يميز كانط بين نمطين من القوانين: فهي إما أن تكون قوانين الطبيعة وإما أن تكون قوانين الحرية, وما يبحث عنه كانط هو فيما إذا كانت توجد قوانين كونية وضرورية(1), فيجب التمييز إذن بين ميتافيزيقا الطبيعة وميتافيزيقا الأخلاق. وحين يقول كانط بميتافيزيقا الأخلاق فلكي يفصل بين الأخلاق والتجربة, وحتى تكون للفعل قيمة أخلاقية فيجب أن يكون القانون ينبني على ضرورة مطلقة, وهذا يعني ألا يكون للطبيعة البشرية دخل في مبدأ الإكراه, فمبادئ الإكراه يجب أن يبحث عنها في المفاهيم القبلية للعقل الخالص, فلا يمكن إذن للتجربة أن تكون مصدرا لأي قانون أخلاقي , لذلك ترتكز كل فلسفة أخلاقية على ما هو خالص, وتعطي قوانين قبلية(2).
يتوجب إذن على ميتافيزيقا الأخلاق حسب كانط أن تفحص فكرة مبادئ إرادة خالصة ممكنة, وليس أن تفحص أفعال وشروط الإرادة الإنسانية التي يمكن استخلاصها من السيكولوجيا, ولكي تتأسس ميتافيزيقا الأخلاق, تحتاج إلى نقد للعقل الخالص العملي(3), فما يوجه العمل إذن هو كيف تكون الأوامر الأخلاقية ممكنة؟ وعلى أي أساس ينبغي أن تقوم الأفعال الإنسانية؟ وهل توجد شروط تحدد للسلوك الإنساني مجاله وحدوده؟ ومن أين تستمد تلك الشروط مشروعيتها؟ ومن أين تستمد مبادئها؟
يبدأ كانط بفحص مفهوم الإرادة, فيقول بأنه لا يوجد شيء, سواء داخل العالم أو خارجه يمكن أن يكون حسنا إلا الإرادة, فهي تهذب النفس وتوجهها نحو غايات كونية , وتحدد مهمة الإرادة الحسنة في أنها تجعلنا جديرين بالسعادة, ويقود البحث في الإرادة الحسنة إلى أن يتم البحث عما يشكل قيمة داخلية في الشخص, أي ما يكون قيمة في ذاته, وما يجعل الإنسان قيمة في ذاته. لذلك يجب فحص الإرادة فيما إذا كانت تكون حسنة في ذاتها, أم تكون حسنة لغاية خارجية.
ويظهر من هذا الفحص أن الإرادة, إذا كانت تسعى إلى أن تكون حسنة , فيتعين أن ينظر إليها من حيث كونها تبتعد عن كل تقييم منفعي, لأن من شأن هذا التقييم أن يجعل الإرادة سيئة, فتسيء إلى الطبيعة, هنا يؤكد كانط بأنه يمكن أن تصير المواهب الطبيعية سيئة إذا غابت الإرادة الحسنة(4), لكن ألا تتحدد الإرادة على أنها ما ينبغي أن يقود الإنسان نحو السعادة؟ أليست السعادة هي ما يمكن بل ما يجب أن ينشده الانسان؟
يظهر من الجواب الذي يقدمه كانط أنه يجب ألا يفصل بين الإرادة الحسنة وفكرة السعادة, فلأن الإنسان يتحدد على أنه الكائن الوحيد الذي حاز على العقل, ويتميز بالإرادة, فإن الطبيعة تسعى إلى حفظه وإسعاده. لكن هذه الغاية يتوجب عليها ألا تثنينا عن أن نتوجه نحو وجهة إنتاج إرادة حسنة, لا تكون وسيلة, بل تكون غاية في ذاتها. وعلينا فقط أن ننتبه إلى أن ما نبحث عنه هنا هو فكرة سعادة توجهها فكرة الإرادة كشيء حسن, أي كإرادة تنتمي إلى العقل الخالص العملي, ولا توجهها أية فكرة عن الطبيعة البشرية أو السيكولوجيا, وهذا التوجه يقتضي أن يوجد عقل, ويكون وجوده ضرورة مطلقة ما دامت الطبيعة تسلك بحسب غايات(5).
تمثل هذه الإرادة الخير الأسمى بالضرورة, وتمثل شرطا لباقي الخيرات, وهي بهذا المعنى لا يمكن أن تكون ضد الطبيعة, ولا يمكن أن تسلك ضد اغائية, وحين يؤسس العقل هذه الإرادة الحسنة, فإنه سيحقق إشباعا يناسبه, فيجب إذن أن نفصل بحثنا عن الإرادة الحسنة عن كل النوايا الخارجية, وهذا ما يجعل منها مفهوما يمتلك أعلى مكانة في تقييم القيمة الكاملة لأفعالنا التي تكون شرطا لباقي الأفعال. ويلزم البحث عن هذه الإرادة الحسنة بأن نفحص مفهوم الواجب(7) فما هو الواجب؟ وكيف يمكن أن نحدده؟ وأين يجد سنده؟
يتوقف كانط هنا عند مثالين: يتحدث في الأول عن التاجر الجديد الذي ينصف الزبناء, وهو ما لا يحدث عادة في المتاجر الكبرى . ويمتد هذا الإنصاف إلى أي طفل يشتري منه أي شيء. لكن ذلك لا يكفي لكي نستخلص بأن التاجر كان يحكمه الواجب ومبادئ الإخلاص, فقد تضغط عليه مصلحته, دون أن يكون للتاجر ميول نحو الطفل. ويتحدث في المثال الثاني عن حفظ الذات, فقد يحفظ إنسان ما ذاته من الهلاك, لكن هذا لا يعني أن تكون لهذا الفعل قاعدة أخلاقية, فقد يحفظ الإنسان حياته لكن ذلك قد يكون بتوافق مع الواجب , ولا يكون قياما بالواجب(8). فقد يكره الإنسان الحياة , لكنه يحافظ مع ذلك عن ذاته, فينتج فعله هذا عن قاعدة أخلاقية. وما يجعل منه فعلا أخلاقيا, أي ما يجعل إنجازه يكون إنجازا للواجب, هو أنه يجد قيمته الأخلاقية ليس في الهدف الذي يجب أن يحققه بل في القاعدة التي تقرر من خلالها ذلك الفعل.فهو يتعلق بمبدأ الإرادة وليس بملكة الرغبة, لذلك يتوقف كانط عند ثلاثة قضايا, يمكن أن ترسم الطريق نحو فهم واضح ومتميز لفكرة الواجب وهي :
E القضية الأولى: أن يضمن الإنسان سعادته الخاصة واجب.
