تنتمي الأديان اليهمسلامية (اليهودية والمسيحية والإسلام) إلى حيّز جيوثقافي واحد، ممتدّ من شبه جزيرة العرب مرورًا بالعراق وصولًا إلى بلاد الشام. وقد شكلت تلك الأديان معًا استمرارًا ثقافيًّا، بات يشوبه الاضطراب والتنازع أكثر من الإِلف والتقارب، نتيجة الصراعات السياسية المختلفة. فاليهودية هي ديانة قبيلة بني إسرائيل العربية، استعارت خرافات وأساطير وتعاليم دينية من التراث السالف، قبلت المسيحية ببعضها، كما جاء على لسان مؤسسها يسوع المسيح "لا تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأَنْقُضَ النَّامُوسَ أَوِ الأَنْبِيَاءَ. مَا جِئْتُ لأَنْقُضَ بَلْ لأُكَمِّلَ" (إنجيل متى5: 17-18)، وبالمثل قبل الإسلام ببعضها كما ورد في نصّه التأسيسي: "نزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ"، "وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ" (آل عمران: الآيتان 2 و50).
أي أننا أمام حالة من التراكم المعرفي الجدلي، تجّلت ضمن ثنائية الوَصْل والفصْل، نقف من خلالها على تطوّر هذه الأديان إلى درجة نقض العديد من المُسَّلمات الشائعة بين عوام المؤمنين والنّخب التقليدية، مثل ليس المشيح اليهودي هو المسيح المسيحي أو المسيح الإسلامي؛ ولا يشبه الإلهُ الواحد، في أقانيمه الثلاثة في المسيحية، الأحدَ الصمد في الإسلام- أو أيّ من آلهة اليهودية الواردة في التناخ. إذ يُعتَبر المشيح والمسيح والله الواحد الصمد من الأركان التي تقوم عليها عقائد هذه الأديان. وبناء على هذه الخلفية تمّ إدراج الإسرائيليات ومعالجتها ضمن موضوع حلقة (أ. ل. م) التي بثّتها "قناة الميادين" ليلة الخميس الموافق للحادي والثلاثين من شهر تشرين الفائت تحت عنوان: "اليهود ورواية الحديث النبوي".
تُشكّل الإسرائيليات قاسماً مشتركًا في قصص الأديان اليهمسلامية ومروياتها. فالإسرائيليات هي القصص والروايات والمأثورات اليهودية الواردة في التناخ والمدراش، والتي قَبِل بها النصارى والمسلمون، على حدّ سواء، وضمّنوها تراثهم في القصّ والرواية والتفسير بكلّ ما تحمله من استعارات ورموز مضمَرة، وما أكثرها. وكما عرّف مقدّم البرنامج الدكتور يحيى أبو زكريا الإسرائيليات الإسلامية بدقّة وهي "ما يشمل أخبار أهل الكتابيْن معًا اليهود والنصارى على حدّ سواء. والإسرائيليات هي ما تسرّب إلى الموروث الإسلامي وبخاصة في مجاليْ التفسير والحديث النبوي من روايات، لها أصول ومصادر يهودية في العهد القديم [التناخ] والتلمود، وهو ما يمكن الوقوف عليه". فقد نقل أبو زكريا عن الشيخ محمود أبو ريّة مؤلف كتاب "أضواء على السنّة المحمّدية" أسماء ثلاثة لأبرز من أسهموا في إدخال الإسرائيليات إلى الإسلام، وهم عبد الله بن سلّام وكعب الأحبار ووهب بن منبّه [نصرانيّ]، ممّن امتهنوا الدسّ على الإسلام، واعتَبَر كعب الأحبار "الصهيوني الأول" نقلاً عن محمد رشيد رضا (1865-1935) في "مجلة المنار". ولنا أن نؤكد أنّ ما ورد في تراث بني إسرائيل من قصص ومفاهيم ليست نتاج البناء الفوقي المستقل لهذه القبيلة التي انقسمت روايتها أيضاً بين "المؤمنين" و"الكفّار"، بل جزءاً من النتاج الفوقي المُستقل لأقوام الحيّز الجيوثقافي الذي ذكرناه كافة وشعوبهتمّ حسم هذا الأمر في النصف الثاني من القرن التاسع عشر عندما بدأت البعثات الأثرية الاستعمارية تكشف وتقارن نتائجها مع النصوص التناخية. هكذا تمّ إقرار أنّ بني إسرائيل ما كانوا منتجي القصص والمرويات والتعاليم الواردة في تناخهم ومدراشهم، وإنما التراث المتراكم لشعوب هذه المنطقة من حميريين وفراعنة وسومريين وبابليين وكنعانيين وغيرهم، لذا علينا التوقف مليّا عند تلك النقاط والإعراب عن جملة من الملاحظات:
