في مسألة التعلّم :
مفهوم التعلّم يرجع إلى مُوفّى القرن التاسع عشر . تحدث الفلاسفة عن المعرفة ثمّ بمجيء علم النّفس برز مفهوم التعلّم على السّطح . لخّص ميشال دوفلييه جينيالوجيا التعلّم مبرزاً التّواصل من إفلاطون إلى بياجيه . مفهوم التعلّم بقي ثابتاً و لكنّ المقاربات هي التي تطوّرت .
في مسألة التعريف :
من بين التعريفات :
التعلّم هو نشاط ذاتيّ يسعى من خلاله الفرد إلى الحصول على استجابات مناسبة تغير سلوكه و مواقفه ليتلاءم مع متطلّبات الوضعيّة الجديدة ، و تساعده على مجابهة المشاكل التي تعترضه ، وهذه الاستجابات تتّخذ أشكالاً مختلفة تتدرّج من البسيط إلى المعقّد .
التعلّم يسفر بالضرورة إلى تغيّر في السّلوك
التعلّم ثابت نسبيّا ( يدوم مع الزّمن) و يساعد على حلّ المشكل
التعلّم يندرج ضمن المسار التّاريخي الخاصّ بكلّ فردٍ( مساره الحياتي ، الخبرة الممارسة)
التعلّم مرتبط بالنّضج(Maturité) يشمل الجانب البدني و القدرة المــعرفيّة و الجوانب الانفعاليّة .
نظريات التعلّم :
نجد تفريعات كثيرة و متداخلة إذ قد نصطدم أحيانا بأكثر من تيّار ضمن المدرسة الواحدة كالسّلوكيّة مثلا لذلك ينبغي أن نحترز كثيرا من بعض التنميط الذي يرسم تاريخ هذه النظريات على نحوٍ خطّي دون مراعاة التداخل أو أشكال الارتداد و التفاعل بينها .
التفريع الأوّل : لميشال دوفلييه ( نفس المرجع) :
يوزّعان الشجرة الجينيالوجيّة للتعلّم إلى ثلاث مقاربات : سلوكيّة – عرفانيّة –تفاعليّة
1- الإشراط الكلاسيكي لبافلوف :
اقترن مفهوم الإشراط الكلاسيكي أو التعلّم الشرطي بالطبيب و الفيزيولوجي الرّوسي بافلوف(1849-1936) في أبحاثه عن علاقة الجهاز العصبي بعمليّة الهضم . يحدث التعلّم الشرطي عندما يقترن مثير محايدٌ لعدذة مرذات بمثير طبيعي فيؤدّي المثير المحايد إلى استجابة شرطيّة .
*مثال توضيحي :
مثير محايد : وهو ما لا يملك دلالة بالنسبة إلى الحيوان أو الإنسان مثال : رنين الجرس
المثير الطبيعي : كتقديم الطّعام لمدّة معيّنة فيصبح لرنين الجرس معنى و دلالة عندما يقترن بتقديم الطّعام
هذه النظريّة لها نتيجة أخرى وهي إثبات ليونة الدّماغ للكائن الحي و قابيليته للتطوّر مع الوضعيّة : Plasticité neuronale
و استثمرت نتائج هذه التجارب في كثير من المجالات خاصّة : ترويض الحيوانات
* خاصيات التعلّم الشّرطي :
- لا وجود لعلاقة منطقيّة بين المثير المحايد و المثير الطّبيعي
- التعلّم ناتج عن اقتران مثيرين
- يتزامن المثيران و يتصاهران فتنتج الاستجابة الشرطيّة (سيلان اللعاب ) وهي نفسها الاستجابة الطبيعيّة لأنّها لا تأتي كنتيجة للتّفكير بل كردّ فعل فطري و انعكاسي .
ولّدت هذه النّظريّة جملة من المفاهيم أو القوانين :
التكرار : حتّى لا ينطفئ تأثير المثير المحايد على المثير الطّبيعي
الاقتران ، التّدعيم ، و التّعزيز : وهي آليات تعمل كعنصر تثبيت لضمان تكرار الاستجابة
2- نظريّة الارتباط لثورندايك :
من بين مقولات ثورندايك الأساسيّة هي : الارتباط : Les connections وهي مقولة ترى العقل الإنساني كمجموعة من الارتباطات و تبعاً لهذه المقولة تغدو دراسة السلوك مرتبطة بتحليل أبسط عناصره التي هي : المثير و الاستجابة . طوّر ثورندايك أيضا ظاهرة : المحاولة و الخطأ و منها بنى المعادلة التالية : إنّ الاستجابات المصحوبة بحالة إشباع : Satisfaction أو تتلوها مباشرة يتوطّد ارتباطها بالوضعيّة . و إذا ما تكرّرت نفس الوضعيّة فإنّ حظوظ تكرار نفس الاستجابات ستزداد و تتدعّم . أمّا الوضعيات التي تتلوها أو تصاحبها حالة نقصان أو عدم إشباع : Insatisfaction فإنّها تؤدّي إلى ضعف الروابط و تقلّ حالات الاستجابة .
انطلاقا من هذه المعادلات و المقولات يؤسّس ثورندايك لجملة من المفاهيم أو القوانين الأساسيّة مثل : قانون الأثر ، قانون التدريب قانون الاستعداد ، و يرى أنّ الخلايا العصبيّة هي التي تهيئ الكائن الحيّ ليكون مستعدّا لاستجابات معيّنة .
