يعتبر تصور مارتن هيدجر للغة من بين أهم وأعمق التصورات التي اهتمت بمفهوم اللغة وحاولت الكشف عن ماهيتها ،بعيدا عن التأويلات الميتافزيقية التي سادت التفكير الغربي منذ أفلاطون .وبدأ اهتمام هذا الفيلسوف باللغة منذ سنة 1916 ضمن أطروحته للدكتوراه حيث تناولها في الإطار العام لمشكل المقولات المنطقية التقليدية.سيستأنف هيدجر مقاربته للغة في مؤلفه الأهم الوجود والزمان الصادر سنة 1927حيث سيعتبرها كنمط من أنماط وجود الدازين. وفي مرحلته الأخيرة أي بعد المنطعفKehre فكر أكثر في ماهية اللغة. ولنرى كيف قاربها في كتابه الوجود والزمان:
إن المعنى هو الذي يؤسس اللغة أو القول الذي هو تحديد عيني للكلام وبه يعبر عادة. وبدون اللغة لن تكون الأشياء أبدا هي ما هي عليه، ذلك أن اللغة هي التي تستدعيها وتعطينا القدرة على استدعائها كما يوضح ذلك هايدجر في كتابه الوجود والزمان"إن الكلام ينبغي أيضا ان تكون له من حيث ماهيته طريقة كينونة متصلة بالعالم عل نحو مخصوص.إن مفهومية الكينونة-في-العالم- وفق وجدان ما إنما تفصح عن نفسها من حيث هي كلام" (1). وبهذا المعنى فإن اللغة هي التي تفتح لنا العالم،لأنها وحدها التي تعطينا إمكان الإقامة بالقرب من موجود منفتح من قبل، وأن نتوجه بالخطاب إلى الموجود بما هو موجود. وكل ماهو كائن لايمكن أن يكون إلا في "معبد اللغة". وفي هذا المعبد يقيم الإنسان دائما، لأن هذا المعبد هو الذي يجعل من الإنسان موجودا يعبر عن نفسه." إن اللغة هي بيت الوجود" الذي يسكنه الإنسان، وفيه يتخذ كل شيء مكانه.
والحوار هو الكلام الذي يتم فيه التعبير باشتراك الغير.وبالحوار نكون واحدا، مترابطين في تركيباتنا الأساسية.أنا ما أقول، ونحن معا ما تعبر عنه كلماتنا. يقول هيدجر: " ينبغي أن تفهم ظاهرة التواصل، كما قد أشير بعد إلى ذلك أثناء التحليل، في معنى أنطولوجي واسع. إن التواصل بالقول، البلاغ مثلا، هو حالة خاصة من التواصل المدرك في أساسه على نحو وجوداني. ففي هذا الأخير يتشكل تمفصل الكينونة- الواحد-مع- الآخر الفاهمة. وإنما هو الذي ينجز "اقتسام" الوجدان- معا وفهم الكينونة-معا. ليس التواصل أبدا شيئا من قبيل نقل التجارب المعيشة، مثلا نقل آراء وأماني من باطن ذات ما إلى باطن ذات أخرى." (2)
والدازين هو بالضرورة حوار،لأن وجوده ديالكتيكي،متعلق دائما بالآخرين. الذين يكونون معا عالم الدازين. إن الحوار يريد أن يوحد بيننا في قصد مشترك، دون أن نختلط بعضنا ببعض.
واللغة هي التي تؤسس كل ما هو كائن، من حيث هو كائن. أو هذا على الأقل ما تفعله حين يكون الكلام صحيحا، يفتحنا على المعقولية الصحيحة. إذن اللغة تقول الوجود، كما أن القاضي يقول القانون. واللغة الصحيحة هي خصوصا تلك التي ينطق بها الشاعر، بكلامه الحافل.
أما الكلام الزائف فهو كلام المحادثات اليومية.إن هذا الكلام سقوط، وإنهيار، بالمعنى الأنطولوجي، لا بالمعنى النفسي لهذا اللفظ.إن الدازين وقد أسلم إلى العالم، يضيع في الوجود - مع Mitsein . ولا يستطيع الإنسان أن يتجنب الاختلاط بالموجودات. يوضح هيدجر قائلا:" ويملك الكلام الذي ينتمي إلى هيئة الكينونة الجوهرية التي للدازين والتي تساهم في صنع انفتاحه، إمكانية أن يصبح قيلا وقالا، ومت حيث هو كذلك، هو لا يبقي على الكينونة-في- العالم مفتوحة بالقدر الذي يظن أمام فهم مفصل، بل هو يغلقها ويسدل حجابا على الكائن الذي داخل العالم." (3)
في السنوات اللاحقة أي بعد" المنعطف" الذي سيؤسس لمرحلة ثانية في تفكيره ، فصل فيلسوف الغابة السوداء في تناوله للغة القول الشعري الذي اعتبره الوضع الأهم للغة. يرفض هيدجر اختزال اللغة في اعتبارها مجرد أداة للتواصل وحاول ربطها بالوجود نفسه. وفي محاضرته "في الطريق إلى اللغةUnterwegs zur Sprache " ستتجلى هذه المقاربة الأنطولوجية بكل قوة.
