الحرية هي صيغه متكاملة ومتفاعلة في حياة الإنسان تنبثق من فاعليته الفكرية والسلوكية وترتفع خارج إطار الفردية و السكونية ,تدفع الواقع نحو الاتساع والتنوع في اختيار المواقف والتعامل معها بفاعليه وبشكل يحقق انتفاع الجميع من اختيارها كواقع يحض على تفعيل الإبداع والسلوك بعيدا عن الأنانية وجميع أشكال الصدام المبنية على تحقيق النفعية ضمن واقع مختلط بجميع الأمزجة والأهواء الفردية المتنوعة وتعزيز القيم المتساوية البعيدة عن الامتياز ضمن الواقع المعاش .
الحرية واقع يتسم بحرية الفكر والقول والفعل بدون غائية ولا تبعية وبعيدة عن التسلط والفوقية ,إنها تنتمي إلى واقع التبادل والتكافؤ في جميع المواقف السلوكية والفكرية ذات طبيعة سلمية وغير تابعة للقيم الفوقية والدونية وغير مؤطرة أو مرتهنة, لتكون قادرة على إحداث الحراك الاجتماعي والثقافي بأعلى قدر من الجدية والموضوعية. وفي واقع الكبت يمكن تصنيف الحرية ضمن قضايا مطلبيه نابعة من حاجات ضرورية لتحقيق التقدم الاجتماعي والحضاري مثل حرية التفكير والتعبير وحرية إقامة النوادي والجمعيات والأحزاب .... إلخ
وبقدر امتلاك كلمة الحرية من فضاءات واسعة يمكن استخدامها كصيغة واقعية لتبرير التصرف والاتجاه في المواقف المختلفة لحركة المجتمع وبنيته المؤسساتية ومجمل بنيته التحتية والفوقية, التي يمكن اعتبارها مصاغة على أساس الحرية, ولمعرفة منشأ الحرية علينا دراسة الذاكرة السلفية وتتبع صيغتها المفاهيمية فالحرية هي الحرية منذ الأزل إلى ما لانهاية لكن مدلول استخدامها تبدل ويمكن أن نؤشر على ذلك تاريخياً .
في المجتمعات البدائية كانت حرية جمع الثمار والصيد وحرية التنقل والجنس والإنجاب وغيرها من المواقف التي تتكيف المجتمعات وفق حاجاتها وتأمين بقائها .
فالحرية لم تكن محدودة الأبعاد لأنها ناتجة عن الضرورة وبالتالي كانت الأفعال الناتجة عنها نشطة لأنها تعبر عن الحاجة والبقاء .
ويمكن أن يوجه إلينا النقد لأننا نستخدم مفاهيم على مجتمعات لم تكن تعي ذاتها ولم تكن تعي أفعالها وتصرفاتها , لكننا غير قادرين على دراستها وفق حالتها فلسنا أفراداً منها وبيننا وبينها مسافات هائلة من الوعي لكن عندما نسقط إدراكنا على سلوكها إنما نسقطه كمقياس على هذا السلوك وفق طبيعة عصرنا الراهن ومفاهيمه, وبعد تغيير البنية الاجتماعية للمجتمع وانتقاله إلى عصر السيادة والعبودية تغيرت بنية الحرية وأُسسها وأساليب استخدامها وأصبحت من خصائص مجتمع السادة .
لقد تمايزت نوعياً كما تمايز المجتمع نوعياً وتفاعلت مع عناصره الفوقية , فجميع الأفكار والأفعال وقواعد السلوك والأخلاق من خصائص السادة أصحاب القرار , تمتعوا بحرية مطلقة مع الوجود ومع العبيد فلا حدود لأفعالهم وأفكارهم وتصرفاتهم وغرائزهم , عاشوا خارج الضوابط بل أصبحت أفعالهم حقوق خاصة بهم وكل ما يحمله الوجود من خصائص وسمات وإنتاج وكل مظاهر العطاء المادي والمعنوي والفكري موجّه لخدمتهم وبقائهم وكل ما يمكن أن يكون هو كائن في وجودهم , والحرية في مضامينها الكلية ليست إلا حياتهم بالذات.
