لقد كتبنا "ضد- أوديب" معاً، أنا وغاتاري. وبما أن كل واحد منا كان متكوثراً،1 فإن العدد أصبح كبيراً. وهنا استخدمنا كل ما يقرب بيننا؛ أي ما هو أقرب وما هو أبعد. ووزعنا أسماء مستعارة ذكية كي نحافظ على السرية. فلماذا أخفينا أسماءنا؟ بفعل العادة فقط؛ ولكي لا يتعرف علينا أي أحد. وأيضاً حتى يصبح ما يدفعنا إلى التصرف والشعور والتفكير في غير متناول الآخرين. وفضلاً عن ذلك، فإن من الممتع أن نتحدث مثل كل الناس، وأن نقول إن الشمس أشرقت، وهذه طريقة في التعبير، يعرفها كل واحد. ولم يصل بنا الأمر إلى الإحجام عن قول "أنا"، بل إننا وصلنا إلى الحد الذي لم يعد من المهم فيه أن نقول أو لا نـقول "أنا". فلم نعد نحن بل أصبحنا مغايرين لذواتنا، لكن كل واحد منا سيتعرف على ذويه (His Own). فنحن حصلنا على المساعدة وحققنا طموحنا وتعددنا.
إن الكتاب لا موضوع له ولا ذات، فهو يتكون من مواد متنوعة، تشكلها تواريخ وسرعات متباينة. وعندما نربط الكتاب بذات ما، فإننا نهمل عمل المواد وبرانية علاقاتها. فنحن نصنع إلهاً طيباً من أجل حركات هي في أصلها جيولوجية. وداخل الكتاب، كما هو الحال داخل كل شيء، هناك خطوط التمفصل أو التجزؤ، وهناك طبقات ومناطق توطن (territorialités)، ولكن هناك أيضاً خطوط الهروب وحركات الترحيل (déterritorialisation) وتسوية الطبقات. وتؤدي سرعة جريان هذه الخطوط إلى ظواهر التأخر النسبي واللزوجة، أو على العكس من ذلك، إلى الاستعجال والقطيعة. كما تشكل الخطوط والسرعة القابلة للقياس ترتيباً أو تركيباً. وهذا التركيب يهم الكتاب، باعتباره غير قابل للانتساب. فهو تعدد، لكننا لا نعرف ما الذي يعنيه المتعدد عندما لا يعود محمولاً؛ أي عندما يبلغ مرتبة الاسم الموصوف. أما التركيب الآلي، فإنه يتجه صوب الطبقات التي تجعل منه عضوية أو كلية دالة أو تحديداً منسوباً إلى ذات. ولكنه يتجه أيضاً صوب جسد دون أعضاء، يتخلص باستمرار من العضوية، ويعمل على تمرير جزيئات لا أهمية لها كشدة خالصة، وعلى الانتساب إلى ذوات، يحتفظ لها باسم هو بمثابة أثر الشدة.
ما هو جسد الكتاب الخالي من الأعضاء؟ هناك أجساد كتب كثيرة، بحسب نوعية الخطوط التي تم أخذها بعين الاعتبار، وبحسب مضمونها أو كثافتها الخاصة، وبحسب التضارب الحاصل بينها على "مستوى التماسك" الذي يسمح بانتقائها. وهنا وهناك، تكون وحدات القياس المتمثلة في تكميم (من كمية) الكتابة هي الأساس. ولا يوجد اختلاف بين ما يتحدث عنه الكتاب والطريقة التي صيغ بها. لذلك، ليس للكتاب موضوع، وكتركيب فهو يرتبط بتركيبات أخرى ذات علاقة بأجساد أخرى لا أعضاء لها. فلا أحد سيتساءل عن معنى الكتاب، هل هو دال أم مدلول، ولا جدوى من فهم ما يتضمنه، فقد نتساءل كيف يشتغل؟ وما هي الرابطة التي يلجأ إليها من أجل تمرير كثافاته أو عدم تمريرها؟ وداخل أي تعدد يدرج ويحول كثافته؟ وما هو الجسد الفاقد للأعضاء الذي سيقرب منه جسده؟
إن الكتاب لا يوجد إلا في الخارج وبواسطته. وعلى اعتبار أن الكتاب آلة صغيرة، فما هي العلاقة القابلة للقياس والقائمة بين هذه الآلة الأدبية وآلة الحرب أو آلة الحب أو الآلة الثورية... الخ، وبين الآلة المجردة التي تتحكم في هذه الآلات جميعها؟
لقد تمت مؤاخذتنا على استلهامنا لأعمال الأدباء. لكن السؤال الوحيد المطروح علينا حينما نكتب، هو معرفة نوعية الآلة التي ستمكن من تحريك الآلة الأدبية وتشغيلها. فكلايست (kleist) هو عبارة عن آلة حربية مجنونة، وكافكا (kafka) هو عبارة عن آلة بيروقراطية غريبة (ثم، أليسَ من المحتمل أن يصبح المرء حيواناً أو نباتاً عن طريق الأدب؟ وهو ما لا يعني بكل تأكيد، أن يتحول بشكل أدبي. ألا يصبح المرء حيواناً في البدء، عن طريق الصوت؟ إن الأدب هو تركيب لا علاقة له بالأيديولوجيا، فهو لم ولن يتضمن أية أيديولوجيا.
إننا لا نتحدث عن شيء آخر، سوى عن التعدد، والخطوط، والطبقات، والتجزيئات، وخطوط الهروب، والكثافات والتوهجات، والتركبات الآلية وأنماطها المختلفة، والأجساد بلا أعضاء، وعملية بنائها وانتقائها، ومستوى التماسك، ووحدات القياس بالنسبة لكل حالة. فمقاييس الطبقات والأزمنة ووحدات الكثافة، ووحدات التقارب لا تشكل فقط تحولاً كمياً2 للكتابة، بل تحدد الكتابة باعتبارها دائماً قياس شيء آخر، فلا علاقة للكتابة بالدلالات، بل هي مقترنة بمسح الأراضي ووضع الخرائط من أجل مناطق آتية في المستقبل.
وأول شكل للكتاب، هو الكتاب-الجذر. فقد كانت الشجرة هي صورة العالم، أو بالأحرى كان الجذر هو صورة شجرة العالم. وكانت هذه الأخيرة بمثابة الكتاب الكلاسيكي، باعتبارها جوانية عضوية، جميلة، دالة وذاتية (مثل طبقات الكتاب). ويحاكي الكتاب العالم مثلما يحاكي الفن الطبيعة، وذلك بواسطة إجراءاته الخاصة التي تنجح هناك، حيث لا يمكن للطبيعة أو لم يعد بإمكانها تحقيق النجاح. فقانون الكتاب هو قانون التفكير، الواحد الذي يصبح اثنين. وكيف يمكن لقانون الكتاب أن يتواجد داخل الطبيعة، ما دام يشرف على عملية الفصل بين العالم والكتاب، وبين الفن والطبيعة؟
إننا حينما نلتقي بصيغة "الواحد يصبح اثنين" -حتى ولو تم تلفظها بشكل إستراتيجي من قبل ماو (Mao)، وفهمها بأفضل السبل "الديالكتيكية"- نجد أنفسنا أمام أقدم فكر وأكثر الأفكار تروياً وشيخوخة وتعباً. غير أن الطبيعة لا تتصرف بهذا الشكل، فالجذور تدور حول نفسها وتتفرع بكثرة، جانبياً ودائرياً، لكن ليس بشكل انشطاري. فالروح أبطأ من الطبيعة. وحتى الكتاب، كواقعة طبيعية، يدور حول محوره وتحيط به أوراقه. لكن الكتاب كواقعة روحية، والشجرة أو الجذور كصورة، لا تتوقف عن تطوير قانون الواحد الذي يصبح اثنين، وقانون الاثنين اللذين يصبحان أربعة. فالمنطق الثنائي هو الواقعة الروحية للشجرة-الجذر.
وحتى اللسانيات، التي تعتبر مادة "متقدمة"، تحتفظ بالصورة الأساسية المتمثلة في الشجرة-الجذر التي تربطها بالتأمل الكلاسيكي. (وهو ما ينطبق على تشومسكي (Chomsky) والشجرة الاستبدالية، حيث يبدأ عند النقطة "س"، ويقوم بإجراءات التقسيم الثنائي).
ويمكن القول إن هذا الفكر لم يفهم التعدد أبداً، فهو يحتاج إلى وحدة رئيسية قوية ومفترضة، ليصل إلى العدد اثنين، وفق منهج روحي. أما من جهة الموضوع، فيمكننا حسب المنهج الطبيعي، المرور مباشرة من واحد إلى ثلاثة أو أربعة أو خمسة، لكن شريطة التوفر على وحدة رئيسية قوية، هي وحدة الدعامة التي تتحمل الجذور الثانوية.
لكننا ما زلنا لم نتقدم كثيراً. فالعلاقات أحادية المعنى والمزدوجة، بين الدوائر المتتالية، حلت فقط محل المنطق الثنائي (binaire) للقسمة الثنائية (dichotomie).
ولا يدرك الجذر الدائر حول نفسه، التعدد أكثر مما يدركه الجذر المنقسم بشكل ثنائي. فعندما يشتغل أحدهما على الموضوع، يشتغل الآخر على الذات. ويسود المنطق الثنائي والعلاقات أحادية المعنى والمزدوجة، في مجال التحليل النفسي (كما هو الشأن في شجرة الهذيان، ضمن التأويل الفرويدي لشريبر (Schreber) (وفي مجال اللسانيات، والبنيوية، وحتى الإعلاميات.
ويعتبر النسق الجذيري (radicelle) أو الجذر المورق، بمثابة الوجه الثاني للكتاب الذي تدعي حداثتنا الانتماء إليه بشكل تلقائي. وهذه المرة، فشل الجذر الرئيسي، أو لنقل لقد تهشم من جهة أطرافه، وانضمت إليه وفرة مباشرة وعادية من الجذور الثانوية التي نمت بشكل كبير.
وهذه المرة أيضاً، ظهرت الواقعة الطبيعية داخل فشل الجذر الرئيسي، غير أن وحدتها ظلت قائمة كماض أو كمستقبل، أي كممكن. ويتعين علينا التساؤل، عما إذا لم تكن الواقعة الروحية والمتأملة، قد عوضت واقع الحال هذا، عبر إبراز مقتضيات وحدة سرية مفهومة بشكل أكبر، أو كلية ممتدة بشكل أوسع. لنفترض منهجية بوروغ (Borroughs) في القطع (Cut-up)، فعملية ثني نص فوق نص آخر مشكل لجذور متعددة وإضافية)تشبه الفسيلة bouture(، تقتضي بعداً مضافاً إلى ما بعد النصوص المعنية. وداخل هذا البعد الإضافي للثني، تزاول الوحدة عملها الروحي. بهذا المعنى يمكن لأكثر الأعمال شذرية، أن يعرض كعمل كلي وكمقطوعة موسيقية عظيمة. وللزيادة في السلاسل والتعدد، تقدر أغلب المناهج الحديثة بشكل دقيق، ضمن اتجاه خطي، في حين تتأكد وحدة الكلية في بعد آخر، هو بعد الدائرة أو الدورة. وكلما وجد التعدد نفسه داخل بنية، تم تعويض نموه باختزال قوانين التركيب. ويعتبر مجهضو الوحدة هنا، بمثابة صناع للأوهام (doctores angelici)، ما داموا يؤكدون على وجود وحدة ملائكية عليا. ولا تقوم كلمات جويس (Joyce) المعبر عنها بـ "الجذور المتعددة"، بتحطيم الوحدة الخطية للغة أو للكلمة، إلا عبر وضعها لوحدة دورية للكلمة وللنص أو للمعرفة. كما أن حكم نيتشه (aphorismes de (Nietzsche3 لا تحطم الوحدة الخطية للمعرفة، إلا عبر الإحالة على الوحدة الدورية للعود الأبدي الحاضر كمعطى غير معروف داخل الفكر.
ويمكن القول إن النسق المورق لا يقطع في الحقيقة مع النزعة الثنائية ومع تكاملية الذات والموضوع ومع الواقعة الطبيعية والواقعة الروحية. فالوحدة تتعرض باستمرار للإزعاج وللعراقيل داخل الموضوع، في حين ينتصر نوع جديد للوحدة داخل الذات. لقد فقد العالم محوره، ولم تعد الذات قادرة على القيام بالتقسيم الثنائي، لكنها حققت وحدة عليا وتأرجحا أو تعريفاً محدداً داخل بعد مضاف إلى بعد موضوعها. فالعالم أصبح عماءً (Chaos)، لكن الكتاب ظل صورة للعالم، عالم العماء الجذري (Chaosmos-radicelle) بدل العالم الجذري (cosmos-racine). وكم هي غريبة خدعة الكتاب، وبخاصة أنها تتم بشكل كلي وليس بشكل شذري. ففكرة الكتاب، كصورة للعالم، تعتبر على أية حال تافهة. وفي الحقيقة، لا يكفي أن نصيح "ليحيا المتعدد"؛ على الرغم من صعوبة إعلان هذا الأمر. ولكن، يمكن لأية مهارة مطبعية أو معجمية أو حتى تركيبية، أن تكون كافية لإسماع هذا الصوت.
