" لكي أوضح ما اعنيه وأقربه إلى الأفهام بإعطائه اسما، فقد رأيت أن أسمي أحدهما استباق العقل والآخر تفسير الطبيعة"1[1].
لقد انقسم العالم مع حلول عصر النهضة على أوروبا إلى عدة أجزاء وانفصل الإنسان جذريا عن الطبيعة وأثبت تفوقه على الكائنات الحية بالفكر واللغة واختفى نموذج الإنسان الذي يحمل في ذاته صورة عن العالم. لقد حمل لنا القرن السابع عشر نبأ تفجر الثورة العلمية مع غاليلي وديكارت ونتج تطور في الأفكار والنظريات وصارت معرفة الطبيعة تقوم على الملاحظة والقيس mesure وليس على التأمل كما كان عند الإغريق والجدل الفكري بالاعتماد على أدوات اللغة.
بيد أن مساهمة فرنسيس بيكون )1561-1626) في التنظير للمنهج التجريبي وجعل العلم الفيزيائي تجريبيا هو أمر لا يمكن إنكاره في تاريخ العلوم وأهم من ديكارت لكونه أول من نقد العلم الأرسطي وأسس نظرية العلم التجريبي.
يعتبر بيكون الابن الطبيعي للملكة إليزابات ومن ساهم في شهرة الكاتب المسرحي الانجليزي شكسبير ولقد تقلد على توماس مور عدة مناصب في الدولة قبل أن يتم طرده من الحياة العمومية بالنظر إلى أن الفلاسفة ليس لهم حظ في السياسة ولكنه دافع على نفسه وسجل اسمه في تاريخ العلوم كواحد من العظماء.
لكي يتمكن المرء من التأثير على الطبيعة والاستفادة منها وتسخيرها والتحكم في ظواهرها وقواها يكون من الملائم حسب بيكون أن يلم المرء بمعرفتها ويدرك خفاياها ويفسر عناصرها ويحدد قوانينها ويكشف عن شبكة علاقاتها. فالإنسان حلم بالطيران في السماء من محاكاة الطيور ولكنه لم يتمكن من الارتفاع في الجو إلا بعد أن قام باستخلاص قوانين الميكانيكا ومقارنته بين مسار حركة الأجسام في الأرض وشروط حركتها في الفضاء.
ربما التمفصل بين العلم والتقنية والعلاقة الجدلية بينهما هي جعل من الغرب قوة في العالم بعد الخروج من فترة الإحياء وعصر النهضة وخوض تجارب التحديث والثورات العلمية الكبرى والدخول في عصر التنوير. في حين أن أدى الفصل التاريخي بين النظرية والتجربة العملية لدي الإغريق إلى تعطيل أي تأثير ناجع في الوسط الطبيعي وعطل تقدم العلوم. كما تجد العلوم طريقها إلى التطبيق في الآلات ويسمح ذلك بحدوث اكتشافات جديدة. بناء على ذلك تشكل الاختراعات العلمية والابتكارات التقنية علاقات جدلية بحيث أن كل اختراع يرتكز على اختراعات سابقة.
يفرق فرنسيس بيكون بين ثلاث طرق يشتغل وفقها الفكر العلمي بصفة عامة هي العنكبوت والنمل والنحل ويعتبر عمل النحل متفوقا من الناحية المنهجية على عملي النمل والعنكبوت ويبرر ذلك بتأكيده أن طريقة العنكبوت في العمل هي طريقة دغمائية تستخلص كل شيء من العمق الخاص بها ، أما طريقة النملة فتميل إلى التجريبية بما أنها ترضى بتكديس ما تعثر عليه هنا وهناك . غير أن طريقة النحلة هي الطريقة العليا والأكثر نجاعة بما أنها تصنع العسل من الأشياء التي تجدها في الطبيعة وتقوم بتأليف بارع للطريقتين.
كما يقسم العلوم حسب ملكة المعرفة إلى ثلاثة مجموعات:
- الفلسفة وهي علم العقل الذي يضم الرياضيات التطبيقية والفيزياء
- التاريخ وهو علم الذاكرة
- الشعر وهو علم الخيال
لقد ظلت عبارة فلسفة الطبيعة تعني الفيزياء وقد أكد ذلك فيما بعد نيوتن في كتابه "مبادئ رياضية لفلسفة الطبيعة" ولكن بيكون كان له السبق في أشار إلى أن العلوم ماهي سوى صور متعددة عن الحقيقة بما أن حقيقة الوجود وحقيقة المعرفة يمثلان نفس الشيء ولا يختلفان سوى في اختلاف الشعاع المباشر والشعاع المنعكس. يصرح في هذا السياق: " ينبغي أن تتبع الكتبُ العلومَ ولا أن تتبع العلومُ الكتبَ".
