مــــقدمـــة:
يكتب ألثوسير في إحدى هوامش الجزء الأول من كتابه «Lire le Capital» ما يلي:
"يعود الفضل اليوم، فيما يخص النتيجة التي عملت على قلب فهمنا ل فرويد، للمجهود النظري الواضح والحازم الذي قام به جاك لاكان لسنوات طوال. [1]
تعتمد قراءة ألثوسير لفرويد على ما قدمه التأويل اللاكاني في هذا الصدد، والباحث المدقق في صفحات «Lire le capital» سيجد على ان قراءة ألثوسير لفرويد لا تختلف عن قراءته لماركس، فإذا كان موضوع فرويد، أي اللاوعي، ينتمي الى الاشكال النظري العلمي الجديد «Problématique» المختلف كليا عن اشكال علم النفس الاختباري الأيديولوجي، فإن موضوع ماركس، ونعني هنا مفهوم نمط الإنتاج الرأسمالي، ينتمي الى الإشكال النظري العلمي الجديد الذي اسسه ماركس والمختلف كليا عن الاشكال الأيديولوجي الاختباري سواء في شكله الهيجلي او الفيورباخي. وانطلاقا من هكذا منظور لإنتاج المعرفة العلمية، تغذوا لحظة انتاج التصور أو المفهوم اللحظة الحاسمة والمحددة لإنتاج معرفة علمية بموضوع ما. من هنا يمكننا ان نستوعب طبيعة التأويل الذي قدمه ألثوسير لتاريخ الكيمياء في الجزء الثاني من كتابه المومأ إليه سابقا، فمكتشف الغاز في الطبيعة الذي يؤدي الى الاحتراق، ونعني هنا العالم بريستلي، وانطلاقا من كونه قد ظل عاجزا على بناء التصور الخاص لما بين يديه، فإن دوره في تاريخ الكيمياء قد ظل هامشيا إن لم نقل ان دوره كان غير ذا أهمية تذكر مقارنة بما قدمه العالم لافوزييه الذي تمكن-استنادا على تجارب العالم بريستلي-من بناء التصور والمفهوم، أي مفهوم الأوكسجين. لحظة بناء التصور والمفهوم، هي اللحظة الحاسمة في انتاج المعرفة العلمية، بالنسبة الى ألثوسير، وابتغاء لمزيد من الدقة والوضوح يمكننا ان نقول ان ذلك ينطبق على كل الباحثين المتأثرين على نحو واضح بالابستمولوجيا الباشلارية.
إن الأهمية العظمى التي تكتسيها اليوم نظرية فرويد لا تكاد تخفى على أحد، ولقد قدمت، ولازال يقدم في هذا الصدد، مجموعة من التأويلات لنظريته التحليلية النفسية، وفعل القراءة–كما فعل الكتابة-ليس بالفعل "البريء"، وإنما بالأحرى عملية ديالكتيكية تتوسطها العديد من الأقنية، لعل الأيديولوجية، التاريخية، والاجتماعية واحدة من أهمها. بالإضافة الى كونه، أي ذاك الفعل المومأ إليه، فعلا جمعيا بقدر ما هو فعل فردي. والحق أن الدراسات السيميولوجية المعاصرة تقدم لنا أدلة ثمينة، على هذا الصعيد. ها هنا يمكن أن نحيل الى ميخائيل باختين، الذي اكتشف مع كتابه الماركسية وفلسفة اللغة في مطلع الستينات. فقد أعلن الباحث المذكور، أي ميخائيل باختين ما يلي: المركز العصبي لكل تحدث، ولكل تعبير، ليس داخليا ولكنه خارجي: إنه يقع في المحيط المجتمعي الذي يحيط بالفردـ ولا ينبع من الداخل، من الجهاز العضوي الفيزيولوجي، بحيث إن التحدث الوحيد (الكلام) ليس بواقعة فردية بتاتا، ومن ثم فقوانين التطور اللسني في جوهرها قوانين اجتماعية[2].