ولم يأخذ وجودهم معناه من الحرية بل الحرية أخذت معناها من وجودهم ومن البنية العلاقاتية القائمة بينهم , فالحرية والتسامي والعطاء والبناء وكل ما ينتمي إلى القدرة هي هبات السيادة إلى هذا العالم , أما الخمول والهمجية والعبودية والبهيمية هو كل ما يعيش خارج واقع السيادة .
وما انبعاث الشرائع وظهورها في عالم البشر سوى صرخة الرفض الموجهة لتقنين حرية السيادة وتماديها في الانحراف عن نواميس الوجود الإنساني, فهي الرد الأكثر عقلانية لتنظيم العلاقات بين البشر وتفاعلهم مع الوجود , فكانت الضوابط الموضوعة غايتها التقليل من أهواء الانحراف الإنساني في أفعاله وأفكاره واتخذت صيغ التحديد والترغيب والترهيب صورة الكوابح الفعلية لهذا الوجود. فلم يكن في الإمكان ضبط الظواهر العامة للانحراف والسيطرة على الأفعال والأفكار الصادرة عن السادة عن طريق المواجهة المباشرة نظراً لقوة وفعالية السيادة وقدرة تحكمها بالواقع الاجتماعي والاقتصادي ,فالتجأت إلى المواجهة غير المباشرة بإدخال طاقة التعذيب الهائلة وطاقة السعادة الهائلة إلى الوجود وأصبحت قدرة التحذير والمكافئة تحدد واقع الردع الموجه لوجود الإنسان وتحديد منظومة من التعاليم لتنظيم واقع البشر وتحديد علاقاتهم وأسلوب تعاملهم مع الكون واتخذت جميع الأوامر صفة التوجيه من فوق لتعطي صيغة الانبعاث بعد الموت صفة الاستمرار وإظهار جميع الأفكار والأفعال وجميع الكوامن الداخلية في النفس الإنسانية مكشوفة أمام المكاشفة العلنية يوم الحساب .
عندها يمكن تقويم الحياة الإنسانية من داخلها دون الحاجة إلى الصدام , وعلى الرغم من طبيعة الشرائع السلمية فقد واجهت مواقف صدامية مع السيادة لما تمليه عليهم من قواعد تعاملية تقلص واقع حرياتهم في الحياة, ولأنها توجهت بتعاليمها إلى العمومية البشرية وتهافت المحرومين على تقبلها كعقائد روحية وسلوكية لرفع واقع الارتهان والتبعية وحالات الإذلال المختلفة والانخراط في الفاعلية الاجتماعية المحظورة عليهم والتعويض عن واقع الشقاء باعتناقها لمفاهيم الشرائع الروحية والإسهام في عملية التواصل الإنساني.
فقد واجهت اليهودية مقاومة عنيفة من الأسياد وأصبحت فيما بعد ديناً للأسياد مما قلل من أهميتها التحريرية لمجتمع المحرومين , فظهرت المسيحية كرد مباشر على طغيان السيادة اليهودية واجتاحت بتعاليمها الثورية والإنسانية جحافل البؤساء والمحرومين وكانت قدرتها في التأثير على جانب كبير من الأهمية وقوبلت بحرب خفية وعلنية من السيادة اليهودية لأن خصائصها التبشيرية أربكت عالم السيادة لعرضها صيغة الحب والتسمح والسلام على واقع العمومية الاجتماعية ووجهت تعاليمها إلى جميع البشر بدون تمييز مما غير السلوك العام لواقع السيادة لتظهر وفق المضامين اللاهوتية في واقع انقلاب التاريخ من الصيغة الحرة إلى الصيغة المرتبطة بمفاهيم الدين , وانتقل الواقع من حرية الأسياد إلى حرية رجال اللاهوت, وانتقلت المجتمعات إلى حالة التبعية الروحية المحددة والموجهة من قبل رجال الكهنوت وأصبحت جميع الأفكار في طبيعتها إيمانية وأصبح الوجود الإنساني مكرساً لتحقيق السعادة الأبدية في واقع الحياة والموت وهذا ما أعطى الدين قدرة التأثير والاستمرار لأن الغاية هي إعداد الإنسان للانتقال إلى عالم السماء عالم الحرية المطلق.
