"لا تقل علاقة الرسالة النصية بالقارئ عن علاقتها بالمؤلف. فحيث يتوجه الخطاب المنطوق إلى شخص يحدده الموقف الحواري سلفا...يتجه النص إلى قارئ مجهول وضمنا إلى كل من يعرف كيف يقرأ"[1]
تاريخ الرسالة:
منذ أن وجد الإنسان في العالم ومع الآخر احتاج إلى الرسالة من أجل أن يبلغ عن مبتغاه ومراده ، ولذلك لعبت الرسالة دورا اجتماعيا لا يستهان به في تحقيق المعية الوجودية، فهي أداة الإيصال والإخبار والإعلام والتبليغ ولكنها أيضا تمثل رابطة عضوية وصلة حيوية بين أطراف متباعدة ومواقع متنافرة وذلك لكونها تحقق التواصل وتمنح التبادل والتعاون في المعارف والمعلومات والخبرات وتسهل صيد الفوائد وجني الخيرات.
وقد خضعت الرسالة إلى العديد من التحولات فقد بدأت بالإشارة والحركة الطبيعية إلى الخطاب الشفوي الحي والمباشر وبعد ذلك ارتقت إلى مستوى النص المكتوب وقد تبادل الحكام منذ القدم الهدايا والرسائل من أجل نبذ الحرب وتوطيد مقومات السلم وحسن الجوار واشتهرت الرسائل العاطفية التي يحملها الحمام الزاجل والرسائل السياسية التي يحملها الدبلوماسيون وفي ظل الثورة الرقمية وقع تعويض الرسائل البريدية وما يرافقها من طوابع وهدايا بالرسائل الإلكترونية القصيرة المكتوبة بلغة رقمية والرسائل الصوتية والمصورة عن طريق المحمول وظهرت الدردشات في المنتديات وكان الفايس بوك خير معين على التكلفة الباهضة للمكالمات الهاتفية.
أدوار الرسالة:
كما لعبت الرسالة المكتوبة المتبادلة بين رجال الفكر والعلماء دورا بارزا في تقدم العلوم والفلسفات والفنون وقد تطور في السياق نفسه فن المراسلة وظهر أدب الرسائل ووجدت الرسالة الفلسفية ودون البعض من المفكرين معظم دعاويهم في رسائل وخاصة عند الإغريق والعرب وشملت مواضيع الكون والله والإنسان والسياسة والأخلاق والتاريخ والمجتمع والصداقة والدين واللغة والفقه والبلدان وبرزت مراسلات شعرية هامة أين تبادل الشعراء قصائدهم وعقبوا على بعضهم البعض مدحا وهجاءا وقد تواصل هذا التقليد حتى مع الفلسفة الغربية ونذكر رسائل ديكارت مع الملكة إليزابات والملكة كريستينا ورسائل فولتير الفلسفية ورسالة اسبينوزا في اللاهوتية السياسية وجرت مراسلات واعتمدت الرسالة كقناة للتعريف بالمنتوج الفلسفي وحمايته من الضياع ولتبادل الآراء وطلب النصرة من الحكام وربط جسور المودة والاحترام معهم.
ما نلاحظه هو تراجع دور الرسائل البريدية المكتوبة والاعتماد الكلي على الرسائل الصوتية والمكالمات المباشرة والرسائل الالكترونية والمحادثات والدردشات عن طريق المحمول والأنترنت، وما يمكن التطرق إليه هو ندرة التعامل بالرسائل من طرف المفكرين وتفضيل العزلة والاشتغال ضمن فضاء من الفردانية والبرجعاجية ورفض العمل المشترك وإخضاع الذات إلى المساءلة والنقد والتقييم من طرف الأخر.
مكونات الرسالة:
تطرح الرسالة في علاقة بعملية اتصالية تتكون من خمسة عناصر: باث ومتقبل وقناة وشفرة وفحوى.
علاقة الرسالة بالمؤلف: ينبغي أن يجد صاحب الرسالة الحرية والوقت المناسب والقدرة الإبداعية لكي ينظم رسالته على أحسن وجه وأن ينتقي من أجل ذلك أحسن العبارات وأجود الكلمات حتى يكون مقصده واضحا ومفهوما وتكون صورته مشرقة ومقامه محفوظا عند المتلقي.