في الميدان التربوي يصوغ ثورندايك جملة من النتائج المهمّة كالدّعوة إلى تصميم الموقف التعليمي على نحو يجعله مشابها لموقف الحياة ذاته أو تبجيل التعلم القائم على الأداء على التعلّم التلقيني القائم على الإلقاء كما يدعو إلى التدرّج في التعلّم من السّهل إلى الصـّعب و عموما يصبح التعلم في نظريّة الارتباط عمليّة تكييف جملة من الاستجابات لتناسب المواقف المختلفة .
أمّا المرحلة السلوكيّة أو الشكل المتطرّف لنظريّة الارتباط الذي تبنّاه جون .ب. وطسون فقد جاءت نتيجة تأثير إيفان بافلوف الذي يهترف بدوره بفضل شارلز داروين و ثورندايك عليه . كما أنّ ما قدّمه بافلوف و ثورندايك و واطسون كان له تأثير على أعمال لاحقة هامّة في مجال النظريّة السلوكيّة قام بها هل و جثري و إدواردش تولمان .
3- السلوكيّة الرّاديكاليّة :
من زعمائها واطسون و جثري و كلارك هل و تولمان . و نختزل مبادئها في أربع نقاط أساسيّة :
* واطسون (1878-1958)
السّلوك هو كلّ استجابة ناتجة عن استثارة متأتية من المحيط
ثمّة مجموعة من القوانين القارّة تربط المثير بالاستجابة بحيث يمكن التنبّؤ بالسّلوك على ضوء طبيعة المثير
الإشراطات المبكّرة مهمّة و ضروريّة لغرس الاستجابات المبكّرة
اقتراح نموذج تربوي قائم على برمجة موقف تعليمي آلي و ميكانيكي أساسه : مثير – استجابة يكون بعيدا عن العاطفة الأبويّة
و قد تأثر واطسون عند وضع مقولة التكرار بأعمال بافلوف . إذ ينصّ مبدأ التكرار على أنّ المتعلم إذا ما أعطى عدة استجابات لمثير ما فإنّ الاستجابة التي تتكرر أو تتردّد أكثر من غيرها هي الاستجابة التي يتعلّمها هذا المتعلّم . فالفرد حسب واطسون يستخدم طريقة التجربة و الخطأ كي يتعلّم الاستجابة الصّحيحة . و في هذا الإطار يمكن أن نسوق قولة واطسون الشّهيرة الملخّصة لخلفيّة التعلّم عنده إذ يقول : ’’ لو وُضع تحت تصرّفي اثنا عشر طفلا رضيعا يتمتّعون بصحّة جيّدة و بنية سليمة و طُلب منّي أن أعلّمهم بالطّريقة التي أعتقد أنّها المثلى للتعلّم فإنّني قادر على تعليم أيّ من هؤلاء الأطفال بطريقتي هذه بحيث يصبح مختصاً في المجال الذي أختاره له كأن يكون طبيبا أو محاميا أو فنّانا أو رجل أعمال بغضّ النّظر عن مواهبه أو اهتماماته أو ميوله أو قدرته أو مــهنة آبائه و أجداده أو الجنس الذي ينتمي إليه .‘‘
* إدوين آر.جثري (1886-1959)
و عُرف بنظريّة الاقتران théorie de la contiguïté و يصف جثري مبدأ الاقتران بقوله : ’’ إذا ما وجدت مجموعة من المثيرات مصاحبة لحركة ما ، فإنّ تكرار هذه المثيرات ينتج عنه حدوث تلك الحركة .‘‘ و من مقولاته الأساسيّة :
- أنّ مجموع المثيرات التي ترافق حركة معيّنة تنزع إلى الظّهور ثانية إن تكررت نفس الحركة و تكرار نفس الوضعيّة يؤدّي إلى تكرار نفس الفعل .
- العادات التي ترسّخت لا يمكن أن تُمحى إلاّ في حالة تعويضها بعادات جديدة .
- لا نجاح لأيّ تعلّم يستوجب تغيير أنساق الأشياء حتّى نتأكّد من حصول الاستجابات المنتظرة وهو تصوّر يذكّرنا بصنافة بلوم إذ لا يمكن المرور إلى مرحلة أو مرقىً أعلى إلاّ إذا تأكدنا من تحقّق المكتسبات اللازمة للمرقى السّابق وهو تصوّر ستقوّضه المقاربات العرفانيّة لاحقاً .
* كلارك.ل. هل(1884-1952)
يُعدّ من السّلوكيين الجُدد و إليه يعود مفهوم التعزيز الأوّلي و أضاف حلاًّ لمعضلة مفهوم اختزال الحافز في تجاربه على الفئران التي تتعلّم الضّغط على الرّافعة للحصول على كريات الطّعام . فكريات الطّعام تلبّي حاجة الفئران و من ثمّ تعمل على سرعة اختزال شدة المثيرات الحافزة التي تقلّل من قوّتها التعزيزيّة . يمكن تلخيص مقولته الأساسيّة : ’’ تحت تأثير محرّك ما (Drive) أو قوّة دافعة يتّخذ الكائن الحيّ سلوكات مختلفة للاستجابة إلى حاجاته البيولوجيّة قصد إشباعها و عندما يكون السّلوك ناجحاً أي عندما يستجيب إلى الحاجة و يخفّف من وطأة المحرّك يغدو إذا تعزيزا ‘‘
هِلْ لا يعتبر التكرار كافيا لحدوث التعلّم كما يضع جملة من المتغيرات و المفاهيم الوسيطة المتحكّمة في التعلّم مثل : المتغيّرات الوسيـطة : Les variables intermédiaires ، المحرّك :Drive التعزيزات : Les renforcements و المخفّف من وطأة المحرّك : Réducteur de tension .