أما المجتمعات القبلية المرتبطة بواقع التنقل الدائم والمعرفة الشفهية عاشت الحرية بنوعية متباينة ومختلفة عن المجتمعات الحضرية انطباقاً مع مواقعها المرتبطة بالطبيعة واعتمادها على الرعي في تحصيا قوتها , فالحرية القبلية نابعة من السيادة العامة للقبيلة بكاملها فلم تكن مقيدة بأنظمة معرفية ولا بأنظمة اقتصادية , فحرية التنقل بحثاً عن الكلأ هي الواقعة الأكثر انتشاراً بين القبائل يتوافق معها حريّة الحروب والغزو والسطو وغيرها من الأفعال المؤدية لتحقيق مكانتها وسيادتها وجاء الإسلام لإنهاء حالتها وتقويض نفوذها واحتوائها ضمن مركزية واحدة موجهة بمبادئ الدين الجديد, وبعد و بعد مقاومة وتحالف مع الفعاليات التجارية المدنية للحد من انتشار الديانة ونفوذها في الواقع , غير أن انتصار الدين كان محتوماً نظراً لعدائه المباشر ضد حريّة السيادة وحرية العنف والحروب بالرغم من استخدام أنصاره أشد الوسائل عنفاً لتحقيق النصر وسيادة الإسلام .
لقد ساد الإسلام بعد معاهدات بالغة التعقيد وفي ظروف كانت مواتية لذلك , واتخذ الإسلام موقعه الجديد في توجيه المسلمين وفق المبادئ المنزلة بمضامين نوعية من العبادة والعلاقة بين الإنسان والله .
الأولى : تمثل النزوع نحو معرفة الماهية , إنها المعرفة العقلانية المعبرة عن ضمير المسلم واتحاده مع الإيمان بعلاقة روحية تخص وجدان المسلم ذاته .
الثانية: تطبيق العبادة وطرقها على واقع الحياة الإسلامية ( كالصلاة والصوم والحج وغيرها ) هذا ما أعطى الإسلام واقعاً عملياً على غاية من التعقيد ضارباً واقع السيادة بقوة لم تكن متوفرة من قبل , ولا يمكن للحريّة أن تعبر عن وجودها إلا من خلاله فكانت تعاليمه ومفاهيمه هي واقع الحريّة المفروض وليس للسيادة الشخصية أي دور أمام تعاليم الإسلام , ويمكن الإشارة إلى ذلك عملياً عندما تخلّى ( علي ) عن الخلافة لغيره لأن الغاية كانت تطبيق مفاهيم الدين ونشر تعاليمه في أرجاء المعمورة بدون الإحساس بواقع السيادة الشخصية خارج تعاليم الدين الجديد.
فكانت حرية الإنسان في دينه لا في مكانته الاجتماعية غير أن الواقع تبدل على وجه السرعة بعد أن أتضح بأن الفكر الديني لا يمكن المحافظة على فاعليته وقوة انتشاره إلا من خلال قيادات متمرسة وفذة في قدرتها العقلية والسلوكية , فتوضحت صورة القيادة الدينية أكثر فأكثر وأصبحت هي الملاذ الأول لأتباع الدين الجديد,و اتخذت السيدة الدينية فعاليتها من جديد وتنامت الخلافات على القيادة الدينية واتخذت صوراً حربية داخل أتباع الدين الواحد فتشقق الإسلام والمسلمون واتجهوا نحو قياداتهم الفكرية والسياسية وعادت ظاهرة السيادة الدينية إلى الوجود من جديد لتعلن تفوقها على الجميع ومارست حريّة التوجيه بفاعلية نوعية وعلى قدر كبير من الأهمية , فقد تلاحم الارتباط بين قوة التفكير والتوجيه وقوة الشخصية القيادية وغدت السيادة الدينية واقعاً منفصلاً عن واقع المسلمين واتسم سلوك القيادة الدينية بحرية منعزلة في واقع مفصول عن حياة الناس وعلاقاتهم ومفاهيمهم وعملت على تنظيم واقع المسلمين في الأقاليم عن طريق تعيين الولاة التابعين بصورة مباشرة للسلطة المركزية .
