تبدأ علاقة الطفل بالقصة والحكاية مستمعا ثم قارئا؛ لكن المسرح بإمكاناته الهائلة ينقله إلى عالم جديد قوامه التمثيل والفرجة، والمزج بين التعبيرات المتعددة على الخشبة. وهو انتقال يتطلب بالأساس اهتماما بالسمات النفسية التي تُمهّد لعلاقته بالمسرح؛ حيث إن الطفل يولد فنانا، يقول بابلو بيكاسو، لكن المشكل هي كيف نحتفظ بهذا الفنان بينما يكبر.
غير خفي إذن أن مسرح الطفل تتحكم في إنتاجه اعتبارات تربوية وفنية، متسقة بطبيعة الحال مع النمو النفسي والإدراكي والمعرفي للطفل. وهذا يعني أن إعداد عمل مسرحي ينطلق من استيعاب للخصائص السيكولوجية للطفل والمراهق؛ لأن عدم الاهتمام يؤدي في النهاية إلى تقديم عروض مسرحية ضعيفة أو مربكة لقدراته الذهنية. وبالنظر إلى عدد السنوات التي يقضيها الطفل في حضن المدرسة الابتدائية، يمكن التمييز بين مرحلتين أساسيتين:
- مرحلة الخيال الحر والمطلق، حيث يتطلع الطفل في الفترة ما بين 6 إلى 9 سنوات إلى عوالم خيالية، تستوعب رغبته في المتعة والانطلاق خارج حدود واقعه اليومي. لذا يُظهر ميلا شديدا لقصص الحوريات والعمالقة والأقزام، وللحكايات المستلهمة من التراث الشعبي.
- مرحلة البطولة والمغامرة والخيال الواقعي، وهي الممتدة إلى سن 12 سنة، حيث يبدأ تحرر الطفل تدريجيا من عالم الخيال، ليصير تفكيره أكثر نضجا واستعدادا لإظهار الشجاعة والمسؤولية. وخلال هذه المرحلة تستهويه قصص المغامرة التي تعتمد التفكير والتوقع، وتجعل من شخصية البطل قالبا ملائما لتمرير القيم والمواقف، وتأكيد ارتباطه بالقضايا الاجتماعية والإنسانية المختلفة.
تحدد تلك الخصائص وجهة المدرس أو المنشط في اختيار النص المسرحي الذي يتناسب مع إدراك الطفل واحتياجاته. نص ينبغي أن يتحقق فيه قدر من التبسيط، ووضوح العلاقات بين شخصياته، وبناء درامي تتنامى داخله الأحداث بشكل تسلسلي لا يعتمد القفزات المفاجئة.
بالنظر إلى الصعوبات التي تكتنف الكتابة المسرحية للطفل في العالم العربي، فإن المدرس أو المنشط يجد نفسه أمام خيارين: إما إيجاد نص ملائم، أو بذل جهد إضافي يتمثل في مسرحة نص أدبي " قصة، حكاية، شعر..." مع متطلبات البناء المسرحي. وفي كلتا الحالتين لابد من مراعاة بعض القواعد التي تجعل النص ملائما لنفسية الطفل وقدراته.
يتألف النص المسرحي عموما من أربعة عناصر أساسية: الفكرة، والحبكة، والشخصيات، والحوار. لذا فإن بناء عرض مسرحي ينسجم مع شخصية الطفل ووعيه، ويحقق الإدهاش والمتعة المطلوبين، يستلزم نصا متوافقا مع تطلعاته والزمن الذي يعيش فيه.
إن الفكرة على سبيل المثال، وهي أساس بناء المشهد المسرحي، ينبغي أن تكون واضحة وقصيرة وغير متشعبة، تلفت انتباه الطفل لأنها تتناسب مع مستواه الفكري وبيئته، وتتجمع حولها المواقف والأحداث في بساطة ووضوح. وهذا يقتضي الابتعاد عن المثالية الزائدة والأسلوب الخطابي في تمرير الأفكار.
وأما عنصر الحبكة فهي مربط الفرس، لأن تسلسل الأحداث وتناميها بشكل مثير منذ بداية النص هو معيار تفضيل الطفل لهذا العرض أو ذاك. فليس المطلوب أن نحكي للطفل الحكاية من أولها، وإنما نبدأ المسرحية من حيث يبدأ الموقف في التعقيد، لذا تبدو كثير من الأعمال غير مسرحية لأنها لا تبدأ فنيا، أي أنها لا تنطلق من الموقف الذي يؤدي إلى حدوث أمر ما.
تتطلب الحبكة في مسرحية موجهة للطفل وجود حركة، وصراع يُحدث لدى الطفل فضولا وتشويقا لمعرفة ما سيحدث وكيف سيحدث. وسواء كان النص كوميديا أو تراجيديا فلابد أن يقدم للطفل إجابة عن بعض مخاوفه، وعن الفراغات التي تدور في ذهنه، والأسئلة التي لم تقدم الأسرة أو المدرسة إجابات عنها بعد.
وفيما يتعلق بالشخصيات فإن مسرح الطفل بحاجة اليوم إلى ممثل صادق، لا إلى مهرج أو بهلوان يسخر منه. يقول المخرج المسرحي جيمس باري، مثيرا مسألة الصدق في التمثيل: " إن جميع الشخوص، سواء كانوا كبارا أم صغارا، ينبغي أن ينظروا للحياة نظرة الأطفال، فإن لم يسعهم إلا أن يكونوا مضحكين فعليهم أن يتركونا بسلام. وخير شعار لكل ممثل هو: البساطة في التمثيل تحقق الكثير!"