أولا- تمّ تدوين القرآن متعمداً الإحجام عن ذكر التواريخ والأمكنة والكثير من العناصر المحورية في تلك القصَص. مثلاً عندما يذكر القرآن في "أجمل القَصَص": "جعل السقاية في رحل أخيه" (سورة يوسف: 69)، لا بدّ هنا أن يتساءل المرء من هو هذا الأخ؟ يأتي الجواب من الإسرائيليات نقلاً عن التناخ أنه "بنيامين". وكيف يمكن تفسير التناص التام بين "فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَٰذَا بَشَرًا إِنْ هَٰذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) قَالَتْ فَذَٰلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ" (سورة يوسف الآيتان 31- 32) مع ورد في (مدراش تنحوما ويِشِف 5)، علما أن تم تدوين المدراش قبل قرون من جمع القرآن؟ وكيف لنا أن نعرف تفاصيل مجزرة "أصحاب الأخدود" الواردة في سورة البروج دون العودة إلى الوثائق السريانية؟ يمكن القول إن معرفة تفاصيل سير الأنبياء وقصصهم، كانت المدخل الضروري للنهل من مرويات بني إسرائيل العرب، وعليه لا يمكن فهم قصص الأنبياء دونها. وعمليّا تشكل هذه التفاصيل فحوى الإسرائيليات. مع الوقت غدا "بنيامين" نبيًّا عند المسلمين، فبنوا له مقاما في الجنوب الغربي من مدينة قلقيلية لا زال يتردد عليه اليهود من عوام المُتدينين إلى اليوم. وعندما سألت صديقًا مسلمًا متدينًا ذات مرّة كيف تحوّل بنيامين نبيًّا؟ أليس مدعاة ليتملّكه اليهود؟ أجابني: لا يا أخ أحمد، فقد ورد في القرآن الكريم "وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُون" (سورة غافر: 78). أزعم ضمن هذا السياق تورط الرواية الإسلامية في موضوع الإسرائيليات وهو ما سنعود إليه في آخر المقال. تورد كتب التراث كمًّا هائلًا من التساؤلات والاستفسارات التي تَقدّم بها المُسلمون إلى الرواة اليهود ممن اعتنقوا الإسلام لمعرفة ما الذي أحجم القرآن عن ذكره وتفصيله، مثل أسماء الأعلام وتفسير بعض آي القرآن الكريم وشرحها. فعلى سبيل الذكر يعجّ كتاب قصص الأنبياء المُسمى بـ"عرائس المجالس" للثعلبي (ت. 1035م) بالأسئلة والأجوبة حول هذا الموضوع، كذلك قبل ابن خلدون (1332-1406م) في "المبتدأ والخبر" بالإسرائيليات في قصة مريم تحديداً.
ثانياً- يتضح من دراستنا للنصّ القرآني إطنابه في ذكر بني إسرائيل على مستويين مختلفين: الأول- مديحهم وتكريم أنبيائهم؛ فقد ذكر نبيهم موسى في القرآن الكريم 130 مرّة وبرّأه من قتل الفتى المصري حمّل المسؤولية في ذلك إلى الشيطان بدليل قوله "هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضلّ مبين" (سورة القصص: 15)، كما برّأ لوطًا من العلاقة الجنسية مع ابنتيه دون شرح أو تسويغ. وقال فيهم: "يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ" (سورة البقرة: 47). صحيح أحرجت هذه الآية الفقهاء والمُفسرين وأربكتهم مما دعاهم إلى الثرثرة حولها كثيراً؛ لكن يبقى نصّها ومعناها واضحين. ويمكن القول إن فترة مديح القرآن لليهود كانت محاولة لاستمالتهم إلى الدين الجديد وضمّهم إليه. وأعتقد أنّ عدم ذكر القرآن تفاصيل القصص "الإسرائيلية" الواردة في متنه هي عبارة عن محاولة لإعطاء بني إسرائيل دورا في السردية الإسلامية الجديدة، لأنّ تناخهم ومدراشهم يعجّان بالتفاصيل، لكنّه عندما فشل في محاولته معهم قطع معهم قائلا: "وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا" (سورة البقرة: 217)، و"لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا" (سورة المائدة: 82)، "وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا" (سورة الإسراء: 4). بلغ العداء أوجه بين الإسلام الناشئ واليهودية في المعركة التي قضى فيها المسلمون على يهود بني قريظة سنة 627م، ثم بعدها جاء في الأثر على لسان مؤسس الإسلام، النبيّ محمد: "لا يجتمع في جزيرة العرب دينان"، وفي أعقاب ذلك أُسدِل الستار على الوجود الثقافي لليهود فيها. وفي سياق القضاء على بني قريظة نؤكد على عدم وجود رواية أو كتبها اليهود عن هذه الواقعة وهم المهووسون برصد ما يقع بين أيديهم وتوثيقه. الأمر الذي يفتح الباب على مصراعيه في نقد هذه الواقعة في المرويات الإسلامية لمعرفة الأسباب الكامنة وراء عدم وجود كلمة واحدة في تراث اليهود عنها، وهل حدثت فعلاً كما رواها المُسلمون؟ يُضاف إلى ما تقدم سؤالاً إضافياً هاماً وهو: ما هي الأسباب ومتى انفصلت قبيلة بني إسرائيل عن حيّزها الثقافي؟ لأن نقض عهود بني إسرائيل مع المسلمين الأوائل ليس حجّة كافيّة للتخلصّ منهم.