منذ أن شرعت في البروز والانتشار مؤلفات وأعمال فرويد وهي تطرح العديد من السجالات والنقاشات بخصوص مدى الأهمية العلمية لمنهج التحليل النفسي، ولم تكن الماركسية ببعيدة وغير مهتمة بهذه النقاشات والسجالات، وإنما كانت في عمقها، إلا ان الموقف الفلسفي الذي اتسمت به الحقبة الستالينية هو الرفض الصريح للمنهج التحليلي النفسي ولمنجزات فرويد العلمية بحجة "مثاليتها". أهمية قراءة ألثوسير لفرويد تكمن في كونها قد ساهمت في تجاوز ذلك الموقف الغارق في وثوقيته. طبعا، هذا بغض النظر عن النظرية المثالية التي يقرأ بها ألثوسير فرويد والمستمدة من اعمال ومؤلفات غاستون باشلار، ولمجهود المحلل النفساني البارز جاك لاكان. وسنعمل نحن في هذا المقال على تقصي أسس القراءة الالثوسيرية لفرويد ومنهجها.
مجـــــهود لاكان!
لعل أهم العوامل التي ساهمت في انتشار التأويل اللاكاني لفرويد قد تمثلت أساسا في النجاحات البارزة التي تحققت في ميادين الألسنية البنيانية (نوظف هنا لفظ البنيانية لكونه الأكثر مطابقة للفظ «Structuralisme» في حين نجد ان لفظ البنيوية لا ينطبق الا على لفظ «Structurisme». وهذا ما يؤكد عليه أيضا المفكر السوري طيب تيزيني.) والمنطق الرمزي والرياضيات الحديثة، على سبيل المثال صياغة العالم الرياضي هيلبرت للحساب في صورة نسق رياضي اكسيومي-استنتاجي متماسك داخليا انطلاقا من مجموعة صغيرة من الأوليات والبديهيات المختارة اختيارا حرا والمعرفة تعريفا تواضعيا تعسفيا اراديا حرا. وتجدر الإشارة الى ان هذه النجاحات هي عينها التي ساهمت في بروز نظرية الممارسة النظرية عند ألثوسير بمفاهيمها الابريورية المعروفة (البروليماتيك او الاشكال النظري، المادة الخام، العمومية الأولى والثانية والثالثة إلخ). والحق ان تواريخ الفلسفة المثالية غالبا ما تكرر الكليشيهة التالية فيما يخص الفلسفة البنيانية: ففي البداية تقوم بإرجاع واحالة الفلسفة البنيانية الى البنيانية اللغوية، ثم تقوم بإحالة هذه الأخيرة نفسها الى ما تسميه ب: "الثورة الكوبرنيكية التي أنجزها فردينان دوسوسور" مؤسسا بذلك الألسنية البنيانية كعلم محض.
تتألف اللغة في تعاليم دوسوسور من مجموعة مترابطة من العلامات، كما تتألف كل علامة لغوية من دال ومدلول. ان دفع الثورة الكوبرنيكية المزعومة هنا من اللغة التقنية والالسنية التي عبرت عن نفسها من خلالها الى اللغة الفلسفية سيؤدي بنا الى النتيجة التالية: الدال والمدلول، ومن ثم اللغة أيضا، هي جميعا من طبيعة واحدة، وهذه الطبيعة هي غير واقعية، لا علاقة لها بالواقع المستقل عن اللغة، انها روحية، عقلية وذهنية. لابد من الملاحظة هنا ان الثورة الكوبرنيكية التي انجزها دوسوسور ليس لها من الكوبرنيكية سوى الاسم فقط، فالثورة الكوبرنيكية تشير الى الانتقال الفلسفي من مركزية الذات الى مركزية الموضوع. وهذا هو الجوهر الواقعي والمادي لإنجاز كوبرنيكوس العلمي. في حين تقوم "ثورة" دوسوسور "الكوبرنيكية" على عزل العالم الخارجي بتاتا ووضعه بين قوسين. لتظل اللغة بمعناها العلمي عبارة عن نسق مجرد من العلامات لا يحيل الى ما هو خارجي ومستقل عنه، ويتحول هذا التجريد الى أيديولوجية بنيانية فاسدة حالما يتم الإقرار بأن الدراسة الجادة لكل ظاهرة لغوية لن تتم على نحو علمي دونما عزلها عن كل ما هو خارجي وتاريخي واجتماعي وواقعي إلخ. والحق ان هذا هو ما جعل دوسوسور يعلن ان الفكرة التي تمثل جوهر اللغة لا يمكن ان تكون الا فردية ذاتية[3].
