا من عهد سلف هذه الأمة، معتبرين إياها من السنة، لكنهم غفلوا عن كونها نسبية في الثبوت وظنية في الوجوب. وكنا نود لو اقتنعوا أكثر بمغزى تلك الصور التاريخية وتسامحوا شيئا ما مع غيرهم في تقليد ظاهريتها وتمسكوا فقط بالآكد من المسنونات الذي تقول به كافة طوائف المسلمين.
فليس بمتحتم أن يأخذ المسلم السنة بمفهوم المحدثين لها. ولذلك فبعضنا، نظرا لجهله بصميم السنة ومغزاها وعدم اكتراثه بالواقع الذي يحياه، يتحول إلى مسيء للسنة من حيث لا يدري. إن المهم من ذلك كله مراعاة المقاصد ورعاية القيم، والائتمار بما هو فعلا أمر، لا بما هو مندوب أو من قبيل الصفة، ولا بما لم يتأكد أنه بيان لتشريع. والذي يُخاف منه أن تكون كثير من معارك مدعى العمل بالسنة ومحاربة البدعة يتخلص في التعصب لصور معينة، والغفلة عن مغزاها، وناتج عن اعتبار كل ما روي في السنة فرضا. وهو خطأ واضح وجهل قادح..
وكم نشب الخلاف للأسف بين طوائف من المسلمين لمجرد قبض يد أو سد لها أو ما شابه هذا، أو لذكر دعاء، أو ذكر أو صيغة أو ما شاكل هذا! وقد سمعنا عن أقوام من المسلمين يجتهدون في إرسال لحية وفي ارتداء إزار أو قميص أو عمامة بدعوى السنة، ولا يتورعون من تبديع وتكفير غيرهم عندما رأوهم غير معتنين بذلك. فأيهما أسوأ وأقبح عند الله: من طعن في إيمان المسلمين، أو من تراخى في الإتيان بأمور ظاهرة من السنة لتقصير فيه، أو لكونه يذهب إلى أن هم التسنن أعمق من ذلك وأن ما هو من ذلك القبيل لا يأتي في مقدمة أولويات الإتباع المطلوب؟
ولما كان الاهتمام بهذه الجزئيات لا يستند في قوته إلى استقراء شامل ناف لأي اضطراب ووعي حقيقي بأعماق السنة وتمثل صحيح وصريح لقيمها تناثرت القضية وتنافرت من قوم إلى قوم. وهكذا تجد ذا اللحية والعمامة صاحب سنة عند نفسه وصاحب بدعة عند غيره ممن هم أشد إغراقا منه في التمسك بحرفيات جزئيات أخرى. فهو رغم لحيته وسواكه، هناك من يبدعه أو يكفره بدعوى الانتصار للسنة، لأنه مثلا يقول عقب قراءة القرآن صدق الله العظيم! أو لأنه وإن كان أرسل لحيته فهو لا يكفر من لا يرسلها!
واعتبر في هذا أيضا بموضوع الحجاب بالنسبة للمرأة، فما هو فعلا حجاب عند البعض يعتبر سفورا عند البعض الآخر، حتى إن المرأة المحجبة في أوساط بدعوى السنة، هي في أوساط أخرى أشد إغراقا في الالتزام بزي أسود مخيط محيط تعتبر مبتدعة. فقد غفل بعض الناس عن معنى الاحتشام والتستر المعتدل وتاهوا في جزئيات الشكل واللون والطول والقصر.
وهكذا خفي علينا معنى التسنن والإتباع، وتشنج البعض في الحكم على من سواه بالابتداع، وصار لكل قوم مفهوم خاص في السنة والبدعة، انطلاقا منه ينصبون أنفسهم أوصياء على الدين وحكاما على عقائد الناس!
ومن أخطر الآفات التي أصيب بها فكر بعض مدعي التسنن اعتبار أن كل ما ليس سنة هو بالضرورة بدعة مذمومة. وتكونت بالتالي لديهم عقلية أن كل ما ترك الرسول عليه السلام فعله هو غير مشروع!! وهذا جهل كبير وتقول خطير، فلم يثبت قطعا من حيث الاجتهاد الفقهي الأصولي في الإسلام أن الترك دليل على التحريم. فإذا ترك النبي (ص) شيئا، أو تركه السلف الصالح، فلا يعني ذلك أنه منهي عنه، إلا إذا كان هناك نص أو أثر بالنهي عن ذلك الشيء. فمجرد الترك لا يعني النهي المتحتم. ولكن للأسف استدل له بعض الناس، بل وأفرط آخرون في الإفتاء بالتحريم على مقتضاه.