E القضية الثانية: يجب أن تحدد الإرادة الحسنة من خلال مبدأ صوري للإرادة.
E القضية الثالثة: يكون الواجب هو ضرورة أن ينجز الفعل في احترام للقانون.
يترتب عن هذا الوضع أنه لا يمكننا أن نتحدث عن فكرة عن الواجب إلا من خلال ما يسميه كانط بالقيمة الأخلاقية للفعل, وهي قيمة لا يمكن أن تتولد إلا من مبدأ الإرادة.
ما يمكن أن نستنتجه من خلال هذه القضايا يكمن في كون القيمة الأخلاقية للفعل لا توجد فيما ينتج عن ذلك الفعل كشيء منتظر, وليس لتمثل القانون في ذاته وجود إلا في كائن عاقل, وهذا التمثل هو ما يجب أن يكون مبدأ محددا للإرادة وهو وحده يمكن أن يشكل الخير الأسمى , ويجب أن يصنف على أنه أخلاق(9). ولا ينبغي للإرادة أن تشتغل وفق أي قانون كيفما كان نوعه, لذلك وجب علينا أن نحدد الإردة بشكل يرتبط مع هذا الخير الأسمى, وهنا يصرح كانط بأن ما يحدد الإرادة هو كونها تتوافق كونيا من حيث أفعالها مع القانون. إن ما يحدد الإرادة بهذا المعنى هو التوافق الكوني للأفعال مع القانون. ولن يكون هذا القانون إلا ما يصلح أن يكون مبدأ لهذه الإرادة, وهذه العلاقة المبدئية التي تربط الإرادة بالقانون هي التي يصوغها كانط في القاعدة التالية: " يتوجب علي أن أسلك كما لو أنني أستطيع أن أريد لقاعدتي أن تصير قانونا كونيا للسلوك"(10).
لقد تمكن كانط هنا من أن يشخص مفهوم الواجب مع العقل العملي المشترك,وهذا لا يعني أن يتصل مفهوم الواجب بالتجربة, فلا تستمد إذن القواعد الأخلاقية من التجربة, فهذه القواعد ترتكز على مبادئ أخلاقية وعلى تمثل الواجب, ومن هذا الواقع يرفض كانط أن تشتق الأخلاق من التجربة, فهي تشتق من العقل الخالص العملي المشترك, والذي يحدد كانط مهمته الأخلاقية في التحديد القبلي لما يمكن أن يحصل. وهذا ما يعطي للقواعد الأخلاقية طابعها الكوني, بحيث تصبح قابلة لأن تصلح لكل كائن عاقل وفق ضرورة مطلقة(11).
يظهر إذن أن كون الأخلاق تشتق من التجربة, هو أقبح خدمة يمكن أن يسديها الفيلسوف والمشرع للأخلاق, فيجب أن ترتكز المبادئ السامية للأخلاق على العقل الخالص وتكون مستقلة عن كل تجربة. وهذا ما يدعو إلى تأسيس مذهب أخلاقي في الفلسفة على أسس ميتافيزيقية(12). وهذه الدعوى تقتضي استبعاد كل كلام عما يسمى في الفلسفة بالطبيعة البشرية. فأن ندخل مفهوم الطبيعة البشرية في مجال انشغالنا بالمبادئ الأخلاقية , يشكل في واقع الأمر أكبر عائق لكل أخلاقية, فيجب إذن أن نفصل مبادئ السلوك الإنساني عن مفهوم الطبيعة الإنسانية, لذلك لا تشكل ميتافيزيقا الأخلاق الأساس الضروري لكل معرفة نظرية لواجبات تتحدد يقينية, بل تمثل أكثر من ذلك , أمنية ذات أهمية بالغة في الإنجاز الفعلي لما تأمر به تلك الواجبات. وسيكون لهذه الواجبات بالغ الأثر على الإنسان , حتى إنه في إطار وعيه بكرامته, سيتحتقر ما دون القانون الأخلاقي(12). لكن يمكن أن تطبق هذه القوانين الأخلاقية على الكائنات العاقلة دون أن تكون لدينا حاجة إلى البحث في مفهوم الطبيعة البشرية والأنتروبولوجيا النفعية؟
يجيب ويقول بأن هذه الأخلاق النقية من كل تأثير مادي, يكون لها وقع كبير على العقل يفوق كل التأثيرات حتى ان الإنسان في وعيه بكرامته يحتقر ما دون القانون الأخلاقي, ويرد بأن كون الأخلاق وأن كل المفاهيم الأخلاقية تجد أصلها الكامل قبليا في العقل بل الأكثر من ذلك تجد أصلها في العقل الانساني الأكثر اشتراكا كما في العقل الذي يوجد في أعلى درجات التأمل, ومن البديهي أنها لا تشتق من التجربة. ولكن كانط ينبه هنا إلى أمرين يتعلقان بتطبيق القوانين الأخلاقية : أولا وجود حاجة إلى أنثروبولوجيا لمعرفة الطبيعة البشرية , وثانيا ضرورة نقد الفلسفة الشعبية التي تربط الأخلاق بالتجربة(13) وهذا يقتضي أن يكون هناك انتقال الميتافيزيقا حيث توجد الأفكار, وهذا بدوره يلزم بأن تعرض القوة العملية للعقل بوضوح بدءا بالقواعد الكونية للتحديد إلى المستوى الذي ينبثق مفهوم الواجب من تلك القواعد.
