حوار الفلسفة والشعر: نموذج أفلاطون ونيتشه - محمد طلال

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

ان حوار الفلسفة والشعر لا يخلو من التباس وتوتر، رغم أن الوشائج واللحم بينهما ليست منعدمة. واللقاء والالتقاء بينهما، قد حصل غير ما مرة في هذا الجانب أو ذاك. شعر يضمر فلسفة، وفلسفة قد تتوسل شعرا. دون أن يلغي أوجه التمايز والتباين بينهما. رغم أن الفلسفة الكلاسيكية اتخذت موقفا سلبيا من الشعر، بل وناصبته العداء في أحيان كثيرة. بدعوى أن الأدب عموما وليس الشعر فحسب، مجاله الخيال ولا صلة له بالحقيقة، التي هي الشغل الشاغل بالنسبة للفلاسفة. لا سيما وأن الفلسفة الكلاسيكية كانت تعتبر نفسها قولا برهانيا، أو خطابا عقلانيا يقوم على قواعد منهجية صارمة. تتغيا الحقيقة واليقين، وبالتالي لا مكان بين الفلسفة والفلاسفة للشعر والشعراء.

لا أحد ينكر اهتمام الشعر بالإنسان وقضاياه، وبالتالي إمكانية صياغته رؤية حول الإنسان والعالم ومشكلاته. لكننا نكاد نجزم أننا لا نعثر في الشعر عن تاريخ للحقيقة أو تحقيقا لها، أو بالأحرى تصحيحا لها كما هو الحال في تاريخ الفلسفة وتاريخ العلم. ولا أحد ينكر أن ديدن الشعر هو الخيال، وزاده المحسنات البلاغية وجمالية اللغة والنزعة الخطابية، التي تروم التأثير في المستمع وبعثه على اللذة والانفعال.

علما أن الفلسفة المعاصرة خاصة مع هايدغر ونيتشه، باتت أكثر انفتاحا على الشعر. بل وتوسلته سبيلا للفكر والإفصاح عنه وحقلا لقول الحقيقة التي لم تعد تسعف اللغة العادية في انكشافها وتجليها. يتضح هذا من خلال تنوع الصيغ الأدبية التي يوظفها نيتشه في أعماله الفلسفية: أمثولة[1]، شعر[2]، شذرة، استعارة، مجاز، كناية. رغم ذلك، حتى إذا افترضنا أن الفلسفة جنس أدبي، فإن هذا الجنس زاده المفاهيم والمجردات، يظل مهووسا بالبحث عن الحقيقة والإستكناه والنقد. عندما تحضر فيه الصيغ الأدبية والأضرب البلاغية لا تعدو أن تكون مجرد، وسائل أو أدوات، ربما إذا تمزق حذاء الفيلسوف فإنه قد يستعير من الفنان أو الشاعر حذائه.  

قد يغدو هذا القول قابلا للمحو ومجرد لغو، إذا سلطنا عليه مبضع الفلسفة التحليلية مستحضرين التمييز بين قضايا المعنى[3] وأشباه القضايا التي لامعنى لها، أو العلم واللاعلم. فأنصار العقل والقول المنطقي لا يحفلون بالشعر كثيرا، في الجهة المقابلة هناك من يعضد طاقة الحياة، ويقول بم[4]بدأ الصيرورة، ولا يرى في الخيال عبأ على العقل وعلى كل قول حصيف.