فالمتعدد يجب أن يصنع، ليس عبر إضافة بعد أعلى دوماً، بل على العكس عبر طرائق أكثر بساطة واعتدال داخل الأبعاد المتوفرة، ليكون الواحد دوماً (n-1) مكوناً من مكونات المتعدد، ومحذوفاً منه في الآن نفسه. فالواحد يحذف من المتعدد الذي يتعين تشكيله وكتابته بصيغة (n-1). إن نظاماً كهذا يمكن أن نسميه "جذموراً" (rhizome). فالجذمور هو بمثابة ساق نباتية تحت أرضية، مختلفة تماماً عن الجذور والجذيرات.
وبهذا المقتضى، تعتبر الخضراوات المدفونة في الأرض والعساقل (tubercules) جذمورات. ويمكن للأعشاب ذات الجذور أو الجذيرات أن تكون جذمورية الشكل؛ والمسألة هي معرفة ما إذا كان علم النباتات على مستوى نوعيته، جذموري الشكل كلية. وحتى الحيوانات، يمكنها أن تكون كذلك، فالفئران المتحركة على شكل مجموعات هي جذمورات. وحيوانات الجحور هي أيضاً كذلك، بفعل الوظائف التي تقوم بها على مستوى السكن وجمع المؤونة والتحركات والفرار والانقطاع. ويتوفر الجذمور نفسه على أشكال متنوعة من الامتداد السطحي المتشعب في كل الاتجاهات إلى تجسيداته على شكل خضراوات مدفونة في الأرض وعساقل؛ كذلك عندما تنزلق الفئران بعضها تحت البعض الآخر. وفي الجذمور نجد الأفضل والأسوأ: فهناك البطاطس، والعشب الضار؛ وهذا الأخير هو حيوان ونبات، إنه سرطان-نباتي (Crab-grass). ونحن نشعر هنا، بأننا لن نقنع أحداً، ما لم نقم بإحصاء بعض الخصائص التقريبية للجذمور.
أولاً وثانياً: هناك مبادئ الترابط والتنافر
إن أية نقطة من نقط الجذمور، بإمكانها أن ترتبط بباقي النقط، ويتعين عليها القيام بذلك. ويختلف هذا الأمر عن الشجرة أو الجذر اللذين يحددان نقطة الانطلاق والنظام. فالشجرة اللسانية على طريقة تشومسكي (Chomsky) تبتدئ عند النقطة "س"، وتشتغل بواسطة التقسيم الثنائي. وعلى العكس من ذلك، فإن كل خط داخل الجذمور، لا يحيل بالضرورة على خط لساني. فالسلاسل العلاماتية (السميوتيقية) من كل نوع، تكون متصلة بأنماط ترميزية متنوعة جداً، مثل السلاسل البيولوجية والسياسية والاقتصادية... الخ. وهي لا تبرز فقط أنظمة الدلائل المختلفة، ولكن أيضاً أوضاع الأشياء وحالاتها.
وبالفعل، فإن الترتيبات الجماعية للملفوظ، تشتغل مباشرة داخل الترتيبات الآلية؛ وليس باستطاعتنا القيام بقطيعة جذرية بين أنظمة الدلائل وموضوعاتها. وحتى عندما ندعي الاقتصار في اللسانيات على التفسير وعدم افتراض أي شيء بالنسبة للغة، فإننا لا نبرح دائرة الخطاب الذي يتضمن أنماطاً من التركيب وأصنافاً من السلطة، ذات طابع اجتماعي خاص. فنحوية تشومسكي (Chomsky Grammaticalité) والرمز المقولي "س" المهيمن داخل كل الجمل، هو أولاً مؤشر على السلطة قبل أن يكون مؤشراً تركيبياً، مثلاً: عليك أن تكون جملاً صحيحة نحوياً، وأن تقسم كل ملفوظ إلى مجموعة اسمية وأخرى فعلية)(وهذا أول تقسيم ثنائي.( ولن تؤاخذ هذه النماذج اللسانية على كونها جد مجردة، بل بالعكس، على كونها ليست مجردة بما فيه الكفاية، ولأنها لم تبلغ الآلة المجردة التي تربط اللغة بالمحتويات الدلالية والتداولية للملفوظات وبالترتيبات الجماعية للملفوظة وبميكرو-سياسة الحقل الاجتماعي.
إن الجذمور لا يتوقف على الربط ما بين السلاسل الدلالية وتنظيمات السلطة والمرجعيات المحيلة على الفنون والعلوم والصراعات الاجتماعية. وتشبه السلطة الدلالية، العسقل الجامع للأفعال المتنوعة: اللسانية، والإدراكية، والإيمائية، والإشارية، والتفكيرية (cogitatifs)– فليست هناك لغة موجودة في ذاتها، ولا لغة كونية، بل تنافس اللهجات (Dialectes) واللهجات المحلية (patois) والعامية (argots) واللغات الخاصة. وليس هناك مخاطب – مستمع (locuteur-auditeur) نموذجي، مثلما لا توجد جماعة لسانية منسجمة. فاللغة حسب تعبير فينرايخ (weinreich): "واقعة متنافرة بالأساس". وليست هناك لغة – أم، بل استيلاء لغة مهيمنة على السلطة، ضمن التعديدية السياسية. وتستقر اللغة داخل كنيسة أو أسقفية أو عاصمة. وهي تتحول إلى نبتة تحت أرضية وتتطور عبر السيقان والامتدادات بباطن الأرض، وعلى طول الأودية المحاذية للأنهار، وخطوط السكك الحديدية، وتنتقل مثل بقع زيتية".4
ويمكننا أن نخضع اللغة لتفكيكات بنيوية داخلية، وهو أمر غير مختلف أساساً عن البحث عن الجذور. فهناك دوما شيء جنيالوجي داخل الشجرة، وهذه المنهجية، ليست شعبية. وعلى العكس من ذلك، فإن المنهجية من نوع الجذمور، لا يمكنها أن تحلل اللغة، إلا عبر توجيهها نحو أبعاد وسجلات أخرى. فاللغة لا تنغلق أبداً حول ذاتها، إلا إذا كانت عاجزة الوظيفة.
ثالثاً: هناك مبدأ التعددية
عندما يعالج المتعدد كاسم موصوف أو كمسند وكتعددية، فإنه يفقد كل علاقة بالواحد كذات أو كموضوع، كواقعة طبيعية أو روحية، كصورة وكعالم. فالتعددية جذمورية، وهي تفضح أشباه التعدديات الشجرية. وليست هناك وحدة تستعمل كمحور داخل الموضوع أو تنقسم داخل الذات. فالتعددية لا ذات لها ولا موضوع، وهي تتوفر فقط على تحديدات وأحجام وأبعاد، لا يمكنها أن تنمو دون تغيير لطبيعتها. (فقوانين التركيب تنمو إذن مع التعددية) ولا تحيل خيوط الدمى كجذمور أو تعددية، على الإرادة المفترضة للفنان أو العارض، بل على تعددية الخيوط العصبية التي تشكل بدورها دمية أخرى تابعة لأبعاد أخرى، مرتبطة بالأولى: "يمكن أن نسمي الخيوط أو السيقان التي تحرك الدمى، نسيجاً". ورب معترض سيقول إن التعددية تكمن في شخصية الممثل الذي يبرزها داخل النص. فليكن ذلك، لكن خيوطها العصبية تشكل نسيجاً بدورها؛ وهي تغوص داخل الكتلة الرمادية وداخل الشبكة، إلى حين بلوغها ما هو غير مميز. وتقترب هذه اللعبة من النشاط الخالص للنسَّاج، وهو النشاط الذي ترجعه الأساطير إلى كائنات البارك والنورن (Parkes et Nornes).5
إن التركيب هو تحديداً، نمو الأبعاد داخل تعددية تتبدل طبيعتها بالضرورة كلما ازدادت ترابطاتها. فليست هناك نقط أو مواقع داخل الجذمور، مثلما هو الحال داخل بنية أو شجرة أو جذر. ليس هناك سوى الخطوط. وعندما يرفع غلين غولد (Glenn (gould من وتيرة عزف قطعة موسيقية، فهو لا يقوم بذلك كعبقري فحسب، بل يحول النقط الموسيقية إلى خطوط، ويكوثر المجموع الموسيقي. بذلك، لن يعود العدد مفهوماً كونياً يقيس العناصر بحسب موقعها داخل بعد معين، بل سيصبح هو نفسه تعددية متنوعة بحسب الأبعاد القائمة )وهنا تعطى الأولوية للمجال على تركيبة الأعداد المرتبطة بهذا المجال.( فنحن لا نتوفر على وحدات القياس، بل فقط على تعددية أو أنواع قياسية.
ولا يبرز مفهوم الوحدة، إلا عندما يتم في إطار التعددية، الاستيلاء على السلطة من طرف الدال، أو تحدث عملية تذويت (subjectivation) مقابلة للعملية الأولى. وذلك هو شأن الوحدة – المحور التي تؤسس مجموعة علاقات أحادية المعنى ومزدوجة بين عناصر أو نقط موضوعية، أو شأن الواحد الذي ينقسم بحسب قانون المنطق الثنائي للتمييز داخل الذات. وتعمل الوحدة دوماً داخل بعد فارغ، ينضاف إلى النظام القائم )كترميز مضاعف( غير أن الجذمور أو التعددية لا يسمحان بالترميز المضاعف، ولا يتوفران على البعد الزائد على عدد خطوطهما، أي على تعددية الأعداد المرتبطة بهذه الخطوط. فكل التعدديات تعتبر مستوية، لأنها تملأ وتشغل كل أبعادها. وفي هذه الحالة، نتحدث عن مستوى تماسك التعدديات، على الرغم من كون هذا "المستوى" يتضمن أبعاداً متنامية بحسب عدد الترابطات القائمة في إطاره. فالتعدديات تحدد من الخارج بواسطة الخط المجرد وخط الهروب أو الترحيل التي بمقتضاها تتبدل طبيعتها عند ارتباطها بتعدديات أخرى. ويعتبر مستوى التماسك )أي الشبكة( خارج كل التعدديات. أما خط الهروب، فهو يرسم في الآن نفسه، واقع عدد الأبعاد المنتهية التي تملؤها التعددية فعلاً، واستحالة قيام أي بعد إضافي، في غياب تحول التعددية وفق هذا الخط، وإمكانية تسوية كل هذه التعدديات وضرورتها، على مستوى التماسك أو البرانية نفسه، على الرغم من تنوع أبعادها.
إن الهدف النموذجي للكتاب هو عرض كل شيء على هذا المستوى من البرانية، فوق صفحة واحدة وعلى الشاطئ نفسه: أحداث معيشة، تحديدات تاريخية، مفاهيم مفكر فيها، أفراد جماعات وتشكيلات اجتماعية. وقد ابتكر كلايست (kleist) كتابة من هذا النوع، هي بمثابة تسلسل منكسر من المشاعر (affects)، بسرعة متفاوتة وباستعجالات وتحولات متعلقة دوماً بالخارج. إنها عبارة عن حلقات مفتوحة. لذلك، فإن هذه النصوص تتعارض من كل الجوانب، مع الكتاب الكلاسيكي أو الرومانسي المكون من جوانية الجوهر أو الذات. وسيقف الكتاب كآلة حربية في مواجهة الكتاب جهاز الدولة. فالتعدديات المستوية ذات الأبعاد )ن( لا قيمة لها ولا ذاتية، ويشار إليها بأدوات التنكير أو بالأحرى بحروف التبعي (partitifs) (إنها عبارة عن أعشاب ضارة وعن جذمور).
