" الكل باطل وكل شيء مباح."
ـ نيتشه ـ
" مالي سوى روحي وباذل نفسه في حب من يهواه ليس بمسرف. "
ـ ابن الفارض ـ
قد يكون من الوهم بمكان حصر الفلسفة في كتب الفلاسفة، واعتبار صرامتها الفكرية وبنائها المنطقي المتطرف شيئا يبعدنا عن كنه هذا العلم وعن جوهره، إذ قبل أن تكون الفلسفة مبحثا يهتم بمشاكل وجود الله وبداية العالم وخلود النفس، كانت دعوة صريحة إلى الحياة وحفلا بهيجا من خلاله نولد من جديد وبروح أخرى... الفلسفة فن عيش ورقص خارج منطق المألوف، إنها تريد منا أن نتمتع بخفة الإله الراقص على حد قول نيتشه، فنستحيل كائنات خفيفة لا تسعى إلى الوصول إلى الحقيقة على غرار ما يشاع على الفلسفة، وإنما إلى ربط علاقة حميمية والحياة، فأن تفهم الحياة مثلا، معناه أنك حولتها من معادلات صماء ومن تفسيرات جوفاء ومن تجارب عقيمة، إلى حفل وإلى لن ينتهي إلا كي يبدأ من جديد، إذ الفلسفة لا تسعى إلى تقديم الحلول وإنما للتعامل مع المشاكل كألعاب من خلالها نصبح أطفالا قادرين على إضفاء طابع اللهو على أكثر الأشكال جدية، مادام أول عدو لها هو اللعب، وإن كان لعباً غير بريء فإنه يعطينا درسا في الحياة، بقدر ما ينفلت من وهم كسب وبلوغ الحقيقة.
هذه هي الفلسفة كما تمثلها الفلاسفة، إنها تلك الأنثى التي تعشق في الرجل حس المغامرة، لهذا على كل فيلسوف أن يكون مغامرا لا خنوعا، آنذاك وآنذاك فقط يمكنه أن يفهم معنى الحياة بعيدا عن أي تعقيد، وعندها نكسب روح الانخراط في الحياة كنمط عيش وكتجربة تكرر دوما، بدل تحويلها إلى جسر نعبر من خلاله نحو عالم آخر صنعته أخلاق العبيد، تعويضا عن فشلها في الحياة الحقيقية، فاستحالت الحقيقة وهما ووهما للوهم.
مالذي نريده من الفلسفة إذن؟ وما أثرها على الإنسان؟ ولماذا نربط علاقة متوترة معها؟ محولين إياها حسب اعتقاد الدهماء إلى أقوال لا معنى لها، وإلى خوف من طرح السؤال، وإلى تربية على روح النقد واختلاف الآراء التي نختلف معها جملة وتفصيلا... من ثمة توجب علينا كمهتمين بهذا الشأن إلى النبش في مكانة الفلسفة عندنا، والكشف عن هاته العلاقة المتوترة التي نعمل على تكريسها، فقد لا نختلف بتاتا أن أواصر رباطنا بالفلسفة شكلت على الدوام سوء فهم وخوف وغياب التقدير، والحال أننا نعيش اليوم على إيقاع ما غفلنا عليه آنفا، بل إن ترتيبنا تبعثر أكثر فأكثر عندما وظفنا الفلسفة مرة أخرى وحولناها إلى أداة تشتغل في غير مكانها، وترتدي معطفا لا يليق بمقاسها.
من الصعب أن ندعو الفلسفة عندما نريد، ثم نطردها عندما يحين وقت طردها، فهي ليست أداة أو وسيلة ساذجة، الفلسفة قدر لماهيتنا، ولعبة هي من تختار من تريد عندما تجد التربة الخصبة لذلك، والواقع أن الغرض من هذا القول ليس يكمن سوى في مسألة تدريسها بالمغرب على هاته الشاكلة، ونحن الذين سجل التاريخ ذات يوم موقفنا السيئ من الفكر الاعتزالي، وتنكيلنا بابن رشد، وإقبارنا لتراث ابن خلدون إلى أن اكتشفه المستشرقون إبان الزمن المعلوم، ثم منعها من الجامعة المغربية خلال الحدث المعروف، ثم نأتي اليوم ونريد تدريسها بهكذا طريقة، ربما لم نحقق ولو بصيصا من انتظاراتنا منها، وما علينا إلا أن نكون واقعيين جدا، فنقف عند ناشئتنا وبنية تفكيرها، ونقف أيضا عند بنية تفكير مجتمعنا، كي نقول أن هناك خلل ما في كل ما يحدث.
