يعتمد التعليم بشكل شبه مطلق على اللغة من إشارات وأصوات وألفاظ، والتي يستعملها الإنسان كأداة للتواصل وإخراج ما يدور في صدره وعقله إلى الآخر. وهي مقترنة غالبا بصوت الإنسان المعبر عنه بالكلام. ولهذه الغاية ولتواصل مكتمل الأركان( المرسل، المرسل إليه، القناة) والشروط (الوضوح، الأسلوب والصياغة، الاستعداد..)، يجب أن يكون المرسل والمرسل إليه المشكلان طرفي الخطاب على دراية بها أي: محيطان برموزها وإيحاءاتها ودلالات منطوقها وبالمعاني التي تتحرك في تركيب كلماتها. وكلما اختل أحد الأركان أو نقص أحد الشروط كلما اختلت ونقصت فاعلية التواصل وفعاليته، وتذبذب المعنى، وتلقى المتلقي غير ما أرسل المرسل. وتختل بالتالي أهداف الوظيفة التواصلية الإعلامية التي تعد من بين أهم وظائف اللغة.
كما أن للغة وظائف خمسة أخرى زيادة على وظيفتها التواصلية الإعلامية السابق ذكرها، والتي حددها رومان جاكوبسون Jakobson .R. فمنها الوظيفة الكشفية التي تجعل من اللغة أداة للفهم والتحليل والتعلم والاستكشاف. ومنها أيضا الوظيفة الشعرية والجمالية. والوظيفة الرمزية والتمثلية التي تنفي الواقع القبلي وتجعله بناء شخصيا واجتماعيا، وبالتالي تجعل اللغة قادرة على صياغة التمثلات وبناء التصور وإدراك العالم. ونجد للغة دورا آخر لا يقل أهمية عما سبق، ويتجلى في وظيفتها الاجتماعية، الإدماجية والهوياتية، فاللغة تمكن من الاندماج في جماعة أو في مجموعة اجتماعية أو في مجتمع وأمة. أما الخامسة فهي الوظيفة الميتالغوية التي تتحدث فيها اللغة عن نفسها.
سنركز في هذه الورقة على الوظيفة الكشفية للغة ووظيفتها الاجتماعية-الادماجية-الهوياتية، ونروم بذلك سبر العلاقة القائمة بين اللغة الفرنسية كمادة تدرس في المدرسة المغربية وكلغة لتدريس بعض المواد في كثير من الشعب والمسالك ذات الجاذبية الكبيرة، وبين مستويات التحصيل الدراسي في المدرسة العمومية ومدى تأثير هذه العلاقة على قدرة التلاميذ على الاندماج في الدوائر الاجتماعية المحيطة بهم. ونطرح الأسئلة التي سنحاول الإجابة عنها في ما يلي من الفقرات على الشكل التالي: ماهي العوامل التي تجعل مادة اللغة الفرنسية تحتل مكانة متقدمة بين المواد الأخرى في جميع الشعب والمسالك بالمدرسة المغربية؟ ماهي العلاقة الممكنة بين اللغة الفرنسية ومستوى التحصيل الدراسي لتلاميذ المدرسة العمومية المغربية؟ وإلى أي حد تكون اللغة الفرنسية حاجزا أمام تلاميذ المدرسة المغربية لإدراك "صحيح" للعالم؟
تظل اللغة العربية هي اللغة الرسمية في المغرب وتنضاف اليها لغة رسمية أخرى هي الأمازيغية باعتبارها رصيدا مشتركا لجميع المغاربة بدون استثناء حسب مكتوب الدستور في فصله الخامس. واللغة الفرنسية في الأصل لغة طارئة على المغرب جاءت في ظروف الاستثناء، لكنها تمكنت من البقاء كما يدل على ذلك الواقع المعيش. ولا يحتاج بقاء اللغة الفرنسية منا برهنة عليه، فدلائله وبراهينه طافية على السطح، بادية للعيان، تغمر الحياة الاجتماعية على جميع أصعدتها. والذي يهمنا هو حضور اللغة الفرنسية القوي ومكانتها في البرامج الدراسية المغربية كمادة تدرس أو كلغة لتدريس المواد العلمية كالرياضيات والعلوم الفزيائية وعلوم الحياة والأرض على الخصوص، والمواد التقنية كعلوم المهندس، والمواد الخاصة في شعب الاقتصاد والتدبير والمواد المهنية في الشعب والمسالك المهنية.