سنعرج فهذا العرض على موقفين متعارضين حيال الشعر، وبالتالي علاقة الفلسفة بالشعر، انطلاقا من نموذجين مختلفين، الأول يمثله أفلاطون: ينبذ الشعر من منظور الحقيقة، يقف خلفه أستاذه سقراط ضحية اللغو والخطابة ومكر البلاغة. والثاني يجسده نيتشه مسنودا بهيراقليطس مهووسا بالحياة وطاقاتها مسكونا بمبدأ الصيرورة. وداخل الحقل الشعري نفسه نجد هذا التراوح بين العقل والخيال. فهذا فال[5]يري يقول: «إن القصيدة ينبغي أن تكون عيدا من أعياد العقل[6]". وبخلاف هذا، يرى رائد المدرسة السوريالية أندريه بريتون[7] يقول:" ينبغي أن تكون القصيدة حطام العقل"[8]. فالشعر والفكر حسب تعبير هايدغر[9] نفسه، جاران يسكنان جبلين قريبين، تفصل بينهما هوة بلا قرار، كلاهما يتلقى النور من أعلى، ويبحت عن حقيقة الوجود، غايتهما واحدة، وإن كان كل من هما يسير على طريق غير الطريق. فأحب الأحباب فيما يرى هولدرلين في قصيدة باطيموس[10]، أحب الأحباب يسكنان قريبا، منهكين فوق جبلين منفصلين. فما هي المبررات والمسوغات الفلسفية التي ارتكز عليها كل واحد منهما حيال موقفه من الشعر؟ وهل الحوار واللقاء بين الفلسفة والشعر يصل حد التماهي فيلغي الحدود الفاصلة بينهما؟ ما طبيعة العلاقة بين الفلسفة والأدب عموما؟

الموقف الأفلاطوني من الشعر

نجد لدى أفلاطون في محاورة [11]أيون، نقدا غير مباشر للشعراءـ مادام الشعر معطى إلاهيا ـ مضمونه أن الرواة يتقمصون أدوارا ويتناولون فنونا وصنائع، لا يفقهونها ولم يخبروها البتة. ولم يشتهروا بها ولا يستعطون تعليمها لغيرهم. ولا يحذو حذوهم فيها أتباع ومريدين. سواء في علم الحساب أوالطب كما في فنون الحرب واستراتيجياتها، وهي فنون يدعي الراوي كما الشاعر، التغني بها والقص عنها كما لو كان أحد أربابها. وأيون هو مواطن من مدينة أفيسوس، وهوأحد أشهر الرواة الذين يحفظون اشعار هوميروس عن ظهر قلب، ويتبارى مع غيره في سردها بكل فخرو اعتزاز.

يستدرج سقراط في بداية المحاورة أيون، ويعلن إعجابه بمهنة الراوي. لكم يحسد أيون راوي القصائد الملحمية المحترف، وهو يرتدي ثيابا جميلة، ليظهربمظهرجميل. ويكون في صحبة أهم الشعراء وعلى رأسهم هوميروس، أميرهم وأفضلهم ألوهية. يقر أيون بأنه يفهم ما في عقل هوميروس أفضل من أي إنسان اخر. وهوقادرعلى شرح أشعاره جيدا. لمن يريد سماعها. يظهر أيون مفتونا بهوميروس، فهو لا يستطيع أن يتكلم عن هزيود أو أرخيلوخيوس، لأن هوميروس هو الأفضل. بيد أنه يقر أن النبي قد يكون إيضاحه أفضل، خاصة في الأمور غير المتفق فيها بشأن الألوهية. بما أن أيون لا يستطيع التكلم عن شعراء أخرين، والأكثر من هذا، فهو عاجز عن الحديث عن فن الشعر وقواعده وأشكاله. ومنه فحديثه عن هوميروس هو نوع من الإلهام وليس فنا. يقول سقراط :" أيون إنني سأفترض الخيار الأنبل ، وأنسب لك الإلهام في ثنائك على هوميروس ، وليس الفن "[12] يبدو من خلال هذا القول أن الرواة ليس لهم فضل يذكر، وهم أبعد ما يكون عن كل ما يرددونه، بل وليس لهم نصيب حتى في فن الشعر نفسه. وهذا ينسحب على الشعراء أنفسهم، مادام الشعر شأن إلهي وليس من صنيعة الإنسان، والشعراء كما الأنبياء هم مجرد وسطاء للوحي الإلهي. وحال الشعراء انهم ملهمين وممسوسين، وهذا سر خوضهم فيما يجهلون.

نجد في الكتاب الثاني من نص الجمهورية[13]نقدا صريحا للشعر باعتباره قصصا خيالية ، وأكاذيب لا يجب أن تحكى للأطفال ويشب عليها أجيال المستقبل. فالقصص الشعرية السائدة في معظمها، ينبغي استبعاده. ويشيرالى قصص هوميروس وهزيود، والرواة الذين مازالوا يفشونها بين الناس. وليس هنالك حسب أفلاطون أشنع من هذا الكذب الآثم الشرير، الذي هو تمثيل الآلهة والأبطال بطريقة باطلة.