علاقة المتلقي بالرسالة: ينبغي أن يجد المرسال إليه الوقت الكافي لقراءة الرسالة وأن يتذوقها من خلال جملة الملكات والأدوات الإدراكية وأن يحسن الظن ويرهف الحس ويكون أفق انتظار الباث ويفهم مقصوده وذلك بامتلاك الثقافة العالية والفطرة السليمة وجودة التمييز.
الرسالة والقناة: ينبغي أن يكون الوسيط محايد وموضوعي وألا يتحيز لا إلى المرسل ولا إلى المرسل إليه وألا يغير أو يحرف مضمون الرسالة بل يحجر عليه الاطلاع على ما فيها صونا للعرض واحتراما للحق الشخصي في سرية المراسلات.
الرسالة والشفرة: كل رسالة ينبغي أن تكون مكتوبة بشكل مشفر وفيها المنطوق به والمسكوت عنه أي المعلن والخفي وينبغي أن يلمح المرسل إلى المرسل إليه ما به يحل شفرة الرسالة حتى يتمكن من الدخول إلى مضمونها وفهم مقصودها.
الرسالة والفحوى: كل رسالة هي غرض ومقصد وطلب ولا توجد رسالة واحدة خالية من هذه الغايات ومكتوبة لذاتها ، فهي إما تعبير عن إعجاب أو طلب لحاجة أو استشارة في أمر أو إعلان عن الشروع في تنفيذ عمل ويستحسن أن يبين المرسل للمرسل إليه فحوى رسالته من الاستهلال وأن يضعه في صلب الموضوع بطريقة ذكية دون أن يجعله يمل أو ينفر.فهل تقدر الرسائل الالكترونية القصيرة والدردشات على تعويض حميمية ورمزية الرسائل المكتوبة والتحيات الشفوية المنقولة؟
بقايا أدوار الرسالة:
هناك عودة إلى فن كتابة الرسائل من أجل غايات تعلمية الآن وذلك بعد تدهور الأوضاع على الصعيد العلمي والثقافي وعزوف الناس عن طلب العلم وجريهم وراء الاستهلاك وانغماسهم في المجتمع الاستعراضي وإقبالهم على إشباع الرغبات وتحقيق المتع الآنية.
الرسالة فن بالمعنى الحقيقي للكلمة وليس مجرد تداعي أفكار أو كتابة لخواطر والتعبير عن مشاعر وأن هذا الفن ينبغي أن يكتب بلغة فلسفية أو تتضمن اللغة التي يكتب بها بعض الأفكار الفلسفية وهذا هو المقصود بالفحوى أو المغزى من الرسالة لاسيما وأن بين الكاتب والقارئ حديث وكلام وود وحب وصداقة وهذا الكلام له شجون ولذلك ينبغي أن تقدر الرسالة على الإفصاح عن هذا الشجون.
كما الفلسفة اليوم لا خيار لها لكي تصون وجودها سوى أن تلوذ بفضاء الرسالة وأن تخرج من قصورها المجردة واستعارتها الميتة وتغزو قلوب الشباب وتوظف الاستعارات الحية وتتواجد في الفضاءات العمومية وتتحول إلى لغة الحياة اليومية وتلهج بصوت الذين لا صوت لهم وتعبر عن تطلعاتهم في الحلم بعالم أفضل ينمون فيه قدراتهم على الفكر والقول والفعل والحب.
لقد أصاب هيدجر حسب بول ريكور عندما حلل الفهم في "الوجود والزمان" بقوله:" إن ما نفهمه أولا في الخطاب ليس شخصا آخر، بل مشروعا، أي معالم طريقة جديدة للوجود في العالم. وليس الكتابة بتحريرها نفسها، ليس فقط من مؤلفها ومن جمهورها الأصلي، بل من ضيق السياق الحواري ما يكشف صيرورة الخطاب مشروعا في العالم"[2].
إن المطلب الأكيد الذي ينبغي أن نعمل على تحقيقه هو تحرير الكتابة من مؤلفيها ومن الجمهور المتلهف على استهلاكها لأن رهن الكتابة بالمؤلف والمتلقي والسياق هو سجن لها وتضييق يمنع كل إبداع ويقف أمام كل تجديد وعلى هذا النحو ينبغي أن تحافظ الكتابة على الطابع الملغز والمباغت وأن يتحول الخطاب إلى مشروع واللغة إلى مسكن للوجود والرسالة إلى مقام لتدبير العالم.