رابعاً: هناك مبدأ القطيعة غير الدالة
وهو قائم ضد القطائع الدالة التي تفصل بين البنيات أو تخترق إحداها. فبإمكان الجذمور أن ينقطع وأن ينكسر في محل معين، لكنه يستمر متتبعاً هذه الخطوط أو تلك، وتابعاً لخطوط أخرى. فخط النمل لا ينتهي لأنه يشكل من جديد باستمرار أيضاً. وتحدث القطيعة داخل الجذمور، كلما انفجرت الخطوط التجزيئية داخل خط الهروب، غير أن هذا الأخير يشكل جزءاً من الجذمور. ولا تتوقف هذه الخطوط عن التبادل فيما بينها، لذلك لا يمكننا أبداً الإقرار بنزعة ثنائية أو بتقسيم ثنائي، ولو ضمن الشكل البدائي للحسن وللسيئ. فنحن نحدث القطيعة ونرسم خط الهروب، لكننا قد نلتقي من خلالها بتنظيمات تعيد تركيب المجموع، وبتشكيلات تمنح السلطة من جديد للدال، وبمحمولات تعيد تشكيل الذات، حسب رغبتها، من الانبثاقات الأوديبية إلى التجليات الفاشستية. فالجماعات والأفراد يتوفرون على بوادر ميكرو-فاشية لا تتطلب سوى البلورة. صحيح أن العشب الضار هو أيضاً جذمور، ولا يمكن للحسن وللسيئ إلا أن يكونا نتاجين لانتقاء نشيط ومؤقت، قابل للاستئناف.
كيف لا تكون حركات الترحال وعمليات الاستيطان نسبية ومتحفزة دوماً ومتشابكة فيما بينهما؟ فزهرة الأوركيديا(السحلبية) ترحل مشكلةً صورة، هي بمثابة رسم للدبور، لكن هذا الأخير يستوطن من جديد فوق هذه الصورة، ومع ذلك فإن الدبور يرحل، ليصبح عنصراً ضمن جهاز توالد الزهرة ويعيد استيطان الزهرة عبر اللقاح الذي حمله إليها. فالدبور والزهرة يشكلان جذموراً باعتبارهما متنافرين. ويمكن القول إن الزهرة تحاكي الدبور الذي تعيد إنتاج صورته بطريقة دالة (محاكاة، إيماءات، خدع،... الخ)، ولا يصح هذا الأمر إلا على مستوى الطبقات. فالتوازن بين طبقتين يتم من خلال محاكاة تنظيم نباتي مركب فوق آخر لتنظيم حيواني مركب فوق آخر.
وفي الآن نفسه، سيتعلق الأمر بشيء آخر، إذ لم تعد هناك محاكاة، بل استيلاء على الشفرة وعلى فائض قيمتها، والزيادة في القيمة والصيرورة-الحقيقية وصيرورة-الدبور داخل الزهرة وصيرورة الزهرة داخل الدبور. وكل واحدة من هاتين الصيرورتين تضمن ترحال أحد الحدين واستيطان الحد الآخر، ما دامت الصيرورتان تتسلسلان وتتناوبان وفق حركة الكثافة التي تدفع الترحال دوماً إلى أبعد نقطة. فليس هناك محاكاة ولا تشابه، بل انفجار السلسلتين المتنافرتين داخل خط الهروب المكون من جذمور مشترك، لا يمكن أن ينتسب ولا أن يخضع لأي دال كيفما كان نوعه.
وقد تحدث ريمي شوفان (Remy chauvin) عن "تطور غير متوازن لكائنين لا علاقة لأحدهما بالآخر".6 وبشكل عام، يمكن أن تدعى خطاطات التطور إلى التخلي عن النموذج القديم للشجرة وللانحدار. ففي ظل بعض الشروط، يمكن للفيروس أن يتصل بخلايا جرثومية وأن ينتقل بنفسه، كجينة خلوية لنوع معقد. أكثر من ذلك، يمكنه أن يهرب وأن ينتقل إلى خلايا من نوع آخر حاملاً معه "معلومات وراثية" مأخوذة من مستضيفه الأول )وهو ما أكدته الأبحاث الحالية لبنفنيست (Benveniste)( وطودارو (Todaro) حول فيروس من صنف "ج"، وارتباطه المزدوج مع الحامض النووي للقردوح (babamin) والحامض النووي لبعض أصناف القطط المنزلية.
فلم تعد خطاطات التطور تصاغ فقط بحسب نماذج الأنسال الشجرية التي تنتقل من الأقل إلى الأكثر تمايزاً، بل أصبحت تصاغ وفق جذمور يشتغل تلقائياً داخل ما هو متنافر ويقفز من خط متمايز قبلاً، إلى خط آخر.7 هنا أيضاً يبرز التطور اللامتوازي للقردوح وللقط، بحيث لا يشكل الواحد نموذجاً للآخر، ولا الآخر نسخة من الواحد (فصيرورة القردوح داخل القط، لا تعني أن هذا الأخير"سينتج" الأول). فنحن نشكل جذموراً بفيروساتنا، أو بالأحرى إن فيروساتنا تؤدي بنا إلى صنع جذمور مع حيوانات أخرى. وكما يقول فرنسوا يعقوب (F.Jakob)، فإن نقل العتاد الوراثي بواسطة الفيروس أو بإجراءات أخرى، وانصهارات الخلايا المنبثقة من أنواع مختلفة، تؤدي إلى نتائج شبيهة بنتائج "العلاقات الجنسية الفظيعة التي كانت مشهورة في الأزمنة القديمة وفي العصور الوسطى".8
فالاتصالات الممتدة بين الخطوط المتمايزة، تشوش على شجرة الأنساب، ويتعلق الأمر هنا بالبحث عمَّا هو ذري أو حتى عن الجزيء الذري الذي نعتبر أقرباء بفضله. ونحن نتطور ونموت من زعاماتنا الجذمورية المتعددة الأشكال، أكثر من الأمراض التي ورثناها أو التي انبثقت عنها أمراض أخرى. فالجذمور هو ضد الجنيالوجيا.
وينطبق الأمر نفسه على الكتاب والعالم. فالكتاب ليس صورة للعالم كما ترسخ في الاعتقاد. إنه يشكل جذموراً مع العالم، بحيث يوجد تطور لا متوازٍ بينهما. فالكتاب يضمن ترحال العالم، لكن هذا الأخير يعيد توطين الكتاب الذي يرحل بدوره وبذاته داخل العالم )وهو يقوم بذلك عندما تتوفر لديه القدرة).
ويعتبر التقليد مفهوماً سيئاً جداً، لأنه يخضع لمنطق ثنائي ضمن ظواهر من طبيعة مغايرة. فالتمساح لا يلد جذع الشجرة، مثلما أن الحرباء لا تنتج الألوان المحيطة بها. كما أن الفهد الوردي لا يقلد ولا يعيد إنتاج أي شيء، فهو يصبغ العالم بلونه، وردي على وردي، إنها صيرورة عالمه، حيث يصبح غير مدرك)غير ملموح(وغير دال بذاته، وينجز قطيعته وخط هروبه ويقود حتى النهاية، "تطوره اللامتوازي".
وهناك حكمة النباتات: فحتى عندما تكون متجذرة، يوجد دوما خارج يمكنها من تشكيل جذمور مع شيء آخر: مع الريح، مع الحيوان، مع الإنسان، )وهو الجانب الذي يسمح للحيوانات نفسها بأن تشكل جذموراً مع البشر... الخ( هكذا، فالنشوة ترى باعتبارها اقتحام النبتة الظافرة لداخلنا. ويتعين متابعة الجذمور بواسطة القطيعة والتمطيط والتمديد واستبدال خط الهروب وتنويعه، إلى أن ينتج الخط الأكثر تجريداً وتعقيداً، بأبعاده المتعددة ووجهاته المتقطعة. كما يتعين توحيد السيول التي تم ترحيلها ومتابعة النباتات، حيث نبدأ بتثبيت حدود الخط الأول وفق دوائر التقارب الموضوعة حول التفردات المتتالية، ثم نرى إذا ما كانت داخل هذا الخط، دوائر جديدة للتقارب، قائمة بجانب نقط جديدة موجودة خارج الحدود ومتجهة صوب نواحٍ أخرى.
ويجب القيام بالكتابة وإنتاج الجذمور وتنمية الموطن عبر الترحال وتمديد خط الهروب حتى النقطة التي يغطي فيها مستوى التماسك ليصبح آلة مجردة. “في البداية عليك أن تتجه صوب نبتتك الأولى، وهناك لاحظ جيداً كيف ينساب الماء الجاري انطلاقاً من تلك النقطة. فقد حمل المطر البذور بعيداً. فاتبع الجداول التي حفرها الماء، وبذلك ستتعرف على وجهة المجرى. عندئذ ابحث في هذا الاتجاه، عن النبتة التي توجد أبعد من نبتتك. وكل الأعشاب التي تنمو بينهما فهي ملك لك. بعد ذلك، عندما تنشر هذه الأخيرة بذورها، يمكنك من خلال تتبع مجرى المياه، أن تنمي موطنك ومجالك انطلاقاً من كل واحدة من هذه الأعشاب”.9
من جهتها، فإن الموسيقى لم تتوقف عن تمرير خطوط الهروب لديها، كأشكال “تعددية للتحويل”، حتى ولو أدى ذلك إلى قلب شفراتها الخاصة التي تهيكلها أو تشجرها. لذلك، فإن الشكل الموسيقي يشبه عبر قطائعه وتكوثره، الأعشاب الضارة والجذمور.10
خامساً وسادساً: هناك مبدأ الرسم
الخرائطي والنسخ بورق شفاف
فالجذمور لا يجد مبرره داخل أي نموذج بنائي أو تكويني، وهو غريب عن أي فكرة متعلقة بالمحور التكويني أو البنية العميقة. ذلك أن المحور التكويني يشبه الوحدة الموضوعية التي تدور حول نفسها، والتي تنظم وفقها المراحل المتتالية.
أما البنية العميقة، فهي بالأحرى متوالية ذات أساس قابل لأن يفكك إلى مكونات مباشرة، في الوقت ذاته الذي تنتقل فيه وحدة الإنتاج إلى بعد آخر، تحويلي وذاتي. وهكذا، فإننا لا نبرح النموذج التمثيلي للشجرة أو للجذر الدائر حول نفسه أو المورق )مثل الشجرة التشومسكية المقترنة بالمتوالية الأساس والممثلة لعملية انبثاقها وفق منطق ثنائي.( وهذا التنويع يمس أقدم نمط من التفكير.
بخصوص المحور التكويني والبنية العميقة، يمكن القول إنهما يشكلان قبل كل شيء مبدأين للنسخ، قابلين للتوالد بشكل لا متناهٍ. وكل منطق الشجرة يتلخص في منطق النسخ والتوالد. وسواء تعلق الأمر باللسانيات أم بالتحليل النفسي، فإن موضوع هذا المنطق هو اللا شعور المعروض والمتبلور عبر تعقيدات مشفرة، والموزع على محور توليدي أو داخل بنية استبدالية. فهو يهدف إلى وصف واقع الحال وتوازن العلاقات البين ذاتية من جديد، والكشف عن لا شعور موجود سلفاً وقابع في الزوايا المظلمة للذاكرة وللغة. وتتلخص مهمته في نسخ شيء يعتبر جاهزاً، انطلاقاً من بنية تضاعف الترميز أو من محور قادر على التحمل. فالشجرة تمفصل وتخلق التراكب بين الأوراق الشفافة وكأنها أوراق الشجر.
الجذمور بكليته مختلف فهو خريطة، وليس نسخاً بورق شفاف.11 فالمطلوب رسم الخريطة وليس تقليد الرسم وتتبعاً لخطوطه، فزهرة الأوركيديا (السحلبية) لا تعيد إنتاج خطوط الزنبور بل تشكل الخريطه معه داخل الجذمور. إن ما يميز الخريطة عن “الاقتفاءات” هو أن الخريطة متجهة كلية نحو تجريب متصل بالواقع. فهي لا تعيد إنتاج لا شعور منغلق حول ذاته، بل تشيده. وهي تعمل على خلق الروابط بين الحقول وإزالة الحواجز عن الأجساد دون أعضاء، وجعلها منفتحة إلى أقصى حد، على مستوى التماسك. وبذلك فهي تشكل جزءاً من الجذمور.
إن الخريطة منفتحة، وهي قابلة للتواصل بكل أبعادها، وقابلة للتفكيك والنقض، ومستعدة للتحولات بشكل دائم. ويمكنها أن تتمزق وأن تتكيف مع التوليفات من كل نوع، ويعاد عملها من قبل الفرد والجماعة والتشكيلة الاجتماعية. كما يمكن رسمها على الحائط وتصورها كعمل فني، وبناؤها كعمل سياسي أو كتأمل.
وربما من أبرز مميزات الجذمور، دون شك، كونه يتوفر على مداخل متعددة، وبهذا المعنى يعتبر الوجار جذموراً حيوانياً، ويشكل، أحياناً، تمييزاً واضحاً بين خط الهروب كممر للتنقل وطبقات الاحتياط أو السكن )انظر، الفأر المعطر(، وتتوفر الخريطة على مداخل متعددة، عكس ورقة النسخ الشفافة التي تؤول دائماً إلى “الذات عينها")الشيء نفسه.( فالخريطة في قضيته تتعلق بالأداء، أما ورقة النسخ فتحيل دوماً على “كفاية” مزعومة.