يعتبر همزة وصل بين النظريات السلوكيّة و النظريات البنائيّة . تولمان يعتبر أنّ ما يميّز سلوك الفرد هو الهدف الذي يرمي إلى تحقيقه فالاستجابة مرتبطة بالهدف الذي نريد الوصول إليه . الهدف مكوّن ذاتيّ في عمليّة التعلّم .
الاكتسابات تتحقّق على قاعدة تنظيم مجموعة من المؤشّرات(Indices) المتأتّية من المحيط وهي فكرة قريبة جدّاً من عملية تنظيم المعلومات في علم النفس العرفاني .
المعنى الذي يعطيه الفرد للوضعيّة هو المحدّد في الحصول على التعلّم من حيث هي عملية استبطان لهذه الوضعيّة و استيعاب لخصائصها .
عمليّة الاستبطان و الاستيعاب تؤدّي إلى تكوين بنية يطلق عليها بالخارطة الذهنيّة أو العرفانيّة : Cognitive map
الخارطة الذهنيّة تمثّل الشرط الضّروري لحدوث استجابات معيّنة و ما التعلّم سوى تنظيم للوضعيّة و هيكلة لمختلف المؤشّرات التي تميّز الوضعيّة و التي يتوصّل على إثرها الفرد إلى توجيه نشاطه على أساس معنى يعطيه لهذه المؤشّرات .
أجرى تولمان تجربة الفأر داخل المتاهة و اكتشف أنّ المدّة التي يقضيها الفأر داخل المتاهة تتناقص تدريجيّا بسبب تكوّن الخارطة العرفانيّة .
4- النّظريّة الإجرائيّة لسكينير (1909-1990) :
عُرف سكينير بمفهوم الإشراط الإجرائي : Opérationnelle و السلوك الإجرائي هو المرتبط بالنتائج التي يتوصّل إليها الإنسان و ليس نابعاً من مثيرات خارجيّة . كما يعطي سكينير أهمّية كبرى للعوامل المعزّزة فعندما ’’ يصدر الكائن سوكا عن طريق الصدفة و يكون هذا السلوك مشفوعاً بتعزيز (وجود الطّعام ) ينشأ احتمال لزيادة ظهور نفس السّلوك في المستقبل .‘‘ فالمعزّزات تتبع الاستجابة و ترتبط بالوضعيّة الإجرائيّة .
و من بين الاستنتاجات التي وقع توظيفها في المجال التربوي :
- يسهل على الأطفال تعلّم سلوك جديد عندما يتمكّنون من الإفصاح على أجوبة غير ذهنيّة أو يضمن السلوك الجديد استجابات أنجع من الأولى
- تسهّل التعزيزات الإيجابيّة عمليّة التعلّم إذا كانت متلائمة مع الوضعيّة و مستخدمة في الوقت المناسب .
- ينبغي تحليل و توزيع المادّة التدريسيّة إلى عناصر بسيطة حتّى نعطي فرصة للتّلميذ لتقديم أجوبة صحيحة .
- لا بدّ من اعتبار الفوارق الفرديّة المتعلقة بسرعة التعلّم (الأنساق) عند وضع البرامج .
- ضرورة برمجة التعليم و تقسيم التعلّم إلى وحدات متفاوتة الصّعوبة
- ضرورة اعتبار المستوجبات أو المكتسبات السابقة كقاعدة لضمان الأجوبة الصّحيحة
* انتقادات موجّهة إلى النّظريات السلوكيّة :
هذه النظريات تقلّص تأثيرها في الحقل التربوي لأنّها واجهت عدة انتقادات من قبل الجشطالت و البنائيّة و من بين المآخذ :
الطّابع التجزيئي في تحليل السّلوك و اختزاله في سلسلة من المثيرات و الاستجابات فهي تغبُن الأبعاد غير السلوكيّة الخفيّة كالأبعاد العلائقيّة والوجدانيّة ..
اعتبار الطّفل صفحةً بيضاء و خالياً من أيّ قدرات وتهميش عنصر التأثير و التأثّر مع المحيط
النظرة الحتميّة إلى علم النّفس و التي تبرز من خلال تنميط السلوك و إخضاعه للقياس وهو ما يقصي العمليات الذهنيــــّة و العرفانية العليا .
تصوّر الذّكاء كحالة و ليس كعمليّة أو بنية ذهنيّة
* مساهمات و مجلوبات السلوكيّة :
- ليونة الأجسام الحيّة في تعالمها مع المحيط (بافلوف وثورندايك) فهي تتغيّر و تتحوّل
- بعض السلوكيين أمثال تولمان يؤكدون على الوضعيات الدالّة في التعلم
- اعتبار الوضعيات المعيشة في التعلّم (تولمان و ثورندايك)
- أهمّية الدافعيّة و الرغبة في التعلّم (هِلْ و سكينير)
- دور الاستكشاف في حلّ المسائل و قيمة الفوارق الفرديّة في تسهيل التعلّم (الأنساق)
- الانطلاق من المعارف السابقة لبناء معارف جديدة
الجشطالت أو نظريّة المجال
* في النشأة :
من النظريات الممهّدة للبنائيّة إذا استفاد بياجييه من السلوكيّة والجشطالت عندما أثبت كون الطّفل عند ولادته يأتي محمّلاً بكفايات فطريّة أو شامات : Des schèmes انعكاسيّة تمثّل الرّكيزة التي سيبني عليها تعلّمه . فمفهوم الشامات مأخوذ من مقولة الاستعدادات الفطريّة للجشطالت .