وتستمد اللغة الفرنسة مكانتها بين المواد من خلال عدد الحصص المخصصة لها في الجداول الزمنية التي تحدد الزمن المدرسي وعدد الساعات الأسبوعية الخاصة بكل مادة، ومن خلال معاملاتها العالية في جميع الشعب والمسالك. ومعامل المادة هو عدد المرات الذي تتكرر به النقطة المحصل عليها في هذه المادة داخل مجموع نقط المواد (مكررة بعدد مرات رقم معاملاتها)، وكلما كان المعامل عاليا كلما أثر ذلك على المعدل العام بالسلب أو بالإيجاب، لأن كل نقطة فوق المعدل تحصى بعدد مرات المعامل داخل المجموع العام للنقط والعكس بالعكس. فنجد معامل مادة اللغة الفرنسية في الجذع المشترك الآداب والعلوم الإنسانية يساوي (3) وهذا يبدو معقولا لأن اللغات هي المواد الأساسية في الجذع الأدبي. كما نجد معاملها في الجذع المشترك للتعليم الأصيل يساوي (3) لا يفرقه إلا نقطة واحدة عن معامل مادتي التفسير والحديث والفقه والأصول الذي يحدد في (4)، كما أن لها أربع حصص لتفوق بذلك المادتين الأساسيتين في هذا الجذع المشترك بحصة. و تحدد حصصها في الجذع المشترك العلمي في أربع حصص، وزيادة حصتين للجذع العلمي خيار فرنسية بمعامل مقداره (3). في حين يخصص للغة العربية التي تشكل لغة رسمية حصتان بمعامل أقل بدرجة. والمثير للتساؤل هو تخصيص حصتين فقط للفلسفة في جذع الآداب والعلوم الانسانية بمعامل لا يتعدى (2).
يتعقد الأمر في سلك البكالوريا ويستعصي على الفهم والتفسير في سنتيه الأولى والثانية. ففي السنة الأولى بكالوريا شعبة العلوم الشرعية تحظى اللغة الفرنسية بمعامل (3) ويخصص لها أربع حصص، في حين يكون حظ مادة الفرائض والتوقيت حصتان فقط بمعامل يساوي (2) والتي تعتبر مادة أساسية في هذه الشعبة. و يتكرر نفس الشيء في السنة الثانية بكالوريا. ولا تتجاوز الحصص المخصصة لعلوم اللغة العربية وآدابها حصص الفرنسية إلا بساعة واحدة. وتتساوى حصص اللغة الفرنسية (أربعة) في شعبة اللغة العربية مع حصص مواد كالتاريخ والجغرافيا (أربعة)، والتفسير والحديث (أربعة). وتتساوى الحصص الأسبوعية في شعبة الآداب والعلوم الإنسانية المخصصة لعلوم اللغة العربية وآدابها (خمسة) وعلوم اللغة الفرنسية وآدابها (خمسة) في السنة الأولى بكالوريا وفي مسلك الآداب بالنسبة للسنة الثانية بكالوريا وتتساوى كذلك معاملاتهما(4)، لكن في مسلك العلوم الإنسانية ينقص معامل اللغة العربية عن الفرنسية بدرجة ليصبح (3).
أما في شعبة العلوم التجريبية وفي مسالكها الثلاثة: العلوم الفيزيائية والعلوم الزراعية وعلوم الحياة والأرض فيخصص لمادة اللغة الفرنسية أربع حصص أسبوعية بمعامل يساوي (4) وبالمقابل لا تخصص للغة العربية إلا حصتين بمعامل مقداره(2). كما أن معامل العلوم الفيزيائية في مسلك علوم الحياة والأرض الذي يساوي (5) لا يتجاوز معامل اللغة الفرنسة إلا بدرجة واحدة، ونفس الحالة نجدها في مسلك العلوم الفيزيائية في مادة علوم الحياة والأرض (5) مقابل معامل (4) لمادة اللغة الفرنسة. وننهي هذه المقارنة للمعاملات والحصص بمثال يدعو الى كثير من التأمل ويطرح كذا من سؤال. ففي السنة الثانية علوم رياضية (ب) يكون معامل اللغة الفرنسة (4) وعدد حصصها الأسبوعية أربعة، وبالمقابل يكون معامل مادة علوم المهندس، المادة المميزة للمسلك، مساويا ل (3) وعدد حصصها الأسبوعية ثلاثة.