توجد نتيجة تترتب عن هذا الإنتقال وهي أن كل شيء " يسلك في الطبيعة وفق قوانين, ولا يوجد إلا كائن عاقل يمتلك ملكة السلوك من خلال تمثل القوانين, أي من خلال مبادئ أي كائن له إرادة"(14),وليست الإرادة إلا العقل العملي, فالإرادة هي ملكة الاختيار,وتكون الأفعال التي تصدر عنها معروفة بالضرورة موضوعيا وبالتالي ذاتيا, فكل إنسان بما هو إنسان , يسلك وفق إنسانيته,وتكون الأفعال الإنسانية من حيث اتصالها بالإنسان وبالعقل العملي بما هو إرادة و بماهو قوة عملية ظاهرة الوضوح فالفعل الضروري يعرف من الناحية العملية كفعل حسن, وقد تكون هناك أفعال أخرى تعرف موضوعيا كأفعال احتمالية, لكن يشترط فيها أن تكون نابعة من الشروط الذاتية ,وليس من الشروط الموضوعية, فتكون الإرادة هنا لا تتوافق مع العقل بحيث لا يحدد هذا العقل الإرادة من ذاته أو لا يكون ذلك التحديد كافيا.
لما تتحدد الإرادة وفق القوانين الموضوعية أي وفق قوانين العقل العملي, فإن هذه الإرادة تكون إكراها, وتكون نتيجة هذا التوافق تمثل مبدأ موضوعي, كمبدأ لإكراه الإرادة هي ظهور هذا الإكراه في صيغة أمر: الأمر الأخلاقي , ويعبر عن كل الأوامر بفعل : يجب, وهي التي تحدد علاقة قانون موضوعي للعقل بالإرادة التي تحدد ما يجب فعله كفعل حسن, ومن هنا مفهوم الإرادة الحسنة في ذاتها, وتحدد الأوامر الخير الأسمى كمبدأ في العقل يكون صالحا للعالم(15)
وستتحول الإرادة الحسنة لتصبح خيرا في ظل مملكة القوانين الموضوعية(قوانين الخير), فتمثل الخير إذن هو الذي يحدد القوانين, فأن يتمثل الإنسان الخير يسعى إلى تحقيقه, فهذا ما ينبغي أن يحدد له أفعاله, وكيف يجب عليه أن يسلك, لكن يلاحظ كانط ارتباط الخير بالنقص, ويفهم من ذلك بأن الإنسان لايسعى إلى تحقيق الخير إلا بإحساسه بالنقص , لذلك يستنتج كانط " أن الأوامر هي هي فقط صيغ تعبر عن ارتباط القوانين الموضوعية للإرادة بالنقص الذاتي لإرادة كائن عاقل"(16)
تترتب عن النقص أفعال وسلوكات تنتج عن أوامر: تتخذ صيغة يجب , لكن هذه الأوامر , كما يبين كانط , تكون افتراضية أو قطعية(أخلاقية) تكون الأولى تحديدا للضرورة العملية لفعل ممكن, أي كوسيلة للوصول إلى شيء نريده, أما الثانية فتحدد الفعل على أنه ضروري في ذاته, ودون أن يرتبط بهدف آخر تحدده من حيث ضرورته الموضوعية, وفي هذه الحالة التي يتحدد فيها الفعل من خلال الضرورة الموضوعية, يتم تمثل الفعل كشيء حسن في ذاته , فيكون المبدأ الذي يحدد الفعل على أنه ضروري في إرادة تكون مطابقة لذاتها وفي ذاتها للعقل,وهذه الحالة يكون فيها الأمر قطعيا أو أخلاقيا.