الان ما علاقة كل ما قيل ب: جاك لاكان؟
لا بد من الإشارة أولا الى ان مجال بحثنا لا يسمح لنا بتقصي معظم المراحل والمحطات الحاسمة التي مر عبرها ونمى تفكير لاكان، ولا الى تقصي معظم ابحاثه المهتمة بالتحليل النفسي والفلسفة إلخ، تاركين ذلك لفرص أخرى، وسنكتفي بالإشارة الى مفهومه عن اللاوعي وعن فحوى شعاره "العودة الى فرويد".
"لم يكن غرض لاكان ان يعيد اكتشاف التحليل النفسي من جديد، بل إنه، على العكس من ذلك، أقام تعليمه في البداية تحت شعار العودة الى فرويد، واكتفى بأن يتساءل: ما هي الشروط الممكنة لقيام التحليل النفسي؟ فكانت اجابته على النحو الاتي: الشرط اللازم والضروري من أجل قيام التحليل النفسي يتمثل في ان يشكل اللاوعي بنية على غرار اللغة.[4]"
يغذوا علم التحليل النفسي الفرويدي عند جاك لاكان، نمطا من السيكولوجيا الماورائية، والتي تكمن وظيفتها الفعلية في تحليل البنية الأساسية للغة (منطق الدال). ويرجع ظهور عبارة "اللاوعي يمثل بنية على غرار اللغة" الى سنة 1953 وإلى أول انقسام عرفه أصحاب التحليل النفسي آنذاك. مما يعني تحويل اللاوعي الفرويدي الى بنية مغلقة من العلامات والدوال المجردة التي لا تحيل الى أي واقع مستقل، تماما على غرار التصور الدوسوسوري للغة المومأ إليه سابقا. وتمثل هذه العبارتين التاليتين، أي عبارة "اللاوعي يمثل بنية على غرار اللغة" وعبارة "اللاوعي كخطاب للآخر"، ناهيكم عن التمييز الذي أقامه لاكان بين الرمزي والخيالي والواقعي حجر الأساس وجوهر تصوره الفلسفي-التحليلي النفسي.
يمثل اللاوعي بالنسبة الى جاك لاكان ما يمكننا ضبطه تحت مسمى "الكيان اللغوي"، وانطلاقا من كون اللاوعي كذلك، أي" كيانا لغويا"، فإنه يقوم بعمله وكأنه "لغة بنائية"، فهو الذي يقوم بدور المتكلم داخل الانسان. من هنا اعتقاده الراسخ على ان الامراض السيكولوجية ذات طابع لاشعوري ويمكن فك رمزيتها على هذا الأساس. إن اللغة هنا، هي مفتاح الظاهرة اللاشعورية، وذلك من خلال ما قدمه دوسوسور في نظريته اللغوية الخاصة بالدال والمدلول.
