يورد أفلاطون في " لو فودر "( le phedre ) حكاية تشير إلى البدايات الأولى للكتابة، فقد عرض الإله توت ( ويسمى هرمس أيضا ) على الفرعون اختراعا غريبا اندهش له الحاضرون. وكان الأمر يتعلق بتقنية جديدة للتواصل والحفاظ على المعرفة وتداولها أطلق عليها الكتابة. وستكون هذه الوسيلة المستحدثة رديفا جديدا يضاف إلى الذاكرة، وربما سيحل محلها، أو على الأقل سيحد من نشاطها ودورها في تخزين ما أنتجته الخبرة الإنسانية في مسيرتها الطويلة. وكان رد الفرعون صريحا وقويا وعنيفا.
لقد رفض هذه الأداة الجديدة ودعا إلى تدميرها والقضاء على آثارها. فهذه التقنية الجديدة تشكل في نظره خطرا على مستقبل البشرية وعلى قدرتها على الاستمرار في تخزين المعارف بنفس قوة الذاكرة. فهي من جهة تجمد الفكر وتشل حركته وتأسره في علامات خرساء لا يمكنه الخلاص منها أبدا (1)، وستحل، من جهة ثانية، محل الذاكرة، والذاكرة هي العضو الأساس في الوجود المادي والرمزي للإنسان على حد سواء. فهي، بالإضافة إلى دورها التخزيني، تعد أداة مثلى في الحفاظ على النوع البشري ذاته، فالتذكر مدخل للوجود الرمزي وممر أساسي نحو إنتاج الثقافة وتداولها خارج إكراهات المكتوب الماثل أمام العين بشكل مباشر. وهي بذلك خاضعة، شأنها في ذلك شأن باقي أعضاء الجسد الإنساني، للتطوير والتمرين والتكيف، فالبدائل الاصطناعية قد تمنح الأعضاء قوة إضافية، لكنها مع مرور الزمن ستضعفها وتحولها إلى مُنفذ كسول للوظائف.
ومن المستبعد أن يعيد التاريخ نفسه لا على شكل ملهاة ولا على شكل مأساة، إلا أن الموقف من الإلكترونيات عامة ومن الأنترنيت خصوصا لا يختلف في الكثير من جوانبه عن الموقف من الكتابة كما سبق أن عبر عن ذلك الفرعون في العهود القديمة. فالذاكرة، التي هي الآن الكتاب والمكتوب والمطبوع والـمُخَزَن في مكتبات ومستودعات للكتب وفي رؤؤس الكائنات الإنسانية، تبدو مهددة بآلة افتراضية بلا قلب ولا روح، آلة قادرة على اكتساح كل شيء في طريقها، استنادا إلى ما تقدمه الشاشة مباشرة وما تخزنه الأقراص لتسلمه للجميع بأبخس الأثمان. فبجرة " نقر " يمكن التحليق، دون رقيب، في كامل أرجاء المعمور متخطين حدود الزمان والفضاء ورقابات الدول ومخابراتها وعيونها المدسوسة في كل مكان.