وبصفة عامة, يبقى لنا , حسب كانط , أن نفترض أنه توجد غاية واقعية بالنسبة لكل الكائنات العاقلة التي تطبق عليها الأوامر, وهي غاية تفرضها الضرورة الطبيعية وهي السعادة ولن تكون هذه السعادة إلا بتمثل فكرة عن الخير, والسعي الى تحقيقه. وهنا يصنف كانط الأوامر التي يمكن أن تبلغ بها السعادة إلى ثلاث , ويقول " تكون مبادئ الأخلاقية : إما قواعد المهارة , وإما نصائح الحذر,وإما أحكام (القوانين الأخلاقية)" (17), لكن ما يلاحظه كانط هو أن معطيات النصيحة تتضمن ضرورة لا يمكن أن تكون صالحة إلا وفق شروط ذاتية محتملة, أما الأوامر القطعية فهي لا تحددها أية شروط , لكن كيف تكون القوانين ممكنة؟
يصعب علينا أن نقدم جوابا على التساؤل, ويتسبب في هذه الصعوبة أن الإنسان تحركه فكرته عن السعادة ,وهي ترتبط بالرغبة,وهذا ما يجعل مفهوم السعادة غامضا , فلا أحد يعرف ما يرغب فيه وما يريده ويكون ذلك بكلمات مضبوطة, ومن هنا ضرورة طرح السؤال كيف يكون الأمر الأخلاقي ممكنا؟ وهنا يقول كانط بأن ما يحتاج إلى حل هو هذا السؤال, والأمر الأخلاقي لا يتضمن افتراضا,ولا ترتكز ضرورته على أية افتراضية كما هو الحال في الأمر الإفتراضي (18) وهنا يعطي كانط أمثلة تجعل الأمر الأخلاقي ممكنا فيقدم بذلك جوابا لتساؤله ويقدم أمثلة في شكل أوامر:
لا تنقض العهد: يكون هذا الأمر قطعيا , إذ لم يكن يتوخى منفعة , فتتحدد الإرادة إذن من خلال القانون وليس من شيء نفعي يرتبط بالتجربة, وهو ما يتضمن دعوة كانط إلى الفحص عن الأمر الأخلاقي بعيدا عن التجربة,ويمتلك الأمر قيمة القانون العملي لأنه يمثل قانون الإرادة وما يتميز به القانون أو الأمر الأخلاقي هو أنه يكون معروف المحتوى , فهو يحتوي على ضرورة أن يتوافق مع القانون, ولا يحتوي على أي شرط يخصه, بل يصدر عن مبدأ عام وهذا ما يعطي للقانون الأخلاقي كونيته, ويصوغ كانط هذه الكونية في الأمر الآتي:" أسلك وفقا لقاعدة تجعلك تريد في نفس الوقت لهذه القاعدة قانونا كونيا"(19)
ويدفع كانط بهذه القاعدة إلى حدودها القصوى , حينما يعتبرها ما تنبثق منه باقي قواعد السلوك , فهذه القاعدة , تعني حسب كانط بأنه يمكن للواجب الأخلاقي أو للأمر الكوني أن يعلن عنه كما يلي : " أسلك كما لو كان يجب على قاعدة سلوكك أن تصبح بفضل الإرادة قانونا كونيا للطبيعة "(20),وما يسمح لكانط بهذا الإستنتاج هو أن الكونية لا تعني شيئا سوى الطبيعة ذاتها, فكل الوقائع تنتج عن الطبيعة ,ويعطي كانط بهذا الصدد أمثلة يوضح من خلالها ما يقصده بالأوامر الأخلاقية, لكنه في العمق يقدم دليلا على ارتباط الكونية بالطبيعة بوجه عام, فلا تقدم هذه الأمثلة كما سنلاحظ , في واقع الأمر, لا يمثل سوى غاية الطبيعة بالمعنى الدقيق للكلمة.
ì الإنتحـار: إن غاية الطبيعة هو النمو نحو الحياة ,وحينما يقبل فرد ما على الإنتحار فإنه يقبل على فعل يناقض هذا النمو, فهو إذن يتناقض مع غاية الطبيعة, فيمثل ذلك خرقا لقانون الطبيعة , لكنه يساهم الأكثر من ذلك وفي العمق في إفلاس الحياة, إذا نظرنا إلى الحياة من جهة القدرات والمهارات.
ì الكسـل : وهو ما يسميه كانط ماهية القدرات والمهارات , فقد أوجدت الطبيعة الإنسان وزودته بقدرات, فهي بمعنى ما تدخل في ملكية الطبيعة, فهي قدرات طبيعية لا يملك الإنسان منها , في واقع الأمر, إلا أن يستعملها لغاية طبيعية. وحينما يقرر الإنسان أن يهمل قدراته , فإنه بذلك لا يضر بالإنسانية في غيره فقط , إذ يشكل ذلك حرما لهذه الإنسانية مما يمكن أن يساهم في إسعادها, بل يضر بالطبيعة بوجه عام.
ì نقـض العهـد: ينتج عن حب الذات ويبتغي أن يبحث عن السعادة الفردية, وهو ما يترتب عنه فقدان الثقة, فيؤدي ذلك إلى انتشار نسق من الأخلاق تنبني على مبدأ النصيحة, وتصبح المعاملات تتحكم فيها قوانين الحيطة وما يترتب عن ذلك من كذب ونفاق , وانعكاس كل فرد على ذاته في إطار سيكولوجية فردانية منغمسة في التجربة التي يرفض كانط أن تشتق منها القوانين الأخلاقية.
ì الرغبـة في إسعـاد الآخرين: قد ينسجم هذا الأمر مع القانون الكوني للطبيعة ,وذلك إذا لم يكن الهدف منه هو أن يسعى الإنسان إلى إسعاد البشر, ويكون السعي غاية في ذاته وليس وسيلة.