ومقابل التحليل النفسي والكفاءة التحليلية النفسية التي ترجع كل رغبة أو عبارة إلى محور تكويني وراثي أو بنية مضاعفة الترميز ، وتستخرج إلى ما لا نهاية نسخاً مطابقة ورتيبة لمراحل هذا المحور أو لمكونات هذه البنية، فإن التحليل الفصامي )الشيزوفريني (schizo-analyse)( يرفض كل فكرة قائمة على حتمية منسوخة، مهما كانت صفتها: إلهية، مقدسة، تاريخية، اقتصادية، بنيوية، وراثية أو استبدالية )وهنا نرى كيف أن ميلاني كلاين (Mélanie Klein)، لم تفهم مشكلة الرسم الخرائطي لدى ريتشارد الصغير (petit Richard Le)، أحد المرضى الخاضعين للعلاج. فقد اكتفت باستخراج بعض النسخ الجاهزة مثل: أوديب، الأب الطيب والأب السيئ، الأم الطيبة والأم السيئة. في حين أن الطفل كان يحاول يائساً متابعة إنجاز، يجهله التحليل النفسي تماماً.(12
إن الدوافع والأشياء الجزئية ليست مراحل خاصة بالمحور الوراثي، ولا مواقع داخل بنية عميقة، بل هي اختيارات سياسية من أجل مشاكل ومداخل ومخارج ومآزق يعيشها الطفل سياسياً، أي تعبر عن كامل رغبته.
ألا يعني هذا أننا نقوم بعملية ترميم للنزعة الثنائية، عبر وضع تقابل بين الخرائط والورق الشفاف )التطريسات(، بين الجانب الجيد والجانب الرديء؟
ألا تكمن خاصية الخريطة في إمكانية نقلها؟ ثم ألا تكمن خاصية الجذمور في التقاطع مع الجذور والاندماج معها أحياناً؟ ألا تتضمن الخريطة ظواهر إطنابية هي بمثابة ورقها الشفاف الخاص بها؟ أو ليست التعددية هي طبقاتها ذاتها التي تتجذر فيها الوحدة والكلية والجمهرة والآليات الإيمائية والاستيلاء الدال على السلطة والإسنادات الذاتية؟ وحينما يتعلق الأمر بخطوط الهروب، أفلا تقوم بفعل تباينها المحتمل، بإعادة إنتاج التشكيلات التي كانت تهدف إلى تفكيكها أو قلبها؟
لكن العكس صحيح أيضاً، لأن المسألة هي مسألة منهج: إذ يتعين دوماً إرجاع الورقة الشفافة إلى الخريطة. وهي العملية ليست متماثلة مع سابقتها، لأنه من منظور ثاقب، لا يمكن أن يقوم الورق الشفاف بإعادة إنتاج الخريطة، فهو يشبه بالأحرى الصورة أو الجهاز الذي يعمل بالأشعة السينية، حيث يبدأ بانتقاء أو عزل ما يتعين إعادة إنتاجه بوسائل مصطنعة، وباستعمال الألوان، أو القيام بإجراءات أخرى ضرورية. فالمقلد هو الذي يخلق دوماً نموذجه ويجتذبه. وقد عملت الورقة الشفافة على تحويل الخريطة إلى صورة، وبالتالي تحويل الجذمور إلى جذور وجذيرات، ثم نظمت وأقرت وقامت بتحييد التعدديات، وفق محاور التدليل والتذويت الخاصة بها. وولدت وهيكلت الجذمور، بحيث لم تعمل إلا على إعادة إنتاج ذاتها، معتقدةً أنها تعيد إنتاج شيء آخر، ولذلك اتسمت بالخطورة. فهي تحقن الإطناب وتنشره، وما تعيد إنتاجه انطلاقاً من الخريطة أو الجذمور، هي المآزق والانحسارات وبذور المحور أو نقط الهيكلة.
لنأخذ مثالاً من التحليل النفسي واللسانيات: فكل ما عمله الأول هو تطريسات ونسخ عن اللاشعور. وكذلك الثاني)اللسانيات( فلم تقدم سوى نسخ للغة، مع كل ما يفترضه ذلك من خيانات. (ولا غرابة في كون التحليل النفسي قد ربط مصيره بمصير اللسانيات). انظروا إلى ما حدث لهانز (Hans) الصغير، في مجال التحليل النفسي الخالص للطفل، حيث لم يتوقف المعالج عن تكسير جذموره وتلطيخ خريطته وتثبيتها ورفع الحواجز أمام كل المنافع، إلى أن أقر الطفل بخجله وبذنبه فتجذرا فيه، وأصبح فريسة الرهاب )الفوبيا(، وسُدت أمامه الطريق المؤدية إلى جذمور العمارة وإلى الشارع، فانغرس في فراش أبويه، وتجذر داخل جسده نفسه، وحوصر من قبل الأستاذ فرويد (Freud).
إن هذا الأخير، قد اهتم صراحة بالرسم الخرائطي لهانز الصغير، لكن فقط بغرض إرجاعه إلى صورة الأسرة. وانظروا إلى ما فعلته ميلاني كلاين (M. klein) بالخرائط الجيو -سياسية لريشارد الصغير، فقد استخرجت منها صوراً وصنعت منها ورقاً شفافاً، وأمرت الطفل باتخاذ وضع محدد وتتبع المحور، كمرحلة تكوينية وراثية أو مصير بنيوي، مكسرة جذموره فيما بعد. وإذا أردت كطفل أن تحيا وتتكلم، فيجب أن تسد أمامك كل المنافذ، وعندما يغلق الجذمور ويتم تشجيره، ينتهي كل شيء ولا يمكن أن ينبثق شيء عن الرغبة، لأن هذه الأخيرة تتحرك وتنتج عن طريق الجذمور. وكلما اتبعت الرغبة الشجرة، حدثت وقائع داخلية، تؤدي إلى سقوطها وموتها بالتالي. لكن الجذمور يؤثر في الرغبة عبر دفعات خارجية ومنتجة. لذلك، يبدو من المفيد القيام بعملية أخرى، عكسية وغير مماثلة، أي إيصال الورق الشفاف بالخريطة من جديد وإرجاع الجذور أو الأشجار إلى الجذمور. فدراسة اللاشعور في حالة هانز الصغير، تقتضي إبراز محاولته تشكيل جذمور مع المنزل العائلي، وأيضاً مع خط الهروب من العمارة والشارع... الخ. وكيف وضعت الحواجز أمام هذه الخطوط ووجد الطفل نفسه متجذراً داخل العائلة، ومصوراً تحت الأب، ومرسوماً بالورق الشفاف على فراش الأم. وكيف ساهم تدخل الأستاذ فرويد في استيلاء الدال كتذويت للمشاعر، وكيف استحال على الطفل الهروب، اللهم إذا ما اتخذ شكل صيرورة حيوانية، مخجلة ومذنبة (لذلك سيكون تحول هانز الصغير إلى حصان، بمثابة اختيار سياسي حقيقي). لكن، يتعين دوماً موقعة المنافذ المسدودة على الخريطة من جديد، وبالتالي فتحها على خطوط هروب ممكنة. وينطبق الأمر نفسه على خارطة الجماعة، حيث يلزم أن نظهر إلى أي حد، تتشكل ضمن الجذمور، ظواهر الجمهرة والبيروقراطية والزعامة والفاشية... الخ، وما هي الخطوط التي تظل قائمة مع ذلك، على الرغم من وجودها بباطن الأرض، حيث يكون الجذمور في العتمة. ويمكننا أن نستحضر هنا منهجية دوليني (Deligny)، المتمثلة في إنجاز خريطة إشارات وحركات طفل انطوائي (autiste)، وتركيب خرائط عدة بالنسبة للطفل نفسه وبالنسبة لأطفال عدة أيضاً.13
وإذا ما اعتبرنا الخريطة أو الجذمور كمداخل متعددة بالأساس، فإننا سنقر بإمكانية ولوجهما بواسطة الورق الشفاف أو عن طريق الشجر-الجذمور، مع أخذ كل الاحتياطات اللازمة )وهنا أيضاً سنتخلى عن الثنائية المانوية (manichéen).( مثلاً، سنكون مجبرين في أغلب الأحيان، على الدوران داخل الدروب الموصدة، والمرور عبر سلطات دالة ومشاعر ذاتية، والارتكاز على تشكيلات أوديبية بارانوية (paranoiaques)، أو على ما هو أسوأ من ذلك، مثل الارتكاز على أوطان صلبة تسمح بقيام عمليات تحويلية أخرى. ومن الممكن أن يستخدم التحليل النفسي رغماً عنه كنقطة ارتكاز. وفي حالات أخرى، يتم بالمقابل الاعتماد مباشرة على خط الهروب الذي يسمح بتفجير الطبقات وقطع الجذور وإقامة ترابطات جديدة.
هناك إذن تركيبات مختلفة جداً، تتقابل فيها الخرائط مع أوراق النسخ الشفافة)التطريسات(والجذمور مع الجذور، إضافة إلى عوامل الترحال المتنوعة. وتوجد بنيات الشجر أو الجذور داخل الجذمور؛ وبالمقابل فإن غصن الشجرة أو انقسام الجذر يمكنهما أن يتبرعما ضمن الجذمور. ولا يتوقف الاكتشاف هنا على التحليلات النظرية المتعلقة بالأفكار العامة، بل بتداولية مكونة لتعدديات أو لمجموعة من الكثافات. وفي قلب الشجرة، في بطن الجذر أو تحت الغصن، يمكن أن يتشكل جذمور جديد. وقد يساهم عنصر ميكروسكوبي داخل الشجرة-الجذر أو الجذير في إنتاج هذا الجذمور.
فالمحاسبة والبيروقراطية تعملان بواسطة الورق الشفاف؛ ومع ذلك يمكنهما أن تتبرعما وأن تطلقا العنان لسيقان الجذمور، كما يحدث في روايات كافكا (Kafka). هكذا، يشتغل الخط الكثيف لحسابه وينفصل الإدراك الهلوسي والحساسية والتحول الشاذ ولعبة الصور، كما يعاد النظر في هيمنة الدال.
وتستعيد السميوتيقا الإشارية والإيمائية واللعبية (ludique)... الخ حريتها لدى الطفل، عبر تخلصها من الورق الشفاف، أي من الكفاية المهيمنة داخل لغة المعلم- وهو حدث ميكروسكوبي قد يقلب توازن السلطة المحلية. ويمكن للأشجار التوليدية المشيدة وفق النموذج الاستبدالي التشومسكي (Chomsky) أن تنفتح في كل الجهات، وأن تشكل بدورها جذموراً.14
إن اتخاذ شكل جذموري، يعني إنتاج سيقان وخيوط تشبه الجذور، أو بالأحرى تترابط فيما بينها عند ولوج الجذع، حتى ولو كان الهدف هو استعمالها لأغراض أخرى غريبة عنها. لقد تعبنا من الأشجار وعلينا ألا نثق فيها ولا في الجذور والجذيرات، لأننا عانينا منها كثيراً. ومعلوم أن كل الثقافة الشجرية تتأسس انطلاقاً منها، بدءاً بالبيولوجيا وانتهاء باللسانيات.
مقابل ذلك، فلا شيء جميل ومحبوب وسياسي، غير السيقان الموجودة بباطن الأرض والجذور الجوية؛ أي ما هو إضافي وما يشكل جذموراً. فأمستردام (Amsterdam) ليست مدينة متجذرة، إنها مدينة جذمور بقنواتها على شكل سيقان، حيث ترتبط المنفعة بالجنون الأكبر، في علاقة مع آلة الحرب التجارية.