لواضح تمام الوضوح، -وسنوظف هنا اللفظ الألثوسيري-أن القراءة التي يعتمدها لاكان لفرويد قراءة "اثمة نظريا". فدراسته للاوعي الفرويدي مستمدة من الخطاب الفلسفي الفرنسي السائد حينها والذي لم يتوقف لاكان للحظة عن الإشادة به وعن تقديمه باعتباره أرقي ما تم تقديمه فلسفيا. وهذا ما ينطبق أيضا على قراءة ألثوسير لماركس. يجهد ألثوسير نفسه من اجل ان يبين ان مفهوم ماركس الذي يحمل موضوعه "المكتشف"-يصر ألثوسير على توظيف لفظ الاكتشاف وينتقد بلا هوادة نصوص ماركس التي تنظر الى انتاج المعرفة العلمية وكأنها تتم على نحو تمثيلي-لا علاقة تجمعه بالانثروبولوجيا السابقة على ماركس، حتى الداروينية منها (أبحاث مورغان على سبيل المثال)، وأن موضوعه ينتمي فقط الى مجال التصور الخالص. تماما، على غرار لاكان، الذي يقوم في خضم قراءته لفرويد بالتأكيد على المسألة الحاسمة التالية:
اللاوعي يمثل بنية على غرار اللغة، يهمل هذا التحديد اللاكاني الأهمية القصوى للمفاهيم والنظريات البيولوجية، النظريات الانثروبولوجية والاجتماعية والتاريخية، والفعل الخلاق الذي مارسته على نظرية التحليل النفسي. ويكتفي فقط بالغرق في الخطاب الأبريوري حول اللغة، ليغذوا في نهاية التحليل ميدان اللسانيات هو الميدان العلمي الوحيد المقرب للتحليل النفسي والذي مارس عظيم التأثير على فرويد والتحليل النفسي. بالنسبة إلينا، يعود هذا العداء بجذوره الى الفلسفة التي درسها جاك لاكان ابان سنوات 1930 من خلال دروس ألكسندر كوجيف حول بحث هيجل الشهير: فينومينولوجيا الروح[5]. يتعلق الأمر هنا بالثنائية الأنطولوجية المكرسة فلسفيا والتي تعمل على إقامة تمييز حاد بين الوجود الطبيعي، الواقعي، الموضوعي، المعطى، الستاتيكي، المادي من جهة، وبين الوجود الإنساني المعرف باعتباره سلبا جذريا من جهة أخرى. إنه التمييز الفلسفي الذي ساد على امتداد قرون خلت بين عالم المادة وعالم الروح السابق للثورات الكوبرنيكية الثلاث المنجزة من قبل كل من ماركس، فرويد وداروين. فوفقا للقراءة الأنثروبولوجية التي يقترحها كوجيف لهيجل فإن الذات الإنسانية ليس بإمكانها ان تكون كذلك الا بقطعها كل أواصر الصلة بينها وبين كل ما له علاقة بجسمها البيولوجي، الحيوي، والحيواني، وتعمل على السعي نحو موضوع ليس بطبيعي، أي السعي نحو موضوع ليس بموضوع، بمعنى السعي نحو رغبة الاخر. تصير الرغبة الإنسانية وفقا للتحديد الكوجيفي رغبة لرغبة ذات إنسانية أخرى. إنها رغبة بلا موضوع. إن الذات اللاكانية هي تماما على غرار الانسان الكوجيفي، سلبية راغبة محضة لا ترضى الا من اللاشيء، من اللاموضوع الذي هو رغبة الاخر.
في الواقع، فإن التحليل النفسي الفرويدي، يستند في التحليل الأخير على مفاهيم بيولوجية. تماما كما بين لنا ذلك المؤرخ «Frank Sulloway» في بحثه: «Freud: Biologist of the mind»، فالمفاهيم التالية: كالإثارة، الليبيدو، ثنائية الصفات الجنسية، الجنس الطفلي، الارتكاس المتعدد الاشكال، النرجسية، الانحدار، والكبت، وغيرها تجد جميعا جذورها في الفرضيات البيوجينية التي تبناها وعالجها فرويد على غرار علماء الجنسانية والبيولوجيين الذي عاشوا في عصره.
ماذا تبقى لألثوسير؟
يسير ألثوسير على خطى النهج الفلسفي المثالي الذي سار فيه لاكان. في الواقع، يعلن ألثوسير في بحثه لينين والفلسفة، وبالضبط في المقال المعنون ب: فرويد ولاكان ما يلي: لقد حاك فرويد شبكة نظرية هائلة ليصطاد بها في أعماق التجربة العمياء الأسماك التي يعج بها اللاوعي[6].