"وكأن مصورا يرسم صورا مشوهة لا يوجد بينها وبين موضوعها ظل من الشبه."[14]منها الاكذوبة الكبرى التي قال بها الشاعر هزيود عن أورانس. وكيف انتقم كرونس من هذا الأخير، فإنه حسب أفلاطون حتى لو صح ان أورانس أتى هذه الأفعال، وأنه عامل ابنه على هذا النحو. لكان من الواجب أن نتجنب قصها لمخلوقات ساذجة كالأطفال. وإنما الأصح أن يسدل عليها ستار من الكتمان. فمن الشنيع أن ينتقم الطفل من أبيه، ثم يقال له أنه لم يفعل شنيعا، في حذوه حذو الآلهة بل وأعظمها. ولا ينبغي أن يقال إن الآلهة تنصب الفخاخ وتحيك المؤامرات كالبشر.

"اما أن يقصوا عليهم كيف أن ابن هيرا قيدها بالأغلال، وأن زوس قد طرد ابنه هفايتوس في مناسبة لأنه حاول أن يصد عن أمه ضربات زوجها، وأن الآلهة قد أطلقت لنفسها العنان في كل المعارك التي صورها خيال هوميروس فذلك مالا ينبغي أن نسمح به في جمهوريتنا"[15]هكذا يصر أفلاطون موجها خطابه إلى أديمانتوس، بأنه لا يجب أن ننسب الشر إلى الآلهة ، بل واستبعاد هذه القصص من المدارس. ويقدم أمثلة كثيرة على ذلك.[16] يجادل أفلاطون الشعراء مبرزا، أن الله ليس علة لكل شيء. وإنما هو علة الخير فحسب. ثم أن الله ليس ساحرا ينصب الفخاخ. ولا يظهر في صور متعددة تارة، وأخرى لا تظهر منه إلا أشباحا خادعة. فالآلهة ليس كذبة وسحرة تبدل صورها. والله كائن بسيط، لا يبدل أبدا صورته الثابتة، فهو مطلق الكمال وليس عرضة للتغير. يجب أن يشب الأطفال [17]على تقوى الآلهة وتبجيل الآباء ومحبة الناس. ولابد من تصوير العالم الآخر بأجمل الصور لينشأ الشباب على الشجاعة دون رهبة الموت في المعارك والحروب. فلا تصور باعتبارها جحيما وحقيقة مرعبة. يعيب أفلاطون على الشعراء كثرة النحيب والبكاء والإمعان في تصوير البؤس والألم، استدرارا لمشاعر الشفقة. ونقيصة أن يمدح الشاعر الجشع وحب المال ، فهذه النقائص لا تستحق المدح، يقول :" ولا ننشد عنهم قائلين :إن الهدايا لتغري الآلهة ، وتغري الملوك الأمجاد"[18] وبما أن الشعر فيما يرى أفلاطون، لا يعدو ان يكون مجرد سرد لأحداث وقعت في الماضي أو تقع في الحاضر أو ستقع في المستقبل. فإن السرد قد يكون مجرد تصوير وتمثيل أو هما معا. بدليل أن هوميروس وغيره من الشعراء، يلجؤون دائما إلى المحاكاة سواء في المأساة والهزلية الشعرية أو في المدائح. "لقد فهمت الآن ما أرمي إليه تماما، وأعتقد أنك تدرك الآن بوضوح مالم يكن في وسعي أن أوضحه لك منذ برهة، ألا وهو أن الشعروالأساطيرقد يكونان في بعض الأحيان للمحاكاة فقط ومن أمثلة ذلك المأساة والهزلية الشعرية، وقد يكونان سردا يرويه الشاعر ذاته، كما في المدائح. والنوع الثالث مزيج من الأولين، وهو الذي يتمثل في الملاحم وفي أنواع متعددة..."[19]