يمكن أن نفهم هذه الأمثلة بشكل أفضل واوضح من خلال النداء الذي يوجهه كانط للكائنات العاقلة " يجب أن تكون لدينا قدرة على أن نريد ما يشكل قاعدة لعملنا بحيث تصبح قانونا كونيا, وهذا هو القانون الذي يسمح بالتقييم الأخلاقي لفعلنا بصفة عامة "(21). وبهذا النداء يظهر أن كانط قد برهن على أن الواجب مفهوم يتضمن تشريعا واقعيا لأفعالنا, ويتم التعبير عن هذا التشريع داخل الأوامر الأخلاقية ,وتشتق الإرادة هذه من التكوين الخاص للطبيعة البشرية التي تفيد أن يكون الواجب بالضرورة ضرورة عملية لا مشروطة للفعل, فيصلح بذلك لكل الكائنات العاقلة, فيكون قانونا لكل إرادة إنسانية(22), لكن يجب أن ننبه إلى أن كانط لا يتحدث عن الطبيعة البشرية التي تنسجم مع الطبيعة بوجع عام, بل يركز على التكوين الخاص للطبيعة البشرية, فهي طبيعة عاقلة تحكم قوانين الحرية التي يجب أن تتخطى كل حد مرسوم(23) .
وهذا الواقع هو الذي يجعل الأخلاق نقية من كل ما يتصل بالتجربة فتتأطر بهذا المعنى, تحت مفهوم الفضيلة, والذي لا يتضمن في واقع الأمر إلا معنى قانون ضروري لكل الكائنات العاقلة, يكون صالحا كقانون كوني للسلوك ,ويتطلب تحقيق هذا الفرض أن يكون هناك تقدم نحو الميتافيزيقا: ميتافيزيقا الأخلاق, والسبب يكمن في أن الأمر هنا, كما يقول كانط يتعلق بتوضيح مبادئ ليس لما يحدث بل قوانين ما ينبغي أن يحدث.
لكن كانط لا يقصد المبادئ بالمعنى العام, بل يقصد المبادئ الاعملية, وهذه المبادئ حتى وإن كانت عملية قد تكون صورية حين تجرد كل الأهداف الذاتية, وقد تكون مادية حينما تفترض غايات ذاتية ترتبط بموضوعات محددة, وهذا الصنف من الأهداف لا تكون له سوى قيمة بالنسبة للذات, أي تكون لها قيمة ذاتية, وفي مقابل ذلك تكون للمبادئ العملية الصورية قيمة مطلقة, فهي توجد في ذاتها, وتؤسس أوامر أخلاقية في الوقت الذي تؤسس فيه الأهداف الذاتية قوانين افتراضية(24).
وأن نفترض بأنه توجد مبادئ موضوعية عملية, تكون لها قيمة مطلقة في ذاتها , فإن ذلك يطرح السؤال عن طبيعة الموجودات التي يمكن لهذه المبادئ أن تشتق منها قوانين تصلح لوجودها , وهنا لا بد من أن نفترض وجود كائن يوجد كغاية في ذاته, وتكون لوجوده هذا قيمة مطلقة في ذاته, وهذا الكائن هو الإنسان. فيمثل الإنسان إذن ككائن عاقل, مبدأ لقوانين محددة تعبر عن نفسها في الأوامر القطعية, فالإنسان يوجد كغاية في ذاته, وهو ما يعني أنه لا يمكن أن يكون وسيلة , يمكن لإرادته أن يستعملها لغاياته الخاصة, وبما هو إنسان يتوجب يتوجب عليه أن يعتبر نفسه في نفس الوقت , وأن يعتبر كغاية في ذاته, وذلك في كل مل يتصل بأفعاله, سواء كانت تلك الأفعال تهمه أو كانت تهم الكائنات العاقلة بصفة عامة ,وما يمكن أن يكون وسيلة لغاية فلن تكون له قيمة مشروطة, وهذا ما يجعل من الموضوعات التي نحصل عليها بأفعالنا لا تكون لها سوى قيمة تكون دائما مشروطة , ويتحدد وجود هذه الموضوعات بكونه وجود لا يتعلق بالإرادة, بل يتعلق بالطبيعة, وبما هي كذلك فإنها تفتقر إلى العقل, فهي إذن كائنات ليس لها سوى قيمة نسبية.
وإذا كانت هذه الموجودات تتعلق بالطبيعة , فإنها تكون عبارة عن وسائل, فهي إذن أشياء, وعلى العكس من ذلك تتوفر الكائنات العاقلة على طبيعة يتحددون من خلالها كغايات في ذاتها, فيتحددون إذن بوصفهم ما لا يمكن أن يستعمل فقط كوسيلة, ولا يتعلق الأمر هنا بغايات ذاتية بل بغايات موضوعية, يتحدد الفعل من خلالها كفعل حسن, وتكون لها قيمة بالنسبة لكل كائن عاقل , وفي هذه الحالة لا يمكن أن نعوض غاية بغاية أخرى لأن من شأن ذلك أن يحول الغايات الموضوعية التي تكون ذات صلاحية بالنسبة لكل عقل كونيا إلى مجرد غايات ذاتية تكون لها قيمة نسبية ومشروطة(25).