نشأت النظرية على أيدي مجموعة من الباحثين الألمان أُطردوا من ألمانيا إثر تصاعد المدّ النازي و هاجروا إلى أمريكا أثناء سيطرة النزعة السلوكيّة . من بين روّادها : كوهلر Kohler.W و وندتWundt.W و فرتاينير Wertheimer.M .
ظهرت النظريّة في العشرينات كردّ فعل على السلوكيّة و التصوّر الذرّيL'atomisme الميكانيكي المحض للأشياء و العالم .
* في الجهاز المفهومي :
* الجشطالت : (Gestalt) لسوء الحظّ يعسر ترجمتها للعربيّة وهذا هو السبب في بقاء الكلمة بالألمانية و الكلمة تعني أقرب ما يكون إلى مفهوم : الصيغة أو الشكل أو النّموذج أو الهيئة أو النّمط أو البنية أو الكلّ المنظّم أو المجال .. فمفهوم الجشطلت يعني تقريبا الكلّ المترابط الأجزاء باتّساق و انتظام . و من بين الاستنتاجات التي فاضت عن هذه المقولة :
- أنّ الكلّ بصورة عامّة ليس أكثر من مجموع أجزائه فالمثلّث ليس مجرّد ثلاثة خطوط مستقيمة و ثلاث زوايا مناسبة و لكنّ المثلّث هو مجموع هذه العناصر الستّ مُضافا إليها عنصرا سابعا ألا وهو " الصفة الجشطلتيّة " أو الصفة الشكليّة للمثلّث . و نفس المثال ينطبق على اللحن الموسيقي فهو ليس مجرّد مجموع كلّي من النغمات أو النوتات .
- الكلّ غير مساو بالضرورة لمجموع أجزائه و ليس كذلك مجرّد مجموع الأجزاء مضافا إليها عنصر آخر أو الصفة الجشطلتيّة فالكلّ يمكن أن يختلف اختلافا تامّا عن مجموع أجزائه .
- الأجزاء لا تصبح أجزاءً و لا تقوم بوظيفتها حتّى يوجد الكلّ الذي هي أجزاء له . فالقضيّة الأساسيّة في النظريّة الجشطلتية هي قضيّة الاهتمام بالتناقض بين ما يسمّى :
الكليات التي تتساوى تماما المجموع الكلّي للأجزاء المكونة لها (And-sums) : مثل كومة من الطّوب أو حفنة من الأرز أو مبلغا من المال
و الكليات التي تتسامى فوق المجموع الكلّي للأجزاء المكوّنة لها أو تتجاوزه (Transsums) مثل المجال الكهربائي و فقاعة الصابون و المجال المغناطيسي و الشخصيّة حيث الكلّ يختلف كلّ الاختلاف عن مجموع أجزائه .
و في رأي أصحاب النظريّة لا يوجد في الواقع سوى أشياء قليلة جدّا يتساوى فيها الكلّ مع مجموع أجزائه و انطلاقا من هذا الاستنتاج يصبح تجزيء السلوك و بناء علاقات ميكانيكيّة بين الأجزاء و الكليات عملاً مصطنعا يقتل العمليّة الحيويّة و المعقّدة للنفس البشريّة . فالسلوك عبارة عن كلٍّ غير قابل للتّجزئة و سلوك الفرد في موقف معيّن يخضع للتّنظيم الذي يقوم به داخل هذه الوضعيّة .
* الاستبصار : Insignt من المفاهيم المفاتيح في فلسفة الجشطلت و يُقصد به : الملاحظة و الفهم و التنظيم و إدراك العلاقات بين الأجزاء ، وهو أيضا الفهم الفجئي للعناصر الأساسيّة للموقف أو المشكلة و صياغتها في شكل بنية أو كلّ منظّم و متسامٍ عن الأجـزاء .
رسم توضيحي :
قام كوهر : Kôhler بتجربة على القردة : Les chimpanzés (تجربة العصيّ و الموزة) و لاحظ أنّ الحيوان يقوم بعدّة محاولات خاطئة تعبّر عن صعوبة إدراك مختلف ملامح المشكل : أي العلاقة بين العصيّ المساعدة على إنزال الموزة من أعلى القفص .
بعد هذه المحاولات تأتي مرحلة "تفكير" قصيرة ثمّ إعادة بناء المجال المدرك و تنظيمه ثمّ إدراك فجئيّ للحلّ الذي يمثّل فهما حقيقيّا للمشكل : تركيب العصيّ في بعضها و إنزال الموزة .