بعد أن فرغ أفلاطون من هذا النقد المضموني، انصرف إلى نقد الأسلوب وبحثه، حيث يظهر أفلاطون متوجسا من كل أنواع الأنغام والإيقاع الموسيقي في الغناء الشعري، بالإضافة إلى النظم والوزن. وإذا كان لابد للكلمات في الأنشودة من لحن وإيقاع، فإنه ينبغي الاحتفاظ فقط بالألحان التي تدفع على الشجاعة والقوة والانهماك في العمل. بالنسبة للآلات الموسيقية، فإن أفلاطون قد رأى ألا يستعمل في المدينة الفاضلة، سوى العود والقيثارة ومزمارريفي بسيط. بينما الإيقاع فيجب أن يكون ملائما لخصال الاعتدال والشجاعة. " كان علينا أن نجعل الأنغام والأوزان ملائمة للكلمات التي تعبرعن هذا النوع من الحياة، لا نجعل الكلمات ملائمة لأي نوع من الأنغام والأوزان"[20] مع حرصه على ترك الأوزان التي تعبرعن الوضاعة والعنف والجنون. لا يخفي أفلاطون إعجابه بجمال الأسلوب وانسجامه ورشاقته والإيقاع الخير، المقترن ببساطة النفس البساطة الحقة، سمة روح تجمع بين الخير والجمال. يستأنف أفلاطون في الكتاب العاشر من الجمهورية ، هجومه على الشعر، الذي بدأه في الكتابين الثاني والثالث. والفرق أنه هنا يقدم نظرية عامة في الفن لا في الشعر وحده. ذلك من وجهة نظر فلسفية وميتافزيقية، هي الغالبة في نقده، ولا وجهة النظر التربوية كما ذكرنا آنفا. فالمنطلق هنا معرفي خالص له صلة بالحقيقة يقول فيلسوفنا:" وإذن فالفن القائم على المحاكاة بعيد كل البعد عن الحقيقة، وإذا كان يستطيع ان يتناول كل شيء، فما ذلك، على ما يبدو، إلا لأنه يلمس إلا جزءا صغيرا من كل شيء، وهذا الجزء ليس إلا شبحا ففي وسع الرسام مثلا أن يرسم لنا إسكافيا أونجارا أو أي صانع آخر دون أن يعرف عن مهنتهم شيئا. وقد يستطيع، إذا كان رساما بارعا، أن يخدع الأطفال والجهال، إذ يرسم نجارا ويريهم إياه عن بعد، فيظنونه نجارا حقيقيا، وما هو إلا مظهر." [21]فالفن هو أرذل أنواع المحاكاة، لأنه محاكاة المحاكاة. يحتل المرتبة الثالثة في الحقيقة. فالعالم المحسوس هو مجرد صورة باهتة ورديئة عن العالم المعقول الذي العالم الحقيقي. ولا يعدو الفن أن يكون مجرد تقليد ومحاكاة لهذا الوجود المحسوس، الذي هو ليس من الحقيقة في شيء.

