يسود الرأي لدى مؤرّخي الفلسفة أنّ التفكير الفلسفي و الكلامي لدى الفرق و المدارس اليهودية في السياق العربي الإسلامي في العصور الوسطى منطبع و متأثّر بالفلسفة العربية الإسلامية شديد التأثر، بل و يعدّ جزءا منها و أحد تمظهراتها منذ أواسط القرن الثامن الميلادي \ القرن الثالث هجري وخاصة في القرون التالية مع ازدهار و انتشار حركة الترجمة و التأليف ، فقد كانت اللغة العربية في مجالات الإلاهيات و الفقه و علم الكلام و الفلسفة و الطب و الفلك و غيرها من العلوم و الفنون ، اللغة المعتمدة في التأليف و الكتابة لدى معظم العلماء و المؤلفين من مختلف الفرق و الديانات من مسلمين و مسيحيين و يهود. أتاح الإسلام هنا، كفضاء حضاري ذو أفق معرفي منفتح، انتشار و سيادة بنية إثنية و ثقافية تعددية متنوعة أفرزت بدورها نموذج تعايش ثقافي اجتماعي تعدّدي متميز بالثراء و الحيوية، و لعلّ النموذج الأندلسي في العصور الوسيطة يعتبر أحد أهم تجليات هذا التعايش.
تتمظهر أهم تعبيرات هذا التماسّ و التقاطع في سياق التفكير الكلامي و الفلسفي فيما بين اليهودية و الإسلام في القرون الوسطى من خلال شخصيّتي ابن رشد و ابن ميمون اللذين يعتبران شخصيتين مرجعيتين في الفلسفة الوسيطة و امتدّ أثرهما و تأثيرهما إلى ما أبعد من ذلك.
عند النظر في التراث الفكري الفلسفي و الكلامي و الفقهي الذي خلّفه هذان المفكّران الأندلسيان تتبيّن لنا جوانب تلاق و قواسم اشتراك و علامات افتراق و تباين. لعلّ أهمّ جوانب الالتقاء بين هاتين الشخصيتين هي انتماؤهما المشترك لفضاء ثقافي واحد وروح عصر متميز بتأثير توجّهات عدّة لا تخلو غالبا من التباين إلى حدّ التضادّ و التصادم أحيانا، إلاّ أنها تخترقها جميعا عناصر و علاقات التعايش الثقافي، التي تتجلّى من ناحية أولى من خلال أشكال التلاقي الحيوية و الخصبة فيما بين العناصر و المركّبات الثقافية المختلفة التي تعكس بدورها تصوّرات ورؤى عن الوجود و الكون و الإنسان و منظومات قيم هي أيضا متنوعة و متعددة. و من ناحية أخرى من خلال علاقة تقابل متضادّ و صراع وجودي ما بين منظومتي خطاب رئيسيتين، تتميز إحداهما بالانفتاح و القدرة على التجدد و التجاوز الذاتي و ترى في الآخر المغاير إمكانية و فرصة تساعد على إثراء و توسيع الآفاق الذاتية. أما المنظومة الأخرى فهي ترى في ذاتها المرجعية الوحيدة و الحصريّة التي تمتلك حقّ و صلاحية التعريف المفاهيمي و القيمي و ترى في الخطاب الآخر المغاير تهديدا وجوديا ينبغي مقاومته.
و تجدر الإشارة في هذا المقام إلى أنّ فلسفة و أفكار ابن رشد بقيت في سياق الثقافة العربية الإسلامية في العصور الوسطى دون أثر يذكر، بينما كان لها الأثر البالغ في الفكرين اليهودي و المسيحي في نفس العصور، فقد ظهر هنا اتجاه فكريّ و فلسفي يعرف في تاريخ الفلسفة الوسيطة باسم الرشديّة.
