" من صفد إلى بغداد ثم دمشق أخيرا. رحلة شقاء محفوفة بالخطر وثقل الماضي المهين، كل هذا كان محمولا على كاهل النفس التي تدمَّت يوما وما اندمل الجرح بعد، وكان ختامها الطرد."
حيدر حيدر ـ الزمن الموحش ـ
" كل إنسان عظيم يمارس تأثيرا زمنيا: بسببه يعاد النظر في كل التاريخ، وآلاف أسرار الماضي تنبثق من مختبآتها وتعرض لشمسه."
نيتشه ـ العلم المرح ـ
" كانت الإشارات المكتوبة بالعربية، وبعض الصور الرسمية، وكل تلك الوجوه المتشابهة السمراء، تؤكد لي أنني أخيرا أقف وجها لوجه مع الوطن، وتشعرني بغربة من نوع آخر تنفرد بها المطارات العربية."
أحلام مستغانمي ـ ذاكرة الجسد ـ
عندما نعود لذكريات كل حضارة عظيمة، وعندما نعود لتاريخها المعلن عنه والخفي، يمكن حينئذ أن نحكم على عظمتها أو فشلها، لا ُلخصُّ حضارة الأمم القوية ت فقط في معمارها وأدبها وعلومها، بقدر ما أنها تُستنبط بناءً على طبيعة هذا المعمار وهذا العلم وهذا الأدب، أي أن كل تجسس واقعي على قيمة حضارة ما، يفترض منا انغماسا وسفرا في بنية المعمار ودلالاته سواء مع الطبيعة أو مع الإنسان، فلنتأمل مثلا أهرامات مصر التي تشعر كل زائر بعظمة الحضارة الفرعونية، لكن داخل هاته العظمة تسكن العبودية في أرقى صورها، حيث تطلب بناؤها أرواح مئات ومئات الأشخاص، أما كبرها بتلك الطريقة الفظة فإن في تلك إشارة إلى ذلك الضعف الخفي أمام الطبيعة والذي تم تعويضه بشيء ضخم تبريرا وكذبا ليس إلا.
لا يقل الأدب أهمية على المعمار بطبيعة الحال، حيث لا يمكن إلا أن ننبهر عندما نقرأ قصيدة لامرئِ القيس، أو لزهير بن أبي سلمى، أو للمتنبي... بيد أن كل وجه جميل، يحمل وجها آخر خلفه يكاد يفضح كل ما تم حجبه ـ بما أن الحقيقة حجاب وتحجب عن الواقع ـ وهو ما يمكن العثور عليه بين طيات وتضاعيف شعر هؤلاء الأعلام، إذ تأخذ دلالة البكاء على الأطلال ـ التي اعتبرت شرطا لكل قول شعري رخيم ـ قيمة الارتباط بالماضي الذي لن يعود، وكما نعلم فإن الارتباط بالماضي باعتباره حقبة الأمجاد والانتصارات إنما هو إشارة إلى عدم انخراطنا في الحاضر، وما علة عدم هذا الانخراط إلى نتيجة ضعف خفي، من ثمة فإن التغني بالأطلال هو عودة للماضي والسكن في الماضي ليس إلا نسيانا للحاضر والذي ينجم عنه بدوره التفريط في المستقبل.
عندما نعود لمجموع أدبنا الكلاسيكي منه والمعاصر، نعثر على ما تم ذكره آنفا، فلنتأمل مثلا تلك العناوين الكثيرة التي تعتبر مرجعا لثقافتنا، أو فلنعد إلى عديد الكتب الفائزة بكبريات الجوائز في الأدب كما في الفكر، حتى نجد أنها تجلد الذات بطريقة معلنة غالبا، وعليه فإن أبطالنا هم دوما أبطال مأساويون، يلعب الألم وتلعب الخيبة في حياتهم حبكةً لرواياتنا، ويلعب الانصياع فيهم تيمَةً لكتبنا الفكرية التي لا تتحدث عما يجب أن يكون بقدر ما تصور ما هو كائنا دون الاستمرار للأمام، أي أنها لا تعطي بدائلا لتشخيصاتها، كأننا نتلذذ بمعاناتنا ثم نعرفها للآخر كون أنها تدخل في إرثنا الثقافي أو الفكري، لنعد مثلا إلى كتب مفكرينا والتي تمحورت جلها إما حول إشكالية الهوية، أو سؤال العقل والنقل، أو بنية هذا العقل دون الانفتاح على الإتيان بشيء لم يوجد بعد، إن زمنها زمن ساكروني، في حين أنه كان عليها أن تتبع أيضا زمنا دياكرونيا diachronique ، زمنا بقدر ما يسعى إلى الخلود في اللحظة، بقدر ما يشرأب نحو المقبل، زمن كتاباتنا هو زمن الماضي الحاضر، كي يؤسس لزمن الماضي المستقبل، إنه لا يفرق كي يبني الاتصال، بقدر ما أنه يوصل كي يفرق، أو لكي تهيمن قوة على حساب كل القوى.