مجتمعنا مريض جدا إلى درجة الموت السريري، وأمارات مرضه هذا، نعثر عليها في عديد تصرفاتنا من قبيل النفاق الاجتماعي، والتصديق السريع للإشاعة، والتعصب المطلق للرأي دون التسلح بمنطق البرهنة، وتنامي الغش، والاحتراف في إصدار الأحكام الجاهزة على كل تصرف لا نتفق معه، وعدم احترام القانون في غياب القانون... فأين هو دور الفلسفة من كل هذا إذن؟ ونحن الذين نسعى جاهدا إلى صنع إنسان واع بمسؤولياته، إنسان يسعى إلى التفوق بدل الركون إلى الاستسلام، أو الانشغال في أمور تافهة لن تغنينا في أي شيء، علينا أن نعترف أن مشكلتنا الكبرى تكمن في ازدواجية خطابنا، حيث كلما كررنا منع أمر ما، فهذا يعني ممارستنا له في منطقة الظل، وما الدروس التي نلقنها لشبابنا داخل جدران الثانويات والجامعات إلا تحصيل حاصل لإشكاليات مجتمعات أخرى، وهو الذي يؤثر سلبا على روح التفلسف، الفلسفة تنطلق من إرادات الأفراد، كما من تطلعاتهم نحو العالم والوجود بصفة عامة، إنها موقف من هذا الذي يحصل دوما، وتدفق نحو ما سيحصل مستقبلا، واستذكار لما حصل في الماضي، من ثمة تصاب عندنا الفلسفة بالغرابة لأنها تعالج إشكاليات غير التي نعيشها اليوم، فيصاب التلميذ والطالب بالانفصام، مما يعمل دوما على الانفلات منها متوهما أنها فكر عقيم ليس إلا.
إن من بين الإساءات التي نلصقها في الفلسفة كفكر هو عندما نمتحن فيها المتعلمين بتلك الطريقة، فتتحول إلى مادة تَدْرُسُ نصوص الفلاسفة أدبيا وليس فلسفيا، والحال أن هذا الانحراف إنما مرده إلى بنية الأسرة التي تربي الناشئة على مرض الطاعة، بدل تربيتها على روح الانفتاح والدفاع عن الرأي بروح سلسة مهما كان يخالف الآخرين، وإلى تفاهة الإعلام الذي يصنع من عقولنا أدوات لتكرار البذيء فينا، فتصاب عقولنا بمرض الامتناع عن طرح السؤال، وبما أن الفلسفة تتغذى بالأسئلة اللامتناهي، فإنها تسقط في منطق الابتذال ثم تصاب بعدها بغرابة قاتلة جدا، فتُقتَلُ معها أحلامنا وانتظاراتنا، مانحة لنا الانكسارات المتتالية.
عندما نعود إلى نفس المنهاج نجد أنه يحمل أهدافا نسعى دوما إلى تحقيقها، لكن نفس التلميذ الذي يلج الثانوية هو نفس التلميذ الذي يغادرها عندما يحصل على شهادة البكالوريا، وإلا فلماذا تتنامى بيننا حالات التعصب وتفشي الجهل، رغم اعتمادنا الفلسفة كمادة للتدريس؟ من ثمة كان من الأجدر البحث في الأمر وفق ما يفكر فيه مجتمعنا، إذ كم هي كثيرة كتابات الفلاسفة التي تكلمت عن التعصب الذي كان يضرب عالم العصر الوسيط، وكم هي متعددة مؤلفات معاصرينا حول حوار الحضارات، وكم هي متنوعة مواقف المفكرين حول الإرادات العامة للأفراد، وكم هي وافرة إبداعات الفلاسفة في كيفية إعمال العقل لصنع القدرة على حل المعضلات، من ثمة فقد توجب الوقوف اليوم وفي أكثر من أي وقت مضى، على ضرورة مراجعة مناهجنا، وإعطاء الفلسفة حقها في قنواتنا كما في جرائدنا، وفي سياساتنا الكبرى كما في نقاشاتنا، ليس من أجل صنع فلاسفة وإنما بغية تحقيق مطلب الانفتاح وعدم التعصب للرأي الذي بات يضرب المنطقة برمتها، جاعلا منها مشتلا وحقلا للإرهاب بشتى أصنافه وتلاوينه، لهذا وبدل أن نرجع الفلسفة مادة جوفاء تدرس النصوص وتستظهر مواقف الفلاسفة من أبسط طالب إلى أبرز مفكر، فإنه من الأنجع تعليم أبناءنا على منطق استشكال الواقع وعلى اكتساب روح النقد، وذلك من خلال اختيار الدروس التي يستجيب لها واقعنا، بدل نقل ما لا يمت إلينا بصلة.