يتبين من خلال هذه المقارنات بين الحصص الأسبوعية المخصصة لتدريس مادة اللغة الفرنسية ومعاملاتها وبعض المواد الأساسية، في التعليم الثانوي التأهيلي بسلكيه المتمثل في الجذوع المشتركة وسنتي البكالوريا بمختلف شعبها ومسالكها، أن لها مكانة مميزة بين المواد في منهاج المدرسة المغربية. والجذير بالذكر أنه يصعب الإجابة عن سؤال لماذا؟ خصوصا أننا لا نريد الخوض في القضايا التاريخية والسياسية والتي سنخصص لها مقالا نلقي فيه الضوء على بعض جوانبها، اللهم إذا اقتبسنا من رؤية المجلس الأعلى الاستراتيجية للإصلاح من الرافعة الثالثة عشر المخصصة للتمكن من اللغات المدرسة وتنويع لغات التدريس. ففي إطار تعددية لغوية تدريجية ومتوازية، يبين المجلس وضع اللغات في منظومة التربية والتكوين والبحث العلمي، ويرى أن اللغة الفرنسية لغة إلزامية بوصفها لغة مدرسة في كل مستويات التعليم المدرسي.
يطرح تدريس اللغة الفرنسية واستعمالها كلغة للتدريس، وهي لغة أجنبية، مشكلات هيكلية لتلاميذ المدرسة المغربية، على الأقل على مستويين اثنين نراهما جذيرين بالتحليل. أولهما مستوى التحصيل الدراسي وثانيهما مستوى الاختيارات الدراسية والتكوينية. وسننطلق من الأسئلة التي يطرحها التلاميذ، ومن انشغالاتهم بمسألة اللغة الفرنسية كمادة مدرسة وكلغة لتدريس بعض المجزوؤات، وذلك باعتبارهم الفئة التي يستهدفها التعليم من جهة وباعتبارهم فاعلين في الحياة المدرسية تخصيصا، والحياة الاجتماعية على وجه التعميم، كما سنستحضر وجهات نظر أساتذة ومفتشين وإداريين، ولن نغفل آراء أمهات وآباء وأولياء التلاميذ.
تتكرر أسئلة تلاميذ السنة الثالثة من السلك الثانوي الإعدادي، باعتبارها أولى عتبات التوجيه، وأوليائهم في كل سنة حول لغة التدريس فيما سيتبع من سنوات الدراسة. وقد اشتدت وتيرة الأسئلة منذ بدء الحديث حول تغيير لغة تدريس المواد العلمية في سلك الثانوي من العربية، التي بدأ اعتمادها كلغة وحيدة للتدريس منذ سنة 1983، إلى اللغة الفرنسية. ويُظهِر الكثير من تلاميذ الإعدادي خشية من الجذوع المشتركة التي تعتمد اللغة الفرنسية في تدريس المواد العلمية. وقد بدا هذا الخوف جليا في السنة الدراسية 2019-2020 عندما قررت الوزارة الوصية تعميم تدريس المواد العلمية (الرياضيات والعلوم الفيزيائية وعلوم الحياة والأرض) في الجذوع المشتركة العلمية باللغة الفرنسية بصفة تَوَضَّحَ أنها متسرعة ومرتجلة، حيث عمد العديد من التلاميذ والذين لهم مستويات لابأس بها إلى مستحسنة في المواد العلمية إلى تغيير التوجيه نحو جذع الآداب والعلوم الإنسانية لا لشيء إلا "للهروب" من شبح اللغة الفرنسية.