أما الشخصية الأندلسية الثانية التي أودّ التعرّض إليها بالتقديم فهي شخصية أبي عمران موسى ابن ميمون (١١٣٥ م ــ ١٢٠٤ م) الفقيه والطبيب و الفيلسوف اليهودي الديانة الأندلسي العربي الفكر و الثقافة. يعتبر المؤرّخ إرنست رينان أنّ الانشغال بالفلسفة عند اليهود في السياق العربي الإسلامي في القرون الوسطى لا يعدو أن يكون إلاّ انعكاسا للفلسفة العربية الإسلامية و أحد تمظهراتها. 2 كان شكل التعايش و الاندماج اليهودي في السياق العربي الإسلامي أرضية خصبة مكّنت المفكّرين اليهود من الإبداع و التألّق فعرف النتاج الفكري اليهودي في هذه الحقبة أزهي عصوره و أكثرها خصوبة، و يعتبر موسى ابن ميمون نفسه نتاجا مباشرا و تعبيرا بارزا لهذا النمط من التعايش اليهودي العربي الإسلامي كما يشهد و يؤكد على ذلك الأستاذ حاييم الزعفراني قائلا:" كان ابن ميمون نتاج مجتمع و حضارة و ثقافة متميزة بالاندماج و التعايش بين مختلف مكوّناتها ... باستثناء المراحل التي شهدت عدم استقرار وأعمال عنف مرتبطة بالنزاع على السلطة و تغيير الحكّام و انتفاضات القصور، كانت السمة الغالبة هي العمل المشترك و التعايش في كنف الأمن و السلم" 3
وجد ابن ميمون كمتفلسف و رجل دين في التفكير المستند على العقل و الفلسفة قارب النجاة للاعتقاد و للإيمان. إيمان و اعتقاد يجب حسب رأيه أن يتّسق مع العقل و يستجيب له و يُفْهم بشكل عقلاني، فهو يقبل المعتقد و الإيمان الحاصل نتيجة النظر العقلي و التفكّر كمعتقد صحيح، إذ أنّه فقط عند اتّساق اليقين الفلسفي مع الاعتقاد الإيماني و ارتباطه به ، يُدْحَض عندئذ نقيض الإيمان و يثبت الاعتقاد الصحيح. حيث أنّ بذل قصارى الجهد الفكري و تحصيل المعرفة هي شرط خلود الروح و دخولها في رحمة الله.
كأحد الدعاة لعقلنة منظومة التصورات الدينية تسبب ابن ميمون في اختلاف الناس حوله و انقسامهم في مواقفهم تجاهه ما بين مناصرين و مؤيدين لما يرى و آخرين معادين رافضين له، و صار ابن ميمون من خلال أعماله و مؤلفاته مركز استقطاب بالسلب أو بالإيجاب لكل من جاء بعده. و نال كتابه دلالة الحائرين لقرون طويلة لدى المشتغلين بالفلسفة من اليهود مكانة توازي تلك التي كانت للتلمود في الحياة الدينية عندهم، حيث أنّ أثره في التاريخ الفكري و الثقافي لدى اليهود كان كبيرا بحيث أنّه لا يمكن لمن جاء بعده أن يُغفل أو يهمل ما طرحه من إشكاليات و أسئلة أو أن يأخذ بما يقدّمه العلم دون أن يفرّط في تقاليده الثقافية و في انتمائه الديني. كان الهمّ الأوّل لابن ميمون باختصار هو تنقية التصوّرات الدينية اليهودية من السمات الخرافية و الميثولوجية فيها و صبغها بصبغة عقلانية.
لقد كان كلّ من مفكّرينا الأندلسيين ابن رشد و ابن ميمون ذا نزعة و اتجاه عقلانيين إلاّ أنّهما اختلفا في الغايات و المنهج، و هما يقدّمان لنا بذلك نموذجين على درجة من التشابه و التباين في الآن نفسه مما يزيد من إمكانية و فرصة الاستفادة و التعلّم منها.