  فالسرير من حيث الحقيقة، هو صورة عقلية في عالم المثل والماهيات. بينما النجار يحاكي هذا السرير عن طريق صنعه، لكن الرسام يحاكي النجار اعتمادا على تقنيات الضوء والظل وتداخل الألوان والوهم الحسي والادراكي. فيوهمنا أنه سرير حقيقي. "هذا هو الرأي الذي كنت أريد الوصول إليه عندما قلت إن الرسم وكل فن قائم على المحاكاة بوجه عام يبعد في عمله عن الحقيقة. وإن الجزء الذي يرتبط به، في طبيعتنا، بعيد بدوره عن الحكمة. وأنه لا يستهدف غرضا شريفا أو صحيحا"[22] فالشاعر والرسام يقاطع كل منهما يقاطع العقل، ويميل إلى الجزء الخسيس من النفس، الذي هو الجزء المضلل. لكن الخداع والمظهر، يتجاوزه العنصر الحاسب والعاقل في النفس. وعندما تقوم هذه الملكة بالقياس، تعلن أن بعض الكميات أكبر من البعض الآخر أو أصغر منه أو مساو له. فإنه يبدو في الأغلب متناقضا. على أنه من المستحيل فيما يرى أفلاطون أن يكون الجزء الواحد من النفس رأيان متناقضان عن الموضوع الواحد. فالملكة التي تحكم وفقا للقياس هي الجزء الأفضل في النفس، وما يحالف القياس لابد أن يكون جزءا أحسن. "ولكننا لم نذكر بعد أقوى انتقاداتنا فأكبر عيوب الشعر قدرته على إيقاع الأذى بالأخيار ذاتهم، وهو أذى لا يفلت منه أحد."[23] فالشعراء مجرد مقلدين ، والتقليد إلا نوع من اللعب واللهو وما الشعراء التراجيديون سواء كتبوا شعرا للملاحم أم مسرحيات ، سوى مقلدين بكل معاني الكلمة. وإذا كان الشاعر على مستوى الفضيلة في المرتبة الثانية من الحقيقة وليست الثالثة، أي أنه مقلد هنا وليس مقلد المقلد. فهل يستطيع أن يخبرنا بدولة صلح حكمها بفضله؟ يقول:" لنسأل أي عمل جليل قام به هوميروس شاعر المأساة وقائدها، هل منح الصحة للجنس البشري وترك وراءه مدرسة طب كأسكليبوس؟ أو هل وضع أي قانون يخدم الحرب، الاستراتيجية، وإدارة الدولة كليغاريس؟ أوهل كان مشرعا كصولون؟ أوهل أدخل تحسينات على الفنون كطاليس وغيره؟ وهل كان مرشدا معلما وله طريقة علم خاصة كفيتاغورس؟ باختصار إنه لا يعرف شيئا عن الوجود الحقيقي، إنه مقلد"[24] ومنه وجوب طرد هذا الفن الضارمن المدينة  الفاضلة، فهو أمر يحتمه العقل، لأنه بين الشعر والفلسفة معركة قديمة العهد.

   نيتشه الفيلسوف الشاعر:

ولنا أن نتساءل هل هو شاعر أم طبيب، ولعله مارس نوعا من الطب الشعري. يروم علاج الأمراض الثقافية في الحضارة الغربية الحديثة. ولما لا العلاج بالصدمات، إذا تطلب الأمر ذلك، وهو صاحب السوط والمطرقة. لا بالقوة العمياء والهوجاء، إنما كنحات مبدع، أو كطبيب يعلن أفول الأصنام، عن طريق تأويل الصوت وتشخيص المرض. "هذا هو السبيل الذي أصبو إلى تدشينه حيث المهمة الأساسية للفيلسوف الطبيب le philosophe – médecin، الشروع في تشخيص مشكل الصحة العامة عند شعب ما، أوحقبة ما، أوعرق ما، يخص الإنسانية"[25]  أفضت مخرجات هذا التشخيص العلاجي ، إلى قلب الأفلاطونية رأسا على عقب. فالعالم المحسوس هو العالم الحقيقي، ولاوجود لعالم عداه. وبالتالي هدم البنية الأنطوثيولوجية التي دشنت بدايتها الفلسفة الأفلاطونية في الفكر الغربي. تقول لويزا يوسفي:" نصوصه غامضة ومكثفة، ومتناقضة أحيانا، تتميز بكونها تجربة تعبيرية فريدة، تضمر قراءة تأويلية بقالب مجازي في إطار شعري غنائي"[26]  فلما كان نيتشه ينبذ فكرة وجود عالم حقيقي خفي ، فإنه يترتب على ذلك التخلص من كل التعابير الميتافزيقية[27] ذات الحمولة اللاهوتية: الجوهر، الماهية، الشيء في ذاته...إلخ. بل إن الحقيقة نفسها مجرد أوهام وتعبيرات مجازية وكنايات واستعارات، أبدعها، رغبة في المعنى تحت تأثير إرادة الحياة. فلم يجد فيلسوفا بدا من توظيف الصيغ والأساليب نفسها، حيث ينتصب الشعر كواحد منها، إن لم يكن أهمها.  يصرح نيتشه بنفس شعري قائلا:

"هل أنت عاشق الحقيقة؟ يسألون بسخرية.

بالطبع لا. لست سوى شاعر،

حيوان ماكر خاتل مخادع

محكوم عليه بالكذب"[28]

بالنسبة لأفلاطون لا مجال وليس هناك علاقة بين الفكر والشعر. لكن نيتشه في هذا المقطع من ديوانه الشعري، فإنه يتخذ موقفا فكريا إزاء الحقيقة، حيث يسخر من كل من يشحذ الحقيقة في هذا العالم. وليس من الشاعر فحسب. هذا الأخير الذي يصرح بأن الحقيقة مجرد وهم زائف. فالعالم سطح بدون عمق، وكأنه لوحة بيضاء فارغة، كل ما نخطه عليها، هو تأويل. وتلوين من منظور معين، تحركه إرادة القوة.