يقول العلامة عبد الله بن الصديق الغماري الحسني[9]: والترك وحده إن لم يصحبه نص على أن المتروك محظور لا يكون حجة في ذلك، بل غايته أن يفيد أن ترك ذلك الفعل مشروع. وأما أن ذلك الفعل المتروك يكون محظورا فهذا لا يستفاد من الترك وحده، وإنما يستفاد من دليل يدل عليه. وساق رأي العلامة أبا سعيد بن لب ومفاده: "أن الترك ليس بموجب لحكم في ذلك المتروك إلا جواز الترك وانتفاء الحرج فيه. وأما تحريم أو لصوق كراهية بالمتروك فلا، ولا سيما فيما له أصل إجمالي متقرر من الشرع. وأفاد أن العلماء قسموا ترك النبي (ص) لشيء ما على نوعين: نوع لم يوجد ما يقتضيه من عهده ثم حدث له مقتض بعده، فهذا جائز على الأصل، وقسم تركه النبي (ص) مع وجود المقتضي لفعله في عهده، وهذا الترك يقتضي منع المتروك لأنه لو كان فيه مصلحة شرعية لفعله النبي (ص). فحيث لم يفعله دل على أنه لا يجوز".
ومن راجع كتب الأصول المعتنية بمسألة أفعال الرسول (ص) وتروكه، بتفصيلاتها ومدى دلالة كل ذلك على التشريع، علم ما ينبغي أن يصاحب ذلك من حذر ومن تحقيق. وللأسف لم يقتصر تزمت بعض المدعين للسنة على الفهم الحرفي لبعض المرويات، وإنما تعدى ذلك إلى الاتهام بالابتداع لكل ما لم يجر له ذكر في المرويات، وأقصى مستندهم في ذلك أن النبي (ص) لم يفعله! وكل هذا التشوه الفكري راجع إلى قلة الفقه وعدم المعرفة بالواقع وإلى جمود سطحي على بعض المرويات.
يقول الأستاذ محمد زاهد الكوثري[10]: "كثرة الحديث بمجردها إذا لم تكن مقرونة بالتمحيص والغوص تكون قليلة الجدوى! كان بين رواة الحديث أناس لم يتقنوا النظر ولم يمارسوا استنباط الأحكام من الأدلة، فإذا سئل أحدهم عن مسألة فقهية لا يجهلها صغار المتفقهين يجيب عنها بما يكون وصمة عار له أبد الآبدين، فيصلي أحدهم الوتر بعد الاستنجاء من غير إحداث الوضوء. ويستدل على هذا العمل بقوله صلى الله عليه وسلم: من استجمر فليوتر!.. مع أن القصد إيتار الاستنجاء عند الاستنقاء.. ويبقى أحدهم لا يحلق رأسه أربعين سنة قبل صلاة الجمعة على ما فهم من حديث: نهى عن الحلق قبل صلاة الجمعة.. مع أن الحلق يراد منها النهي عن عقد الحلق، جمع حلقة، المؤدي إلى مضايقة الجماعة.. ويفهم آخر منهم من حديث: نهى أن يسقي الرجل ماء زرع غيره: المنع من سقي بساتين الجيران مع أن المراد وطء الحبالى من السبايا..".
فدهماء الرواة بعيدون عن تعقل محل النزاع وتحريره.
وقد كان بين أهل الغوص على المعاني وبين نقلة الألفاظ جفاء متوارث، حيث كانت النقلة متمسكين بحرفية ما يروونه غير معولين على أفهام الآخرين في النصوص، يرمونهم بمنابذة السنة عند عدم موافقة أفهام هؤلاء لأفهامهم أنفسهم. وفي هؤلاء الدهماء يقول شعبة: كنت إذا رأيت رجلا من أهل الحديث يجيء أفرح به، فصرت اليوم ليس شيء أبغض إلي من أن أرى واحدا منهم! ويقول الثوري: ليس طلب الحديث من عدد الموت. ويقول أيضا: لو كان هذا الحديث خيرا لنقص كما ينقص الخير! ويقول عمرو بن الحارث –شيخ الليث-: ما رأيت علما أشرف وأهله أسخف من أهل الحديث!..