كما أن الفكر ليس شجرياً ولا يعتـبر الدماغ مادة متجذرة ولا متشعبة. وما ندعوها خــطأ بـ”التفرعات العصبية”، لا تضمن ترابط الخلايا العصبية داخل نسيج متواصل. فانقطاع الخلايا ودور الخطوط العصبية ووظيفة نقاط التقاطع والاشتباك (synapses) ووجود تصدعات اشتباكية (Synaptiques) ميكروسكوبية، تجعل من الدماغ تعددية منطوية داخل حقل كثافتها أو داخل مادتها اللزجة، فهو بمثابة نظام عصبي غير مؤكد (uncertain nervous system). ويتوفر العديد من الناس على شجرة مغروسة داخل رؤوسهم، لكن الدماغ هو عشب أكثر مما هو شجرة، “فالخطوط والتفرعات العصبية، تلتف حول بعضها البعض، مثل التفاف اللبلاب حول العليق أو العوسج، مع وجود شعيرة عصبية عند كل شوكة”.15
وهو ما يحدث على مستوى الذاكرة. فأطباء الأعصاب والسيكو - فزيولوجيون يميزون بين الذاكرة الطويلة والذاكرة القصيرة )التي لا تتعدى الدقيقة.( والحال، أن الاختلاف ليس كمياً فحسب، فالذاكرة القصيرة هي من نمط جذموري بياني، في حين أن الذاكرة الطويلة شجرية ومتمركزة )مثل بصمة أو انطباعة أو خريطة أو صورة.( ولا تخضع الذاكرة القصيرة إلى قانون التجاور أو الفورية اتجاه موضوعها، فبإمكانها أن تكون بعيدة وأن تأتي أو ترجع بعد مدة طويلة، لكنها تتم دائماً ضمن شروط الانقطاع والقطيعة والتعددية. وفضلاً عن ذلك، فإن الذاكرتين معاً، لا تتمايزان كنمطين زمانيين لإدراك الشيء نفسه، إذ لا يتعلق الأمر بالموضوع نفسه ولا بالذكرى نفسها ولا بالفكرة المدركة نفسها. فالفكرة القصيرة لها بهاؤها، إذ أننا نكتب بذاكرة قصيرة، أي بأفكار قصيرة حتى ولو كنا نقرأ ونعيد القراءة بالذاكرة الطويلة للمفاهيم الطويلة أيضاً. إن الذاكرة القصيرة تفهم النسيان كعملية، وهي لا تختلط باللحظة بل بالجذمور الجماعي، الزماني والعصبي. أما الذاكرة الطويلة )أسرة، عرق، مجتمع، أو حضارة(، فهي تنقل وتترجم، لكن ما تترجمه يستمر في التأثير عليها من بعيد وفي أوقات غير مناسبة “بشكل غير متوقع” وليس فورياً.
وتوحي الشجرة والجذر بصورة بائسة، إلى الفكر الذي لا يتوقف عن محاكاة المتعدد، انطلاقاً من وحدة عليا ضمن الدائرة أو الجزء. وبالفعل، إذا ما أخذنا مجموع الفروع – الجذور بعين الاعتبار، فإن الجذع يلعب دور الجزء المقابل بالنسبة لإحدى المجموعات الفرعية التي يتم اجتيازها من أسفل إلى أعلى. هكذا، سيكون الجزء “ قطباً مزدوجاً للارتباط”، متــميزاً عن “الأقطاب- الوحدات” التي تشكلها الأشعة المنبثقة من مركز واحد.16 ويمكن للروابط نفسها أن تتكوثر، كما هو الشأن في النظام الجذيري. فنحن لا نبرح “الواحد – اثنين”، أما التعدديات فتكون مفتعلة.
إن الانبعاث وإعادة الإنتاج والعودة والتنين والمدوسة (méduse)، لا تشكل مخرجاً بالنسبة إلينا. فالأنظمة الشجرية هي أنظمة تراكبية، تتضمن مراكز للتدليل وللتذويت وكائنات آلية مركزية، شبيهة بالذاكرة المنظمة. ولا يتلقى العنصر في النماذج المقابلة لها، معلوماته إلا من وحده عليا، أما التخصيص الذاتي فينبثق من الروابط المحددة سلفاً.
وهو ما نراه جيداً في المشاكل الحالية للمعلوميات والآلات الإلكترونية التي ما زالت تحتفظ بأقدم نمط من التفكير، ما دامت تمنح السلطة لذاكرة أو لعضو مركزي. وقد لاحظ بيير روزنتال (P. Rosentiehl) وجان بوتيطو (J. Petito) في مقال جميل، نددا فيه بـ “صورة شجيرات التحكم”: كيف أن إقرار أولوية البنيات التراكبية، يعني تفضيل البنيات الشجرية (...) فالشكل الشجري يسلم بالتفكير الطوبولوجي (...) ولا يقبل الفرد داخل نظام تراكبي إلا بجار واحد ونشيط، هو رئيسه في العمل (...) إن قنوات النقل توجد بشكل مسبق، لأن عملية التشجير سابقة على الفرد الذي ينخرط فيها ويحتل مكانا محددا” (تدليل وتذويت).
ويشير المؤلفان في هذا الصدد، إلى أن التعددية التي نعتقد أننا بلغناها، قد تكون مزيفة، وهو ما ندعوه بالنمط الجذري، لأن عرضها أو ملفوظها الظاهري غير التراكبي، لا يقبلان في الواقع سوى حل تراكبي تام. وهذا الأمر ينطبق على مبرهنة الصداقة الشهيرة: “إذا كان لفردين داخل مجتمع معين، صديق مشترك، إذن يوجد فرد واحد صديق للآخريْن كليهما”. لكن، وكما سيتساءل روزنتال وبوتيطو، من هو الصديق المشترك؟ هل هو الصديق الكوني لمجتمع الأزواج هذا؟ هل هو المعلم أو متلقي الاعتراف بإيمانه أو الطبيب؟ وهذه أفكار بعيدة بشكل مثير، عن الفرضيات التي تم الانطلاق منها. هل هو صديق النوع الإنساني؟ هل هو الفيلسوف كما يبدو في الفكر الكلاسيكي، على الرغم من أن ما يظهر، هو الوحدة المجهضة التي تكتسي قيمتها من غيابها أو من ذاتيتها، والتي تقول: إنني لا أعرف شيئاً، وإنني لا شيء؟
وبهذا الخصوص، يتحدث المؤلفان عن مبرهنات الديكتاتورية وحيلها. وهو ما يبرزه مبدأ الأشجار-الجذور، أو المنفذ وحل الجذيرات وبنية السلطة.17 ويقابل المؤلفان هذه الأنظمة المتمركزة، بالأنظمة غير المتمركزة وبشبكات الكائنات ذات مسيرات متنامية، يتحقق فيها التواصل بين جار وآخر، وحيث تكون السيقان أو القنوات غير سابقة الوجود، يكون الأفراد قابلين للتبادل وقادرين على الحركة فيما بينهم، ولا يتحددون إلا بحالة محددة، وفي لحظة معينة، بشكل تتناسق فيه العمليات المحلية وتنسجم النتيجة النهائية والشاملة، باستقلال عن كل هيئة مركزية. فعملية إيصال الحالات المكثفة، ستعوض دراسة المواقع )الطوبولوجيا(وستصبح الكتابة المنظمة لمرور المعلومة، معارضة بمعنى ما، للكتابة التراكبية. فليس هناك أي مبرر لكي تكون الكتابة شجرة”. (ونحن ندعو مثل هذه الكتابة خريطة). وتطرح هناك لمشكلة آلة الحرب (Firing Squad)81:
فهل من الضروري أن يوجد الجنرال، كي تتمكن مجموعة من الأفراد من إطلاق النار في الوقت نفسه؟ إن الحل دون جنرال يوجد بالنسبة لتعددية غير متمركزة، تتضمن عدداً محدوداً من الحالات وإشارات السرعة المقابلة لوجهة نظر جذمور الحرب أو منطق حرب العصابات، أي دونما حاجة إلى نقل أمر مركزي أو نسخه. ويمكن أن نبرهن كيف أن مثل هذه التعددية كترتيب أو مجتمع آليين، ترفض كل كائن آلي جامع وموحد باعتباره “دخيلاً اجتماعياً”.19
وفي هذه الحالة، ستكون (N) هي دوماً (n-1). ويؤكد روزنتال وبوتيطو على أن التعارض بين الممركز وما هو غير الممركز (centre-acentré)، لا يكتسي أهميته بالنظر إلى الأشياء التي يشير إليها، بل بالنظر إلى أنماط الحساب المطبق على الأشياء. فبإمكان الأشجار أن تتطابق مع الجذمور أو على العكس من ذلك، أن تتبرعم كجذمور. ولا أحد ينكر على العموم، كون الشيء نفسه يقبل نمطين من الحساب أو صنفين من التنظيم، وإن كان سيخضع للتغيير في كلتا الحالتين. لنأخذ التحليل النفسي مرة أخرى مثالاً. فهو يخضع اللاشعور لبنيات ولكتابات تراكبية ولذاكرة استرجاعية ولأعضاء مركزية، قضيب وشجرة-قضيب. وسيتم ذلك ليس على المستوى النظري فحسب، بل أيضاً على مستوى ممارسته الحسابية والعلاجية.
ولا يمكن للتحليل النفسي أن يغير منهجه بهذا الخصوص، فهو قد أسس سلطته الديكتاتورية الخاصة، انطلاقاً من تصور ديكتاتوري للاشعور. وهكذا أصبح هامش عمله محدوداً جداً. فهناك دائماً جنرال ورئيس في التحليل النفسي وفي موضوعه )وهو الجنرال فرويد). وعلى العكس من ذلك، فإن التحليل الفصامي بمعالجته للاشعور كنظام غير ممركز، أي كشبكة آلية من الكائنات الآلية المحددة )كجذمور(، سيبلغ حالة أخرى من اللاشعور. وتنطبق الملاحظات نفسها على اللسانيات. فقد اعتبر روزنتال وبوتيطو عن حق، بأن هناك إمكانية لقيام “تنظيم غير ممركز لمجتمع الكلمات”. وبالنسبة للملفوظات، كما بالنسبة للرغبات، لم تكن المسألة أبداً هي اختزال اللاشعور وتأويله وإعطاؤه معنى تبعاً للشجرة. فالمسألة تتعلق بإنتاج اللاشعور بمعية ملفوظات جديدة ورغبات أخرى. ويعتبر الجذمور هو إنتاج هذا اللاشعور. والشيء الغريب هو أن الشجرة هيمنت على الواقع الغربي وعلى كل الفكر الغربي، من علم النبات إلى البيولوجيا وعلم التشريح، وأيضاً نظرية المعرفة والثيولوجيا اللاهوت) والأنطولوجيا (الوجود والفلسفة برمتها. وقد تمثل ذلك في الأساس – الجذر (Fundations, roots, Grund) ويرتبط القرب بعلاقة مميزة مع الغابة ومع قطع الأشجار. فالحقول المنتزعة من الغابة، تمتلئ بنباتات بذرية، تشكل مجالاً لزراعة إنسالية تخص النوع والصنف المورق. كما أن تربية الحيوانات المقامة على أرض غير مزروعة، تنتقي الأنسال المشكلة للشجرة الحيوانية.
