إننا نعيش في عالم دائم الحركة، والذي من خلاله اتكأ الأفق الإيديولوجي ووجد لنفسه تبريرا لمجتمع قاس، متناقض، وفاسد، على الرغم من أنه أنتج أكثر الخطابات روعة حول الجمال والعدالة والمعرفة، إن المجتمع كان قادرا على تدمير قرننا هذا، سواء في أوربا أو في جزء من آسيا حيث الحروب المتعاقبة التي تزداد قساوة منقطعة النظير في بعض الأحيان.
إنه وعلى الرغم من محاولات السلام، فإن هاته الوضعية المعاشة المولعة بالقتال لم يتم تجاوزها قط، والشاهد على ذلك هو المظهر الذي طبع أنظمتنا الدولية بصيغة حذرة، حيث تبقى الحرب الباردة خير دليل على ذلك، والتي أثرت حتى على الوسط السياسي، بل إنها تركتنا في كل حال من الأحوال متوترين وحذرين، وبدون دفاع بخصوص توقع اندلاع ممكن لحرب جديدة.
إن التعديلات الموجهة نحو عالمنا هذا، تروم تحقيق قواعد مجتمع صامت في كل مرة، ومنزوع السلاح من أجل التجابه ضد أغلب القوى الإرتكاسية التي تحيط به، هاته القوى التي تملك أسماء متعددة: رأسمالية، تكنوقراطية، متوسطة التواصل المراقب، فقيرة روحيا، خلاقة لضرورات مزيفة، استهلاكية... والتي توشك على إعلان الحرب ضد الطبيعة، وهو ما سيترتب عنه حربا ضد الحياة الإنسانية.
إن القتل المتواصل للوسط نعيش فيه، زيادة على تلوث البيئة، ناهيك عن الخبل الجماعي الذي يخضع إليه الكائن الإنساني بشكل متواصل، لهي أمثلة تكفي للبرهنة كون الإنسان يمكن أن يصبح سببا في تشويه ذكائه، إضافة إلى تحوله إلى عدو للحياة ونتيجة لذلك سيصبح عدوا لنفسه لا محالة.
والحال أيضا، أن الأفكار الخلاقة حكم عليها تأكيدا بالنسيان، بل إننا بتنا نحاول تدمير البنيات الاجتماعية القادرة على فتح أفق آخر، والتي بإمكانها ان تبعث طابع الازدهار على أخلاق جديدة، وكذلك على بعث إمكانية واقعية للحرية، زيادة على إضفاء شكل مختلف للحياة كعيش مشترك، لاسيما أن الحل البديل موجود بطبيعة الحال.
إن هاته الانغلاقات إنما استمدت من حقلين متباينين والذَين وجدا بعمق على مر التاريخ، لكنهما وصلا اليوم إلى امتدادهما الأقصى، وكنتيجة لذلك فقد توجب التجابه في مواجهات صلبة متمنين ألا تكون دامية.
من جانب آخر وبخصوص هاته النظرة حول مجتمعنا، فإن العناصر المكونة لأشكال ملموسة للوجود لا يمكن إلا أن تلتحم فيما بينها، هكذا تتضح كحقيقة في العالم، ومنه فإن هاته العناصر تلتحم فيما بينها، إذ العلم ونسخته التكنولوجية تسعى إلى تغيير وجه الطبيعة، بينما ترمي وسائل الاتصال إلى تحويل طبيعة الانسان.
إنه وكنتيجة للتوترات المنتجة عن طريق القوى التي تُسَيِّرُ هذين الحقلين الاثنين الذين يتميزان بالاتساع، يكون قد تولد فوران إيديولوجي وأخلاقي، حيث يسمح لها بالتكيف أو مقاومة شروط عالم يتحول إلى بضاعة معروفة بشكل موسع، تعرض البضائع الأكثر تنوعا والأبلغ ضررا، هذا وفي نفس الوقت تنمو وتكبر حاجيات إنسان سجين عقلية سيئة متحولا بذلك إلى مستهلك لهاته الضرورات غير المفيدة.
والواقع أنه في هذا العالم الذي يعيش حركية يرتبط والمجال اللاعقلي، ــ مع التأسف لهذا التحول الذي يجعل من الممكن تحول النبضات الإنسانية المقموعة عن طريق النفاق الاجتماعي ــ والذي يتسع فيه أحيانا حضور عقل تكويني إحصائي وعقيم، إلى جانب زعم امتلاك القوة من أجل العمل عل النهوض بالمجتمع.
ما الدور الذي تلعبه الفلسفة من كل هذا؟ أليس يبدو في كل حال من الأحوال أننا بصدد مفارقة تاريخية خطابية عند حديثنا عليها "كمحبة للحكمة"؟ بل ما نوع المحبة الذي ينطوي عليه هذا الشأن؟ وعن أية محبة نتحدث يا ترى؟ إنه ليس من السهل الكشف عما تنطوي عليه كلمة فلسفة حاليا، لكن الأمر المتأكد منه من كل ذلك سابقا وحاليا هو أن معناها ليس ينطبق بتاتا و عبارة "محبة الحكمة".
إن هذا الفارق مقارنة مع حمولته، يتبديان كتدشين لمسلسل غامض وغير دقيق فُرِضا على هذا النشاط الإنساني، حيث عبر عن لحظة قصوى للعقل وللقدرة الإنسانية على التموقع بطريقة ملائمة في العالم بغية التأثير عليه وبهدف تغيير أيضا. إنه ومنذ ثلاثة آلاف سنة، كان النشاط الفلسفي بمثابة نقطة ثابتة في تاريخ الإنسانية، لكن ومع تطور العلوم والتقنيات، تبدى مصطلح الفلسفة بمثابة مجال معتم، بفعل إشارته لمشكلات دون حل، ولأسئلة أبدية، إضافة إلى نوع من التفكير غير ملائم لحاجيات العصر. لقد تمكن كل من العلم والتكنولوجيات من الاستثمار في مجال الأسئلة الفلسفية القديمة، حيث تمكنا من الإجابة بطريقة مقنعة بخصوص جزء كبير من الأسئلة لدرجة تركهما لعنصر التشويق عن طريق الفلسفة، ومنه يمكن إضافة أن فعل اتباع ميكانيزم تاريخي معقد، أدى إلى تولد الفلسفة من حاجة عميقة للتأويل، إضافة إلى الرغبة في السيطرة على العالم واستيعابه عقليا، بيد أنها فُهمت شيئا فشيئا كعنصر غريب عن الواقع وكنتيجة لذلك، على الانسان وعلى اهتماماته الواقعية.
إن اقتفاء أثر تاريخ هذا التطور غير المنتظر، هو بمثابة عمل مثير، بيد أننا نريد فقط في هذا المقال تبيان إلى أي حد كانت نقطة البداية بخصوص تأويلنا هذا خاطئة، لكنه وفي مقابل ذلك فإن هاته الخلاصة قد نجحت في إيقاظ أهمية الفلسفة باعتبارها آلية لشفط بعض الأحكام المسبقة، وأيضا منهجا لفتح آفاق جديدة للقارئ، وذلك من أجل أن يصبح هذا العرض المختصر قابلا للتبرير.