لا بد من حسن الفهم لما روي في السنة في ضوء أسباب الورود، وفي ضوء المبادئ العامة والمقاصد الكلية، والتمييز بين ما هو تشريع وما ليس بتشريع، وبين التشريع الذي له صفة الدوام والاستمرارية، وما له صفة الارتباط بمرحلة مؤقتة مخصوص بظروفها، والتمييز بين ما تم تركه لأنه منهي عنه وما هو متروك لكن أصول الشرع تأذن به.
ولا يمكن لسنة حقيقية أن تصيب إلا إذا كانت في انسجام مع باقي السنن وباقي الغايات والمكارم والآداب، ويبقى الإذن قائما في الآفاق المتعددة التي لا ضرر فيها على روح التشريع. فاجتثات نص واحد من سياقه ومن ظروفه، ومن وسط منظومته المتناغمة، ثم التأكيد على العمل بظاهره فقط دون رده إلى فحواه والعمل بمغزاه، وتقييده أو تخصيصه بما يجاريه، زلل خطير، وتشوه كبير في دعوى التسنن.
ومن جهة أخرى، لا يختلف ناظران عاقلان عارفان بأبعاد التشريع في الإسلام "أن تكاليف الشريعة ترجح إلى حفظ مقاصدها في الخلق. وهذه المقاصد لا تعدو ثلاثة أقسام: أحدها أن تكون ضرورية، والثاني أن تكون حاجية، والثالث أن تكون تحسينية"، على حد تعبير العلامة أبي إسحاق الشاطبي، وأن كل قسم أولى من الذي يليه، ولا يلزم بالضرورة من التساهل في بعض من هذا اختلال القسم الضروري، إلا إذا كان التساهل شاملا لكل ما هو تحسيني، أو كل ما هو حاجي فيلحق منه انخرام في ما هو ضروري من حيث أن الراعي الذي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه..
"فالاقتداء لا يكون بالكماليات من مقاصد الشريعة دون الضروريات والحاجيات، والاقتداء لا يكون بالأشكال دون الأفعال. ونحن هنا لا نحط من قدر الاقتداء بالرسول (ص) في طعامه وشرابه، ولباسه ويقظته، وعاداته وسننه كلها، لأن ذلك يعتبر تربويا من الأهمية بمكان في صياغة الشخصية وبنائها على طريقة التربية النبوية، ولكن نقول: إن للدين مقاصد تتمثل في تحقيق ضروريات لا تقوم الحياة إلا بها، وحاجيات لا تحمى وتقام الضروريات إلا بتوفيرها، وكماليات وتحسينات تعتبر أمورا جمالية، انعدامها قد لا يؤثر في قيام الحياة"[11].
إن التمسك بظاهر السنة إلى حد الحرفية البليدة –وفي جزئيات لا تمثل المقاصد الضرورية في الدين- ليس عملا بالسنة، وبما أرشدت إليه، بل هو في النهاية تحنيط للسنة بعد اغتيال روحها.
وقد تنبه بعض المعاصرين المتنورين إلى قصور فهمنا في أمور نعتبرها من السنة لأننا جمدنا على ظاهريتها ولم ننفذ إلى قيمها ومعانيها، وخاصة ما يستشعر معه المرء أنه بني على عرف زمني كان قائما في عصر النبوة، ثم تغير في عصرنا. وقد كان لبعضهم الشجاعة الأدبية والطمأنينة العلمية ليقول مثلا إن زكاة الفطر يجوز أن تخرج قيمتها نقدا لا أنها تجب فقط في أصناف معينة من الطعام: التمر والزبيب والقمح والشعير، كما كان الحال عليه زمن النبوة، لأن المقصود بها إغناء المساكين في يوم العيد. وأن روح السنة النبوية في موضوع طب الأجسام ليست هي الاقتصار على الحبة السوداء في مقاومة كل داء بالرغم من الحديث الوارد فيها لأنه حديث بَيَّنَ واقعا حضاريا لا يقيدنا، ولا يلزم المعارف الطبية أن تقف عنده. وأن تعيين السواك بالعود ليس هو السنة، وإنما السنة طهارة الفم، وليس السواك إلا وسيلة لذلك. فكلما استجدت وسيلة أخرى وحسنت ورقت كانت من السنة. وأن الذي يأكل بالملعقة وفي نظام وفي آداب معلومة ليس أقل سنية من ذلك الذي يأكل بأصابعه ويلعقها بعد الأكل ويلعق معها القصعة!!![12].