تشتغل المعرفة العلمية، بما فيها العلم الفرويدي، أي التحليل النفسي، في البدء على ما يسميه ألثوسير بالمادة الخام، والتي تمثل مجموعة من الأفكار والتصورات الأيديولوجية السائدة قبل علم من العلوم (على سبيل المثال التنجيم قبل كوبرنيكوس) وتكمن ايديولوجيتها في كونها تنتمي الى عالم الواقع، عالم التجربة، عالم الخطأ أو الوعي الزائف بلغة لوكاش الهيجلي. تسمى هذه المادة الخام بالعمومية الأولى. هذه المادة الخام (العمومية الأولى) هي ما تشتغل عليه الممارسة النظرية وذلك من اجل تحويلها الى معرفة، أي الى عمومية ثالثة. اما العمومية الثانية فهي الاشكال النظري، التي بها ومن خلالها نحصل على التعاليم والأفكار العلمية في العمومية الثالثة، وذلك بواسطة اعمال ذلك الاشكال النظري في العمومية الأولى، أي في المادة الخام. يؤكد ألثوسير أنه لا وجود لتماثل ماهوي بين كل من المادة الخام، أي العمومية الأولى، وبين العمومية الثالثة، أي المعرفة العلمية، وإنما هناك تحول حقيقي يرفعه الى درجة المفهوم الباشلاري القطيعة الابستيمولوجية. أما الجهد الذي من خلاله تتحول العمومية الأولى الى العمومية الثالثة فهو جهد نظري معرفي خالص، أي انه يحدث داخل المعرفة ويتضمن فقط عملية الممارسة النظرية.
المادة الخام (العمومية الأولى) التي قام فرويد بالاشتغال عليها هي التجارب والحقائق الغنية التي تقدمها ميادين العلوم الأخرى، كالسلوكية والبيولوجية والانثروبولوجية وغيرها، مع التأكيد على انعدام أي عنصر معرفي ضمن هذه المصادر، اما اللحظة التي تحولت فيها هذه المادة الخام (العمومية الأولى) الى معرفة علمية (العمومية الثالثة) فهي عينها اللحظة التي اكتشف فيها فرويد اللاشعور بما هو موضوع علمي جديد لا صلة له بموضوع علم النفس الامبريقي الاختباري المدان دائما[7]. لا يتبقى لألثوسير الان سوى الإعلان على ان هذا العلم المنتج هو في قطيعة ابستيمولوجية تامة مع ماضيه العلمي التجريبي.
ففي الوقت الذي نجد فيه نصوص فرويد تقر اقرارا صريحا بأهمية العلوم التجريبية الأخرى وفضلها على التحليل النفسي، نجد كل من لاكان وألثوسير وتحت شعار النضال ضد التجريبية وشرورها، يحاولان ابراز فرويد وكأنه قد أنتج مفاهيمه على نحو تصوري شكلاني محض. لقد أقر فرويد ضمن بحثه خمسة دروس في التحليل النفسي على انه كان لايزال طالبا جامعيا حينما قام الدكتور جوزيف بروير (وهو الطبيب المشهور بأبحاثه عن التنفس وعن فيزيولوجيا حاسة التوازن) بتطبيق الطريقة التحليلية النفسية من اجل معالجة فتاة تعاني من الهيستيريا وذلك بين عامي 1880 و1882.