فقد تميز العصر الأموي والعباسي والعثماني بخصوصية القيادة الفوقية وتمركزها الذاتي وانفصالها عن الواقع , تمارس حرية داخلية غير معلنة ومعزولة عن المشاهدة تعرض من خلالها قوة التأثير على الواقع الاجتماعي والاقتصادي , وتغيرت سمة الحكم البنيوية من حكم المسلمين بقوة العقل وامتلاك مفاهيم الدين إلى حكم المسلمين بقوة الجاه وامتلاك قوة الجند واتخذت مفاهيم الحرية واقعاً جديداً للتعبير عن مضامينها الجوهرية كتعبير مغاير في وجوده لماهية السلطة وتوجهاتها , ومع تغير البنية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وتطورها المتلاحق ازدادت الأهمية لتشكيل بنية هرمية لتواجه الواقع الاجتماعي وإمكانية السيطرة عليه وقيادته وغدارة بنيته التحتية فتعددت المؤسسات وتنوعت لتدخل في نظام بناء الدولة وغدا من العسير على السلطة الإحاطة بكل مجريات الأمور فتمحور الفكر الديني حول قياداته ضمن الدولة وغدا الدين والدولة كلٌ يؤازر الآخر ويدعم نفوذه ويعطيه القدرة على التواصل والبقاء,وما يتصل بهما من وقائع وقضايا ومفاهيم وأحداث وغير ذلك فيما يتعلق بحياة الإنسان.
وغدا الإنتاج الفكري يعبر في ماهيته عن حرية الحياة خارج نظام التبعية , فقد تغيرت بنية المعرفة عن الحرية فقد اتخذ مفهوم الحرية أسلوباً لتراكم الثروة الفردية وتقوية القدرة الاقتصادية للأفراد خلق واقعاً متميزاً ومتمايزاً في ذاته وخلق منظومة من حياة خارج إطار المشاركة الاجتماعية للمجتمع وواقعاً فوقياً بعيداً عن الرقابة الدينية والفكرية والسياسية بل أصبح قادرا على توجيه الحياة الدينية و الفكرية وفق غاياته في تجهيل الواقع و تجاهله و تهميش دوره في الحياة الثقافية و الحضارية و اتخذ من عصا الدين كقوة ردع انتقائية بحق المعبرين عن أهمية تغيير الواقع بحرية و إبقاء الفكر ضمن نظام التبعية في إدراكه لمجمل المعطيات المعاصرة و عدم البحث في المسائل المورثة عن الذاكرة التاريخية و المعبرة عن نفسها بسلوك متميز لظاهرة تاريخية سواء أكانت نابعة من أصول دينية أو لا دينية ,و المتابعة الجدية في حصار الوعي الحر القادر على تحديد نقاط الضعف و التخلف و طرق إزالتها و طاقة هذا الوعي لاتباع وسائل فنية و إبداعية لرفع مستوى الوعي الشعبي و إقحامه في معادلة الحياة العصرية.
إن فهم الحرية ضمن واقع الخصوصية المغلق أبطل المفعول الموجه لإحيائها ,فقد تميز الواقع العربي بحرية جمع المال و تكديسه و خلق نوعيات متمايزة اقتصادياً و اجتماعياً و سياسياً أوصلها الواقع إلى حالة الرخاء المطلق فتنبت نظاماً مغلقاً في حياتها تمارس فيه حريتها بعيداً عن الرقابة الفكرية و الاجتماعية و تغير ألوانها وفق الحالة التي تعيشها و الظهور بمظهر الملتزم و الحريص على قوانين و قواعد الشرائع الكونية و الحرص على مبادئها و رعاية هذه المبادئ و نشرها و الحفاظ على أمنها من الانتهاك الفكري و الروحي.
و اتخذت منهجاً فعالاً في تحقيق ذلك تمثل بحرية القوة المرتكزة على التسلح و شراء السلاح لخلق واقع ضاغط و فعال ضد المجتمع لفرض واقع القبول بكل ما هو قائم و بدون اعتراض .