حسب التأويل المتعارف عليه اللغة هي إصدار أجراس متمفصلة، هذه المقاربة تفترض حسب هيدجر ثلاث افتراضات رئيسية:
أولا تفترض أن اللغة تعبير أي سيرورة إخراج extériorisation أي تجل الحالات الداخلية للإنسان.
يؤدي هذا الافتراض إلى افتراض ثان هو أن اللغة فاعلية بشرية.
ثالثا الهدف من اللغة هو التواصل أو التعبير عن شيء ما واقعيا كان أو خياليا.
هذه الافتراضات ستكون حسب هيدجر قاعدة لكل التأويلات الفلسفية والعلمية التي قاربت اللغة منذ أرسطو إلى فون هومبولت.
إن التصور السيميولوجي الذي يعتبر اللغة كتعبير عن حالة ما أي ك" نظام من العلامات" ليس خاطئا في نظر هيدجر، بل إنه يبقى غير كاف: إنه ينظر إلى اللغة ليس كلغة، ولكن انطلاقا من شيء ما خارج عنها. وهنا يؤكد الفيلسوف بأن تحليله للغة هو "جلب اللغة من حيث هي اللغة إلى اللغة" (4) أي النظر إلى ماهيتها وليس مقاربتها من خلال عنصر خارج عنها. يقول هيدجر:"عندما ننعم الفكر في اللغة من حيث هي اللغة، ونكون قد تخلينا عن الأسلوب المعتاد حتى الآن في النظر إلى اللغة، ولن يبقى ممكنا أن نبحث عن تمثلات عامة مثل الفعل والفاعلية والعمل وقوة الروح ولمحة العالم والتعبير، ندرج تحتها اللغة كحالة خاصة لهذا العالم. وبدل أن نفسر اللغة بصفتها هذا أوداك وأن نبتعد بذلك عن اللغة، يريد الطريق إليها أن يجعلنا نجرب اللغة من حيث هي اللغة" (5)
لإظهار اللغة كلغة يجب أولا حسب هيدجر الالتفات إلى مكان حدوث اللغة أي المكان الذي تظهر فيه اللغة كلغة.هناك حسب هيدجر مجال وحيد هو القول الشعري. إن القصيدة لا تحمل أي معلومة عن العالم، ولكنها تتحدث بصفاء وبكل بساطة.هكذا تتضح اللغة كما هي.إن هيدجر يعتبر ماهية الشعر في إطلاقه للأسماء nomination لا يعني ذلك تسمية الأشياء بل يعني جلب اللغة .
القول الشعري يجلب الأشياء إلى مقربة منا، وبالتالي يتوضح لنا ويصير ظاهرا.الكلام في معناه الأولي ليس تعبيرا عن معنى أو ماهية، ولكن اظهار شيء ما .
وهذا هو المقصود من القولة المشهورة لهيدجر" اللغة هي بيت الكينونة لأنها من حيث هي القولة لحن الخصوصية" (6)
لظهور اللغة ليس الإنسان هو وحده من يحدد تلك المسألة بل هي تحديد من الوجود نفسه. إن التحديد الأنطولوجي للغة حسب هيدجر يتجلى في هذه القولة "ماهية اللغة- يقول هيدجر- هي لغة الماهية" (7)
قلب "ماهية اللغة" إلى" لغة الماهية" في هذة الجملة ليس مفارقة أوتناقض بل هو شيء آخر أعمق من ذلك كله،إنها تنقلنا من اعتبار اللغة مجرد ظاهرة لسانية ،إلى تأويل آخر للغة كماهية للوجود نفسه .الوجود يتكلم ، أو هو لغة وهذا لا يعني أنه يصدر أصواتا لأن ذلك ليس له أي معنى، بل أنه باعتباره وجودا القول الأصيل أي الحركة التي من خلالها كل شيء يظهر كما هو." القولة هي التجميع المهيكل لكل المعان للإبانة المتنوعة في ذاتها التي تجعل ما تمت إبانته يبقى دائما عند ذاته هو" (8)
الوجود كقدوم avènement ( Ereignis) للحضور أو الدخول في حضور ما هو حاضر
Anwesen des Anwesendes.