ثالثا- أقبل كثير من اليهود في مرحلة التأسيس الأولى وأثناء تدوين القرآن على اعتناق الإسلام مُقتنعين به لأنّهم لم يروا تناقضاً صارخًا بينه وبين اليهودية، كما أنه يعبّر بوضوح عن مصالح علية قومهم. وما اعتناق كل من عبد الله بن سبأ وكعب الأحبار وغيرهما إلا دليلاً على ذلك- وليس كما قال الشيخ محمد السقّاف، أحد ضيفي البرنامج، عن اقتناعه ببطلان الفكر الذي كانوا يعتنقونه قبل الإسلام وإلا لما استمروا برواية ما جاء به دينهم السابق. واستمر الإسلام متحدياً اليهودية ومُبلبلًا أتباعها في خطاب نسمع صداه واضحًا في الرسالة اليمنية عند موسى ابن ميمون من القرن الثاني عشر الميلادي، وفي العديد من الرسائل الأخرى التي حققتها وستُنشر مطلع العام القادم. استمرت مقاومة فقهاء اليهود اعتناق العوام منهم لدين الإسلام إلى القرن السادس عشر، فقد قام الفقيه اليهودي اليمني زكريا (يحيى) الظاهري، في السنوات المتراوحة بين 1568 و1580م بتأليف "كتاب الأخلاق" على شكل مقامات بالعبرية يحاجج فيه يهودي مسلماً بأنّ اليهودية هي الدين الحقّ.
رابعا- إنّ اعتبار كعب الأحبار "الصهيوني الأول" من قِبل محمود أبو ريّة، كما نقل أبو زكريا، هو كلام مُثير، يمكن قراءته معكوساً، فبدل القول إن "الماضي يفضي إلى الحاضر"، نقول إن "الحاضر يفضي إلى الماضي". فهذا الموقف أو المنهج من تداعيات الصراع العربي- اليهودي وقيام المُستعمرين اليهود بتملّك المعالم الإسلامية من أضرحة ومزارات، لأنّها منسوبة إلى شخصيات يجلّها اليهود والمسلمون، وما مقام "النبي بنيامين" إلا واحداً من مئات هذه الشواهد والمقامات والأضرحة. نذكر ضمن هذ السياق أنّ غالبية فقهاء المُسلمين، المعاصرين منهم تحديداً، بعد أن اكتشفوا الكمّ الهائل من الإسرائيليات في التراث الإسلامي، جراء الصراع العربي-اليهودي، ذهبوا إلى أنّ الأوائل من بني إسرائيل ممّن اعتنقوا الإسلام كانوا مندسّين وسيئي النيّة. لا يمكن القبول بهذه القناعة إلا إذا ما اقتنعنا أن المُسلمين الأوائل كانوا من نسل المُسلمين المعاصرين الذين أنتجوا داعش وماعش وأخواتهما. وأسقطوا ضعفهم وهوانهم الحالي على ماضيهم العزيز.
خامساً- عرض مقدم البرنامج ثلاثة آراء نقلاً عن الشيخ المعاصر محمد الذهبي (1915- 1977) في كتابه "الإسرائيليات في التفسير والحديث"، ألا وهي: ما يوافق الشريعة، وما يخالفها، وما ليس من الشريعة. يمكن القول إن ما جاء به الذهبي هو موقف الفقهاء المُسلمين ممن طلبوا شرحاً للإسرائيليات في الإسلام والموقف منه. ولن نكون بحاجة إلى دراسة كل خبر من الإسرائيليات لتحديد الموقف منها، فهذا المنهج هو جدلي تتعامل به الأفكار الحديثة مع سابقاتها، وعليه لا يمكن نسب العبقرية إليه.