فرويد وثورته الكوبرنيكية:
يعلن فرويد ضمن بحثه مدخل الى التحليل النفسي ما يلي:
" إننا بإسنادنا للاوعي مثل هذه الأهمية في الحياة النفسية، نكون قد صوبنا ضد التحليل النفسي النقد الصادر عن النفوس الأكثر خبثا. فلا تعجبوا، ولا تعتقدوا ان المقاومة التي نعارض بها تعود الى صعوبة تصور اللاوعي او الى صعوبة التجارب المتعلقة به، فخلال عدة قرون، كبد العلم تكذيبين كبيرين للأنانية الساذجة للإنسانية: المرة الأولى حين أظهر العلم ان الأرض ليست هي مركز الكون، وأنها ليست سوى ذرة لا قيمة لها ضمن النظام الكوني الذي لا نستطيع تصور ضخامته إلا برأي. وهذه البرهنة الأولى ترتبط باسم كوبرنيكوس رغم ان العلم الاسكندراني كان قد أعلن شيئا مشابها. أما التكذيب الثاني فقد تكبدته الإنسانية بواسطة البحث البيولوجي، حيث رد ادعاءات الانسان في كونه وجد في موقع متميز ضمن نظام المخلوقات الى لا شيء، وأرجع الأصول التي ينحدر منها الانسان الى المملكة الحيوانية، وحين اظهر عدم قابلية طبيعته الحيوانية للزوال. هذه الثورة الأخيرة تمت في أيامنا هذه بعد اعمال داروين ووالاس وأتباعهم، وهي أعمال ولدت أكثر اشكال المقاومة صلابة بين معاصرينا. وسيتم تكبيد تكذيب اخر الى اعتداد الانسان بذاته (Mégalomanie) بواسطة البحث السيكولوجي القائم في أيامنا هاته، والذي يحاول ان يظهر للأنا أنه ليس سيدا في بيته وانه من المفروض عليه ان يكتفي، مسرورا، ببعض المعلومات النادرة والجزئية عما يجري خارج شعوره، أي في حياته النفسية.[8]"
امامنا الان نص لفرويد لا يدع مجالا للشك اننا امام علم جديد. لدرجة انه قد يذكرنا بنصوص ماركس التي عمل من خلالها على التعريف بثورته الكوبرنيكية، خاصة مقدماته لرأس المال، ناهيكم عن مقدمات انجلز. كان فرويد واعيا تماما الوعي، شأنه شأن كل العلماء، ومن بينهم ماركس، كوبرنيكوس، داروين، جاليلي وغيرهم كثر، على ان البدايات وعرة في جميع العلوم. من هنا عدم تعجبه من المقاومة الشرسة التي تعرضت لها نظرية التحليل النفسي، سواء من قبل الايديولوجيات الدينية او من قبل الفلسفات المثالية. ومن هنا أيضا إصراره على مقارنه إنجازه العلمي بإنجاز كل من كوبرنيكوس وداروين. لقد أدت نظرية التطور الى تقويض فكرة ثبات الأنواع الحية وثبات الأعراق البشرية المعروفة لصالح الأصل المشترك لأشكال الحياة كلها مهما كانت ولصالح الأصل المشترك للأعراق البشرية جميعا أينما كانت، فكما ان النظام الشمسي لم يعد نسقا متكررا من الحركات الازلية التي لا تتبدل او تتحول ليصير نتاجا لصيرورة فيزيقية انبعثت من كتلة سديمية اصيلة واحدة، فإن اشكال الحياة نفسها لم تعد أنواعا ثابتة خارج الزمان واصنافا مستقرة على حالها منذ بداية الخلق لتصير بدورها نتاجا لصيرورة التطور الحيوي الموحدة المنبثقة من أصل واحد.
إنه الفعل الهدام الموضوعي للعلوم، والذي سبق لماركس ان أشار اليه. فعلى النقيض مما يضن البعض، لا علاقة لما نحن بصدد البحث فيه بالقناعات الشخصية والأيديولوجية التي يحملها العالم، وإنما بالحقائق الموضوعية التي يقوم بالكشف عنها كل حسب الأدوات النظرية والعلمية المتاحة تاريخيا، ذلك لأن المهمة الأولى للعلوم هي الكشف عن الحقائق الموضوعية المستقلة عن الانسان. وهذا ما ينطبق دون أدني شك على التحليل النفسي. فمع فرويد، لم تعد النفس الإنسانية مجرد حامل روحاني لقوى وملكات ثابتة وموزعة توزيعا ثابتا لا يتغير، وإنما غدت، هي أيضا نتاج لعملية نمو وتحول نوعي نفسية اجتماعية معقدة تنبثق عن أصل ليبيدي واحد.