الاستبصار له أربع خاصيات :
تنظيم المشكل أي إدراك العلاقات بين عناصره المختلفة
حلّ المشكل فجئيّاً
استخدام هذا الحلّ في وضعيات جديدة مشابهة
التعلّم القائم على الاستبصار يصعب نسيانه و لا يمّحي مع الزّمن لأنّه يعزّز نفسه بنفسه عكس الحفظ و التّكرار
فالتعليم القائم على الاستبصار هو تجاوزٌ لما كان محيّراً أو غامضاً إلى فهم منظّم للأشياء يمكّن من تعرّف العلاقات الداخليّة لما نريد تعلّمه . و يستدعي الاستبصار جملة من الشّروط أهمّها : النضج الحسّي ، النضج العقلي ، القدرة على تنظيم المجال ، الخبرة ..
* مجلوبات الجشطلت في حقل التربية :
- التركيز على تعلّم المعاني و المفاهيم بدلاً من الوقائع أو الأشياء المفردة أي تعلّم الأشياء الكليّة
- انبناء التعليم المدرسي على الطريقة الكليّة أو الشاملة بدلاً من الطريقة التجزيئيّة أو المقطعية
- الحفظ بديل وهميّ للفهم لأنّه غير قابل للنقل إلى وضعيات أخرى
- التكرار لا يساعد المتعلّم على فهم المسائل
- الحدّ من التعزيز الخارجي في مقابل الدافعيّة الداخليّة
- الكفّ عن مساعدة المتعلّم تدريجيّا على الوصول إلى الحلّ و الاكتفاء بمساعدته على حسن فهم التتابع المنطقي للأجزاء و العلاقات بينها حتّى يعتمد على نفسه في حلّ المسائل .
البـــــنائيّة
* في النشأة :
تأثر بياجييه بأبحاث عدد من العلماء و الفلاسفة ، فقرأ أعمال إيمانوئيل كانط قراءة متعمّقة و قد اهتمّ مثل هذا الفيلسوف بتحديد مصدر القدرة الإنسانيّة على معرفة الحقيقة ، أو ما يسمّى بنظريّة المعرفة (الإيبستيمولوجيا) و انتهى إلى نتيجة مفادها أنّ تعلّم أيّ شيء عن العالم يقتضي معرفة سابقة ببعض المفاهيم الأساسيّة المتعلّقة بالزمان و المكان كما اعتبر أنّ مفاهيم مثل المدّة (الفترة الزمنيّة) و العمق هي مفاهيم لا يتعلّمها الإنسان بل فطريّة .
حاول بياجييه في البداية أن يستثمر مجلوبات السلوكيّة و الجشطلت مع نقدهما : أخذ ظاهرة تأثير عامل الوسط من الســـلوكيّة و مفهوم الشامات الأوّليّة من نظرية المجال . و يرى أنّ هذه الشّامات هي بُنى أوّليّة تمثل ركيزة أساسيّة تنبني عليها بقيّة العمليات
و من بين الشامات الأوّليّة عند الرّضيع : المسك : la préhension الإدراك : La perception و المصّ : La succion .
كان اهتمام بياجيه الأساسي : هو كيفيّة نشأة التفكير المجرّد عند البشر و تطوّره ، كيف ينشأ الذكاء ؟ هل ينمو بصفة خطيّة و ما هي العوامل الذهنيّة المساعدة على ذلك ؟
تنطلق هذه المقاربة من مبدأ يقرّ بأنّ الطّفل في محاولة لفهم الوسط الذي يعيش فيه يجابه مشاكل : الأكل ، التدفئة ، الاطمـئنان .. و يجب عليه أن يتكيّف و يتأقلم مع هذا الوسط الجديد و كلّما تحقّق توازنٌ نسبيّ إلاّ و ظهر اختلالٌ من جديد و هكذا دواليك ..
* الثورات العرفانيّة الممهّدة لظهور البياجستيّة :
- في الثلاثينات : ظهور مفهوم التمثّل الذّهني و مراجعة التصوّر القديم حول السّلوك
- من الخمسينات إلى السبعينات : أبحاث حول العلاقة بين الدّماغ و النفس و الحاسوب : Le neuronal –le psychologique – le computationnel
- من السبعينات إلى التسعينات : ظهور مقاربة المعالجة المتوازية الموزّعة (TPR)
* في الجهاز المفهومي :
1- مفهوم التكيّف و التنظيم : L'adaptation et l'organisation
أ- التكيّف : هو نتيجة تفاعل مسارين : الاستيعاب L'assimilation و التوافق : L'accommodation
الاستيعاب مصطلح بيولوجي يعني توليف العناصر الخارجيّة (Incorporation) أمّا التوافق فهو تغيير في البنيات الداخليّة خدمةً لحاجات الاستيعاب و بأكثر تبسيط : الاستيعاب هو تمشٍّ يقوم من خلاله الفرد باقتناء عنصر خارجيّ و إدماجه في بنياته الحاليّة
أمّا التوافق فهو تمشٍ تتغيّر من خلاله البنيات الداخليّة كي تنغلق على عنصر جديد من المحيط .
فالتكيّف ذو بعدٍ خارجيّ وظيفيّ أمّا التوافق فهو داخلي هيكلي (بنيوي) :
رسم توضيحي :
2- مفهوم العرفان : مجموع الحالات و السيرورات (التمشيات ) التي تقع داخل نظام فيزيائي أو طبيعي أو اصطناعي لاكتساب أو إنتاج تمثّلات داخليّة انطلاقا من معطيات خارجيّة من أجل أخذ قرارات ذات صبغة ذهنيّة أو سلوكيّة .