لا يتحدد الإنسان بوصفه غاية فقط , بل أكثر من ذلك غاية الغايات وهنا يقول كانط " توجد الطبيعة العاقلة كغاية في ذاتها, ويتمثل الإنسان وجوده الخاص ضرورة, فيوجد إذن مبدأ ذاتي للفعل الإنساني . ويتمثل كل كائن عاقل وجوده تبعا لنفس المبدأ العقلي الذي يصلح لي أنا أيضا, ويكون هذا المبدأ مبدأ موضوعيا يجب أن نستنبط منه كل قوانين الإرادة كمبدأ عملي سامي"(26),
تجد المبادئ الأخلاقية إذن أساسها في العقل, وما يعطي للمبادئ التي تشتق منها كل القوانين الأخلاقية موضوعيتها, هو كونها تنتمي إلى العقل, وتصدر عنه مباشرة, هذا ما يجعل أفعال الكائنات العاقلة تكون غاية في ذاتها, ويظهر هنا أن العقل لا يحدد السلوك فقط, بل هو نفسه الذي يسلك, ويكون اشتقاق المفاهيم من العقل ومن مبادئه بواسطة الاستنباط , وتوجد الإنسانية في أساسه وفي نهايته, لذلك يمكن أن نعتبر الإنسانية مبدأ تستنبط منه باقي المبادئ الأخلاقية, وهذا ما يسمح لكانط بأن يحدد الأنا العملي الذي يشتق من هذا المبدأ في قوله: " أسلك بشكل تعامل به الإنسان في شخص غيرك كما في شخصك ودائما كغاية وليس كوسيلة "(27). وبعد أن حدد كانط هذه القاعدة عاد من جديد إلى الأمثلة التي سبق له أن حللها وأعاد تحليلها على ضوء هذه القاعدة , وذلك كما يلي:
1)- يعتبر الذي ينتحر الإنسان كشيء , وليس كغاية في ذاته, فالشخص مجرد أداة موجهة للحفاظ على حالة مقبولة إلى حدود نهاية الحياة.
2)- يحدد الذي ينقض العهد مجال صلاحية الغير في كونه مجرد وسيلة لتحقيق هدف خاص.
3)- توجد في الإنسانية استعدادات هائلة للكمال, ويتعين على الواجب أن يتوافق مع الإنسانية, ويمكن أن يكون إهمال هذه الاستعدادات يتلاءم مع حفظ الإنسان كغاية في ذاته لكنه لا يتلاءم مع إنجاز هذه الغاية.
4)- يقول كانط " بخصوص الواجب المطلوب اتجاه الغير, فإن الغاية الطبيعية لكل الناس تتحدد في السعادة الخاصة, لكن, يمكن للإنسانية أن تستمر بكل تأكيد حتى إذا لم يساهم أي واحد منهم في هذه السعادة... لكن لن يتعلق الأمر هنا مع ذلك إلا بتوافق سلبي مع الإنسانية كغاية في ذاتها, وليس توافقا إيجابيا, إذا لم يحاول أي فرد في أن يساعد, كما في نفسه, باقي الغايات, لأن الذات بما هي غاية في ذاتها, فيجب على هذه الغايات , لكي ينتج هذا التمثل لدي كل مفعوله أن يكون كغاياتي مهما أمكن ذلك "(28).
وتبعا لهذا الرأي فإن المبدأ الذي تعتبر الإنسانية من خلاله وكذلك كل طبيعة عاقلة كغاية في ذاتها, وكشرط يحدد حرية أفعال الإنسان لا يشتق بالضرورة إلا من العقل الخالص. ويشتق من هذا المبدأ مبدأ عملي للإرادة لتتوافق مع العقل العملي الكوني, ويقصد كانط بذلك إرادة كائن عاقل يتصورك كإرادة تؤسس تشريعا كونيا(29), وستكون هذه الإرادة , من حيث أنها تحمل دليل عدالتها, صالحة للأمر الأخلاقي, وما دامت فكرة تشريع كوني, لا تتأسس على أية مصلحة, ويعتبر هذا الأمر الوحيد من ضمن باقي الأوامر, الذي يكون غير مشروط, فيحدد هذا الأمر إذن الفعل بفضل قاعدة الإرادة التي يمكن أن تؤخذ في ذاتها كموضوع لإرادة تشرع كونيا.
ويعتبر كانط في هذا السياق, أن ما يمكن الإنسان من الربط بين القوانين هو فكرته عن الواجب, وهذا ما يجعله لا يخضع إلا لتشريعاته الخاصة التي تقدم نفسها كتشريعات كونية, فيسلك وفق إرادته بتوجيه من الطبيعة, وليست هذه التشريعات إلا قوانين الإرادة , وهي قواعد تسمح لكل فرد بأن يحكم على ذاته وعلى أفعاله , وهذا ما يقود حسب كانط إلى مفهوم سيادة الغايات, الذي لا يمثل في واقع الأمر إلا الربط النسقي لتنوع الكائنات العاقلة بقوانين مشتركة(30)
وتكون الكائنات العاقلة, بموجب هذه الكونية, موضوع قانون, لا تسمح لأي واحد منهم أن يعامل نفسه أو يعامل الآخرين كوسائل, بل يتوجب أن تعامل هذه الكائنات العاقلة , في الفرد كما في الجماعة, كغاية في ذاتها, وهذا ما يسمح لكانط بأن يقول بأن هذا ما يشكل المصدر الذي يشتق منه الربط النسقي للكائنات العاقلة بقوانين موضوعية مشتركة, ويعتبر كانط الإنسان مشرعا في إطار سيادة الغايات, ولا يكون هذا التشريع ممكنا إلا في إطار حرية الإرادة , ويشرع الإنسان لنفسه ولغيره من خلال أفعاله التي يتعين عليها , لكي تكون أفعالا أخلاقية, أن ترتكز الأخلاقية على أساس كونها تربط هذه الأفعال