نجد لدى نيتشه حنين إلى العهد اليوناني، يتحسر على احتلال إله واحد تعيس وحزين مكان آلهة الإغريق. إله يمعن في كبح الرغبة في الحياة، لصالح المثل الزهدي. يتعارض ديونزوس في تاريخ الفن كرمز للغرائز الأولية والأهواء، مع أبولون الذي ينشد الوحدة والانسجام والنظام.

" نيتشه يرى أن هذا التعارض يعبر عن جوهر هذا العالم"[29]  وهذا يحيل إلى مبدأ الصيرورة كما عبر عنه هيراقليطس، من خلال رمزية : النهر- النار- جريان الماء أو السيلان الدائم. رفضا للعدمية سيعلن نيتشه موت الإله، متمردا على قيم العالم الخفي الماورائي السائدة. أفضت إلى إلغاء الحياة. يحيلنا صاحب كتاب نيتشه وسياسة الفلسفة إلى هذا المقطع، حيث يتحدث نيتشه بلسان زرادشت قائلا: " أتوسل إليكم يا إخوتي ان تبقوا أوفياء للأرض، وألا تصدقوا من يحدثونكم عن آمال تتجاوزها! إنهم يدسون لكم السم ، علموا بذلك أو لم يعلموا"[30]

وبالتالي، رفض العالم فوق المحسوس لصالح العالم المحسوس الذي أعلن رسميا أنه وحده العالم الحقيقي. لا يتوقف نيتشه عند حدود الشعر بل يوظف الشذرة، ويستخدم الحكاية. يحيلنا[31] جيل دولوز على الكتاب الأول من مؤلف "هكذا تحدث زرادشت" يسرد فيه نيتشه ثلاثة تحولات أو تمظهرات métamorphoses  تتشكل تواليا: كيف أن الروح l’esprit تغدو جملا، وكيف أن الجمل يتحول على أسد، وكيف أن الأسد في نهاية المطاف يصير طفلا. فالجمل حسب دولوزيرمزإلى تجشم عبء القيم السائدة وضغط نظام الاخلاق والتربية والثقافة. ثم يتحول إلى أسد حين يتمرد على السائد المتداول. وهوما يسمح للأسد بأن يصير طفلا. بمعنى بداية نهار جديد وإبداع قيم ومعايير جديدة. وبالتالي تعضد هذه الحكاية، ماقلناه آنفا حول المشروع النيتشوي، الذي يروم قلب القيم الأفلاطونية، والذي رصد له كل طاقاته الإبداعية والأسلوبية والجمالية. ذلك باعتباره فيلسوفا وفنانا وطبيا. وهنا تأتي الوظيفة النقدية والتفويضية للشذرة والحكاية والقصيدة الشعرية، حيث يستطيع الفن الإفصاح عن صيرورة العالم وتناقضاته، أفضل من القول القضوي الذي ينشد الهوية والوحدة والتطابق. كما هو الحال في الفلسفات الكلاسيكية، فالنسقية لن تستوعب هكذا تصريح: لقد مات الإله!

يرى دولوز أن نيتشه أدخل نوعين تعبيرين للمجال الفلسفي، وقصد أسلوبي[32]: الشذرةl’aphorisme  ، والقصيدة le poème ، وهوما أفضى إلى صياغة تصور جديد حول الفلسفة، وصورة جديدة للفكر. طلبا للمعرفة والحقيقة، حسب دولوز، لجأ نيتشه إلى التأويل ثم التقويم. تأويل العالم، ثم تقويمه ـ نقد القيم السائدة بل وتقويضها ـ فالأول ينصب على الاختلاف والتنوع الذي يطال الظواهر، علما أنه لا يلغي وحدتها.  الثاني يخص نقد للقيم السائدة المؤسسة للمعنى. فتكون القصيدة الشعرية [33]دفعة واحدة، هي فن التقويم، وما هو مقوّم. والمُؤول في الآن ذاته طبيب أو فيزيولوجي، ينظر إلى الظواهر باعتبارها أعراض مرضية. يخبر بها على شكل شذرات. فالمقوّم l’évaluateur  هو الفنان، الذي يبدع وجهة نظر تتخذ شكل مشهد perspective  يعبرعنه بواسطة القصيدة الشعرية، باعتبارها الوسيلة التعبيرية الفضلى، للإفصاح عن الفكر وممارسة النقد. وبالتالي هنالك مغزى فلسفي أو بالأحرى عبرة ثاوية خلف القصيدة الشعرية.