المعالجة العرفانيّة غير مقطعيّة و غير مجزّأة و غير متسلسلة أو متتابعة بشكل خطّي فهي عملية معقّدة ، ديناميّة لا يمكن إدراكها بصفة مباشرة و تخزين المعلومة لا يقع بشكلٍ آليّ ميكانيكيّ بل تُعالج انطلاقا من سلسلة من السيرورات الذهنيّة كالترميز و التخـــزين و الاسترجاع .
3- المعالجة الموازية الموزّعة (T.P.R) : و من خصائصها :
- أنّ المعالجة متوازية في الزمن (أي لا تقع بشكل خطّي أو تتابعي إذْ تشتغل في أكثر من ثانية سيرورات عديدة أثناء المعالجة)
- النّشاط الدّماغي موزّع على مناطق عديدة و عُقد مكوّنة للقشرة الدماغيّة
- كلّ عقدة نشيطة بإمكانها أن تثير عُقداً و تُخمدَ أخرى
- السيرورة العرفانيّة تشتغل حتى في حالات عدم اليقين أو نقص المعلومة .
يؤكّد النموذج البنائي على مركزيّة النشاط العرفاني للفرد في علاقته بالمحيط وهذا النشاط يستدعي بُنى معرفية قبليّة تُنشّط من قبل الفرد لمعالجة المعلومة المتأتية من المحيط . فالبنية القبلية هي بنية استقبال شريطة تنشيطها و تحفيزها لتُبنى المعارف الجديدة عليها .
* ما هو دور المعارف القبليّة في التعلّم ؟
- البعض يرى أنّ التعلّم لا يقع إلاّ على أساس هذه التصوّرات ، فهي ضروريّة
- مجموعة أخرى تعتبر أنّ اكتساب المعارف الصّحيحة العلميّة لا يمكن إلاّ أن يكون في قطيعة مع هذه التصوّرات
- التعلّم يحصل في تفاعل مع هذه التصوّرات و في قطيعة معها في نفس الوقت
المجموعة الأولى : ظهرت في علم النّفس الاجتماعي و خاصّة مع موسكوفيتشي : Moscovici إذْ يقول : ’’ نتعلّم انطلاقا من المعارف القبليّة و التصوّرات ، وهي تمثّل القاعدة الضّروريّة لبناء المعارف . ‘‘ و ’’ لا يقع التعلّم إلاّ إذا وقع تنشيط هذه التصوّرات أو البُنى القبليّة ‘‘
المجموعة الثانية : ظهرت مع غاستون باشلار انطلاقا من مفهوم القطيعة الإيبستيمولوجيّة أي أنّ التعلّم ينهض في قطيعة مع المعارف السابقة لأنّ البُنى المعرفيّة لا يمكن أن تتغيّر إلاّ إذا وُضعت في صراعٍ مع المعارف الجديدة . فالتصوّر أقرب إلى ما يسمّى ببيداغوجيا الدّحض القائم على مفهوم العائق و تجاوز العائق :Pédagogie de la réfutation
المجموعة الثالثة : يمثّلها جيوردان و دوفيتشي : Giordan et Devecchi(1987) : التعلم يحصل مع و ضدّ تصوّرات المتعلّمين ، فمن ناحية تحصل مراجعة و إعادة نظر في بناء المعارف المألوفة و من ناحية أخرى يكون الاعتماد عليها ضروريّا حتى نعدّل ما كان صحيحاً وهو تصوّر يندرج ضمن بيداغوجيا الخطأ : Pédagogie de l'erreur . هذه المقولة امتداد واضح لبراديغم بوتيني : Boutinet و براديغم بياجيه في مفهوم التعديل و التعديل الذاتي .
* حدود النّظريّة البنائيّة :
1- انعكاساتها في المجال التربوي :
إيلاؤها في كلّ عمليّة تعلّم مكانة متميّزة لنشاط الفرد المتعلّم ، فهو منتج للمعرفة
تصبح العلاقة بالمعرفة علاقة نشيطة متجدّدة
غيّرت البنائيّة علاقة المعلّم بالمتعلّم و علاقة الفرد بالمعرفة
لا يكفي أن يكون الفرد أمام مشكل ليتعلّم ، بل يجب أن يكون لهذا المشكل معنى دالاّ مساهما في تحفيز و إثارة المتعلّم
دور المعلّم في المقاربة البنائيّة هو السعي إلى إثارة اهتمام الطّفل و عرض المشكل بطريقة تطابق الهياكل الذهنيّة التي بناها بنفسه
تُعير هذه النظريّة أهمّية كبرى للتمشيات الذهنيّة : إذْ لا انفصال بين اكتساب المعارف و استخدام التمشيات الذهنيّة
2- مآخذ المقاربة :
- اعتبار العامل الرئيسي في النموّ هو العامل البيولوجي و تهميش بقيّة العوامل كالمحيط و اللغة و العامل الثقافي .
- التعامل مع الفرد ككائن إيبستيمي Sujet épistémique مجرّد عن كلّ السياقات الاجتماعيّة و الثقافيّة ..
- حصر اكتمال النموّ في سنّ السّادسة عشر و تملّك عمليتي : المعكوسيّة المضاعفة و التفكير الافتراضي الاستنباطي ، وهو تصوّر مبنيّ على نوع واحد من الذّكاء : وهو الذكاء التحليلي و محصور في منطق الرياضيات وهو أمر سيستدركه فيما بعد كلّ من غاردنيير و سترنبرغ في اكتشافهما لأنواع أخرى من الذكاء : كالذكاء الإبداعي و الذكاء العملي ...