بالتشريع في إطار سيادة الغايات: غايات ممكنة, هنا تكون الإرادة مؤسسة لتشريع كوني من خلال القواعد التي تنتجها لنفسها(31)وإذا لم تكن الإرادة مشرعة, فلن يدرك الكائن العاقل كغاية في ذاته, وتتمكن الإرادة من خلال هذا التشريع الكوني من أن تنقل هذه التشريعات إلى باقي الإرادات. فأن يسلك الإنسان على هذا النحو أي أن يكون السلوك غاية في ذاته في إطار مفهوم سيادة الغايات, فإن ذلك يعني أن هذا الإنسان يقدم سلوكه كنمودج لسلوك يسلكه الإنسان تبعا لمبدأ الواجب, وما يملي هذا الواجب هو الضرورة العملية التي ترتكز أساسا على العلاقات بين الكائنات العاقلة , ولا تتوخى هذه الضرورة العملية التي توجد في قلب كل تشريع سوى فكرة الكائن العاقل , الذي تلزمه هذه الكرامة بألا يسلك, ولا يخضع إلا للقانون الذي يؤسسه هو بنفسه. وما يجعل الإنسان كائنا كريما , هو أنه لا يقدر بثمن. ويتخذ كانط هذا التقدير لكي يميز من خلاله بين الإنسان وباقي الكائنات ويقول " يكون لكل شيء ثمن أو كرامة في إطار سيادة الغايات, وما يكون له ثمن , يمكن أن يعوض بشيء آخر كمقابل, وما يفوق الثمن, على العكس من ذلك, ولا يقبل بالتالي مقابلا, فهو ما تكون له كرامة "(32)
يوجد إذن في العالم شيء لا يمكن أن يقدر بثمن , ولا يعوض بشيء آخر , يقوم مقامه إنه الإنسان, فهو يمثل الكائن الوحيد ضمن مخلوقات الأرض يمتلك قيمة داخلية مطلقة , يحددها كانط في مفهوم الكرامة, ويتحدد وجوده من خلال هذا كشيء في ذاته, وهذا ما يجعل منه غاية في ذاته. ويتعين على الإنسان أن يقدر هذه الغاية في ذاته, وفي باقي الكائنات العاقلة كونيا. ولكي يوضح لنا كانط تصوره هذا , يميز ما يكون له ثمن تجاري أي قيمة السلعة, ويحدده في ما يرتبط بميولات وحاجات الإنسان عما يكون له ثمن عاطفي, ترتبط قيمته بالعاطفة كما هو الأمر بالنسبة للذوق عما تكون له قيمة داخلية, ويحدده في الكرامة. ولا يرتبط مفهوم الكرامة إلا بالشرط الذي يجعل الكائن العاقل غاية في ذاته, ويتمثل هذا التقدير في كون الإنسان لا يقبل أي تقويم بالسعر أي ما يجعل الإنسان لا يقبل أن يوضع في الميزان وبأي شكل من الأشكال, ولا أن نقارنه بأي سعر(33).
يبدو إذن أن قيمة الإنسان , لا تقبل المقارنة , فتحدد كرامته كقيمة في ذاتها, فتمثل الكرامة قيمة ذاتية مطلقة, ولا تقبل هذه القيمة أن تكون مشروطة . وتجد هذه القيمة الداخلية ترجمتها في مفهوم الإحترام الذي يجب أن يكنه الإنسان لكل الكائنات العاقلة وفي غيره كما في نفسه. ويكون هذا الإحترام كونيا, ويقدم هذا الإحترام نفسه , حسب كانط , في القاعدة الأخلاقية " أسلك تبعا لقاعدة يمكن أن تتحول في نفس الوقت إلى قانون كوني "(34) . وفي هذا السياق , يرجع كانط إلى مفهوم الإرادة الحسنة , ويحدد الشرط الذي يجعل منها إرادة حسنة بالمعنى الدقيق للكلمة في ألا تتناقض مع ذاتها, وما يجعل كذلك هو تحولها إلى قاعدة كونية للسلوك " أسلك تبعا لقواعد يمكن أن تؤخذ في ذاتها كموضوع لقوانين كونية للطبيعة ". ويتعين علينا هنا, ومن جديد, أن ننتبه إلى أن ما يقصده كانط بمفهوم الكونية هي الطبيعة ذاتها بشرط أن يقصد بها , أي بالطبيعة الطبيعة العاقلة. ويترتب عن هذه الإرادة الحسنة اللامشروطة قاعدة, يعتبرها كانط بمثابة مبدأ صاغه كما يلي " أسلك بحسب قاعدة تحتوي على قدرة أن تصلح كونيا لكل كائن عاقل" (35)
حينما يصوغ كانط هذه القواعد الأخلاقية, التي يسميها بالأوامر الأخلاقية, فلأنه يريد أن يجعل من الكائن العاقل موضوعا لسيادة الغايات, فهو يمثل المبدأ الأساسي لكل قواعد الأخلاق. وبما هو كذلك , فيجب أن يعامل كغاية في ذاته, فيتوجب عليه إذن أن يكون خالقا لتشريعات كونية, تصلح لكل الكائنات العاقلة. وبما أن الكائنات العاقلة, تكون مشرعة بهذا المعنى وتكون في ذات الوقت موضوعا وغاية لتشريعاتها, وهوما يجعل منها غاية في ذاتها, فإن كانط يسميها أشخاصا. هنا يعود كانط لكي يوضح ما يقصده بسيادة الغايات وسيادة الطبيعة, وهو ما يتيح لنا أن نفهم ما يقصد صاحب النظرية بمفهوم الكونية, فلا يمكن فهم الكونية بما هي طبيعة إلا من خلال كون الكائن العاقل يضع قوانين كونية ويفرضها على طبيعة عاقلة, في حين تتحدد الكونية في مجال الطبيعة من خلال قوانين السببية ويسميها كانط بسيادة الطبيعة.