إن القراءة الحرفية المسطحة للنص الديني لا بد أن تؤدي إلى الشعور بالتناقض مع الحقبة الزمنية التي يعيش فيها القارئ. أما القراءة التأويلية المتفتحة الراصدة لروح النص فهي التي يمكن أن يتحقق من خلالها التناغم المنشود بين أي قارئ وبين زمانه. وهو ولا شك تناغم موجود وخالد ما دام على وجه الأرض مؤمنون بالله.
والواقع أن ما يشعر به المسلم أحيانا من تمزق بين مقتضيات الحداثة وبين متطلبات المحافظة على الدين لا يأتي دائما من جهة التناقض بين الدين واللادين كما يبدو، وإنما يأتي أحيانا كثيرة من جهة هيمنة تصور تراثي متراكم للدين. فهو تأويل للدين توقف عن التجدد والاستمرارية في العطاء منذ أزمان.
والمسؤولية ترجع في ذلك قديما وحديثا إلى فئة من المتعالمين، لهم أصداء كثيرة أيضا في العصر الحاضر، "عرفوا بالجمود في الكفر –على حد تعبير الدكتور القرضاوي- والحرفية في الفقه والتعسر في الفتوى، والتنفير في الدعوة، والخشونة في التعامل. فهم ينكرون التجديد في الدين، والاجتهاد في الفقه، والتيسير في الفتوى، والتبشير في الدعوة، ولا يوازنون بين النصوص الجزئية والمقاصد الكلية.. وأقرب كلمة إلى ألسنتهم حرام أو بدعة.. وأهم ما يشغلهم ليس القضايا المصيرية التي تتعلق بوجود الأمة وبقائها مسلمة. إنما يشغلهم أبدا الشكل عن الجوهر، والصورة عن الحقيقة، والهامش عن الصلب، والجزئيات عن الكليات، والظنيات عن القطعيات، والمختلف فيه عن المتفق فيه.. إن لهم إسلاما جامدا كالصخر الذي لا يعرف تعدد الآراء، ولا يعترف بتنوع الاجتهادات، ولا يقر إلا بالرأي الواحد والوجه الواحد..!!".
ولعل الإشكالية المعرفية الكبرى التي واجهت المسلمين قديما وتلح عليهم اليوم بشكل أكبر هي صعوبة التفريق بين ما هو مقدس ومتعال حقا وبين ما هو إنساني يرتبط بظروف واقعه وحقبته، فيتم الخلط بين هذا وذاك وتصدر الفتاوى المتشنجة وينتشر الجهل بحقائق الدين.
وأصعب ما لدى من يحمل هذا النوع من التفكير المتحجر اعتباره لنفسه أنه يمثل المرجعية الدينية التي ينبغي أن يتحدد على ضوئها أي تدين. فهو لا يمثل فهما في الإسلام ولا جماعة من المسلمين، وإنما هو "جماعة المسلمين" أو "الجماعة الإسلامية"! وغالبا ما يصبح هذا الفكر أو هذه الجماعة غاية وهدفا بحد ذاتها، بحيث تصبح الدعوة إلى التنظيم لا إلى دين الله السمح، ويصبح الولاء لمن يتزعم هذا الفكر لا لله ورسوله.
فالمسلمون لم يؤذوا –كما يقول الأستاذ محمد الغزالي- من الأحاديث الموضوعة لسهولة تزييفها وفضحها، قدر ما أوذوا من الأحاديث التي أسيء فهمها واضطربت أوضاعها. ولقد اهتدى هذا العالم المعاصر رحمه الله إلى مواطن الزلل في تناول بعضنا للسنة في هذه الأزمان، وصاغ ذلك في عبارات بليغة أحب أن أنقل البعض منها. قال:
"من الدهماء من يهتم بقضية رفع اليدين قبل الركوع وبعده أكثر مما يهتم بتوفير الخشوع والقنوت بين يدي الله سبحانه وتعالى وخلاف الفقهاء في هذه القضية معروف".
والبعد الذي لاحظناه عن منهج السلف يرجع إلى انتشار الأحاديث الضعيفة، ويرجع قبل ذلك إلى انتشار مقولة لم يكن لها رواج بين الفقهاء القدامى، وهي أن حديث الآحاد يفيد اليقين العلمي الذي يفيده التواتر!