التيار النفسي الاجتماعي الروسي
(فيغوتسكي)
اهتمّ فيغوتسكي بالعلاقة العضويّة بين التعلّم و النموّ الذّهني و إذا كان النموّ عند بياجيه يبدأ من الدّاخل و ينطلق إلى الخارج فهو لدى فيغوتسكي يبدأ من الخارج و ينتهي في الدّاخل . و يعتمد البناء النظري لدى فيغوتسكي على مفهومين أساسيين :
* مفهوم الاستدخال : L'internalisation يقوم على كون النموّ المعرفي لدى الطّفل يعتمد على امتصاص المعرفة من خلال السياق الاجتماعي ، و ذلك عن طريق مُلاحظة ما يقوم به الآخرون من حوله و معرفة لماذا يقومون به ، ثمّ إعادة بناء هذه المواقف داخليّاً للتعرّف عليها و معرفة أبعادها .
*مفهوم نطاق النموّ الممكن (Z.P.D)Zone Proximale de développement : يقوم على التفرقة بين ما يستطيع الطفل القيام به في وقت راهن بناء على خبراته السابقة و الحدّ الأقصى لإمكاناته و ما يستطيع القيام به إذا ما توفّرت له الظـّروف و المساعدة التي تُتيح له الاستفادة من جميع إمكاناته الكامنة .
La différence entre le niveau de résolution de problèmes sous la direction et avec l'aide d'adultes et celui atteint seul
من المفاهيم الفرعيّة الأخرى لفيغوتسكي : مفهوم التقييم الدّينامي : و من خلاله انتقد اختبارا ت الذكاء و طرق التقييم الشائعة في عصره لأنّها تقدّم بيئة تقييم ستاتيكيّة و ثابتة في حين أنّ الطّفل يحتاج إلى قيس إمكاناته الكامنة و ليس المُنجزة فعليّا : فالتقييم الدينامي لا يقيس الموجود(وهو ما تقوم به المدرسة حاليّا) و إنّما يقيس ما يقدر عليه المتعلّم بواسطة مُساعد أو قرين .
L'évaluation dynamique est donc centrée sur les capacités et les compétences émergentes de l'apprenant. elle vise à évaluer le potentiel cognitif d'un individu,les capacités en voie de construction.
التيار النفسي الاجتماعي بحنيف
(دواز ، مونييه، كليرمون)
هو تيار ينتمي إلى المدرسة السويسريّة وهو امتداد للبنائيّة و تطوير لها ويُعدّ روّاده من تلامذة بياجيه حتى سمُّوا بالبياجستيين الجُدد Les neopiagesiens . طوّر ثلاثتهم الدّور الهامّ الذي تلعبه الظّروف الاجتماعيّة في عمليّة النموّ عامّة و النموّ الذهني خاصّة . لم يعد الذّكاء خاصيّة فرديّة ، بل أصبحت تتدخّل فيه عناصر اجتماعيّة و ثقافيّة و حتّى علائقيّة . و من مفاهيمهم الأساسيّة :
* مفهوم التفاعل الاجتماعي : L'interaction sociale : تبرز كليرمون كيف يساهم التفاعل الاجتماعي الأفقي بين المتعلّمين في الفصل على تحريك النموّ الذّهني و ترسيخ المعارف أكثر ممّا لو كانت العلاقة رأسيّة بين المدرّس و التلاميذ .
التفاعل الاجتماعي هو الذي يعطي للمعرفة معنى في بناء الذّات أو ما يُسمّى بالوسم الاجتماعي :Marquage sociale لأنّ المتعلّم لا يبني المعرفة بصفة مجانيّة بل لردّ الفعل و البروز أمام أقرانه بمظهر من يعرف .
* مفهوم الصراع العرفاني الاجتماعي : Conflit sociocognitif : وهو لا يكون مجدياً إلاّ إذا جرى داخل مجموعة غير متجانسة في إطار وضعيات خلافيّة أصيلة تؤدّي إلى صراع حقيقي و غير مزيّف و يؤدّي الصراع إلى ما يُسمّونه بإعادة تنظيمٍ مُضيـفٍ : Réorganisateur majorant وهو عبارة عن حلّ يعمد إليه المتعلّم عندما يشعر بعدم التساوي مع أقرانه وهو في إطار صراع و تنافس فيعيد هيكلة معارفه و بناء مُكتسبه على ضوء ما يمتاز به الآخرون عنه و هكذا تحصل الإضافة بفعل داخلي (عرفاني ) و خارجي (صراع أفقي اجتماعي) .
على سبيل الخاتمة :
- إنّ تقدّم الأبحاث في مجال فيزيولوجيا الجهاز العصبي و نظريات الذكاء الاصطناعي قد أدّى إلى وجود شكل عياني لعمليات التفكير مثل استقبال و تشفير و تخزين و استرجاع المعلومات في الذاكرة و استخدامها في حلّ المشكلات . وهي مفاهيم رفضتها السلوكيّة من قبل باعتبارها مفاهيم " غيبيّة " لا يمكن ملاحظتها بشكل مباشر .