ففي مفهوم فرويد عن الجهاز النفسي الإنساني لا نجد فرويد يتجاهل تأثير العالم الموضوعي المستقل عن الانسان، وإنما على النقيض من ذلك، يأخذه مأخذ الجد، على غرار جميع العلماء. فما يسميه فرويد بالهو يحيلنا الى المناطق والهيئات النفسية الاقدم في الجهاز النفسي، وذلك من خلال دراسته تطور الأفراد، ويحتوي هذا الهو كل ما هو محدد جبليا، من هنا تألفه قبل كل شيء بالدوافع الصادرة عن التنظيم الجسمي. والانا، أي ذلك التنظيم الخاص الذي يتوسط الهو والعالم الخارجي، ينشأ من خلال التأثير المستمر للعالم الموضوعي بحيث يطرأ على جزء مهم من الهو تغير خاص. ومن خصائص الانا الخارجية نجد: التعرف على المثيرات الخارجية وأن يدخر في الذاكرة الخبرات التي تقدمها له، وذلك بتفادي المثيرات المفرطة القوة (بالهرب) وبالتلاؤم مع المثيرات المعتدلة (بالتكيف)، بالإضافة الى القيام بتعديل العالم الموضوعي ليعود اليه بالنفع. ناهيكم عن الخصائص الداخلية، كالتحكم في الحركات الارادية، وحفظ الذات. وخلال المدة الطويلة من الطفولة التي يقضيها الفرد في حالة من الاعتماد الكلي على الوالدين، يشهد ابان فترة نموه وتطوره تكون هيئة خاصة في أناه يمتد عبرها ومن خلالها تأثير الوالدين، هذه الهيئة هي ما يسميها فرويد ب: الأنا الأعلى. إنه القوة الثالثة التي ينبغي على الانا ان تأخذها بعين الاعتبار. يكتب فرويد محللا العلاقات القائمة بين الانا والانا الأعلى مؤكدا ماديته، أي علميته، على النحو الاتي:
"إن خصوصيات العلاقات القائمة دوما بين الأنا والأنا الأعلى تصير مدركة إذا ما قمنا بإرجاعها الى علاقات الطفل مع والديه. وليست شخصية الوالدين وحدها هي التي تؤثر على الطفل، بل تؤثر عليه عبرهما كذلك التقاليد العائلية والعرقية والوطنية وكذا مطالب الوسط الاجتماعي المباشر الذي يمثلانه.[9]"
أما فيما يخص مفهوم فرويد عن اللاوعي، فإنه يفترض وجود فلتة غير معروفة بالنسبة للذات. مما يعني ان اللاوعي الفرويدي يفترض على ان ما هو حقيقي في الذات لا تعرفه هذه الذات، او لنقل ان ما تعرفه الذات ليس هو حقيقتها. النفس الإنسانية وما تنتجه من تصورات حول نفسيتها غير كاف ولا يلم بحقيقة النفس الإنسانية، ان فرويد يفترض هنا عدم وجود تماثل بين الظاهر والباطن. وهذا ما كان قد حدده ماركس بما هو الشرط الرئيسي لقيام كل علم من العلوم. حينما يتماثل ظاهر الشيء بباطنه يبطل العلم. لهذا اعتبر ماركس أيضا، على ان التصورات والأفكار التي ينتجها نمط الإنتاج الرأسمالي عن ذاته لا يمكنها ان تكون كافية وعلمية بالقدر الكافي من اجل سبر اغواره، ونعني تلك التصورات التي ما كانت تنظر الى نمط الإنتاج الرأسمالي باعتباره مرحلة تاريخية محددة من تطور المجتمع الإنساني، وإنما ينبغي أيضا الدراسة العلمية الموضوعية الجادة لهذا النمط في واقعيته وتاريخيته.
[1] : Louis Althusser et Etienne Balibar: Lire Le capital (première partie)، François Maspero 1، Place Painlevé 5 Paris, 1973، p: 13.