يورد ألكسندر [34]نيهاماس مواقف متناقضة بصدد جمالية نيتشه وأسلوبه الأدبي في الكتابة، ربما تعبر عن تردده هو نفسه حول ما إذا كان هذا المنجز النصي النيتشوي؛ يصنف في خانة الفلسفة أم خارجها. فهذا ستيفان جورج Stefan George  أن هذه الأعمال ذات الانتشار الواسع، كان يجب أن تغني لا أن تتكلم، وأنها قد أحدثت أضرار في حقل الشعر كما في حقل الفلسفة.[35] لكن بالنسبة إلى س. إليوت T S  Eliot  فإنه يرى[36] أن الصفة الأدبية تؤثر على الصرامة النقدية الملازمة لكل عمل فلسفي وميتافزيقي، كما الأدب أيضا. فالخلط بين الادب والفلسفة يضر بالإثنين معا. رغم أنه يلقى رواجا هائلا عند الجمهور النصف فلسفي الواسع. وتصر كوفمان Sarah Kofman على أن مجاز نيتشه يحفل بالفكر والحكمة والمعنى. وهو أسلوب أرستقراطي، لا يصلح لإنسان القطيع.[37] لكن نيهاماس يطرح الفرضية الأكثر إثارة في  قراءته لأعمال نيتشه ومحاولته تأويلها،بحيت تضعنا أعمال نتشه حيال مفارقة. فإذا كان نيتشه يقول بالمنظورية وبحسبها كل فكرة هي تأويل من بين تأويلات أخرى. فهذا قد ينطبق على أفكاره هو نفسه، التي بدورها قد تكون خاطئة. وكأن هذا الموقف ينقض نفسه بالدرجة الأولى.

عموما فقد نسجت الفلسفة والشعر، علاقات متناقضة، تتراوح بين القبول والرفض. لم تمنع من أن ينهل كل واحد منهما من زاد الآخر، ويغرف من فضله الواسع، بل إنهما أغدقا العطاء على بعضهما البعض. لقد أثمر هذا التفاعل تجارب فكرية وثقافية متميزة. نموذج فريديريك نيتشه، الذي كان أن الغريزة وليس العقل هي المحرك الحقيقي لكل فاعلية إنسانية. وذلك بخلاف سلفه أفلاطون الذي يستنكف عن الغريزة والحواس. أحجم نيتشه عن القول الفلسفي بما هو لوغوس، فألفى في الشعر مقصده للتعبير والإفصاح عن تجربته الفكرية ورؤيته الجمالية للحياة والوجود بصفة عامة. لكن ما يميز نيتشه عن سائر الشعراء والأدباء بصفة عامة، هو انتسابه للتاريخ الفلسفة، من خلال ابتكار أسلوب السخرية وتوسل الحكاية والشعر ومختلف الصيغ الأدبية والأساليب، في التناظر مع الفلاسفة، والرد عليهم ومحاولته هدم آرائهم. وبالتالي فضح عدميتهم وإنكارهم للقيم الحقيقية في الحياة. معلنا نهاية الأفلاطونية. فقد نسج وصاله مع تاريخ الفلسفة بأدوات فنية وجمالية خاصة. يكاد نيتشه يستأثر بهذا اللقب: الفيلسوف الفنان. فالفلسفة عنده نوعا من الفن. بل إن الحياة نفسها لا يمكن تقبلها إلا باعتبارها تجربة فنية.           

ـ لائحة المراجع والمصادر:

أفلاطون، المحاورات الكاملة، ترجمة شوقي داوود تمراز، المجلد الثالث، الاهلية للنشر والتوزيع بيروت 1994.