لقد شكّل ابن ميمون خاصة من خلال مؤلفه دلالة الحائرين و تأثيره الكبير و ما أثاره من جدل فرصة لتلقّي و تسرّب الفكر الرشدي ، الذي شقّ له طريقا بل و ثبّت له مكانة في السياق اليهودي. و قد صار كلّ منهما مرجعيّة و سلطة معرفية سواء في سياق اللاّهوت و التأويل و التفسير أو الفلسفة و أخذ مكانة ثابتة، وتتجلّي هذه المكانة مثلا من خلال الرسالة التي بعث بها تلميذ ابن ميمون يوسف بن عقنين إلى أستاذه و صاغها بأسلوب أدبي تغلب عليه طريقة المجاز يعبّر له فيها عن حبّه لابنته و يخطبها منه أي ابنة ابن ميمون و يقصد بها الفلسفة، وجاء في هذه الرسالة: „ ... أعجبتني هذه الصبية ، فعقدت عليها خطبتي على الشريعة و ما أُنزل على طور سينا، و تزوّجتها بثلاثة أشياء، بأن أعطيتها حبي مهرا ، و مكّنتها عشقي عَقْدا لأني هِمتِ بها، و عاملتها معاملة الزوج عذراءه. و بعدها أحببت منها أن تتربع على سرير الزوجية، لم آخذها إغراء و لا رعونة ، و إنما أعطتني حبّها لأني بادلتها حبّا بحبّ و ربطت روحي بروحها، و جرى كلّ هذا أمام عدلين اثنين ذائعي الصيت، و هما أبو عبيد الله (ابن ميمون) و ابن رشد" 4 هذه الشهادة الأولى للتأثير المتنامي لفكر ابن رشد في أوساط المفكّرين اليهود و حضوره بينهم كمرجعية في نقاشاتهم و حواراتهم ليس فيما يتعلق بقضايا و بمواضيع فلسفية فقط بل تتعدّاها إلى قضايا تفسير وتأويل نصوص التوراة و التراث التلمودي. و تمّ الرجوع إلى ابن رشد ليس فقط في العديد من شروح و ملخصات دلالة الحائرين لابن ميمون و لكن في العديد من الأعمال و المؤلّفات الفلسفية الأخرى لمفكرين آخرين، حيث تمّ الاعتماد على مؤلّفات ابن رشد و الاستشهاد بها كمراجع لا يمكن الاستغناء عنها من طرف المفكرين اليهود. و لقد كانت أعمال ابن رشد أيضا هدفا لهجوم العديد من رجال الدين اليهود و تحريمهم لتداولها و ما جاء فيها من أفكار رأوا فيها خطرا يهدد نقاء العقيدة و ثباتها كما يرونها و يريدون لها هم أن تكون.5
لقد شكّلت الرشدية اليهودية جزءا هاما و تأسيسيّا في صيرورة العقلانية في السياق اليهودي، إذ أنّ حضور ابن رشد لدى المفكرين اليهود يعتبر في حدّ ذاته لحظة تأسيسية للعقلانية في التاريخ الثقافي لدى اليهود، لقد حظي ابن رشد من خلال أشكال التلقي المستمرّ له في السياق اليهودي بما حُرِم منه في السياق العربي الإسلامي و غلب عليه من تجاهل و نسيان. أسباب و دواعي و خصائص الحضور المتميز لابن رشد في السياق اليهودي و تلك التي تعود لغيابه و انعدام تأثيره في السياق العربي الإسلامي ، كلّها مازالت حسب رأيي تشكو نقص الوضوح و عدم الانجلاء التامّ لها، حيث تنقص الأبحاث المعمّقة التي تتناولها، و في هذا السياق يمكن أن تساعدنا الدراسة المقارنة لأشكال التلقي لفكر ابن رشد في تلمّس إجابة عن هذا السؤال المهم.
تتجاوز النظرة أو المقاربة لتاريخ العقلانية في السياق اليهودي و خصوصا في العصور الوسطى و محاولة فهمها الحدود الدينية بمفهومها الضيق ، إذ أنّ اليهودية في أبعادها الفكرية و الثقافية في العصور الوسطى و لكن قبل ذلك أيضا في العصر الهيلينستي، قد ساهمت بحيوية و حضور مثمر و مثرٍ في الحراك الثقافي و الفكري ضمن السياق الحضاري و التاريخي الذي وُجدت فيه.
و ينبغي عند مقاربة مختلف الاتجاهات الثقافية و الفلسفية و الدينية العقائدية و الكلامية التي كان لها وجود و تأثير في اليهودية في القرون الوسيطة و التعاطي معها، أن يكون ذلك ضمن إطار سياق أوسع يؤخذ بعين الاعتبار، هو السياق الثقافي و الحضاري العربي الإسلامي، حتى نحقق إدراكا و فهما أكثر شمولية و عمق و دون ابتسار لهذه الظاهرة. هذا يقودنا إلى سؤال يعتبر طرحه من قبيل الافتراض ، يبدو من الوهلة الأولى استفزازيا إلاّ أنّه يمكن أن يكتنه أهمية منهجية، و هو هل أنّ نشوء و تطوّر رشديّة عربية إسلامية في القرون الوسطى كان يمكن أن يكون مماثلا للرشدية اليهودية التي وجدت فعليّا لو كان لها أن توجد ؟
إنّ الانشغال بالبحث والاهتمام بالرشدية كظاهرة فلسفية لا ينبغي أن يكون في حدود البحث التاريخي البحت أو يتحوّل و يختزل في إطار الاهتمام المتحفي و الأركيولوجي الخالص بالأفكار العتيقة، إنّ مقاربة اختزالية بهذا الشكل تعتبر عقيمة و غير ذات أثر في سياقنا الحاضر.