كل فرد منا يسكنه بطل مأساوي، بطل يجد ملاذه في الحنين إلى ما مضى، كما يجد ضالته في خلق خصوم وهميين ينتصر عليهم مئات المرات في اليوم، أما المعضلات الواقعية التي يراها أكبر منه فإنه يبرر عجزه أمامها بخلقه لتبريرات عمياء من قبيل القضاء والقدر، أو من قبيل الانتقام في العالم الآخر، حيث لهم الدنيا ولنا الآخرة، وعليه فإن البطل عندنا يقتات من هاته الأشياء بدل أن يخلق لنفسه واقعا واقعيا وليس واقعا وهميا.
إن الوقوف على أهم الأسباب التي خلقت فينا هذا البطل المأساوي، يجبرنا على ضرورة ربط حوار مع بنيتنا الخفية التي لها كبير نصيب في هذا الشأن، حيث لعبت القبيلة فيها عاملا رئيسيا وهو المتمثل في عقدة المؤامرة التي لا زلنا نرثها لحد الساعة، قد يبدو لنا الأمر عاديا إذا ما تأملنا في الأمر، لكن وبمجرد ربط مشكلة المؤامرة بحقيقة البطل المأساوي، سنعثر على خيط رابط بين الإثنين، السقوط في عقدة المؤامرة أولا يبرر فشلنا، حيث الجميع يتآمر علينا من أجل إسقاطنا، ناهيك عن أن نفس العقدة تجعلنا نؤمن بأننا متفوقين والدليل على ذلك هو كثرة الأعداء، لكن فلنبحث عن ما جعل الأعداء يتآمرون علينا، آنذاك لن نجد شيئا يذكر لتبرير فشلنا، بنيتنا القلبية التي لازالت تحكمنا لحد الساعة تتأسس أيضا على الانغلاق، والحال أن هذا الأخير يضيع علينا زمنا كبيرا في التعرف على ما يقوم به غيرنا، كما يجعلنا غير خاضعين لمنطق التبادل الذي يساعدنا على التخلص من المؤامرة من جهة، فالعمل على تغيير واقعنا من جهة ثانية بناءً على واقع غيرنا، إما أن نتحرك كي نصل على الركب، أو نصنع المجد كي نبقى دوما في القمة إذا كنا متفوقين جدا.
يتحدث نيتشه في كتابه الشهير :"ميلاد التراجيديا" على طبيعة كل إنسان، وكيف أنها تتأرجح بين روحين تختلفان كي تتشبهان، وتبتعدان كي تقتربان لدرجة التطابق، وهما الروح الديونيزية نسبة على الإله ديونيزوس، حيث الارتباط الوثيق بالحياة من جانبها الحقيقي أي الفوضوي الذي لا يخضع لأي نظام مطلق، ثم الروح الأبولونية أي نسبة للإله أبولون، والتي ترمز إلى الانسجام والتناغم والتوازن الذي يضمن الاستمرار في الحياة من وجهة نظر ديونيزية، عندما نعود لبطلنا المأساوي وليس التراجيدي ـ لأنه شتان بين المأساة والتراجيديا ـ نجد أنه بطل ينأى عن أبولون وديونيزوس، حيث لا يملك إرادة القيام بشيء لم يوجد بعد، ثم تراه يرتبط بحياة أخرى غير الحياة الواقعية، وعليه وإذا أردنا الذهاب على منوال نيتشه فإن بطلنا هو امتداد لميثولوجية سيزيف الذي سرق النار من الآلهة كي يعطيها للإنسان، فما كان من آلهة الأولمب إلا أن عذبوه وذلك بحمل صخرة من سفح الجبل نحو قمته، حيث ما عن يكاد المسكين أن يصل إلى مبتغاه، حتى تتدحرج رغما عنه إلى الأسفل، فلا يجد مناصا من العودة مرة أخرى لوضعها في القمة ، وهكذا دواليك إلا مالا نهاية.
لا ينبغي لبطلنا إذن أن يكون بطلا سيزيفيا، حيث نحتفل بصموده وجرأته على الآلهة، بقدر ما يجب أن نسعى لبطل مَرِحٍ، بطل خفيف من كل الأثقال التي يمكن أن تحجب عنه حقيقة الحياة، حيث التفوق هو التفوق يتم تحقيقه بالعمل وليس بأحلام اليقظة، بالتالي فإن البطل التراجيدي الذي نسعى إليه، هو البطل غير المأساوي، بطل غير مرهق وغير متشائم كما يقول نيتشه، إننا نسعى لبطل خفيف جدت، بطل يتقن الرقص بدل مشاهدة من يرقص والتفرج عليه، آنذاك فقط ستساعدنا هاته البطولة في التخفيف من القيم، وفي خفة الروح كما في خفة اكتشاف مناطق لم يعرفها أحد سلفا، عندها سيمكننا الحديث عن البطل المأساوي كأثر وليس كوثيقة تعيش في كل الأزمنة والأمكنة.