وليست البساطة هنا مرادفة لسهولة الأداء، وإنما تعني الإبداع في الأداء الحركي والصوتي، والتقمص الجيد للشخصية من خلال استدعاء المشاعر المناسبة للمشهد. وهو الأمر الذي لا يمكن إن يتحقق إلا من خلال تدريب مكثف يعزز لياقته الحركية والفنية على المسرح.
ويشكل الحوار عنصرا أساسيا لنجاح العرض المسرحي، من خلال تحقيقه للترابط بين الأحداث والشخصيات؛ فهو الأداة الفنية التي تتكشف من خلالها معالم الشخصية المسرحية، ويتكامل الصراع الذي يحقق للفرجة معنى وهدفا لدى الطفل. وقد يكون حوارا بين الشخصيات في العرض، أو بين الممثل والجمهور، أو حوارا داخليا يحرك عاطفة أو يثير موقفا وقضية. ويشترط فيه أن يكون بسيطا يراعي مدارك الطفل، ويلائم مرحلته العمرية، وذلك باعتماده لغة واضحة متحررة من الرمزية والغموض.
بعد إجراء الترتيبات اللازمة على النص المسرحي ليتلاءم مع إيقاعات الطفولة فنيا وتربويا، تبدأ مرحلة إكسابه بُعدا فُرجويا من خلال التداريب التي يُباشرها المدرس أو المنشط باعتباره مُخرجا. وتكون قراءات النص، بصيغة الجمع، خطوة ثانية بمعية الممثلين لفهم النص، وتقييم أحداثه وشخصياته.
يستهدف كل مُخرج بعث الحياة في النص، من خلال توظيف درامي لكل عنصر من عناصره. لذا فالتعامل مع النص يتجاوز القراءة العادية التي تكتفي بفهم الموضوع والأحداث، إلى قراءات تحدد الخطوط العامة لمجمل التغيرات الصوتية والحركية داخله، وهي:
- قراءة من النص للتعرف على الحوار والشخصيات والأحداث، ويمكن اعتبارها قراءة عادية، لا تختلف عما تعوده الطفل في تفاعله مع القصص والحكايات.
- قراءة تجريبية على الفقرات الحوارية، بحيث يتحسس الطفل مناطق الوقف، والنقلات التي تُظهر مشاعر الشخصيات وانفعالاتها. وعادة ما يعتمد المخرجون ما يسمى بالقراءة الإيطالية، حيث يجتمع الممثلون حول طاولة لقراءة النص، والاستئناس بمعرفة متى تتحدث كل شخصية، بالإضافة إلى ضبط الأداء الصوتي.
- قراءة تعبيرية جمالية، يحرص من خلالها الطفل على إبراز التعبير الملائم لكل نقلة شعورية يؤديها في دوره مع اعتماد الحركة.
بالتزامن مع القراءة تساعد التمارين المسرحية على تعزيز أداء الطفل ومشاركته، بحيث يتم تخصيص فترة زمنية قبل وأثناء التداريب للقيام بها. ومن النماذج على سبيل الذكر لا الحصر:
- لغة الجسد:
والهدف من التمرين هو التركيز وتقمص الحالات والشخصيات، حيث يتحرك الأطفال داخل القاعة بانتظار تعليمات من قبيل: أنت تحمل إبريقا من الماء على رأسك وتقفز على قدم واحدة.. أنت تحاول المشي لكنك قدماك عالقتان في الطين.. أنت تمشي فوق رمل ساخن في الصحراء.. أنت تغوص في الماء..
- إمعان النظر:
ويهدف التمرين إلى تطوير حس الملاحظة والانتباه للتفاصيل الصغيرة، حيث يُطلب من الطفل أن يتأمل أصدقاءه لفترة وجيزة، ثم يدير ظهره ويبدأ بسرد قطع الملابس وألوانها، أو يتأمل مشهدا معينا ثم يُعدّد مكوناته.
- الكرسي الانفعالي:
والهدف هو التدرب على التعبير الانفعالي، حيث يوضع كرسي وسط القاعة وعليه ورقة فارغة تتضمن خارطة، أو نتيجة فحص طبي، أو مخالفة سير... إلخ، وعلى المشارك أن يعبر بانفعالات وجهه وجسده عن المضمون في وقت لا يتجاوز نصف دقيقة.
- الدائرة الكهربائية:
والهدف منها تدريب الطفل على مساير إيقاع موحد، حيث يقف الأطفال في دائرة وقد تشابكوا بالأيادي، وتبدأ اللعبة بأن يضغط المشارك الأول بخفة على يد اللاعب عن يمينه، والذي يضغط بدوره على يد زميله المجاور. ويجب أن تتنقل الضغطة بين اللاعبين بإيقاع موحد ومتسارع إلى أن تبدو في النهاية كتيار كهربائي يسري بين الجميع.
تقول وينفرد وارد، أستاذة الفنون الدرامية بجامعة نورث ويسترن الأمريكية: " إن المخرج الذي يستطيع أن يرى العالم من خلال نظرة الطفل، هو وحده الذي ينبغي أن يُخرج مسرحيات للأطفال". ويبدو أن وينفرد تحيل على تلك الطبيعة الاندماجية التي يحققها المسرح، حيث يوحّد بين رغبة الطفل في أن يشاهد نفسه على خشبة المسرح، وبين تأكيد استعداده لاقتحام عالم الكبار. هذا إلى جانب التوازن الخلاّق بين الواقع والخيال، والذي يساعد الطفل في فهم التغلب على أية مشكلة تواجهه.
حين ينظر المخرج للعالم بعيني طفل يتحرر الأداء من التقليد الأعمى ليصير تمثيلا صادقا، تديره شخصيات مُقنعة، ويتجاوب معه صغار يحاكون ما يحمله العرض المسرحي من مشاعر ومواقف، وقيم تؤطر حركتهم داخل المجتمع.
إن مسرح الطفل معلم أخلاقي كبير!