هذا النفور من اللغة الفرنسية لا يمكن اعتباره بأي حال من الأحوال هروبا من اللغة لذاتها، وإنما يفسره عدم قدرة التلاميذ على التواصل بها، ليس لصعوبتها فحسب وإنما لعجز المنظومة التعليمية العمومية خصوصا عن تمكين التلاميذ، منذ سنوات التمدرس الأولى التي تجمع التعليم الأولي والابتدائي، من الكفايات الضرورية لممارستها. فتفقد اللغة الفرنسية وظيفتها التواصلية الإعلامية في المدرسة المغربية وبالتالي تفقد وظيفتها الكشفية ليتشوش منطق التحليل عند التلاميذ وتنقص القدرة على الاستكشاف والتعلم، ولتصير اللغة الفرنسية عائقا أمام التمكن من تحقق التوصل إلى فهم وإدراك العالم. ويضطر بعض الأساتيذ في هذه الظروف المنقوصة الشروط والمختلة الأركان إلى استعمال اللهجة الدارجة خلال الحصص التعليمية لتبسيط المفاهيم، يتغيون بذلك توصيل الخطاب العالم بلغة غير عالمة لتسهيل عمليات التعلم. مما يؤدي الى اختلاف الوضعيات التعليمية عن الوضعيات التقييمية وبالتالي الحصول على نتائج عكسية، كما تدل على ذلك العلامات المحصلة والملاحظة في نهاية التعلمات، غير تلك المرجوة والمسطرة في بداية كل عملية من عمليات التعليم. فالفروض والاختبارات والامتحانات تأتي بلغات فصيحة ولا تراعي تدني المستويات اللغوية الذي يشتكي منه التلاميذ.
ينضاف إلى هذه الإشكالات الاقتصار على التحدث باللغة الفرنسية بين جدران المدرسة بالنسبة للسواد الأعظم من التلاميذ. وعدم ممارسة اللغة يرجع بالأساس إلى ضعف المستويات التعليمية لكثير من الأسر المغربية، وحتى وإن توفر شرط التعلم فالآباء أو من يحل محلهم لا يتفاعلون مع أبنائهم في المنازل إلا باللهجة المغربية مع الرطانة ببعض الكلمات الفرنسية والتي خضعت في غالبيتها الى التدريج. هذا الخليط اللغوي هو أداة التفاعل التي بها ومن خلالها تخلق المعاني وبالتالي تبنى الحياة الاجتماعية. وإذا اعتبرنا أن اللغة تشكل المعنى الذي يخلق المجتمع فإننا بصدد مجتمعين وليس واحدا. وبالتالي ينتج هذان المجتمعان فئتين من التلاميذ، الأولى تتكلم اللغة الفرنسية في جميع زمنياتها بما في ذلك الأسرية والمدرسية، وتعيش امتدادا للزمن الأسري في الزمن المدرسي في انسجام وتكامل، وهي الفئة التي تجد لها موطأ قدم في سوق الشغل المغربي. والفئة الثانية، وهي الغالبية، تعيش حالة من الاغتراب بسبب الانقطاعات المتكررة والبون الواسع بين الأسرة والمدرسة خصوصا بعد انتقالها إلى الجامعة، مع العلم أن الكليات العلمية والتقنية تعتمد اللغة الفرنسية في التدريس، في جو من التضاد والتعاكس. كما أنها هي الفئة التي تجد صعوبة في الاندماج في الوظائف العمومية والخصوصية على حد سواء، مما يؤدي إلى صعوبة اندماجها في الحياة الاجتماعية والعيش على هامش المجتمع.
ليس من الموضوعية في شيء أن نحمل اللغة الفرنسية وحدها مسؤولية فشل المنظومة التعليمية المغربية، وتدني مستوى التحصيل الدراسي الذي تعكسه نتائج التلاميذ. ولكن الموضوعية تدفعنا إلى السؤال عن الأسباب التربوية التي تجعل مستقبل تلاميذ المدرسة المغربية مرهونا بلغة أجنبية، غريبة عنهم وغرباء عنها، ليس لها مكانة علمية مرموقة في الزمن الراهن. ويدفعنا السؤال الأول الى سؤال ثان: أليس من السهل على المرسل والمتلقي الاشتغال بأداة مشتركة؟ ونسأل أيضا إذا كان لا بد من الارتباط بلغة ما: أليس من الضرورة التمكن من أداة التواصل قبل التواصل نفسه؟ أسئلة وغيرها سنحاول الإجابة عنها في القادم من المقالات.
الكاتب:
زوهير النبيه، مستشار التوجيه التربوي أكاديمية مراكش-آسفي، المغرب، منذ سنة 2009 الى الآن. خريج المدرسة العليا لتكوين أساتذة التعليم التقني(1994)، خريج مركز التوجيه والتخطيط (2009).
حاصل على الإجازة في الدراسات السوسيولوجية وعلى الماستر في السوسيولوجيا الحضرية والتغير الاجتماعي، وباحث بسلك الدكتوراه حول قضايا المجال والمسألة التعليمية.