" الذهنية العتيقة، ذهنية التقديس الساذج لنبي الإسلام، السائدة إلى اليوم، لم تعد ملائمة للذهنية الحديثة النقدية، التقبل الأعمى لكل ما ترويه السيرة من معجزات محمد، ينبغي أن يخلّى مكانه للارتياب، للبحث والتنقيب، لاكتشاف أن التصديق بهذه المأثورات هو من تأثير الإنبهار الأعمى بها..."
ــ العفيف الأخضر ـ
" على الكيميائي العلمي أن يحارب في داخله الكيميائي السحري ليتغلب على العائق الإبستيمولوجي..."
ـ غاستون باشلار ـ
لقد توجب علينا وبكثير من الدقة أن نفصل بين القرآن كقرآن، وبين ما يمليه الفضاء العمومي على سلوكاتنا، كما أصبح لزاما علينا إعادة قراءة هذا الكتاب قراءة نقدية باعتباره الدستور الناظم لحياة المسلمين فيما بينهم، وإلا فما بال كل هذا القتل الذي بات يستوطن كل البرامج الإخبارية حيث سفك الدماء في كل آن وحين باسم الدين ولا شيء سواه، من ثمة ولكي نكون على جانب كبير من الواقعية لا بد من الوقوف عند أسباب ومسببات جرائمنا التي أعادتنا إلى غابر الأزمان، مسيئة إلى الدين وإلى العرق وإلى الأمة كما تسيء إلى المنطقة برمتها، وعليه فلنكن واضحين مع أنفسنا بداية مؤكدين أن لا أحد توجب عليه أن يكون محاميا لله أو للدين، كما لا أحد منا وجب عليه أيضا أن يكون واسطة بيننا وبين السماء، أو يكون ناطقا باسمنا، بما أن الدين لا يقتصر على الصلاة فقط، بقدر ما أنه تربية قبل كل شيء، والواقع أن هناك عدة عوامل ساهمت إما من قريب أو من بعيد في هذا الداء الذي أصابنا ليس الآن فقط، وإنما منذ وفاة النبي باسم الصراع حول السلطة، الذي ثم إلباسه ثوبا دينيا لنيل مزيد من الشرعية.
في نفس السياق وإذا أردنا أن نقف عند النقطة والحرف، فلا شك أن أمور تفسير الحياة الدينية هو شأن له مُختصيه من فلاسفة ومتكلمين ومفكرين وفقهاء متنورين، أما الخارجون من دائرتهم فإنهم سيسيئون أكثر مما سيصيبون، لهذا وعندما أعطيت الأمور لغير أهلها بتنا نرى ما نراه اليوم، وبتنا بجهلنا هذا مسرحا تتفرج عليه كل الأمم حيث التصق بنا التخلف والجهل وما برح ظهرانينا إلا وطاب له المقام أكثر فأكثر، لهذا ارتأيت في هذا القول وهذا المقام، أن أقف على أكبر عِلَّةٍ لما نعيشه اليوم من ويلات ألا وهو الدين، حيث لم يعد طقسا من طقوس التعبد فقط، وإنما أصبح سلاحا يلوذ به كل مجرم لتبرير قتله وللإعلان على وحشيته وهمجيته، وبما أننا أمة تخاصمنا منذ زمن طويل بالعقل والتفكير النقدي، وبما أننا طردنا كل آليات التحليل السديد من فلسفة ومنطق فقد كنا التربة الخصبة لمثيل ولنظير ما حدث وما يحدث وما سيحدث أيضا إذا بقينا على هاته الحالة، من ثمة سأحاول أن أقرأ هذا الواقع مستعينا بقطع الغيار الفلسفية، ناشدا الاختصار المفيد، كل لا أطيل على القارئ لأننا في حاجة إلى نقاش مستفيض أكثر من حاجتنا إلى كتابة أحادية قد تكون عقيمة دون أن تترك أثرا خلّاقا.