إن الرسالة المكتوبة اليوم عادت لتعلب دور الوسيط البيداغوجي الذي يساعد المبتدئين على تقبل التعلم والاستئناس بالمرجعيات الفكرية المعقدة من أجل الدخول إلى أنساقها والإدراك التدريجي لمعانيها، وقد ظهرت بعض الكتابات في شكل رسائل بين المحبين أو بين الأبناء والآباء حتى توظف المرجعية العاطفية والشاعرية الجمالية في تقريب الأفهام من النصوص وتبسيط النظريات وتلخيص الكتب والمؤلفات إلى الناشئين . فمتى نرى عودة حاسمة في حضارة اقرأ لفن الرسالة الفلسفية الذي أتقنه كل من الجاحظ وسبويه والتوحيدي وابن سينا والفارابي والرازي وغيرهم وكان سبب ريادتها وازدهارها؟
المرجع:
بول ريكور، نظرية التأويل، الخطاب وفائض المعنى، ترجمة سعيد الغانمي، المركز الثقافي العربي، بيروت – الدار البيضاء، الطبعة الأولى 2003.
كاتب فلسفي
[1] بول ريكور، نظرية التأويل، الخطاب وفائض المعنى، ترجمة سعيد الغانمي، المركز الثقافي العربي، بيروت – الدار البيضاء، الطبعة الأولى 2003، ص.ص.62.63.
[2] بول ريكور، نظرية التأويل، الخطاب وفائض المعنى، ترجمة سعيد الغانمي، المركز الثقافي العربي، بيروت – الدار البيضاء، الطبعة الأولى 2003، ص.72.
مكونات الرسالة:
تطرح الرسالة في علاقة بعملية اتصالية تتكون من خمسة عناصر: باث ومتقبل وقناة وشفرة وفحوى.
علاقة الرسالة بالمؤلف: ينبغي أن يجد صاحب الرسالة الحرية والوقت المناسب والقدرة الإبداعية لكي ينظم رسالته على أحسن وجه وأن ينتقي من أجل ذلك أحسن العبارات وأجود الكلمات حتى يكون مقصده واضحا ومفهوما وتكون صورته مشرقة ومقامه محفوظا عند المتلقي.
علاقة المتلقي بالرسالة: ينبغي أن يجد المرسال إليه الوقت الكافي لقراءة الرسالة وأن يتذوقها من خلال جملة الملكات والأدوات الإدراكية وأن يحسن الظن ويرهف الحس ويكون أفق انتظار الباث ويفهم مقصوده وذلك بامتلاك الثقافة العالية والفطرة السليمة وجودة التمييز.
الرسالة والقناة: ينبغي أن يكون الوسيط محايد وموضوعي وألا يتحيز لا إلى المرسل ولا إلى المرسل إليه وألا يغير أو يحرف مضمون الرسالة بل يحجر عليه الاطلاع على ما فيها صونا للعرض واحتراما للحق الشخصي في سرية المراسلات.
الرسالة والشفرة: كل رسالة ينبغي أن تكون مكتوبة بشكل مشفر وفيها المنطوق به والمسكوت عنه أي المعلن والخفي وينبغي أن يلمح المرسل إلى المرسل إليه ما به يحل شفرة الرسالة حتى يتمكن من الدخول إلى مضمونها وفهم مقصودها.
الرسالة والفحوى: كل رسالة هي غرض ومقصد وطلب ولا توجد رسالة واحدة خالية من هذه الغايات ومكتوبة لذاتها ، فهي إما تعبير عن إعجاب أو طلب لحاجة أو استشارة في أمر أو إعلان عن الشروع في تنفيذ عمل ويستحسن أن يبين المرسل للمرسل إليه فحوى رسالته من الاستهلال وأن يضعه في صلب الموضوع بطريقة ذكية دون أن يجعله يمل أو ينفر.فهل تقدر الرسائل الالكترونية القصيرة والدردشات على تعويض حميمية ورمزية الرسائل المكتوبة والتحيات الشفوية المنقولة؟
بقايا أدوار الرسالة:
هناك عودة إلى فن كتابة الرسائل من أجل غايات تعلمية الآن وذلك بعد تدهور الأوضاع على الصعيد العلمي والثقافي وعزوف الناس عن طلب العلم وجريهم وراء الاستهلاك وانغماسهم في المجتمع الاستعراضي وإقبالهم على إشباع الرغبات وتحقيق المتع الآنية.