[2] : يقول أيضا ميخائيل باختين:
إن أي منتج استهلاكي يمكن بنفس الطريقة أن يحول الى رمز ادلوجي. على سبيل المثال، الخبز والنبيذ، اللذان يصيران رموزا دينية ضمن السر المسيحي للقربان المقدس. لكن المنتج الاستهلاكي، بما هو كذلك، ليس على الاطلاق رمزا. إن منتجات الاستهلاك كالأدوات، بإمكانها أن تقترن بالرموز الايديولوجية، لكن الخط المفاهيمي الفاصل بينها لم يمحى من قبل هذا الاقتران -الارتباط. للخبز شكل معين، وهذا الشكل ليس مبررا فقط من قبل وظيفة المنتج الاستهلاكي التي يؤديها: إن له أيضا، مهما كان بسيطا وأوليا، قيمة ذات رمز ايديولوجي. (على سبيل المثال: الخبز الممتلك شكل رقم ثمانية أو المزخرف والدائري على شكل وردة صغيرة).
أنظر:
« Mikhaïl Bakhtine (V.N.Volochinov) : Le marxisme et la philosophie de langage، essai d’application de la méthode sociologique en linguistique، première partie : La philosophie du langage et son importance pour le marxisme، étude des idéologies et philosophie de langage، LES EDITIONS DE MINUIT، p : 26. »
[3] : إننا لا نشك للحظة، او نطعن، في أهمية النجاحات الباهرة التي حققها ميدان الالسنة البنيانية. ان موضوعنا هنا يتعلق بطبيعة النتائج الفلسفية المستخلصة من هذه النجاحات، والطروحات الأيديولوجية الفاسدة التي يجري تسويغها انطلاقا من التقدم الحاصل في ميدان اللغويات.
[4] : Jacques -Alain Miller : Jacques Lacan ; Ornicar, 1981.
[5] : Voir par exemple : Alexander Kojève : Introduction à la lecture de Hegel, Gallimard.
[6] : Louis Althusser: Lenin and Philosophy, and other essays. Introduction by Fredric Jameson. Translated from the French by Ben Brewster. Freud and Lacan, p : 133.
[7] : " Un bon exemple: l'objet de Freud est un objet radicalement nouveau par rapport à l'objet de l'idéologie psychologique ou philosophique de ses prédécesseurs. L'objet de Freud est l'inconscient, qui n'a rien à voir avec les objets, pourtant nombreux à souhait ! De toutes les variétés de la psychologie moderne. on peut même concevoir que la tache numéro 1 de toute discipline nouvelle consiste à penser la différence spécifique de l'objet nouveau qu'elle découvre, à le distinguer rigoureusement de l'ancien objet, et à construire les concepts propres requis pour le penser. C’est dans ce travail théorique fondamental qu’une science nouvelle conquiert de haute lutte son droit effectif à l'autonomie."
Voir : Louis Althusser et Etienne Balibar, Lire le Capital, deuxième partie, p : 22.
لا يعود إلى الفضل -هذا إذا كان ثمة من فضل-في إنجاب التحليل النفسي. فأنا لم أشارك في بداياته الأولى. كنت ما أزال طالبا جامعيا، مستغرقا في تحضير امتحاناتي الأخيرة، حين طبق طبيب من فيينا، وهو الدكتور جوزيف بروير (المشهور بأبحاثه عن التنفس وعن فيزيولوجيا حاسة التوازن) لأول مرة هذه الطريقة في علاج فتاة تشكوا من الهيستيريا، ويرجع ذلك الى الاعوام ما بين 1880 و1882.
أنظر: سيغموند فرويد، خمسة دروس في التحليل النفسي، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، ترجمة جورج طرابيشي، ص 7.
[8] : Freud : Introduction à la psychanalyse. Payot 1964 (308).
عن الفلسفة الحديثة (بتصرف)، نصوص مختارة، اختيار وترجمة: د. محمد سبيلا، د. عبد السلام بنعبد العالي، افريقيا الشرق، ص: 91.
[9] : Freud : Abrégé de psychanalyse. P : 41.