إن أول ما نلاحظه ونحن نخوض فيما تم ذكره هو حضور الدين في كل طقوسنا اليومية، في أدعية الصباح كما ابتهالات المساء، في العطس والتثاؤب كما في بداية الأكل وفي الدخول إلى المرحاض، في الذي يبيعك بضاعة كما في الذي يشتري منك إياها، الكل يُقْسِمُ، والكلُّ يذكر اسم الله بكرة وأصيلا، والكل يردد الأحاديث والآيات القرآنية التي تخدمه، لكن وعلى النقيض من ذلك وحسب عديد الدراسات الوازنة فإن الغش والفساد والكذب والنفاق الإجتماعي، يتنزل من حياتنا اليومية منزلة الحجر من الزاوية، وهو ما يبين هذا الانفصام الكبير الذي نعانيه، وهو ما يدعونا أيضا للوقوف عند أمراضنا الجمعية والعمل على تحليلها فلسفيا وسيكولوجيا عسى أن تلقى تجاوبا وإن كانت صادمة بعض الشيء، بما أن الحقيقة تصدم بطبيعة الحال، لهذا وانطلاقا مما تم ذكره آنفا، فإن مَرَدَّ حضور الدين ومعه أيضا احتلالنا المراتب الأولى عالميا في الفساد وفي كل ما ينهانا الدين عليه، هو سقوطنا في ما يصطلح عليه بالهذيان الديني، فما دلالة هذا الأخير يا ترى؟ وكيف هي بنية الدين في مجتمعنا؟ وما وقع التفسير الديني فلسفيا علينا؟ وكيف يعتبر نزع القداسة على النبي وعلى الصحابة، الخطوة الأولى لتجديد ديني قائم على التفسير العلمي بدل الخرافي؟ وهل يمكن أن نصل في يوم ما إلى المطلب العقلاني، أم أن أَسْطَرَةَ الماضي باتت طبيعة لا تَطَبُّعاً؟
الهذيان الديني هو مرض نفسي يصيب الجماعة مثلما يصيب الفرد، وفي حالتنا التي نحن بصدد الوقوف عنها، سنتحدث عن الهذيان الديني الذي يتعلق بالجماعة، والمتجلي في أن جماعة ما، تصبح مريضة بترديد الدين في كل شيء، وبإعادة تفسير الطبيعة والكون والإنسان تفسيرا خرافيا قائما على الروحانيات بدل ما هو علمي، حيث نعيد على سبيل المثال الزلازل والبراكين والفيضانات وكل الكوارث الطبيعية إلى غضب السماء على أفعالنا، بدل التفكير في الطرق الناجعة للحد منها والتنبؤ بها على غرار الدول المتقدمة، كما أن الهذيان الديني يمكن أن نلمسه في استخدام الدين في كل تصرفاتنا ثم تتبين إصابة المرء به، عندما لا تجده في الحقيقة لا يطبق ما يؤمن به، والحال أن للهذيان الديني جملة من الأسباب سنقف عند أهمها في هذا الباب، والمتمثلة أولا في إصابتنا بعقدة النقص عندما نقارن أنفسنا بالأمم المتقدمة الأخرى، حيث لا يختلف اثنان أن الأمم المتقدمة التي نكن لها كرها متهمين إياها بالكفر، هي الأمم التي يسود فيها القانون بدل استغلال النفوذ والشطط في استعمال السلطة، كما أنها هي الأمم التي قطعت منذ قرون عدة مع النظافة في الشوارع كما في الملبس والبدن في حين أنها لازالت مطلبا عندنا، إضافة إلى أن آخر الاختراعات وآخر البحوث العلمية لا تأتي إلا من تلك الأمم القريبة منا مسافة، البعيدة منا عطاءً، لكن وعلى النقيض من ذلك فلا بد من التذكير أن عقدة النقص ليست عيبا إذا عمل المريض بها على التخلص منها، بيد أن هاته العقدة عندنا عمرت وستعمر في السنين القادمة بسبب حضورها إلى جانب عقدة ثانية ألا وهي عقدة العجز، حيث كنا ولازلنا نخاف من كل محاولة تنويرية، كما كنا ولا زلنا نرتاب من كل شخص يدعونا إلى التفكير النقدي وتعرية الواقع، والحال أن مرد هذا الأمر إنما يتجلى في خوفنا من اكتشاف حقيقتنا الصادمة، من ثمة وكي نكذب على أنفسنا أكثر وجدنا ملاذنا في التفسير الجاهز الذي يحرم ويحلل، كما يأمر وينهي، إذ نبرر به لا محالة عجزنا على البرهنة والعمل الذهني، مثلما وبواسطة عقدة العجز هاته ـ حيث يعتبر واقعنا السيئ سببها الرئيسي ـ نصبح أكثر فأكثر ممجدين للماضي، معتقدين أن السلف عرف حياة ملؤها الإنجازات والبطولات، عكس ما تقوله كتب التاريخ التي تعري هذا الوهم، وبما أننا أمة لا تقرأ بطبيعة الحال فإننا سنبقى منغمسين في هاته التمجيدات الفارغة.