وهكذا ينتهي هيدجر إلى دمج الوجود واللغة في كلمة واحدة هيDie Sage و التي تعني في اللغة المتداولة الأسطورة والتي ترجمها اسماعيل المصدق إلى اللغة العربية ب "القولة ".
القولة هي الأسطورة أو لغة الوجود . يقول هيدجر" إن الأساسي في اللغة هو القولة كبيان، إبانة البيان لا تقوم على أساس علامات ما، بل إن كل العلامات تنشأ عن إبانة بحيث لا يمكن أن تكون تلك العلامات إلا في مجالها ولأجل مقاصدها. لكن بالنظر إلى هيكل القولة لا يحق لنا ان نعزو الإبانة لا بكيفية استثنائية ولا حاسمة إلى الفعل البشري، إن إبانة الشيء لذاته تميز كظهور حضور وغياب ما هو حاضر من كل نوع ودرجة، وحتى عندما تتحقق الإبانة بفضل قولنا فإن هذه الإبانة كإشارة تكون مسبوقة بترك الشيء يبين لذاته " (9)
هذا التحديد الأنطولوجي للغة وهذا التحديد "الأسطوري" للوجود ليسا جديدين حسب هيدجر بل هما أقدم من التفكير الغربي نفسه الكلمة الأقدم هي " sagan " القولة التي تعني ترك الوجود ليظهر في ماهيته
الوجود هو اللغة، هو اللغة الأصلية ، يعني التجلي الهادئ الذي بفضله يظهر كل شيء كما هو أي يأتي إلى نفسه er-eignet .
الإنسان لا يتكلم إلا بقدر ما ينصت.الكائن الإنساني يقول هيدجر ليس قادرا على الكلام إلا بقدر إنتمائه للقول إنه ينصت من أجل أن يقول كلمة يقول هيدجر "لكن هل تتكلم اللغة إذن ذاتها؟ أنى لها أن تقوم بذلك والحال انها ليست مزودة بأعضاء الكلام؟ ومع ذلك فإن اللغة تتكلم. إنها تتبع في المقام الاول، وبالمعنى الحق الأساسي das Wesendeفي التكلم: القول.تتكلم اللغة بأن تقول، أي تبين، ينبع قولها من القولة Sage المتكلمة قديما والتي بقيت غير متكلمة إلى الآن والتي تتخلل الشق الفاتح لحدوث اللغة. وتتكلم اللغة التي تمتد كبيان إلى كل جهات الحضور، بأن تجعل كل حاضر يظهر او يخفت انطلاقا من هذه الجهات. وبناء عليه فإننا ننصت إلى اللغة بحيث نترك قولتها تقال لنا، ومهما كانت الكيفيات التي نسمع بها عادة، فإننا عندما نسمع شيئا ما يكون السماع، الذي يضم سلفا كل إدراك وتمثل، هو ترك شيء يقال لنا. في التكلم كإنصات إلى اللغة نردد القولة التي أنصتنا إليها، إننا نترك صوتها الذي ليس له جرس يقبل، ونطلب أثناء ذلك الجرس المحتفظ به لنا، نناديه ونحن ممتدين نحوه. والأن قد يمكن أن تفصح في الشق الفاتح لحدوث اللغة سمة واحدة على الأقل عن ذاتها بكيفية أوضح بحيث نلمح فيها كيف تجلب اللغة كتكلم إلى ما يخصها وبذلك كيف تتكلم من حيث هي اللغة" (10)
اللغة الإنسانية هي من وجهة النظر هذه دائما ثانوية. إنها إجابة و توافق مع صوت الوجود أو مع صوت إطار العالم الرباعي. الذي يضم "الأرض والسماء، الإلهيين والفانين".
الهوامش:
(1) مارتن هيدجر، الوجود والزمان، ترجمة فتحي المسكيني، دار الكتاب الجديد المتحدة،بيروت،ط1،2012 ص 312
(2) نفس المرجع ص 316
(3) نفس المرجع ص 325
(4) مارتن هيدجر، كتابات أساسية، الجزء 2 ترجمة إسماعيل المصدق، المجلس الأعلى للثقافة القاهرة ط1 ،2003،ص261
(5) نفس المرجع ص267.
(6) نفس المرجع ص 282-283
(7) نفس المرجع ص 274
(8) نفس المرجع ص271
(9) نفس المرجع ص 272
(10) نفس المرجع ،ص243.