جمهورية أفلاطون، ترجمة فؤاد زكرياء، دار الوفاء دنيا للطباعة والنشر2004.

ألكسندر نيهاماس، الحياة كنص أدبي، ترجمة محمد هشام. إفريقيا النشر2006.

محمد أندلسي، نيتشه وسياسة الفلسفة. دار توبقال للنشر. الطبعة الأولى 2006.

كريستيان دوميه، جنوح الفلاسفة الشعري، ترجمة ريتا خاطر، مركز الدراسات العربية الطبعة الأولى2013.

الدكتور يوسف تيبس التصورات العلمية للعالم. ابن النديم للنشر والتوزيع، دار الروافد الثقافية ـ ناشرون. الطبعة الأولى2014.

عبد الغفار المكاوي، شعر وفكر، الناشر مؤسسة هنداوي 2017.

Nietzsche : le gai savoir. Patrick wotling. Flammarion2008.

Gille Deleuze : Nietzsche, PUF 1 édition 1965.

Louisa Yousfi. Sciences humains/ les 100 penseurs des sciences humains. Hors- Série. Avril/ mai 2018.

 

    [1] أمثولة زرادشت الفارسية.                                                                                                                                

[2] Nietzsche le gai savoir. Patrick wotling. Flammarion2008 .-من الصفحة 1حتى ص43هي عبارة عن مقاطع شعرية بعده خمسة كتب تتخللها مقاطع شعرية وشذرات.                                                                                                                      

 

   [3] الدكتور يوسف تيبس التصورات العلمية للعالم. الطبعة الأولى. ص 75.

4 محمد أندلسي، نيتشه وسياسة الفلسفة. دار توبقال للنشر. الطبعة الأولى 2006ص 41

[5] PAUL Valéry écrivain, et poète et philosophe français 1871/1945 :

 [6]عبد الغفار المكاوي، شعر وفكر 2017، الناشر مؤسسة هنداوي ص1.

[7] André Breton. Poète et écrivain français1896/1966.

  [8] نفس المرجع نفس ص

 [9] نفس المرجع ص34.

 [10] نفس المرجع نفس ص.                                                                                                                               

11 شوقي داوود تمراز، المجلد الثالث، الاهلية للنشر والتوزيع بيروت 1994. أفلاطون، المحاورات الكاملة ص29                                        

 

 [12] نفس المصدر ص 30.  

 13جمهورية أفلاطون، فؤاد زكرياء، دار الوفاء دنيا للطباعة وال نشر2004ص  236                                                                 

  [14] نفس المصدر ص 237 

 [15] نفس المصدر ص238 .

 [16] ص340.                 

 [17] نفس المصدر الكتاب الثالث ص 240

 [18] نفس المصدر ص 253.

 [19] نفس المصدر ص 257.

 [20] نفس المصدر ص265.  

 [21] نفس المصدر ص 508.

 [22] نفس المصدر ص 514.

 [23] نفس المصدر ص 517.

 [24] نفس المصدر ص 442.

[25] Louisa Yousfi. Sciences humains/ les 100 penseurs des sciences humains. Hors- Série. Avril/ mai 2018. P 26.

[26] "ses textes, obscurs, ambigus, parfois contradictoire, se dérobent à une expérience interprétative et métaphorique, à la limite de la poésie et du chant."  P26.

 [27] محمد أندلسي نيتشه وسياسة الفلسفة ص14. 

كريستيان دوميه، جنوح الفلاسفة الشعري، ترجمة ريتا خاطر، مركز الدراسات العربية الطبعة الأولى2013الصفحة54 . [28].

[29] Louisa Yousfi "NIETZSCHE voit alors dans cette opposition l’essence même de l’être "p 27.  

[30] ص19.

[31] Gille Deleuze : Nietzsche, PUF 1 édition 1965. P 6.

[32] P 18.

[33] "le poème à la fois l’art d’évaluer et la chose à interpréter" P 17 .

34   ألكسندر نيهاماس، الحياة كنص أدبي، ترجمة محمد هشام. إفريقيا الشرق  2006.                                                                 

 [35] نفس المصدر ص 19.

 [36] نفس المصدر ص 20.

 [37] ص21.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