"ألا يعني هذا بأن الوجود العربي هو الناتج الوحيد لتاريخ الصراع و الحروب أما تاريخ السلام فلم يظهر بعد على لائحة هذا التاريخ" لأنه لم يعش بعد حالة السلام .
فالحرية في واقعها الفاعل هي نوع هادف غايته الانفلات من ضواغط الصراع و الحروب و خلق مصالحة و مصارحة مع الذات و مع الوجود الاجتماعي و تعزيز قدرة الأفكار للتعبير عن وجودها كسلوك و فتح الواقع الاجتماعي و الثقافي أمام جوهر الحرية القائم على حرية التعبير و اختيار المعرفة و البحث العلمي و بناء شخصية واعية و مدركة لأبعاد الوجود الإنساني, و توجيهها نحو مضامين جوهرية غايتها الارتقاء إلى وجود أكثر نوعية وأكثر علمية ,وخلق صياغة اجتماعية قادرة على تحفيز الفكر و تفعيل قواه بتوصيل حرية الحياة للجميع من خلال التعاون و تأمين تكافؤ العقل و الفكر من أدنى مستوياته إلى أعلى مستوياته و القدرة على إنهاء و تقويض أسس التحكم و الفوقية عندها يتحقق واقع الحياة الكريمة القادرة على نشر و تعميم الفائدة و العطاء ,و نبذ كل أنواع الهيمنة و الرعب و الابتعاد عن سياسة التجهيل و تبريد المشاعر و تشويش الأفكار و فسح المجال أمام حرية النقد لترفع مستوى الأفعال إلى الطبيعية و منح فرصة الإظهار لأي إدراك أو عقلية قادرة على كشف الواقع و تفعيل الحياة و تحقيق غايتها في تكوين ثقافة مبنية على احترام الإنسان في جوهره و عمله وسلوكه و هجر عقده و انطلاقه نحو الانفتاحية القادرة على تعميم أعمالها و أفكارها و فنونها و آدابها من خلال بعدها و غايتها الإنسانية .
ولم يأخذ وجودهم معناه من الحرية بل الحرية أخذت معناها من وجودهم ومن البنية العلاقاتية القائمة بينهم , فالحرية والتسامي والعطاء والبناء وكل ما ينتمي إلى القدرة هي هبات السيادة إلى هذا العالم , أما الخمول والهمجية والعبودية والبهيمية هو كل ما يعيش خارج واقع السيادة .
وما انبعاث الشرائع وظهورها في عالم البشر سوى صرخة الرفض الموجهة لتقنين حرية السيادة وتماديها في الانحراف عن نواميس الوجود الإنساني, فهي الرد الأكثر عقلانية لتنظيم العلاقات بين البشر وتفاعلهم مع الوجود , فكانت الضوابط الموضوعة غايتها التقليل من أهواء الانحراف الإنساني في أفعاله وأفكاره واتخذت صيغ التحديد والترغيب والترهيب صورة الكوابح الفعلية لهذا الوجود. فلم يكن في الإمكان ضبط الظواهر العامة للانحراف والسيطرة على الأفعال والأفكار الصادرة عن السادة عن طريق المواجهة المباشرة نظراً لقوة وفعالية السيادة وقدرة تحكمها بالواقع الاجتماعي والاقتصادي ,فالتجأت إلى المواجهة غير المباشرة بإدخال طاقة التعذيب الهائلة وطاقة السعادة الهائلة إلى الوجود وأصبحت قدرة التحذير والمكافئة تحدد واقع الردع الموجه لوجود الإنسان وتحديد منظومة من التعاليم لتنظيم واقع البشر وتحديد علاقاتهم وأسلوب تعاملهم مع الكون واتخذت جميع الأوامر صفة التوجيه من فوق لتعطي صيغة الانبعاث بعد الموت صفة الاستمرار وإظهار جميع الأفكار والأفعال وجميع الكوامن الداخلية في النفس الإنسانية مكشوفة أمام المكاشفة العلنية يوم الحساب .
