هي القمة التي يلتقي فيها كل شيء لصالح الحضارة الأخلاقية ، حيث يزدهر التعليم في معناه الأعمق للكلمة ، وهي أيضا المدينة العلمية ، و مصير المعرفة داخل المجتمع مرتبط بمصيرها ، كونها مكرسة لحضارة العقل ، إنها الجامعة التي لم تكن فكرة إنشائها رديئة .
فالجامعة و منذ نشأتها و حتى اليوم مرت بمتغيرات عدة على مستوى البنيات و الوظائف ، فبالرغم من أن إرث الأكاديمية الأفلاطونية ، و كذا الجامعة القروسطية ظهر بشكل جلي في ملامح الجامعة الحديثة ، إلا أن جامعة ما بعد الحداثة ستعرف تطورا منقطع النظير مع مرور الزمن ، هذا التطور الذي شهدته الجامعة سيكسبها خصائص معينة ، بحيث ستصبح مكانا للامتياز العقلي، و المعرفة الموضوعية ، و فضاء متميزا لجميع و مختلف التيارات الفكرية ، حيث يسود النقاش و الاختلاف . هذه الخصائص و السمات ستصير من محددات هوية الجامعة الجديدة ، التي ستشكل المنطق الخاص المتحكم في بنياتها و صيرورة تطورها .
- إذا كانت الجامعة في الدول المتقدمة تضطلع بمهام متعددة ، في مقدمتها صناعة الإنسان و تغيير الواقع ، إلى جانب المهام الكلاسيكية المتمثلة في التكوين و البحث العلمي ، فإن الجامعة عندنا فشلت تقريبا في الكثير من الوظائف المنوطة بها ، فهي تختزل جميع العناصر المكونة لازمة النظام التعليمي .
يمكن القول إن أزمة جامعتنا هي نتاج – لأزمة النظام التربوي- بنيوية شمولية متعددة الأبعاد والدلالات. و من ثم فإن الجامعة عندنا ، ظلت بعيدة جدا عن تحقيق ما يروج حول وظائفها وأدوارها من أهداف معلنة، على الأقل من منظورين أساسيين: أولهما يتمثل فيما تنتقد فيه الجامعة من تراجع كبير لدورها في التنمية الاجتماعية عبر إقامة علاقات تبادلية وتكاملية مع محيطها الاقتصادي، ومع مختلف المؤسسات والقطاعات الإنتاجية والاجتماعية بشكل عام، وثانيهما يتمثل في عدم قدرتها على أن تشكل فضاء للتفكير الحر، والبحث العلمي وتكوين الأطر، والمواطنة المستنيرة، ومراكمة ممنهجة للمعارف والخبرات والتجارب الوطنية والكونية...وتحويل كل هذا التراكم المعرفي والقيمي إلى منتوج ثقافي واجتماعي يساهم في تغيير الواقع و صناعة الإنسان الذي نريد . إن أزمة المآل الذي تعرفه جامعتنا يجعنا نتساءل :
- ما العمل للخروج بالمدينة العلمية من الأزمة التي تعيشها راهنا , و كيف نصل إلى جامعة مفعمة بالحياة تعمل على تجاوز نظام يعتمد على التلقي السلبي ، و تتحول من منطق التدريس و التلقين إلى منطق التكوين و البحث العلمي ؟
هل نحن في حاجة لأن تعود الفلسفة إلى الجامعة و بقوة و في جميع التخصصات ، وكيف نستطيع تحويل الفلسفة إلى مشروع عملي يغير الجامعة و من تم الواقع ؟
- I كانط و الجامعة ،حين يصير الفيلسوف مسكونا بهم التربية .
- بعد أن تكلم في العقل و مبادئ الطبيعة، و أسس الفيزياء و شروط إمكانية المعرفة ، و بعد أن أسهب في فحص الأخلاق متوقفا عند مصدر الحكم الجمالي ، كان من المفترض أن يكون النسق الكانطي قد اكتمل ووصل مشروعه النقدي إلى حده النهائي، لكن يبدو أن النزعة النقدية لدى كانط لم تقتصر على ربط المصير التاريخي للفلسفة بحركة النقد ، بل ستشمل أيضا تمثله للفكر الفلسفي في شقه التربوي ، عبر حضور الفلسفة المؤسسي داخل الفضاء الجامعي ، و هكذا و في صميم السياسة سيؤلف كانط متنا جديدا بعنوان صراع الكليات الجامعية ، لهدا اعتبر نقد كانط لنظام المعرفة الأكاديمي امتداد لنقد العقل ، إلا أن صيغة النقد الجديد للفضاء الجامعي ، سيأخذ منحى مغاير انطلاقا من اعتبار الجامعة في ذلك الوقت مكان للثرثرة و سوء التنظيم ، بالإضافة إلى كونها خاضعة لرقابة سياسية صارمة تحد من استقلاليتها في مجال إنتاج المعرفة .