أما الشرق، فيمثل وجهاً آخر يتم فيه ربط العلاقة بالسهب والبستان )وفي حالات أخرى، بالصحراء والواحة(، أكثر مما يتم فيه ربطها بالغابة والحقل. إنها ثقافة العساقل التي يُجزَّأ فيها الفرد. وهناك إبعاد أو تعليق لتربية الحيوان، يتم داخل فضاء مغلق أو يمارس في سهب )مفازة( الرحل. فبالنسبة للغرب، هناك زراعة أنسال مختارة من قبل أفراد متنوعين، وبالنسبة للشرق، هناك البستنة التي تحيل على أنواع “مستنسخة”. أفلا يوجد في الشرق، وتحديداً في أوقيانوسيا، نموذج جذموري يتعارض تماماً مع النموذج الغربي للشجرة؟ إن هودريكور (Haudricourt) يرى في ذلك سبباً للتعارض القائم بين أخلاقيات التعالي وفلسفاته العزيزة على الغرب، وأخلاقيات المحايثة وفلسفاتها بالشرق: فهناك الإله الذي يبذر ويحصد، مقابل الإله الذي يحفر ويستخرج من الأرض الحفر مقابل الحصاد.20
إن التعالي هو مرض خاص بالغرب، وموسيقاه مختلفة لأن الأرض لا تصدر عنها الموسيقى نفسها. كما أن جنسانيته مختلقة، لأن النباتات البذرية وإن كانت تجمع بين الجنسين، فهي تخضع الجنسانية لنموذج التناسل. وعلى العكس من ذلك، فإن الجذمور هو تحرير للجنسانية، ليس من التناسل فحسب، بل من خاصية التوالد. في الغرب عندنا، تم غرس الشجرة داخل الجسد، ما أدى إلى تشنج وتراكب الجنسين. فقد فقدنا الجذمور أو العشب. يقول هنري ميلر (Henry Miller): “إن الصين هي العشب الضار في حقل كرنب الإنسانية (...) وهذا العشب هو ذاكرة المجهودات الإنسانية. فمن بين كل الموجودات المتخيلة المنسوبة إلى النباتات والحيوانات والنجوم، لربما كان العشب الضار الأكثر حكمة. صحيح أن العشب لا يولد الأزهار ولا حاملة الطائرات ولا المواعظ فوق قمة الجبل (...) لكن الكلمة الأخيرة تكون له مع ذلك وفي آخر المطاف، فإن كل شيء يرجع إلى حالة الصين. وهو ما يدعوه المؤرخون عادة بظلمات القرون الوسطى. فليس هناك منفذ عدا العشب (...)، وهذا الأخير لا يوجد إلا بين الفضاءات الشاسعة غير المزروعة. فهو يملأ الفراغات وينمو بين الأشياء الأخرى ووسطها. إن الزهرة جميلة، والكرنب مفيد، والخشخاش يؤدي إلى الجنون، لكن العشب هو فيض، إنه درس في الأخلاق”.21
عن أية صين يتحدث ميلر، هل هي الصين القديمة أم الحالية أم المتخيلة، أم أنه يتحدث عن شيء آخر، يشكل جزءاً من خريطة متموجة؟ والآن، يتعين علينا أن نفرد مكاناً خاصاً لأمريكا. طبعاً فهي لا تستثنى من هيمنة الأشجار ومن البحث عن الجذور. وهو ما نجده في الأدب وفي البحث عن هوية وطنية، بل وفي الأصول والجنيالوجيا الأوروبية )هكذا سيذهب كيرواك (Kerouak) باحثاً عن أجداده.( ويبقى أن أهم ما حدث ويحدث هناك، تم عن طريق الجذمور الأمريكي الذي نذكر من تجلياته: جيل الضياع (Beatnik)، الاتجاه تحت أرضي )اتجاه الثقافة نحو جوف الأرض(، المجموعات والعصابات، الاندفاعات الجانبية المتتالية، في ارتباط مباشر مع الخارج، اختلاف الكتاب الأمريكي عن الكتاب الأوروبي، حتى عندما يشرع الأمريكي في متابعة الأشجار، اختلاف في تصور الكتاب و”أوراق العشب”.22 بطبيعة الحال، فإن الاتجاهات تختلف في أمريكا : ففي الشرق ينجز البحث الشجري والعودة إلى العالم القديم. لكن الغرب الجذموري يتجلى بهنوده الحمر الذين لا أسلاف لهم، وبحده الهارب وحدوده المتحركة والمتنقلة. فهناك بالغرب “خريطة” أمريكية، تشكل فيها الأشجار نفسها جذمورا. وقد قلبت أمريكا الاتجاهات، حيث وضعت شرقها بالغرب، وكأن الأرض أصبحت كروية بالضبط بأمريكا : أما غربها فهو حاشية الشرق.23
فليست الهند، كما اعتقد هودريكور (Haudricourt)، هي الوسيط بين الغرب والشرق، بل أمريكا التي تشكل محوراً للقلب24 وآليته. فالمغنية الأمريكية باتي سميت (Patti Smith) تغني ثورة طبيب الأسنان الأمريكي قائلة: لا تبحثوا عن الجذر، اتبعوا القناة.
أفلا توجد أيضاً بيروقراطيتان، بل ثلاث ولربما أكثر؟ فهناك البيروقراطية الغربية بأصلها الزراعي والعقاري، وهناك الجذمور والحقول والأشجار ودورها في إقامة الحدود، والإحصاء الكبير الذي أنجزه غليوم الغازي (Guillaume le conquérant)، والفيودالية )الإقطاع(، وسياسة ملوك فرنسا، وإرساء الدولة على أساس أو قاعدة الملكية، والتفاوض حول الأرض عن طريق الحرب والمحاكمات والزيجات. وقد اختار ملوك فرنسا زهرة الزنبق (le lys)، لأنها نبتة ذات جذور عميقة تتشبت بالمنحدرات، فهل يحدث الشيء نفسه بالشرق؟ طبعاً من السهل تقديم شرق قائم على الجذمور والمحايثة، لكن الدولة فيه، لا تعمل وفق خطاطة شجرية تقابل طبقات محددة سلفاً، مشجرة ومتجذرة، إنها بيروقراطية القنوات كما تتجلى مثلاً في السلطة المائية الشهيرة: “ذات المكية الضعيفة”، والتي تولد فيها الدولة طبقات موجهة وموجهة إلى قنوات (انظر من بين أطروحات ويتفوغل (Wittfogel) تلك التي لم يتم رفضها). فالمستبد يعمل مثل النهر وليس مثل المنبع الذي هو عبارة عن نقطة أو نقطة - شجرة أو جذر. فهو يقترن بالمياه أكثر مما يجلس تحت الشجر. هكذا ستصبح شجرة بوذا (Boudha) جذموراً، وكذلك الشأن بالنسبة لنهر ماو (Mao) وشجرة لويس (Louis). وهنا نتساءل أيضاً: ألم تقم أمريكا بدور الوسيط في هذا الإطار؟ ذلك أنها تتصرف في الآن نفسه، عن طريق الإبادات والتصفيات الداخلية )التي لم تهم الهنود الحمر فقط، بل المزارعون أيضاً(، وبواسطة الاندفاعات المتتالية والخارجية للهجرات. وقد أنتج بها سيل الرأسمال قناة شاسعة وتكميماً من كمية للسلطة من خلال كميات أو حصص “كوانطا” مباشرة، يتمتع فيها كل واحد بسيولة المال على طريقته ) وهنا تبرز الأسطورة – الواقع، المتعلقة بالفقير الذي أصبح مليارديرا، ثم يعود إلى فقيراً من جديد.( هكذا، فكل شيء يجتمع في أمريكا، الشجرة والقناة، الجذر والجذمور. فليست هناك رأسمالية كونية في ذاتها، لأن الرأسمالية هي تقاطع لكل أنماط التشكيلات، وهي دائماً من طبيعة رأسمالية جديدة، وتبتكر في أسوأ الأحوال، وجهها الشرقي ووجهها الغربي وترميمها للوجهين معاً. ومع كل هذه التوزيعات الجغرافية، نلفي أنفسنا على طريق غير مستقيم، بل إننا نجد أنفسنا في طريق مسدود، وهذا أمر جيد! فإذا كنا نريد أن نبين كيف أن الجذمورات لها أيضاً استبدادها الخاص وتراكبيتها الصارمة الخاصة، فهذا شيء مستحسن، لأنه لا توجد نزعة ثنائية بمعنى أنه لا توجد ثنائية أنطولوجية )وجودية( هنا وهناك، ولا ثنائية أكسيولوجية )أخلاقية( للخير وللشرير، ولا اختلاط ولا تركيب أمريكي، فهناك فقط عقد التشجير داخل الجذمورات، واندفاعات جذمورية داخل الجذور. أكثر من ذلك، هناك تشكيلات استبدادية للمحايثة وللتوجيه خاصة بالجذمورات، وهناك تشويهات فوضوية داخل النظام المتعالي للأشجار وجذور جوية وسيقان تحت أرضية. وما يهم هنا، هو أن “الشجرة –الجذر” و”الجذمور- القناة” لا يتعارضان كنموذجين متقابلين: فالأولى تتصرف كنموذج أو كنقل متعال، على الرغم من توليدها لهروباتها الخاصة، والثاني يتصرف كعملية محايثة، تقلب النموذج وترسم الخريطة، وإن كان لا ينجز تراكبياته الخاصة، ولا يحدث قناة استبدادية، فالأمر لا يتعلق بهذا المكان أو ذاك على الأرض، ولا بهذه اللحظة أو تلك في التاريخ، كما لا يتعلق بهذه المقولة أو تلك في الفكر. إن الأمر يتعلق بنموذج لا يتوقف عن الانتصاب والانغماس وعن الامتداد والانكسار والتكرار. وهذه ليست نزعة ثنائية أخرى جديدة. فالمشكلة هي مشكلة الكتابة: إذ من اللازم أن تتوفر تعابير غير صحيحة للإشارة إلى أشياء صحيحة: لا لأنه يتعين المرور من هنا ولا لكوننا غير قادرين على التصرف إلا بواسطة التقريبات، بل لأن الخطأ ليس شيئاً تقريبياً، لأنه بمثابة العبور الصحيح نحو ما يتعين إنجازه. ونحن لا نستدعي النزعة الثنائية إلا لرفض أخرى، ولا نستعمل ثنائية النماذج إلا من أجل تحقيق عملية رافضة لكل نموذج. ويجب أن يتوفر في كل مرة، مصححون للفكر، يفككون الثنائيات التي لم نرغب في إنجازها، والتي يتحقق العبور من خلالها. يجب بلوغ الصيغة السحرية التي نبحث عنها جميعا، وهي: إن النزعة التعددية (pluralisme) تساوي النزعة الواحدية (monisme)، مروراً بكل النزعات الثنائية (dualismes) المعاندة، التي تعتبر عدواً ضرورياً وتشكل الأثاث الذي لا نتوقف عن إزاحته.
لنلخص الآن الخصائص الرئيسية للجذمور: فعلى عكس الأشجار أو جذورها، يقوم الجذمور بربط نقطة بنقطة أخرى، وكل خط من خطوطه لا يحيل بالضرورة على خطوط من النوع نفسه. وهو يدرج أنظمة للعلامات مختلفة جداً، بل يدرج أيضاً وضعيات لغير العلامات. ولا يسمح الجذمور بالرجوع إلى الواحد ولا إلى المتعدد. فهو ليس الواحد الذي يصبح اثنين أو الذي يصبح مباشرة، ثلاثة أو أربعة أو خمسة... الخ. كما أنه ليس متعدداً مشتقاً من الواحد، ولا (n) الذي ينضاف إليه 1: (n) + 1، وليس مكوناً من وحدات ولا من أبعاد ولا من اتجاهات متحركة. ليست له بداية ولا نهاية، بل هو موجود دائماً في الوسط الذي يعتمد عليه في التنامي والتجاوز. ويشكل تعدديات خطية ذات أبعاد متعددة، دون ذات ودون موضوع، معروفة على مستوى التماسك، بحيث يكون الواحد فيها محذوفا على صيغة (n-1). ولا يحول هذا التعدد أبعاده، دون تغيير طبيعته ذاتها، ودون أن يتحول هو ذاته. وعلى عكس البنية التي تحدد بمجموعة من النقط والمواقع والعلاقات الثنائية بين هذه النقط والعلاقات المزدوجة والأحادية المعنى، بين هذه المواقع، فإن الجذمور لا يتكون إلا من خطوط: خطوط التجزؤ والتنضيد كأبعاد، وأيضاً خط الهروب والترحال كبعد قصي، يمكن للتعدد المتتبع له أن يتحول ويغير طبيعته. ويجب عدم خلط هذه الخطوط أو الخطوط العامة بالأنسال من النوع الشجري التي هي مجرد روابط قابلة للتحديد بين النقط والمواقع. وعلى عكس الشجرة، فإن الجذمور ليس موضوعاً للأنسال، لا إنسال خارجياً )أي أنه لا ينتج برانياً( مثل الشجرة-الصورة ولا إنسال داخلياً )أي لا ينتج داخلياً( مثل البنية-الشجرة. فالجذمور هو ضد الجنيالوجيا )التأصيل والتنسيب.( إنه ذاكرة قصيرة أو ضد الذاكرة. وهو يعمل من خلال التنويع والتوسيع والغزو والقبض والحفر. وعلى عكس الخطية والرسم أو الصورة والأوراق الشفافة، فإن الجذمور يؤول إلى الخريطة التي يتعين إنجازها وتفكيكها وإيصالها وقلبها وتعديلها دوماً، بمداخلها ذات المخارج المتعددة وخطوط هروبها. فالأوراق الشفافة هي التي يجب أن ترجع إلى الخريطة وليس العكس.
وضد الأنظمة الممركزة )بما فيها المتعددة المراكز(، ذات التواصل التراتبي والروابط المحددة سلفاً، فإن الجذمور يعتبر نظاماً غير ممركز وغير تراتبي وغير دال، بدون جنرال ولا ذاكرة منظمة ولا كائن آلي مركزي؛ فهو محدد فقط بدورة الأحوال. والأمر الذي يناقش ضمن الجذمور، يهم العلاقة بالجنسانية وأيضاً بالحيوان، وبالنبات، وبالعالم، وبالسياسة، وبالكتاب، وبأشياء الطبيعة، وبما هو مصطنع، أي كل ما يخالف العلاقة الشجرية وكل أنواع “الصيرورات”.