بعد ذلك يحرص بيكون على اصطياد الأوهام وتنقية الوقائع ، اذ يرى أن نظرية المعرفة تتضمن بالضرورة بعدا نقديا وبالتالي لا يمكن الإقرار بوجود مذهب حول الحقيقة دون مذهب حول الخطأ. بناء على ذلك يسمى بيكون أوهاما أو أشباحا كل الأخطاء التي يقع على الفكر البشري وينبغي عليها ان تفاديها إذا ما أراد بلوغ المعرفة الحقيقية. بهذا المعنى يفرق بين أربع أنواع من الأوهام حسب مصدرها:
- أوهام القبيلة: الأحكام المسبقة التي يتقاسمها المرء مع المجموعة التي ينتمي إليها.
- أوهام الكهف: عالم المظاهر والضلال الذي تشكل منزلة الفرد وطبيعته الخاصة.
- أوهام الفضاء العمومي: الأخطاء الناتجة عن عجز اللغة وحدودها في التعبير.
- أوهام المسرح: أضغاث الأحلام والتأويلات الخاطئة التي ت النفوذ.
في هذا السياق يصرح بيكون:" لاشيء أكثر اتساعا من الأشياء الفارغة".
غير أن القنص يفيد معنيين عند بيكون : الأول هو اصطياد الأوهام قصد التخلص منها، والثاني هو قنص الوقائع قصد الإمساك بها وأخذها وتناولها والاستفادة منها وبالتالي يكون القنص هو النشاط والفاعلية التي تقوم على تجميع وتكديس الوقائع عن طريق الملاحظة. فكيف أدى ذلك إلى تشكل منطق جديد؟
لقد أطلق بيكون على الكتاب الكبير الذي ضم مشروعا جديدا تسمية الأورغانون الجديد وكلمة أورغانون تعود إلى المنطق الأرسطي والذي كان يفيد الآلة أو الأداة وبالتالي حافظ على اعتبار المنطق آلة تفكير.
لقد سعى بيكون في هذا الكتاب إلى تجاوز المنطق الأرسطي وذلك باعتماد الاستقراء بدل الاستنباط.
لقد استخدم أرسطو الاستنتاج كثيرا في منطقه ويتمثل في استخلاص نتيجة معينة من عبارات أولية بالاعتماد على الاستدلال وجعل من القياس نمط استنتاجي يتكون من مقدمة كبرى ومقدمة صغرى ونتيجة.
لا يساعد الاستنباط من وجهة نظر بيكون على تقدم العلوم طالما أنه يقتصر على أخذ فكرة ثانية من فكرة أولى تتضمنه القضية العامة التي تعلنها المقدمة الكبرى. انه لا يعمل على الإبداع بالمعنى الفعلي للكلمة.
على خلاف ذلك يمثل الاستقراء نوعا من الاستدلال الذي يوسع المعرفة ويساعد على تقدم العلوم وذلك حينما ينطلق من عدد من الوقائع الملاحظة الجزئية ويقوم بمقارنتها وتبويبها ويستخلص منها قضية عامة.
إذا كان الاستنباط يمر من العام إلى الجزئي فإن الاستقراء هو تعميم عقلاني ولا يخضع للصدفة والاتفاق.
لقد تحدث أرسطو بكل تأكيد عن الاستقراء ولكن كان ذلك ضمن القياس المنطقي ومنحه مجرد معنى تشميلي وجعله وسيلة لتلخيص المجموع المعطى من المعلومات. أما بيكون فقد أبقى الاستقراء إمكانية مفتوحة على معرفة المزيد من الوقائع وأداة تحريضية مهمتها التدعيم والتعزيز في قدرات أثناء تكيف العقل مع الطبيعة.
لقد ترتب عن هذا التجديد المنهجي رهانا عمليا تمثل في تأليف بيكون لرواية خيالية عنونها بالأطلنتيك الجديد وتحدث فيها عن جزيرة مثالية ومعزولة عن بقية العالم الفاسد ويحكمها العلماء ومنظمة وفق مبادئ المعرفة الجديدة واحتاجت إلى معلومات نافعة حول جميع الأشياء تستخلص من دراسة استقرائية للطبيعة.
المراجع:
1- فرانسيس بيكون، الأورجانون الجديد، إرشادات صادقة في تفسير الطبيعة، ترجمة عادل مصطفى، دار رؤية، القاهرة، مصر، طبعة 2013. ص13.