إن الحديث الصحيح له وزنه، والعمل به في فروع الشريعة له مساغ وقبول، وتركه لأدلة أقوى منه أمر مقرر مأنوس بين فقهائنا. أما الزعم بأنه يفيد اليقين كالأخبار المتواترة فهي مجازفة مرفوضة.
إن نبينا عليه الصلاة والسلام تكلم كثيرا، وكلامه موضع الإعزاز والطاعة. وكان يمكن أن تعرف مرامي الكلام وحقائقه لو ضبطت الملابسات التي قيل فيها. وأيا ما كان الأمر فإن إطار القرآن الكريم ضابط دقيق إذا عزت معرفة الملابسات. إن ركاما من الأحاديث الضعيفة ملأ آفاق الثقافة الإسلامية بالغيوم، وركاما مثله من الأحاديث التي صحت ثم سطا التحريف على معناها، أو لابسها، كل ذلك جعلها تنبو عن دلالات القرآن القريبة والبعدية.
إن القاصرين من أهل الحديث يقعون على الأثر لا يعرفون حقيقته، ولا أبعاده، ثم يشغبون به على الدين كله دون وعي!
اليوم توجد "طفولة إسلامية" تريد الانفراد بزمام الأمة، وعندما يسمع أولو الألباب حديثها يطرقون محزونين! والمخيف أنها طفولة عقلية تجمع في غمارها أرباب الحي، وأصحاب هامات وقامات! يقعون على أحاديث لا يفهمونها ثم يقدمون صورة للإسلام تثير الانقباض والخوف.
ليهتم المسلمون قبل أي شيء بأركان دينهم وعزائمه وغاياته العظمى! أما ما سكت الإسلام عنه فليس لهم أن يلزموا الناس فيه بشيء قد ألفوه هم أنفسهم من قبل. إننا لسنا مكلفين بنقل تقاليد عبس وذبيان إلى أمريكا واستراليا، إننا مكلفون بنقل الإسلام وحسب! "إن من لا فقه لهم يجب أن يغلقوا أفواههم لئلا يسيئوا إلى الإسلام بحديث لم يفهموه، أو فهموه وكان ظاهر القرآن ضده.."[13].
وأود أن أضيف شيئا، وهو أننا لسنا مكلفين كما سبق بنقل سطحيات حضارية إلى الغير على أنها الدين، وينبغي أن تكون لنا القابلية لنقل ما في حضاراتهم من المحاسن إلينا، وليس في ذلك أي ضرر على تديننا. فمهما علم الإنسان أن إجراء أو تنظيما أو طريقة متحضرة توجد في جهة إلا وجاز له أن يأخذ بها. والمسلم المعاصر مدعو إلى ذلك خاصة، اقتداء بنبيه (ص) الذي كتب كتابا أو أراد أن يكتب فقيل له: إنهم لا يقرؤون كتابا إلا مختوما، فاتخذ خاتما من فضة نقشه محمد رسول الله[14].
قال الأعمش يوما لشريك بن عبد الله النخعي المحدث القاضي: يا شريك لقد أدركت رجالا عجنوا في الدين عجنا، لو سألت رجلا واحدا منهم عن مسألة أو فريضة ما أحسنها. وما من مكرمة إلا وهي معقودة بمفارق رؤوسهم، ما يسرني برجل منهم عشرة مثلك بل مائة ألف[15]. كان الأعمش هذا من الذين لهم وعي خاص بالمكارم وما نصطلح عليه هنا بالقيم، وهو الذي قال عندما اجتمع القراء في منزل إسحاق بن الحسين من أجل أن يضعوا كتابا في السنة: رحم الله امرؤا كف يده وأمسك لسانه وعالج ما في قلبه!!
لا يصح في الفهم السوي للدين أن تصير المظاهر الغير الواجبة معيار الاستقامة لدى الأفراد، بل لا بد من العناية بما هو مصاحب لها ومقترن بها من المكارم والفضائل والمعالي، سواء اتحدت معها أو افترقت.
ولنا أن نتأمل كمثال في أن الاشتغال بالحرفة وابتغاء الرزق بواسطتها لا ينبغي أن يحجب المسلم عن رؤية الرازق عز وجل. فكما أتت السنة بإباحة الاحتراف ورغبت فيه أتت أيضا بفضيلة وقيمة النظر إلى الحق، وإن كان العرف جرى بإطلاق السنة أكثر على ما هو ظاهر من قبيل أعمال الجوارح لا على ما هو من أعمال القلوب، على اعتبار أن هذه أحوال القلب. ومشكلة الأحوال وإن كانت من صحيح الدين أنها لم تدون بالكتابة والرواية إلا في النادر.