عندها يمكن تقويم الحياة الإنسانية من داخلها دون الحاجة إلى الصدام , وعلى الرغم من طبيعة الشرائع السلمية فقد واجهت مواقف صدامية مع السيادة لما تمليه عليهم من قواعد تعاملية تقلص واقع حرياتهم في الحياة, ولأنها توجهت بتعاليمها إلى العمومية البشرية وتهافت المحرومين على تقبلها كعقائد روحية وسلوكية لرفع واقع الارتهان والتبعية وحالات الإذلال المختلفة والانخراط في الفاعلية الاجتماعية المحظورة عليهم والتعويض عن واقع الشقاء باعتناقها لمفاهيم الشرائع الروحية والإسهام في عملية التواصل الإنساني.
فقد واجهت اليهودية مقاومة عنيفة من الأسياد وأصبحت فيما بعد ديناً للأسياد مما قلل من أهميتها التحريرية لمجتمع المحرومين , فظهرت المسيحية كرد مباشر على طغيان السيادة اليهودية واجتاحت بتعاليمها الثورية والإنسانية جحافل البؤساء والمحرومين وكانت قدرتها في التأثير على جانب كبير من الأهمية وقوبلت بحرب خفية وعلنية من السيادة اليهودية لأن خصائصها التبشيرية أربكت عالم السيادة لعرضها صيغة الحب والتسمح والسلام على واقع العمومية الاجتماعية ووجهت تعاليمها إلى جميع البشر بدون تمييز مما غير السلوك العام لواقع السيادة لتظهر وفق المضامين اللاهوتية في واقع انقلاب التاريخ من الصيغة الحرة إلى الصيغة المرتبطة بمفاهيم الدين , وانتقل الواقع من حرية الأسياد إلى حرية رجال اللاهوت, وانتقلت المجتمعات إلى حالة التبعية الروحية المحددة والموجهة من قبل رجال الكهنوت وأصبحت جميع الأفكار في طبيعتها إيمانية وأصبح الوجود الإنساني مكرساً لتحقيق السعادة الأبدية في واقع الحياة والموت وهذا ما أعطى الدين قدرة التأثير والاستمرار لأن الغاية هي إعداد الإنسان للانتقال إلى عالم السماء عالم الحرية المطلق.
أما المجتمعات القبلية المرتبطة بواقع التنقل الدائم والمعرفة الشفهية عاشت الحرية بنوعية متباينة ومختلفة عن المجتمعات الحضرية انطباقاً مع مواقعها المرتبطة بالطبيعة واعتمادها على الرعي في تحصيا قوتها , فالحرية القبلية نابعة من السيادة العامة للقبيلة بكاملها فلم تكن مقيدة بأنظمة معرفية ولا بأنظمة اقتصادية , فحرية التنقل بحثاً عن الكلأ هي الواقعة الأكثر انتشاراً بين القبائل يتوافق معها حريّة الحروب والغزو والسطو وغيرها من الأفعال المؤدية لتحقيق مكانتها وسيادتها وجاء الإسلام لإنهاء حالتها وتقويض نفوذها واحتوائها ضمن مركزية واحدة موجهة بمبادئ الدين الجديد, وبعد و بعد مقاومة وتحالف مع الفعاليات التجارية المدنية للحد من انتشار الديانة ونفوذها في الواقع , غير أن انتصار الدين كان محتوماً نظراً لعدائه المباشر ضد حريّة السيادة وحرية العنف والحروب بالرغم من استخدام أنصاره أشد الوسائل عنفاً لتحقيق النصر وسيادة الإسلام .
لقد ساد الإسلام بعد معاهدات بالغة التعقيد وفي ظروف كانت مواتية لذلك , واتخذ الإسلام موقعه الجديد في توجيه المسلمين وفق المبادئ المنزلة بمضامين نوعية من العبادة والعلاقة بين الإنسان والله .
الأولى : تمثل النزوع نحو معرفة الماهية , إنها المعرفة العقلانية المعبرة عن ضمير المسلم واتحاده مع الإيمان بعلاقة روحية تخص وجدان المسلم ذاته .