إن الحديث عن أسباب الهذيان الديني يؤدي بنا مباشرة إلى الوقوف عند بنية الدين في مجتمعنا، وكما نعلم فإن لكل مجتمع بنيته الخفية التي تتحكم في مجموع تصرفات أفراده، حيث لا يمكن للفرد الواحد إلا أن يفكر من خلال هاته البنية التي يتداخل فيها ما هو نفسي وسيكولوجي مع ما هو تاريخي،
وإن كانت هناك بعض الفوارق بين بعض الأفراد طبعا، فإن الكلمة الأولى والأخيرة تعود لهاته البنية، نفس الأمر نجده في مجتمعنا، حيث بنية الدين الثابتة تعتبر لاعبا مهما في صنع ذهنية الفرد المسلم، والحال أن بنية الدين هنا تقف عند جملة من الأسس، أهمها التفسير الخرافي لكل ما يحيط بنا بدل التفسير القائم على المختبر والنقد البناء، وبما أن الأمور لا تقتصر عند هذا الحد، فإن التفسير العلمي تفسير متحول عكس الخرافي الذي يبقى ثابتا، مما يجعلنا نعيد إنتاج نفس الفرد فينا، إن الشاب منا يحمل فيه طريقة تفكير أبيه وجده وجد جده وهكذا دواليك، مما يجعل الذين يفكرون علميا كلما مرت بهم السنون إلى الأمام، كلما اتسعت هوة التقدم بيننا وبينهم، أما من جانب آخر فإن بنيتنا الدينية قائمة وبشكل مرضي على تمجيد الماضي، لسبب بسيط هو الهروب من ثقل الحاضر ومشاكله الكبيرة، ولا شك أن الشخص العصابي ميال بشدة إلى الهروب نحو الماضي تبريرا لفشله في الحاضر، ناسين أن من نمجدهم هم الذين تسببوا في حروب كثيرة واغتيالات لا تعد ولا تحصى، والحال أن كتب التاريخ تخبرنا عن تلك الصراعات التي دارت بين صحابة النبي طمعا في السلطة لا غير، أولها عمليات الاغتيال التي حدثت لجل الخلفاء الراشدين، وآخرها مجمل الأعطاب والحروب البليدة بين الفرق الدينية، أما على مستوى الميسم الثالث فإن بنية الدين لا تقف إلا عند التفسير الواحد بدل التأويلات المتعددة، ولا مِرْيَةَ أن التفسير المعتمد لم تفرضه الحجة المقنعة بقدر ما فرضته القوة، علما أن القرآن ـ وهو الأمر المسكوت عنه ـ وحسب رواية المؤرخين الكبار وفي مقدمتهم أمير المؤرخين العرب الطبري، قد أكد في أكثر من مقام أنه عرف تغييرات وتحريفات لعبت فيها السياسة دورا كبيرا، حيث كنا أمام عدة مصاحف تُدوِّلَت بشكل كبير خلال فترة حكم عثمان بن عفان، والتي يبقى من بينها مصحف أبي نفسه، ومصحف ابن مسعود، ومصحف علي، ومصحف ابن عباس... لكن عمل الخليفة الثالث على حرق كل المصاحف لأنها كانت تختلف في بعض الآيات من قبيل الآية 24 من سورة النساء، التي تتحدث عن زواج المتعة: " فما استمتعتم به منهن، فآتوهن أجورهن فريضة ." لكن وعلى النقيض من ذلك نجد في نسخة ابن العباس كما أكده العفيف