لهذا يدعو كانط إلى أن تحضا الجامعة باستقلالية تامة عن أية سلطة أخرى ، رافضا كل وصاية من أية سلطة على المدينة العلمية ، في عملية إنتاج المعرفة ، و الجامعة في هذا المجال يجب أن تخضع فقط لمنطق المعرفة ، و كل عملية تناقض ذلك سيجعل من الجامعة تتحول إلى فضاء يدار بعقلية بيروقر اطية لن تنفع المجتمع بل ستجر عليه الوبال العظيم، كونها لن تنتج إلا الجهل و التخلف ، و لن يتخرج منها سوى الأعداد الكبيرة من الجهلة اللذين ينشرون الجهل باقتدار في كل أنحاء الوطن .
في سياق نقده لآليات التحكم السياسي في المضامين التعليمية داخل الجامعة ، يفحص كانط علاقة كلية الفلسفة ككلية دنيا ، بباقي الكليات الأخرى المسماة كليا ، مطالبا باستقلال أكبر لكلية الفلسفة
كونها مؤسسة شاملة لمختلف المعارف البشرية ، فبدون حضور نقد الفلسفة سينتهي الأمر بالكليات العليا إلى الدوغمائية ، لهذا فمن الأولى أن تناط مهمة الرقابة على معارف الجامعة بكلية الفلسفة ، و جميع الطلاب من التخصصات المختلفة يتوجب عليهم دراسة الفلسفة لحمايتهم من الجنوح نحو الدوغمائية و التطرف الفكري من خلال هذه الرقابة الذاتية للجامعة على نظام معارفها يسعى كانط إلى تغيير قواعد الريادة داخل الجامعة ، من خلال استعادة الفلسفة لمكانتها ، و ترسيخ شرعيتها . داخل حقل المعرفة الأكاديمية ، في مقابل سعي السلطة السياسية إلى إقصائها و تهميشها .
II – في الحاجة إلى فلسفة عملية تغادر أسوار الجامعة و تغير الواقع الاجتماعي
ما أشبه جامعتنا اليوم بالجامعات الألمانية في القرن الثامن عشر ، حينها كانت مؤسسات تربوية رديئة ، لا يقبل عليها الطلبة إلا عندما لا يكون لديهم شيء يفعلونه ، إننا الآن أكثر من أي وقت مضى في حاجة ملحة لتخطيط جيد و ممنهج للعملية التربوية داخل الفضاء الجامعي ، من خلال حضور مكثف للفلسفة ، بهدف توفير العلاج الفعال لحالتنا المستعصية ، نظرا لما يتصف به وضعنا من فوضى و تفشي الأزمات من جنوح نحو العنف و التطرف ، لقد أدى غياب الفلسفة و نقصان سيادتها في رحاب الجامعة إلى غياب مقومات البحث و النظر إلى اعتناق فكر متطرف يفرض على الجميع مفاهيمه و مناهجه .
إننا الآن في حاجة ملحة كي تعود الفلسفة إلى الجامعة و بقوة و في جميع التخصصات ، فطالب الرياضيات في حاجة إلى دراسته الفلسفة ، و نفس الأمر ينطبق على طلبة الفيزياء و الاقتصاد و القانون ، لهذا يجب القطع مع النظرة الضيقة التي ترى في وجود الفلسفة داخل رحاب الجامعة خطرا داهما يهدد كيان المجتمع . الآن يجب دفن و نسيان الماضي حين ظل تعليم الفلسفة مهزوزا يتأرجح بين الإقصاء و القبول ، و بين التوظيف و الصد، حينها بقي حضور الفلسفة في جامعتنا محتشما . لهذا يجب أن تترسخ لدينا فكرة مفادها أن تدريس الفلسفة داخل أسوار الجامعة هو في جوهره عمل تربوي هادف يرفض الترويض الإيديولوجي و الاستغلال السياسي ، و يقطع مع الشعارات الزائفة . عمل يقتضي الحرية الفكرية بالنسبة للطالب و الأستاذ عل حد سواء.