الرسالة فن بالمعنى الحقيقي للكلمة وليس مجرد تداعي أفكار أو كتابة لخواطر والتعبير عن مشاعر وأن هذا الفن ينبغي أن يكتب بلغة فلسفية أو تتضمن اللغة التي يكتب بها بعض الأفكار الفلسفية وهذا هو المقصود بالفحوى أو المغزى من الرسالة لاسيما وأن بين الكاتب والقارئ حديث وكلام وود وحب وصداقة وهذا الكلام له شجون ولذلك ينبغي أن تقدر الرسالة على الإفصاح عن هذا الشجون.
كما الفلسفة اليوم لا خيار لها لكي تصون وجودها سوى أن تلوذ بفضاء الرسالة وأن تخرج من قصورها المجردة واستعارتها الميتة وتغزو قلوب الشباب وتوظف الاستعارات الحية وتتواجد في الفضاءات العمومية وتتحول إلى لغة الحياة اليومية وتلهج بصوت الذين لا صوت لهم وتعبر عن تطلعاتهم في الحلم بعالم أفضل ينمون فيه قدراتهم على الفكر والقول والفعل والحب.
لقد أصاب هيدجر حسب بول ريكور عندما حلل الفهم في "الوجود والزمان" بقوله:" إن ما نفهمه أولا في الخطاب ليس شخصا آخر، بل مشروعا، أي معالم طريقة جديدة للوجود في العالم. وليس الكتابة بتحريرها نفسها، ليس فقط من مؤلفها ومن جمهورها الأصلي، بل من ضيق السياق الحواري ما يكشف صيرورة الخطاب مشروعا في العالم"[2].
إن المطلب الأكيد الذي ينبغي أن نعمل على تحقيقه هو تحرير الكتابة من مؤلفيها ومن الجمهور المتلهف على استهلاكها لأن رهن الكتابة بالمؤلف والمتلقي والسياق هو سجن لها وتضييق يمنع كل إبداع ويقف أمام كل تجديد وعلى هذا النحو ينبغي أن تحافظ الكتابة على الطابع الملغز والمباغت وأن يتحول الخطاب إلى مشروع واللغة إلى مسكن للوجود والرسالة إلى مقام لتدبير العالم.
إن الرسالة المكتوبة اليوم عادت لتعلب دور الوسيط البيداغوجي الذي يساعد المبتدئين على تقبل التعلم والاستئناس بالمرجعيات الفكرية المعقدة من أجل الدخول إلى أنساقها والإدراك التدريجي لمعانيها، وقد ظهرت بعض الكتابات في شكل رسائل بين المحبين أو بين الأبناء والآباء حتى توظف المرجعية العاطفية والشاعرية الجمالية في تقريب الأفهام من النصوص وتبسيط النظريات وتلخيص الكتب والمؤلفات إلى الناشئين . فمتى نرى عودة حاسمة في حضارة اقرأ لفن الرسالة الفلسفية الذي أتقنه كل من الجاحظ وسبويه والتوحيدي وابن سينا والفارابي والرازي وغيرهم وكان سبب ريادتها وازدهارها؟
المرجع:
بول ريكور، نظرية التأويل، الخطاب وفائض المعنى، ترجمة سعيد الغانمي، المركز الثقافي العربي، بيروت – الدار البيضاء، الطبعة الأولى 2003.
كاتب فلسفي
[1] بول ريكور، نظرية التأويل، الخطاب وفائض المعنى، ترجمة سعيد الغانمي، المركز الثقافي العربي، بيروت – الدار البيضاء، الطبعة الأولى 2003، ص.ص.62.63.
[2] بول ريكور، نظرية التأويل، الخطاب وفائض المعنى، ترجمة سعيد الغانمي، المركز الثقافي العربي، بيروت – الدار البيضاء، الطبعة الأولى 2003، ص.72.