سادساً- أحجم المشاركون في الندوة عن تخصيص حيّز يناسب مكانة الطبري ومنهجه، خاصة وقد أكثر من نقل أخبار أتباع الأديان السابقة للإسلام في تفسيره، رغم أنّ قارئ البرنامج قرأ لنا من أطروحة دكتوراة معنونة بـ "الإسرائيليات في تفسير الطبري" لآمال ربيع دون إضافة أي شيء عنها رغم أنها محافظة (...). والطبري كما يصفه دارسو تفسير القرآن وخبراؤه "شيخ التفسير بالمأثور"، دوّن لنا كل ما قرأه وسمعه من محدثيه عن الآية أو الحادثة المُراد تفسيرها في القرآن إلى درجة الشطط. لهذا يمكن القول إن تفسيره يعتبر أهمّ تفسير للقرآن على الإطلاق، فقد دوّن لنا كل ما حفظته ذاكرة العرب عن الموضوع المعني. وبهذا يمكن القول أيضاً إن الطبري دوّن شرحه دُون أن يصدر حكما إلا فيما ندر. وقد كان الطبري يدرك أنّ الاعتماد على المدونات والمرويات العربية منقوص، لذا دعا المُسلمين من غير العرب إلى الإسهام في التفسير. بهذا نقول أن مُقدم البرنامج وضيفيه فشلوا في وضع تصوّر حقيقي للمشكلة.
سابعا- ذكر كلّ من مقدّم البرنامج وضيفيْه وهبَ بن منبه الذي أسهم في دخول الاسرائيليات إلى الإسلام إلا أنهم لم يفصّلوا شيئًا عنه. لذا يجب التذكير أن وهباً (655- 738م) لم يكن يهوديًّا، بل نصرانيًّا من اليمن ويُعدّ من الإخباريين الأوائل. ترك لنا كتاب "التيجان في ملوك حمير" الذي يُصنَّف ضمن كتب التاريخ. يقول الشاعر والباحث اليمني الحصيف عبدالعزيز المقالح في تقديمه لطبعته الصادرة في اليمن سنة 1979 "وهنا عكفت على قراءته للمرّة الثانية، قرأته هذه المرة بعين الشاعر وقلبه لا بعقل الباحث أو المؤرخ، وقد أدهشني حقّاً وحملني إلى عوالم من الخيال والأساطير تتضاءل أمامها تلك الأفلام الغربية المُدهشة التي تمطرنا بها استديوهات هوليوود. الكتاب كما قال عنه الأستاذ فاروق خورشيد تحفة فنية مرسومة بالكلمات". وأضاف: "[...] والاهتمام به ليس اهتماماً بالتاريخ فهو لا يشكلّ مرجعًا تاريخيّاً أو مصدراً علمياً، وإنما يأتي الاهتمام به والحرص بوصفه كتاباً فنيّاً يُسجّل ميلاد فجر القصّة العربيّة، وطريقة روايتها"، وهذا هو التوصيف الدقيق.
ثامناً- لنا أن نفترض أيضاً أن القبائل العربيّة التي رفضت الإسلام في بداية دعوته تحفظوا أو رفضوا استدخال الإسرائيليات في تاريخهم ومروياتهم. ولنا أن نفترض أيضاً أن عمّ النبي محمد، عبد العزى بن عبد المطلب، وعمرو بن هشام بن المغيرة المخزومي القرشي الكناني (أبو لهب وأبو جهل على سبيل الإيضاح فقط)، وأبو سفيان وولده معاوية الذي أسهم في بناء أول دولة قومية كما يؤكد المؤرخ الألماني فيلهاوزن (1844- 1918) الذي هرب من الدراسات التناخيّة إلى حضن الدولة الأمويّة- كانوا من رافضي استدخال رواية بني إسرائيل إلى ثقافتهم. هذان الافتراضان قابلان للرفض والقبول، وبعد دراستهما دراسة عميقة تتجاوز الغيبيات إلى المادي في التاريخ.
الخلاصة- كما أوردت في مطلع هذا المقال أنّ الإسرائيليات، بتفاقم الصراع العربي- اليهودي مع انتزاع فلسطين من بلاد الشام واحتلالها سنة 1948، باتت تشكّل حرجاً للمسلمين الوطنيين وإزعاجاً لهم. ما العمل في هذه الحالة؟ ضمن هذا السياق لا يزال اعتقادي راسخاً بضرورة فصل الدين عن حياتنا العامة، أي ما يُسمّى فصل الدين عن الدولة. عندها بإمكاننا استعادة تراثنا العربي وليكن جزء منه اسمه "الإسرائيليات" (...) حينها يمكننا الاستمتاع به وقراءته كأدب بمعزل عن القداسة على النحو الذي يقرأه به المقالح.