الثانية: تطبيق العبادة وطرقها على واقع الحياة الإسلامية ( كالصلاة والصوم والحج وغيرها ) هذا ما أعطى الإسلام واقعاً عملياً على غاية من التعقيد ضارباً واقع السيادة بقوة لم تكن متوفرة من قبل , ولا يمكن للحريّة أن تعبر عن وجودها إلا من خلاله فكانت تعاليمه ومفاهيمه هي واقع الحريّة المفروض وليس للسيادة الشخصية أي دور أمام تعاليم الإسلام , ويمكن الإشارة إلى ذلك عملياً عندما تخلّى ( علي ) عن الخلافة لغيره لأن الغاية كانت تطبيق مفاهيم الدين ونشر تعاليمه في أرجاء المعمورة بدون الإحساس بواقع السيادة الشخصية خارج تعاليم الدين الجديد.
فكانت حرية الإنسان في دينه لا في مكانته الاجتماعية غير أن الواقع تبدل على وجه السرعة بعد أن أتضح بأن الفكر الديني لا يمكن المحافظة على فاعليته وقوة انتشاره إلا من خلال قيادات متمرسة وفذة في قدرتها العقلية والسلوكية , فتوضحت صورة القيادة الدينية أكثر فأكثر وأصبحت هي الملاذ الأول لأتباع الدين الجديد,و اتخذت السيدة الدينية فعاليتها من جديد وتنامت الخلافات على القيادة الدينية واتخذت صوراً حربية داخل أتباع الدين الواحد فتشقق الإسلام والمسلمون واتجهوا نحو قياداتهم الفكرية والسياسية وعادت ظاهرة السيادة الدينية إلى الوجود من جديد لتعلن تفوقها على الجميع ومارست حريّة التوجيه بفاعلية نوعية وعلى قدر كبير من الأهمية , فقد تلاحم الارتباط بين قوة التفكير والتوجيه وقوة الشخصية القيادية وغدت السيادة الدينية واقعاً منفصلاً عن واقع المسلمين واتسم سلوك القيادة الدينية بحرية منعزلة في واقع مفصول عن حياة الناس وعلاقاتهم ومفاهيمهم وعملت على تنظيم واقع المسلمين في الأقاليم عن طريق تعيين الولاة التابعين بصورة مباشرة للسلطة المركزية .
فقد تميز العصر الأموي والعباسي والعثماني بخصوصية القيادة الفوقية وتمركزها الذاتي وانفصالها عن الواقع , تمارس حرية داخلية غير معلنة ومعزولة عن المشاهدة تعرض من خلالها قوة التأثير على الواقع الاجتماعي والاقتصادي , وتغيرت سمة الحكم البنيوية من حكم المسلمين بقوة العقل وامتلاك مفاهيم الدين إلى حكم المسلمين بقوة الجاه وامتلاك قوة الجند واتخذت مفاهيم الحرية واقعاً جديداً للتعبير عن مضامينها الجوهرية كتعبير مغاير في وجوده لماهية السلطة وتوجهاتها , ومع تغير البنية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وتطورها المتلاحق ازدادت الأهمية لتشكيل بنية هرمية لتواجه الواقع الاجتماعي وإمكانية السيطرة عليه وقيادته وغدارة بنيته التحتية فتعددت المؤسسات وتنوعت لتدخل في نظام بناء الدولة وغدا من العسير على السلطة الإحاطة بكل مجريات الأمور فتمحور الفكر الديني حول قياداته ضمن الدولة وغدا الدين والدولة كلٌ يؤازر الآخر ويدعم نفوذه ويعطيه القدرة على التواصل والبقاء,وما يتصل بهما من وقائع وقضايا ومفاهيم وأحداث وغير ذلك فيما يتعلق بحياة الإنسان.