إن الهضبة توجد دوماً في الوسط، فلا بداية لها ولا نهاية. والجذمور يتكون أيضاً من هضاب. وقد استعمل غريغوري باتيزون (Gregory Bateson) كلمة “هضبة” للإشارة إلى شيء خاص جداً: كمنطقة مليئة بالكثافات، تهتز بذاتها وتنمو متفاديةً كل توجه نحو نقطة مرتفعة أو نحو نهاية خارجية. ويستشهد باتيزون بمثال من الثقافة البالينية (balinaise)، حيث تمر، الألعاب الجنسية بين الأم وطفلها، أو النزاعات بين الرجال، عبر هذا التثبيت المكثف )الاستقرار الكشفي.( فهناك هضبة مليئة بالكثافات، تحل محل النشوة الجنسية ومحل الحرب أو قمة الذروة. ومن الخصائص المغيظة للعقل الغربي، إرجاع التعابير والأعمال إلى غايات خارجية أو متعالية، بدل تقييمها على مستوى المحايثة، بحسب ما تساويه في حد ذاتها.25
مثلا، إن الكتاب المكوَّن من فصول، يتوفر على نقط ذروته وعلى نقط نهايته، فما الذي يحدث بالمقابل، بالنسبة لكتاب مكون من هضاب تتواصل فيما بينها عبر شقوق مجهرية )ميكروسكوبية(، مثلما هو الشأن في الدماغ؟
إننا ندعو “هضبة” كل تعددية قابلة للتواصل مع الآخرين )تعدديات أخرى( بواسطة سيقان تحت أرضية وسطحية، بحيث تشكل الجذمور وتمدده.
ونحن باشرنا كتابة هذا الكتاب كجذمور. فقد قسمناه إلى هضاب وأعطيناه شكلاً دائرياً، وذلك من باب الدعابة. ففي كل صباح، كنا ننهض من النوم، وكان كل واحد منا يسأل نفسه: ما هي الهضاب التي سيسلكها فيكتب خمسة أسطر هنا وعشرة هناك؟ وقد عشنا تجارب هلوسية، حيث رأينا الأسطر تغادر هضبة لتتوجه صوب أخرى، وكأنها مواكب النمل. وأنجزنا دوائر للتقارب )تلاق)ٍ.
وبهذا المقتضى، كان من الممكن أن تقرأ كل هضبة في أي موقع وأن تدخل في علاقة مع أي هضبة أخرى. وبالنسبة للمتعدد الذي توخيناه، لزم تحقيقه منهجاً يقره فعلياً، فلا الخدعة المطبعية ولا المهارة المعجمية وخلط الكلمات أو ابتكارها، ولا الجرأة التركيبية، بإمكانها تعويضه. فهذه الإجراءات ليست في الغالب سوى إجراءات محاكاتية، تهدف إلى تثبيت أو تفكيك الوحدة القائمة داخل بعد آخر للكتاب – الصورة. إنها عبارة عن تقنية نرجسية. فالابتكارات المطبعية والمعجمية والتركيبية، لا تعتبر ضرورية إلا إذا ما توقفت عن التعبير عن الوحدة الخفية، لتصبح هي ذاتها بعداً من أبعاد التعددية المعنية، ونادراً ما نجد نجاحات في هذا المضمار.26 وبالنسبة إلينا، فإن هذا النجاح لم يتحقق. فقد استعملنا فقط كلمات تشتغل هي أيضاً كهضاب مثل: جذموري = تحليل فصامي = تحليل تناضدي = تداولية = ميكرو سياسة )سياسة مجهرية.( وهذه الكلمات هي مفاهيم، غير أن المفاهيم هي خطوط؛ أي أنظمة أعداد مرتبطة بهذا البعد التعددي أو ذاك )طبقات، سلاسل ذرية، خطوط هروب، أو القطيعة، دوائر تقارب والتحام... الخ).
ولن ندعي أبداً انتسـابنا للعلــم. فنحـن لا نعـرف شيئاً عـن العلميـة (Scientificité)، مثلما لا نعرف شيئاً عن الأيديولوجيا، وكل ما نعرفه هي ترتيبات وتركيبات. فليس هناك سوى تركيبات آلية )من آلة( للرغبة، مثل التركيبات الجماعية للملفوظ. وليس هناك تدليل ولا تذويت، بل كتابة عدد (n) – فكل ملفوظ فردي يظل أسير التدليلات )الدلالات( المهيمنة، وكل رغبة دالة تحيل على ذوات خاضعة.
إن الترتيب في تعدديته، يشتغل بالضرورة على تيارات سميوتيقية، وأخرى مادية، وثالثة اجتماعية، وذلك باستقلال عن الاستئناف الذي يمكن أن يحصل داخل متن نظري (théorique) أو علمي (Scientifique). فلم يعد لدينا ثمة تقسيم ثلاثي بين حقل الواقع )العالم( وحقل التمثلالكتاب) وحقل الذاتية (المؤلف) بل إن الترتيب (التركيب يربط بين بعض التعدديات المأخوذة بحسب نظامه، بحيث أن الكتاب لا يجد تتمته في الكتاب الذي يليه، ولا موضوعه في العالم، ولا ذاته الفاعلة في المؤلف أو المؤلفين.
وباختصار، يبدو لنا أن الكتابة لا تحتاج دوماً إلى خارج تكتب باسمه. فالخارج ليست له صورة، ولا دلالة، ولا ذاتية. فالكتاب هو ترتيب )تركيب( مع الخارج ضد كتاب - صورة العالم. إنه الكتاب الجذمور الذي لا ينشطر إلى نصفين ويدور حول نفسه أو يورق. يجب ألا نضع الجذور وألا نغرسها، وإن كان من الصعب عدم السقوط ثانية في هذه الإجراءات القديمة. “فالأشياء التي تدور بخاطري تعرض أمامي ليس من خلال جذرها، بل عبر نقطة موجودة عند الوسط حاولوا إذن الإمساك بها، حاولوا الإمساك بقشة عشب لم تبدأ في النمو إلا وسط الساق، والتصقوا بها”.27
أين تكمن الصعوبة في تحقيق ذلك؟ إنه سؤال متعلق بالسميوتيقا الإدراكية. فليس من السهل إدراك الأشياء من الوسط، بدل إدراكها من أعلى إلى أسفل أو العكس، ومن اليمين إلى اليسار أو العكس. حاولوا ذلك وسترون أن كل شيء سيتغير. فليس من السهل أن نرى العشب في الأشياء والكلمات )كان نيتشه (Nietzsche) أيضاً يقول إن على الحكمة28 أن “تُجتر”. ولا يمكن فصل هضبتنا عن الأبقار التي تسكن فيها، التي هي أيضاً سحب السماء).
إن التاريخ يكتب دوماً من وجهة نظر المقيمين، باسم جهاز الدولة الموحد، حتى عندما يتم الحديث عن الرحل. وما ينقص هو علم الترحال (Nomadologie) كنقيض للتاريخ. ومع ذلك، توجد هنا أيضاً بعض النجاحات العظيمة والنادرة. وكمثال على ذلك مؤلف حروب الأطفال الصليبية لكاتبه مارسيل شووب (M. Schwob)، فهذا الكتاب يكوثر الحكايات وكأنها هضاب ذات أبعاد متنوعة. وأيضاً كتاب اندري زويسكي (Andrzejewski ) أبواب الجنة، الذي أنجز بواسطة جملة مسترسلة، هي بمثابة سيل الأطفال وسيل السير عبر مراوحة الخطى وتمطيط واستعجال، وسيل سميوتيقي لكل اعترافات الأطفال الذين يمارسون البوح أمام القس العجوز الموجود على رأس الموكب؛ وسيل الرغبة الجنسانية، حيث ينساق كل واحد مع الحب، ويقتاد مباشرة بهذا القدر أو ذاك، نحو الرغبة السوداء واللواطية، القائمة بعد موت الكونت دي فندوم
(comte de vendôme) داخل دوائر التقارب والتلاحم. والمهم ليس هو أن تنجز السيول “الواحد والمتعدد”، لأن الأمر أصبح متجاوزا. فهناك تراكب جماعي للتلفيظ وتراكب آلي للرغبة، حيث يتداخل الواحد في الآخر، ويتصلان بخارج عظيم هو بمثابة تعددية على أية حال.
ثم هناك حديثاً، كتاب أرمان فراتشي (Armand Farrachi) حول الحرب الصليبية الرابعة، وعنوانه التفكك، وفيه تنفصل الجمل وتتشتت أو تتزاحم وتتعايش، وتشرع الحروف والبنية الطباعية29 بالرقص بقدر ما تمعن الحملة الصليبية بالهذيان.30
وتلك هي نماذج الكتابة الترحالية والجذمورية. فالكتابة تقترن بآلة الحرب وبخطوط الهروب وتتخلى عن الطبقات والتجزيئات والتمدن وجهاز الدولة. لكن لماذا تظل الحاجة إلى النموذج؟ أو ليس الكتاب “صورة” للحملة الصليبية؟ أفلا تبقى وحدة محفوظة، تدور حول نفسها في حالة شوب (schwob) وتجهض في حالة فراتشي (Farrachi)، وتأخذ طابعاً مأتمياً مع الكونت في أجمل حالات أبواب الجنة؟
هل نحن في حاجة إلى ترحال أعمق من ترحال الحملة الصليبية، أي ذلك المرتبط بالرحل الحقيقيين، أم نحن في حاجة إلى ترحال أولئك الذين لم يعودوا قادرين على الحركة، ولا يقلدون أي شيء؟ فهل يقومون بالتركيبات فقط؟ وكيف سيجد الكتاب خارجاً كافياً يساعده على تركيب المتنافر بدل إعادة إنتاج العالم؟ ولأن الكتاب يكتسي طابعاً ثقافياً، فهو بالضرورة نسخ؛ إنه نسخ لذاته قبل كل شيء، ونسخ للكتاب السابق للمؤلف نفسه والكتب الأخرى، كيفما كانت نوعيتها؛ وهو بمثابة رسم استشفافي لا ينتهي، للمفاهيم وللكلمات القائمة وللعالم الحاضر والماضي أو المستقبلي.
لكن، من الممكن للكتاب ضد الثقافي أن يُخترق من قبل ثقافة عسيرة جداً أو بالغة الثقل، حيث ومع ذلك يمكنه أن يستخدمها كأداة نشيطة للنسيان وليس للتذكر، للتنمية المتأنية وليس للتقدم وللنمو الذي ينبغي تجاوزه، للترحال وليس للإقامة، كخريطة وليس كورقة نسخ شفافة.
فالجذمورية تساوي التحليل الشعبي (pop analyse)، على الرغم من كون الشعب له اهتمامات أخرى غير القراءة، وعلى الرغم من كون كتل الثقافة الجامعية أو شبه العلمية، تظل عسيرة أو ثقيلة. ذلك أن العلم سيصبح مجنوناً لو تركناه يفعل ما يشاء. انظروا إلى الرياضيات، فهي ليست علماً، بل لغة اصطلاحية عظيمة ورحالة. وحتى في المجال النظري، فإن أبسط صقالة آيلة للزوال ونفعية، هي أفضل من نقل المفاهيم بقطائعها وتقدمها الذي لا يغير شيئاً. ويستحسن أن يكون هناك انقطاع غير مرئي، بدل القطيعة الدالة. فالرحل قد ابتكروا آلة حربية ضد جهاز الدولة. ولم يسبق للتاريخ أن فهم الترحال، كما لم يسبق للكتاب أن فهم الخارج. وعلى مدى تاريخ طويل، ظلت الدولة هي نموذج الكتاب والفكر. وهو ما تجلى عبر كل من: اللوغوس والفيلسوف الملك، وتعالي الفكرة، وجوانية المفهوم، وجمهورية العقول، ومحكمة العقل، وموظفي الفكر، والإنسان كمشرع (Législateur) وكذات. إنه إدعاء الدولة في أن تكون صورة مستبطنة لنظام العالم، وأن تعمل على تجذير الإنسان. لكن علاقة آلة الحرب بالخارج لا تشكل “نموذجاً” آخر، بل هي ترتيب أو تركيب يجعل الفكر رحالة، والكتاب قطعة لكل الآلات المتحركة، وساقاً للجذمور وهنا يبرز كلايست (Kleist)، وكافكا (Kafka) ضد غوته (Goethe).
تتعين الكتابة إذن بـ (n) وبـ (n-1)، والكتابة بواسطة شعارات مثل: أنجزوا الجذمور وليس الجذر ولا تغرسوا أبداً! لا تبذروا بل احفرواً! لا يكن أحدكم واحداً ولا متعدداً، كونوا تعدديات! أنجزوا الخط ولا تنجزوا النقطة أبداً! إن السرعة تحول النقطة إلى خط،31 كونوا سريعين ولو في المكان نفسه! خط الحظ، خط الورك، خط الهروب. لا تثيروا الجنرال فيكم! ليست هناك أفكار صحيحة، بل هناك فكرة فقط (غودار) Godard. لتكن أفكاركم قصيرة. أنجزوا الخرائط وليس الصور ولا الرسوم. كونوا مثل الفهد الوردي، ولتكن علاقاتكم الغرامية مثل الدبور وزهرة الأوركيديا (السحلبية)، مثل القط والقردوح.