لما كانت الديمقراطية قيمة كبرى أبدعها العقل الفلسفي قبل تصديرها إلى الفضاء العمومي ، فانه من الأجدر بنا إنصاف الفلسفة ، وذلك عن طريق إخراج تعريفها من إطاره الضيق الذي يجعل معنى التفلسف ترفا فكريا منحصرا فيما هو تجريدي نظري. إلى معناه الواسع حيث الفعل المتمرس الواعي بمعنى التفلسف الذي يقر بأن الحكمة الفلسفية الحقة تتجلى في الجانب العملي التطبيقي .
ألم تتحول الفلسفة مع كانط من مهمتها الرئيسية في تفسير العالم إلى محاولة الإسهام في تغييره، عن طريق قراءة الواقع اليومي المعيش للإنسان، فالتحولات التي يعرفها العالم و النتائج المستعصية المترتبة عنها في المجالات العلمية و السياسية و الاقتصادية تتطلب استدعاء الفلسفة من أجل إخراج الفرد و المجتمع معا من المأزق الطارئ . حري بنا الآن أن نشجع الفلسفة العملية التي تتمكن من تغيير الإنسان و العالم على ضوء تأسيسها لفضاء جديد للتفلسف حول قضايا الإنسان .بما أن كل نشاط إنساني ينطوي على فعل فلسفي على حد قول ليفيناس ، فان كل من يمارس مهنة أو حرفة معينة يتعين عليه أن يفكر فلسفيا وهو يقوم بمهمته ،غير أن تحقق هذا الأمر يتطلب استيعاب جملة شروط أهمها ملاحظة الفرد لنفسه و هو يفكر ، أي القدرة على التفكير في التفكير ، و شخص من هذا النوع هو أقدر على التخلص من القراءات السطحية الضحلة للواقع المعيش .
إن هذه العملية التي يلتزم بها الإنسان كتاج لتفكيره الفلسفي هي التي تفتح المجال للفلسفة لتخرج من أسوار الجامعة ، وتتحول إلى مشروع عملي يغير الإنسان و الواقع معا . إن تغيير الواقع سيكون نتيجة حتمية لطبيعة التفكير داخل المجتمع ، وهنا تختلف الفلسفة عن الحقول المعرفية الأخرى ، كالعلم و الدين و التاريخ ، كونها تكشف للإنسان في كل مرة حقيقة معينة عن نفسه و عن الأخر .
نعتقد بأن الجامعة و حدها هي الآلية التي يصار بها إلى فلسفة تشكل صمام أمان يضمن الحد الأدنى من الاستقرار، ويخرجها من واقع مصاب بالجمود إلى واقع جديد يجعل منها تملك الحضور التأسيسي في بناء و تغيير الواقع . لهذا فان مهمة بناء فلسفة اجتماعية هي عملية غاية في التعقيد ، و الجامعة بجميع مؤسساتها هي المخولة وحدها للقيام بهذه المهمة و في مقابل ذلك تبقى الجامعة كذلك في حاجة إلى الفلسفة من أجل اجتثاث الغباء من جذوره، على اعتبار أن الفلسفة تجسد عملية تفكير شاملة ، توفر تحليلا ينبغي أن يغطي جميع التخصصات الجامعية من أجل تحسين فهمنا لعالمنا، و انتفاء الفلسفة و غيابها يعني انتشار الغباء في أعلى مستوياته، ففي ظل التعقيد الذي يتسم به العصر الحالي ، فان التفكير الفلسفي هو في المقام الأول دعوة إلى التواضع و التريث و إلى الحوار المنطقي العقلاني، لهذا فان الفلسفة تبقى أفضل وسيلة لتكوين المواطنين المستنيرين القادرين على مقاومة الغباء. نضيف فنقول بأن الفلسفة وحدها القادرة على علاج هدا العقل الأكاديمي المأزوم المنتج لثقافة جامعية مأزومة بدورها مكرسة للحرفية والمهننة ، ومنخرطة في دوامة من الصراعات الفكرية و الإيديولوجية.