وحينما يطلب كانط من كل كائن عاقل أن يخلق تشريعاته, فلأنه يريد أن تكون الإرادة مستقلة. فهو يعتبر الإستقلالية مبدأ لكرامة الطبيعة الإنسانية وكل طبيعة عاقلة, وعلى هذا الأساس يحدد كانط كل أخلاقية " الأخلاقية هي علاقة الأفعال باستقلالية الإرادة أي العلاقة بتشريع كوني ممكن من خلال قواعد هذه الإرادة "(36). ولا يمكن أن نفهم هذه الإستقلالية إلا في إطار استقلالية القواعد الأخلاقية عن كل الغايات المادية, بحيث تتوصل هذه القواعد إلى غايات في ذاتها. وتنتج هذه الإستقلالية عن احترام لفكرة لا تصلح لأن تكون جبرا للإرادة الإنسانية, وهو ما يحدد الكائن العاقل ككائن جدير بأن يكون مشرعا في ظل سيادة الغايات. فما يدافع عنه كانط هنا هو استقلالية الإرادة , وهي الملكة التي يعتبرها ما تتوفر عليه الكرامة الإنسانية لتشريع وإقامة قوانين كونية , ويجب أن تكون موضوعا خاصا للإحترام , لكن يشترط فيها هي بدورها أن تخضع لهذه التشريعات , فتمثل استقلالية الإرادة إذن مبدأ أساسيا لكل أخلاقية ممكنة.
ويدفع كانط بهذا التصور في اتجاه ربط الإرادة بمفهوم السببية , فيحددها على أنها تمثل سببية الكائنات العاقلة, وتدخل الحرية في ملكية هذه السببية حتى تتمكن من أن تسلك بشكل تستقل به عن الأسباب الخارجية التي قد تجعل الإرادة تابعة فينتج عنها جبر وإكراه, ويلاحظ بأن هذا التعريف للحرية سلبي, لكنه يتيح لمفهوم إيجابي أن يصدر عنه, ويكون هذا المفهوم غنيا وخصبا يقول عنه " كما أن مفهوم السببية في ذاته يعني القوانين التي من خلالها يجب أن يوضع شيء نسميه نتيجة ينتج عن شيء آخر نسميه سببا, فإن الحرية, حتى وإن لم تكن خاصية الإرادة التي توافق قوانين الطبيعة, ليست خارج القانون " (37). فأن نقول بمبدأ الأخلاقية أو إرادة حرية, أو إرادة تخضع لقوانين أخلاقية, فإن الأمر يتعلق دائما بنفس الشيء, ولذلك فإن فكرة إرادة حسنة مطلقا هي تلك التي يمكن لقاعدتها أن تحصر قانونا في ذاتها , يكون كونيا, وتقدر الإرادة أن تكون ذلك القانون.
ويتحدد كل كائن عاقل بكونه يسلك تبعا لفكرة الإرادة , ويكون هذا الكائن حرا واقعيا من الناحية العملية, فتصلح كل القوانين التي تتصل بالحرية صلاحية تطابق صلاحية الإرادة الحرة. ويحقق الكائن العاقل وعيا بتكوينه الأخلاقي , ويظهر ذلك من خلال كونه يعي ذاته كمصدر لأفعاله . فيجب إذا ان يوصف بخاصية كونه يسلك تبعا لفكرة الإرادة, لكن لا يوجد القانون الأخلاقي كغاية في ذاته بدون أن توجد شرعية تجعله يكون ممكنا. وقد سبق لكانط أن نبه إلى السؤال كيف يكون القانون الأخلاقي ممكنا ؟ وإلى أهميته. فيرتبط السؤال هنا بمسألة المشروعية, ويعني ذلك انه لكي تكون للقانون الأخلاقي سلطة يفرض نفسه من خلالها على الذات , وعلى كل كائن عاقل, فلا بد ان تكون لهذه السلطة مشروعية داخل الذات, ولدى كل كائن عاقل, وهذا الأمر هو ما صاغه كانط في السؤال: كيف يمكن أن يكون القانون الأخلاقي جبرا؟(38)
لكي يجيب كانط عن هذا السؤال , يبدأ بأن يعلن بأن الحرية والتشريع الذي يخص الإرادة ينبثق من الإستقلالية , ويترتب عن هذا الإعلان هذا القول: " يرتكز إعلان القانون الأخلاقي على إعلان الحرية "(39), ويقترن هذا الإعلان بما يجده الإنسان في نفسه من الناحية الواقعية. فهو يتميز عن باقي الأشياء بالعقل, وهو ملكة ينعتها كانط بأنها تلقائية خالصة . فحتى وإن كانت هذه الملكة تتأثر بموضوعات الخارجية فإنها تظهر فيما يسميه كانط بالأفكار النهائية الخالصة, ويعلو عن موضوعات الحساسية,ويميز بين العالم المحسوس والعالم المعقول الذي يتشكل محتواه من الأفكار بالمعنى الأفلاطوني للكلمة(40). ويجب على كل إنسان من هذا المنظور, أن ينظر إلى ذاته, وأن يتحدد ككائن ينتمي إلى العالم المعقول كعالم لا مشروط. ويضمن تمثله لنفسه على هذا النحو أن يتوفر على وجهتي نظر مختلفتين: فهو من جهة يعرف قوانين اشتغال ملكاته أي قوانين أفعاله, ومن جهة ثانية , فهو ينتمي إلى العالم المحسوس لأنه يخضع لقوانين الطبيعة, وبانتمائه إلى العالم المعقول, يخضع لقوانين مستقلة يؤسسها العقل.