الأخضر نقلا عن الطبري ما يلي:" فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى فآتوهن أجورهن فريضة." وذلك ضمانا للتفسير الواحد بدل التفاسير المتعددة، لكن ومع ذلك فقد عمل المعتزلة على إعادة تفسير القرآن تفسيرا عقليا، إذ لو اعتمد تفسيرهم في ذلك الإبان لكانت أمتنا اليوم تتسيد العالم، حيث كدنا نكون أول أمة تجدد دينها وفق البرهان والتفكير التنويري، بدل التفكير الجهادي القائم على خطاب العنف ونبد الاختلاف ومرض تحريم هذا وتحليل ذاك، مما جعلنا نخلف موعدنا مع التاريخ، وهو ما أدى بنا إلى ما نحن عليه اليوم.
لقد بات علينا لزاما اليوم أن نجدد ديننا، أن نقرأ القرآن والسنة قراءة نقدية وليس قراءة عمياء تمجيدية، وأن نتسلح بِعُدَّةِ التحليل العقلاني للأمور، بدل التفسير الخرافي الجاهز، لهذا ولهذا فقط، فإن أولى خطوات التخلص من هذياننا الديني، هو نزع القداسة عن الرموز الدينية، حيث النبي يبقى بشرا مثل باقي البشر، محكوم بواقعه السوسيوثقافي، وخاضع إلى بنية تفكير شبه الجزيرة العربية، يخطئ ويصيب كما يحب ويكره، وإلا فإننا سنقع في فخ تأليهه، مما سيجعلنا نضرب بعمق في مبدأ التوحيد الإلهي، نفس الشيء وجب إسقاطه على الصحابة أنفسهم، وإلا فأين سنصنف صراع عائشة بعمر خلال حادثة إفك؟ وكيف سنتحدث عن أبرز المعارك التي دارت بين هؤلاء الصحابة من قبيل معارك الجمل وصفين وكربلاء؟ وبماذا سنفسر توقف الوحي بموت ورقة بن نوفل...؟ من ثمة فإن نزع القداسة هو نزع لمرض الهذيان الديني، والتخلص من العَصّاباتِ التي أعمت أعيننا، فبتنا بعماها أمة تسخر من جهلها الأمم.
الحاصل مما تقدم في هذا المقام، هو ضرورة إعادة قراءة التاريخ مستعينين بآخر المناهج العلمية للوقوف عند الأحداث وقفة نقدية وليس وقفة تمجيدية، كما توجب علينا تربية الناشئة على دين سَلِسٍ مهمته التقرب من الله دون نسيان ما يمليه علينا الواقع، كما يجب أن يتأسس بالضرورة على الحوار العقلي النقدي، وأن الإنسان الفاعل في مجتمعه ليس الإنسان الذي يردد الأدعية والآيات والأحاديث في كل شيء، بل الإنسان الفاعل هو الذي يقوم بواجبه، مبتعدا عن الغش والاحتيال، مطبقا القانون حتى وإن وقف أمام أقرب الناس إليه، محبا إلى دينه بسلوكه الطيب وليس بالدعوى إلى القتل والهمجية، ولا شك أن مسألة الإصلاح الديني في هذا المقام هي السبيل الأوحد لتحقيق ما تم ذكره، حينها سنتخلص شيئا فشيئا من هذياننا الديني، وعندها ستغيب في نشرات الأخبار أحداث القتل باسم الدين، لصالح إنجازاتنا العلمية والفكرية بناءً للغد وبناءً للمستقبل...