- أنّ المقاربة البياجستيّة (بياجيه) تبقى محدودة النتائج بسبب سقوطها في نوع من التعميم و الحتميّة فكان السؤال الذي طرحه أصحاب المدخل الثقافي لدراسة التعلّم والذّكاء : هل بالإمكان تصميم مقياس صالح لقياس الذّكاء في كلّ التباينات ، بحيث يعبّر عمّا هو مشترك بين جميع أفراد الجنس البشري ؟ و تأتي في هذا الإطار أبحاث مايكل كول M.Cole الأستاذ بجامعة كاليفورنيــــا و كاتل.ر R.Cattel (1940) لتميّز بين : الذكاء المتبلور : Crystalisé و الذكاء السّائل : Fluide ، مؤسِّسةً بذلك لفكرة جدّ ثوريّة وهي نظريّة الذكاء المتعدّد التي سيطوّرها غاردنييرH.Gardner فيما بعد .
فالذكاء المتبلور هو نتاج القدرة التي تحدّدها البيئة و الثقافة أمّا الذكاء السائل فهو حصيلة قدرة فطريّة محدّدة وراثيا دون تأثّر بالعوامل الخارجية .
ورغم بساطة هذه الفكرة فإنّها فتحت الباب لإعادة النّظر في الذكاء لا باعتباره كيانا مستقلاّ و منعزلا بل في علاقة ببقيّة جوانب الشخصيّة كالانفعالات و الدافعيّة والخبرة الاجتماعيّة و الثقافة و أهداف الحياة . لم يعد الذّكاء مرتبطا بالتحصيل الدراسي كمحكّ على نجاح التعلّم و لا مُرادفا للنّجاح المدرسي و على هذا اتّجه اهتمام الباحثين إلى تعرّف فرص الذكاء الأخرى المُتاحة و اكتساب الخبرة العمليّة للنّجاح في الحياة بصفة عامّة . فتحدّثوا عن الذّكاء التحليلي و الذكاء الإبداعي و الذكاء العملي ...
و بالتّالي نكتشف ضيق أفق المقاربات القديمة التي لم تُراعِ سوى نوعين فقط من الذّكاء : هما الذّكاء اللغوي و الذكاء المنطقي الرياضي . و بذلك ينبغي إعادة النّظر في فعل التعلّم و بناء النظام التربوي على أساس الفروق الفرديّة بين المتعلّمين لاكتشاف ميسمهم (Profil)العقلي المميّز و نقاط قوّتهم و ضعفهم . فالتعلّم يصبح مساعدة للأفراد على تعرّف قدراتهم المختلفة و تنميتها بما يحقّق أهدافهم . و صار بالإمكان اعتبار كلّ إنسان متميّزاً في بعض الجوانب و عاديّاً أو أقلّ من العادي في جوانب أخرى .
أمّا الجانب الإجرائي من الوحدة فلقد برز ربّما من خلال قراءتنا لعديد المواقف التعليميّة داخل الفصول أثناء زيارات التفقّد وهو ما يسّر علينا تحليل المرجعيات أو أحيانا بعض القناعات التي تحكم طريقة الأستاذ في التّدريس و التعامل مع الخطأ و أساليب التنشيط وهو ما دفعنا من حين لآخر إلى تقديم بعض التوجيهات و التوصيات .
نرى إذن أنّه لم يعد من الممكن الحديث عن نظريّة أو نموذج بيداغوجي كفيل بمفرده بتقديم حلولٍ نهائيّة للفعل التعلّمي وهذا راجع ربّما في بعض أسبابه إلى تعقّد ظاهرة التعلّم و تشعّب أبعادها ، و لا نملك في الأخير إلاّ أن نُحيل على ما كتبه جون بيار بورتوا Jean-Pierre Pourtois و هوغيت دسمات : Huguette Desmet في حديثهما عن نسق بيداغوجيّ مدمج و متعدد المرجعيات إذ كتبا في مقدّمة كتابهما "تربية ما بعد الحداثة" : ’’ تناسب التعلّق بيداغوجيا التجارب الإيجابية. و تناسب التقبّل البيداغوجيا الإنسانويّة. و تناسب التحفيز بيداغوجيا التمايز .و تناسب التجريب البيداغوجيا النّشيطة . و تناسب التّعزيز البيداغوجيا السلوكيّة . و تناسب التواصل البيداغوجيا التفاعلية ... أمّا حاجات القيم فهي معنيّة بكلّ هذه الممارسات البيداغوجيّة . ‘‘
إنّ التفاعل الإيجابي مع كلّ المقاربات هو من سُنن تطوريّة الأشياء و ديمومة المعنى و لا يمكن لأيّ نظام تربويّ أن يضع غايات ثابتة كشروط لازمة لوجوده ، فهو بذلك يُدمر نفسه بنمط من الدّغمائيّة و الجمود .
و يبقى من انتظاراتنا و آمالنا هو : كيف نغيّر هويّة المربّي البيداغوجيّة لجعلها أقلّ خضوعا لقناعات و نماذج لم تعد تُواكب رهانات عصرها ؟ كما يخامرنا السؤال نفسه من وجهة أخرى : كيف نضع مختلف المقاربات و التمشّيات في إطار القيــــم و الغايات التربويّة التي نُراهن عليها ؟
لا ندري هل يُعتبر موقفنا هذا حلماً ! لكن تحضُرنا عبارة أوليفيه روبول(1989) : ’’ دون حلم ٍ لا يمكن للعالم أن يتقدّم . ‘‘
متفقد المدارس الإعدادية و المعاهد
تونس