وغدا الإنتاج الفكري يعبر في ماهيته عن حرية الحياة خارج نظام التبعية , فقد تغيرت بنية المعرفة عن الحرية فقد اتخذ مفهوم الحرية أسلوباً لتراكم الثروة الفردية وتقوية القدرة الاقتصادية للأفراد خلق واقعاً متميزاً ومتمايزاً في ذاته وخلق منظومة من حياة خارج إطار المشاركة الاجتماعية للمجتمع وواقعاً فوقياً بعيداً عن الرقابة الدينية والفكرية والسياسية بل أصبح قادرا على توجيه الحياة الدينية و الفكرية وفق غاياته في تجهيل الواقع و تجاهله و تهميش دوره في الحياة الثقافية و الحضارية و اتخذ من عصا الدين كقوة ردع انتقائية بحق المعبرين عن أهمية تغيير الواقع بحرية و إبقاء الفكر ضمن نظام التبعية في إدراكه لمجمل المعطيات المعاصرة و عدم البحث في المسائل المورثة عن الذاكرة التاريخية و المعبرة عن نفسها بسلوك متميز لظاهرة تاريخية سواء أكانت نابعة من أصول دينية أو لا دينية ,و المتابعة الجدية في حصار الوعي الحر القادر على تحديد نقاط الضعف و التخلف و طرق إزالتها و طاقة هذا الوعي لاتباع وسائل فنية و إبداعية لرفع مستوى الوعي الشعبي و إقحامه في معادلة الحياة العصرية.
إن فهم الحرية ضمن واقع الخصوصية المغلق أبطل المفعول الموجه لإحيائها ,فقد تميز الواقع العربي بحرية جمع المال و تكديسه و خلق نوعيات متمايزة اقتصادياً و اجتماعياً و سياسياً أوصلها الواقع إلى حالة الرخاء المطلق فتنبت نظاماً مغلقاً في حياتها تمارس فيه حريتها بعيداً عن الرقابة الفكرية و الاجتماعية و تغير ألوانها وفق الحالة التي تعيشها و الظهور بمظهر الملتزم و الحريص على قوانين و قواعد الشرائع الكونية و الحرص على مبادئها و رعاية هذه المبادئ و نشرها و الحفاظ على أمنها من الانتهاك الفكري و الروحي.
و اتخذت منهجاً فعالاً في تحقيق ذلك تمثل بحرية القوة المرتكزة على التسلح و شراء السلاح لخلق واقع ضاغط و فعال ضد المجتمع لفرض واقع القبول بكل ما هو قائم و بدون اعتراض .
"ألا يعني هذا بأن الوجود العربي هو الناتج الوحيد لتاريخ الصراع و الحروب أما تاريخ السلام فلم يظهر بعد على لائحة هذا التاريخ" لأنه لم يعش بعد حالة السلام .
فالحرية في واقعها الفاعل هي نوع هادف غايته الانفلات من ضواغط الصراع و الحروب و خلق مصالحة و مصارحة مع الذات و مع الوجود الاجتماعي و تعزيز قدرة الأفكار للتعبير عن وجودها كسلوك و فتح الواقع الاجتماعي و الثقافي أمام جوهر الحرية القائم على حرية التعبير و اختيار المعرفة و البحث العلمي و بناء شخصية واعية و مدركة لأبعاد الوجود الإنساني, و توجيهها نحو مضامين جوهرية غايتها الارتقاء إلى وجود أكثر نوعية وأكثر علمية ,وخلق صياغة اجتماعية قادرة على تحفيز الفكر و تفعيل قواه بتوصيل حرية الحياة للجميع من خلال التعاون و تأمين تكافؤ العقل و الفكر من أدنى مستوياته إلى أعلى مستوياته و القدرة على إنهاء و تقويض أسس التحكم و الفوقية عندها يتحقق واقع الحياة الكريمة القادرة على نشر و تعميم الفائدة و العطاء ,و نبذ كل أنواع الهيمنة و الرعب و الابتعاد عن سياسة التجهيل و تبريد المشاعر و تشويش الأفكار و فسح المجال أمام حرية النقد لترفع مستوى الأفعال إلى الطبيعية و منح فرصة الإظهار لأي إدراك أو عقلية قادرة على كشف الواقع و تفعيل الحياة و تحقيق غايتها في تكوين ثقافة مبنية على احترام الإنسان في جوهره و عمله وسلوكه و هجر عقده و انطلاقه نحو الانفتاحية القادرة على تعميم أعمالها و أفكارها و فنونها و آدابها من خلال بعدها و غايتها الإنسانية .