إنّ ابن رشد كفيلسوف مسلم شهد حضورا و تأثيرا متواصلا تجاوز الحدود الثقافية و الدينية ، و لم تمنع خصوصية انتمائه الثقافي و الحضاري من إشعاع فكره في أنساق و سياقات ثقافية مختلفة عنه أو على الأصح عن التي وجد هو فيها و فكّر و تفلسف ضمن شروطها.
تقودنا الأسئلة و الإشكاليات و التعليلات التي تثيرها أشكال التلقي المختلفة لفكر ابن رشد سواء في السياق المسيحي أو اليهودي منها إلى النتيجة التالية و هي أنّ مناط الاختلاف في القبول أو الرفض لفكر ابن رشد و تنميط تلقيّه ليس ذات طبيعة ثقافية أو دينية بالمعنى الضيّق للكلمة بل هو أبعد من ذلك، إنّه يتعلّق ببنية العقل و تكوينه و الصيرورة العقلانية التي يشهدها الخطاب السائد.
كانت المواقف سواء في حياة ابن رشد أو في أشكال التلقي له اللاّحقة محكومة و محدّدة بمقولة العقلانية و العقل، و لم يكن هنا للخصوصية الدينية أو الثقافية أيّ دور ذي أهمية مؤثّرة ، إذ أنّ المفكّرين العقلانيين أو الفلاسفة سواء كانوا مسلمين يهودا أو مسيحيين لا يختلفون عن خصومهم في ذلك الذين كانوا بدورهم كذلك مسلمين يهودا و مسيحيين، و قد ألّفوا كلّهم و كتبوا أعمالهم بالعربية آو العبرية آو اللاتينية. فمثال ابن رشد و الرشدية في السياقات المختلفة تؤكد على أنّ العقل و العقلنة في الأخذ بها أو رفضها ليست مرتبطة بدين أو لغة أو ثقافة بعينها بل هي ظاهرة تخترقها جميعا و تتواجد ضمنها جميعا.
إنّ مقاربة الفكر الفلسفي لابن رشد على هذا النحو كأحد أبرز نماذج التفكير الفلسفي في السياق العربي الإسلامي يمكن أن تكون مفيدة و مساعدة من أجل تأسيس خطاب أنسنة عقلاني في السياق العربي الإسلامي المعاصر. و في خضمّ هذا الانشغال و الانهماك المعرفي من أجل تحقيق هذه الغاية لا ينبغي أن يكون إحياء ابن رشد كفكر و شخصية مرجعية تاريخية هدفا في ذاته بل يتوجّب أن لا يخلو ذلك من الممارسة النقدية الغير منقطعة، المتسمة بالعقلانية الرصينة المتزنة تماشيا مع الروح الرشدية و ليس من أجل تمجيد احتفالي لشخصية تاريخية حتى و إن كانت هذه الشخصية هي لابن رشد. و تلعب هنا المراجعة التحليلية التفكيكية النقدية للفكر الرشدي عموما و للرشدية على وجه الأخص دورا مهمّا من أجل مقاربة موضوعية و تحقيق شكل تلقّ حيوي بهدف تأسيس خطاب عقلانيّ معاصر في السياق العربي الإسلامي. 6
إنّ مقاربة بهذا المعنى و بهذه الغاية للرشدية و لأشكال تلقي فكر ابن رشد ـ سواء في السياق اليهودي أو في السياق المسيحي الأوروبي ـ يمكن أن تكشف لنا أبعادا فلسفية أخرى و تفتح آفاقا أرحب من ناحية و توفّر لنا من ناحية أخرى مدخلا إضافيّا لتحقيق إدراك للآخر و لفهمه بشكل أفضل ـ في هذه الحال الآخر هو الآخر اليهودي و الأوروبي. إنّ الاهتمام بالفكر الرشدي و بالرشدية من خلال هذه المقاربة يحقق مكسبا و فائدة معرفية بدرجة أولى يتحقق من خلالها إدراك مغاير للذات و إدراك أفضل للآخر ، ضمن صيرورة معرفية تثاقفية.
د. جمال الدين بن عبد الجليل
جامعة فيينا / النمسا