يقال عن النهر الطاعن في السن ما يلي:
إنه لا يزرع البطاطس
He don’t plant tatos
ولا يزرع القطن
Don’t plant cotton
ما يزرعه سرعان ما يطويه النسيان
Them that plants them is soon forgotten
لكن النهر العجوز لا يتوقف عن الجريان
But old man river he just keeps rolling along
إن الجذمور لا يبدأ ولا ينتهي. فهو موجود دائماً في الوسط، بين الأشياء، إنه كائن بيني (intermezzo)، فالشجرة تفرع، لكن الجذمور تحالف، مجرد تحالف فقط. وتفرض الشجرة فعل الكينونة (être)، لكن نسيج الجذمور هو الروابط والعطف (و... و... و...). وهناك داخل هذه الروابط قوة كافية لخلخلة فعل الكينونة واجتثاثه. إن أسئلة من قبيل: إلى أين أنتم ذاهبون؟ ومن أين جئتم؟ وما هي وجهتكم؟ لا فائدة من ورائها. فمسح الطاولة والانطلاق أو الانطلاق ثانية من الصفر، والبحث عن بداية أو أساس، تتضمن تصوراً مغلوطاً للسفر وللحركة (المنهجية والبيداغوجية والتعليمية والرمزية.) لكن كلايست (Kleist) ولينز (Lenz) وبوخنز (Buchner)، لهم طريقة أخرى في السفر والتحرك، فهم ينطلقون من الوسط، ومن خلال الوسط يدخلون ويخرجون ولا يبدأون ولا ينتهون.32
أكثر من ذلك، فإن الأدب الأمريكي وقبله الأدب الانجليزي، هما اللذان عبرا عن هذا المعنى الجذموري. فقد عرفا كيفية التحرك بين الأشياء، وأقاما منطق الإضافة، وقلبا الأنطولوجيا، وعزلا الأساس، وألغيا النهاية والبداية. ذلك أن الوسط ليس هو المتوسط، بل على العكس، هو المكان الذي تتسارع فيه الأشياء. ولا تشير “بين” الأشياء إلى علاقة قابلة للموقعة، تنتقل من شيء إلى آخر بشكل تبادلي، بل تشير إلى وجهة متعامدة وإلى حركة عرضية تأخذ معها هذا وذاك، كغدير بلا بداية ولا نهاية، يقوض ضفتيه ويزداد سرعة عند الوسط.
الهوامش
* اقتطف هذا النص من مؤلف ألف ربوة:
Gille Deleuze, Félix Guattari, Capitalisme et schizophrenie, Mille plateaux, les éditions de Minuit, 1980, pp. 9 / 37.
* أستاذ باحث وعضو اتحاد كتاب المغرب.
1متعدد، أو من أشخاص عديدين.
2 من كمية.
3 (حكم نيتشه (مقطوعاته) شذراته (أفوريزمات.
4 Cf. Bertil Malmberg, Les nouvelles tendances de la linguistique, P.U.F. , p: 97 sq. اللهجة القشتالية كمثال.
5 Ernst Junger, Approches drogues et ivresse, Table ronde, p. 304, // 218.
6 Remy Chauvin, in Entretiens sur la sexualité, Plan, p. 205.
7 Sur les travaux de R.E. Benveniste et G.J. Todaro, cf. Yves Christen, «Le rôle des virus dans l’évolution», la recherche,n 54, Mars 1975.
“يمكن للفيروسات بعد عملية الإدماج والإخراج المجربة على الخلية، أن تأخذ معها بفعل أخطاء في القطع، أجزاء من الحامض النووي لمستقبلها ونقلها إلى خلايا جديدة، وذلك هو أساس ما ندعوه بالهندسة الوراثية (engineering génétique)، وينتج عن ذلك، أن المعلومة الوراثية الخاصة بعضوية معينة، يمكن أن تنقل إلى عضوية أخرى بفضل الفيروسات. وإذا ما اعرنا اهتمامنا إلى الحالات القصوى، فإنه من الممكن أن تتخيل بأن نقل هذه المعلومة، قد يتم بنوع أكثر تطوراً إلى نوع أقل تطوراً أو مولد للنوع الأول. وتقوم هذه الآلية بعملية معاكسة للعملية التي يقوم بها التطور في شكله الكلاسيكي. وفي حالة ما إذا اكتسى نقل هذه المعلومات أهمية كبيرة، فإننا سنضطر في بعض الحالات إلى إحلال الخطاطات الثقافية (التي تتواصل فيها الأغصان بعد حدوث تمايز بينهما) محل الخطاطات النباتية أو على شكل شجرة، التي تستخدم حالياً لعرض عملية التطور )ص 271(.
8 François Jakob, La logique du vivant, Gallimard, pp. 312, 333.
9 Carlos Castaneda, l’herbe du diable et la petite fumée, ed du soleil noir, p 160.
10 Pierre Boulez, Par volonté et par hasard, ed. du seuil, p. 14:
“تستغرسها داخل التراب، وستبدأ على الفور في التكاثر، مثل عشب ضار”. وأيضاً بخصوص التكوثر الموسيقي، انظر المرجع نفسه، ص. 89 .
“موسيقى عائمة، تكون فيها الكتابة المعروضة على مستعمل الآلة الموسيقية عائقاً أمام متابعته للزمن النابض”.
11 المقصود هنا هو إظهار تمايز الخريطة كإعادة إنتاج للأشياء والتضاريس في مقابل النسخ (tracing) التي تعني التطريس، أو تتبع الرسم واقتفاء خطوطه، لرسم الشيء بأبعاده الحقيقية على ورق شفاف.
12 Cf. Médanie Klein, Prychanalyse d’un enfant, Tchou: le rôle des cartes de guerre dans les activités de Richard.
13 Fernad Deligny, «Voix et voir», Cahiers de l’immuable, Recherches, avril, 1975.
14 Cf. Dieter Wunderlich, «Pragmatique, situation d’énonciation et Deixix», in langages, n 26, Juin 1972, pp. 50 sq.
15 Steven Rose, le cerveau conscient, Ed. du seuil, p. 97, et, sur la mémoire, pp. 250 sq.
16 Cf. julien Pacotte, le réseau arborescent, schème primordial de la pensée, Hermann, 1936.
يحلل هذا الكتاب ويطور مختلف خطاطات الشكل الشجري الذي لم يعرض كشكل صوري، بل “كأساس واقعي للفكر الصوري”. فهو يدفع بالفكر الكلاسيكي إلى أقصى مدى، ويجمع كل أشكال “الواحد – اثنين” باعتبارها نظرية القطب المزدوج، ويؤدي مجموع الجذع – الجذور – الأغصان، إلى الخطاطة التالية:
جزء مقابل جزء
ومنذ فترة قريبة، حلل ميشال سير (Michel Serres) أنواع الأشجار ومقاطعها في المجالات العملية المختلفة، وكيف تتشكل الشجرة انطلاقاً من “الشبكة”، انظر:
La traduction, ed.de Minuit, pp. 27 sq. , feux et signaux de brume, Grasset, pp 35 sq.
17 Pierre Rosenthiel et Jean Petitot «Automate asocial et systèmes acentrés» in communications, n 22, 1974. sur le théorème de l’amitié, Cf H.S. wilf, the Friend ship theorem in combinatorial Mathematics, welsh Academic Press, et sur un théoreme de même type, dit d’indecision collective, cf. k. J. Arrow, choix collectif et préférences individuelles, Calman – Lévy.
18 (Firing Squad). تعني مجموعة الرمي
19 المرجع السابق نفسه، فالخاصية الرئيسة للنظام غير الممركز، تتمثل في كون المبادرات المحلية تنسق فيما بينها، باستقلال عن كل هيئة مركزية. ويتم الحساب داخل مجموع الشبكة (أي التعددية) ذلك، فإن المكان الوحيد الذي يمكن أن يشكل فيه ملف الأشخاص، سيكون عند هؤلاء الأشخاص أنفسهم، باعتبارهم الوحيدين القادرين على وصف ذواتهم وإبرازها. فالمجتمع هو الملف الوحيد الممكن بالنسبة للأشخاص. والمجتمع غير الممركز والطبيعي، يرفض الكائن الآلي الجامع باعتباره دخيلاً غير اجتماعي (ص 62 )بخصوص مبرهنة (Firing squad) انظر الصفحات51-57)) ويمكن للجنرالات الراغبين في امتلاك التقنيات الشكلية لحرب العصابات، أن يستدعوا تعدداً لمصوغات متطابقة، انطلاقاً من خلايا عديدة وخفيفة، لكن مستقلة، بحث لا تتضمن نظرياً سوى حد أدنى من السلطة المركزية ومن “التناوب التراتبي”.
- Gye Brossollet, Essai sur la non-bataille, Belin, 1975.
20 بخصوص الزراعة الغربية للنباتات البذرية والبستنة الشرقية للعساقل والتقابل بين الحصاد وحفر الأرض، والاختلافات المتعلقة بتربية الحيوانات، انظر أعمال هودريكور (Haudricourt) التالية:
- «Domestication des animaux, culture des plantes et traitement d’autrui» (l’Homme, 1962).
- «L’origine des clones et des clans» (l’Homme, 1964).
ولا تشكل الذرة والأرز حالة استثنائية- فهما عبارة عن حبوب استعملت بشكل متأخر من قبل زارعي العساقل، وتمت معالجتها بالمقابل. ومن المحتمل أن يكون الأرز “قد ظهر كعشب ضار، بالحفر الترابية”.
21 Henry Miller, Hamlet, Correa, pp. 48-49.
22 ديوان والت ويتمان.
23 Cf, lesline Fiedler, le retour du Peau- Rouge, Ed. du seuil.
ونجد في هذا الكتاب تحليلاً جميلاً للجغرافيا ولدورها الميثولوجي والأدبي بأمريكا ولقلب الاتجاهات. ففي الشرق هناك البحث عن سنن أمريكية خاصة، وأيضا عن ترميز جديد مع أوروبا هنري جيمس (H. James)، إليوت (Eliot)، باوند (Pound)... الخ، وفي الجنوب هناك الترميز الاستعبادي المضاعف، بانهياره الخاص، وانهيار المزارع في الحرب الانفصالية (فولكيز (Faulkner)، كالدويل (Caldwell) ، وفك الرمز الرأسمالي الآتي من الشمال دوس باسوس (Dos Passos)، درايزر (Dreiser) ، وأيضاً جور الغرب كخط للهروب، حيث يجتمع السفر والهلوسة والجنون والهندي والتجريب الإدراكي والذهني وحركية الحدود والجذموركين كيسي
(Ken Kesey) وآلته الضبابية، جيل البتنيك... الخ وكل مؤلف أمريكي عظيم ينجز رسماً خرائطياً مستعملاً أسلوبه الخاص. وعلى عكس ما يحدث عندنا، فهو ينجز خريطة ذات ارتباط مباشر بالحركات الاجتماعية الواقعية التي تخترق أمريكا. وكمثال على ذلك، الكشف عن مواقع الاتجاهات الجغرافية في كل أعمال فتزجرالد (Fitz gerald).
24 القلب هنا يعني الثورة والانقلاب.
25 Bateson, Vers une écologie de l’esprit, t. 1, ed. du seuil, pp. 125-126.
والملاحظ أن كلمة “هضبة”، تستعمل كلاسيكياً في دراسة النباتات تحت الأرضية والعساقل والجذمورات. انظر في هذا الخصوص:
- Dictionnaire de botanique de Baillon, article «Bulbe».
26 Joëlle de la Casinière, Absolument necessaire, ed. de Minuit.
وهو كتاب، رحال حقيقة. وفي الاتجاه نفسه يمكن الرجوع إلى أبحاث مركز مونفوكون:
Montfaucom Researeh center.
27 Kafka, Journal, Grasset, p: 4.
28 المقصود بها شذرة من شذرات نيتشة )المقولة الموجزة –الأفوريزم (
29 الطوبوغرافيا (الطباعية): البنية التضاريسية للسطح.
30 Marcel Schwob, La croisade des enfants, 1896; Jersy Andrzewski Les portes du paradis, 1959, Gallimard Armand Farrachi, La dislocation, 1974, Stock.
بخصوص كتاب شووب (Schwob)، اعتبر بول الفاندري (Paul Alphandry) “أن بإمكان الأدب في بعض الحالات، أن يجدد التاريخ، وأن يفرض عليه اتجاهات حقيقية للبحث”. انظر:
- La chretiente et l’idée de croisade, t. II, Albin Michel, p. 116.
31 Cf. Paul Virilio, «Véhiculaire», in Nomades et vagabonds, 10-18 p. 43.
- يتعلق الأمر هنا بقيام الخطية وانقلاب الإدراك بفعل السرعة.
32 Cf. J. C. Bailly, la légende dispersée, 10-18.
انظر ) ص (18 وما يليها: وصف الحركة لدى الرومانسية الألمانية.