ذكر أن سهل بن عبد الله التستري قال بهذا الصدد: "التوكل حال النبي (ص)، والكسب سنته. فمن بقي على حاله فلا يتركن سنته". وقال أيضا: "من طعن في الحركة فقد طعن في السنة، ومن طعن في التوكل فقد طعن في الإيمان".
نعم إن مكارم الأخلاق في الإسلام، والقيم في الإسلام هي العمق الأصيل في الدين، وهي التي ينبغي أن يشتغل بها بال المسلمين، وبها كان التقدم للمسلمين الأوائل الذين قدروا قيمة العمل وقيمة الكرامة الإنسانية، وقيمة العدل، وقيمة الإحسان في كل شيء، وقيمة التناصح والتشاور.
فنحن مسلمو هذا العصر في حاجة إلى هذا الوعي، ولسنا في حاجة إلى أن نلبس كلباسهم، ولا أن نتنطع في التمثل بقشور مظهرياتهم، ولا أن نتعارك حول لحاهم وجلابيبهم. ولا منفذ لنا من هذا الإشكال الذي يكاد يلبس على كثير منا أمر دينهم إلا بتجلية ما هو محل الاتفاق بين كل المسلمين في جميع مشاربهم. وما هو محل الاتفاق تحدده أركان تعبدية ينبغي أن يعذر البعض البعض في الانفراد بجزئيات يسيرة من تفاصيلها.. ومقاصد دينية أولية تغذي روح الرؤية في هذا الدين.. وقواعد فقهية كبرى تتدخل في كل مناحي التشريع.. وقيم ربانية إنسانية تجتذب إليها كل تصرفات المؤمن.
فما دمنا كمسلمين لا نتحرك بوعي الأركان والمقاصد والقواعد والقيم والكليات، فقدرنا حتما أن نغرق في الفروع، وفي الخلاف على الفروع، وفي آفة الاقتتال من أجل السطحيات والشكليات، لأننا إذاك وإن أسمينا أنفسنا "سنيين"، أو أسمانا غيرنا "أصوليين"، فإننا في النهاية نفتقد الجواهر ونتدني من الأصول إلى الفروع، ثم إلى تشقيقات الفروع، ثم إلى الشكليات الجوفاء، ثم إلى الخواء والفراغ..
[1] - ابن تيمية، موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول، 1-154.
[2] - عن التهانوي في كشاف اصطلاحات الفنون، مادة سنة.
[3] - انظر: الجواهر الثمينة في بيان أدلة عالم المدينة، للفقيه حسن بن محمد المشاط.
[4] - الموافقات، 4-38.
[5] - الإحكام في أصول الأحكام، لسيف الدين علي بن محمد الآمدي، ج1، ص130، ط1، دار الفكر، 1981 باختصار.
[6] - ابن دقيق العيد، الاقتراح في بيان الاصطلاح، (باب معرفة الضعفاء). تحقيق قحطان الدوري، ط.الإرشاد – بغداد 1982.
[7] - رواية الترمذي لهذا الحديث كالآتي: إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أحدهما أعظم من الآخر كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي. ولن يتفرقا حتى يردا علي الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما.
[8] - عن التوحيدي في البصائر والذخائر، 8-100.
[9] - رسالة: حسن التفه والدرك لمسألة الترك. تأليف السيد عبد الله بن الصديق الغماري الحسني، ط.لجنة إحياء التراث الإسلامي، ط.ذبي.
[10] - محمد زاهد الكوثري، تأنيب الخطيب على ما ساقه من الأكاذيب، ص9-10.
[11] - عن عمر عبيد حسنة، في تقديمه لكتاب في السيرة النبوية، قراءة لجوانب الحذر والحماية، العدد 54 من كتاب الأمة.
[12] - انظر: كيف نتعامل مع السنة النبوية، معالم وضوابط، للدكتور يوسف القرضاوي، ط.المعهد العالمي للفكر الإسلامي.
[13] - مقتطفات من كتابه القيم: السنة بين أهل الفقه وأهل الحديث، ط.دار الشروق، 1989.
[14] - عن ابن قتيبة، تأويل مختلف الحديث، 42، ط1، دار الكتب العلمية، بيروت، 1985.
[15] - رواه البخاري عن أنس.