مقدمة:
في هذا المقال ننوي فحص مفهوم أساسي طال حوله الجدل منذ أرسطو، على الأقل، حتى الآن، وهو مفهوم "العقل". غير أن مهمتنا لن تسهل لأن مفهوم العقل لا يحيل في الواقع على فكرة بسيطة، بل على مجموعة من الأفكار؛ لأن العقل جزء من موضوع واسع تجادل العلماء والفلاسفة حوله كثيرا هو موضوع "النفس ووظائفها". أضف إلى ذلك أن مفهوم العقل ليس إنتاجا ثقافيا بسيطا. فلقد تناوله، من قريب أو من بعيد، أغلب المثقفين القدامى والقروسطويين. فنحن نجده عند اليونان القدامى وعند المسلمين المشارقة والمغاربة، وعند اليهود والمسيحيين وعند الهنود وغيرهم.
تاريخيا، يعتبر أرسطو أول من تناول مفهوم العقل تناولا فلسفيا، وذلك في كتاب له تحت عنوان: في النفس (Péri Psukhês). حسب هذا الفيلسوف، تحيل كلمة نفس (Psukhê) على ملكات مختلفة: الملكة الغاذبة التي تقتصر عليها النباتات والملكة الحسية التي تشترك فيها كل الكائنات الحية والملكة العاقلة التي يختص بها الإنسان. ويكمن الفرق بين هذه الملكات في كون الأولى تتناول المادة ذاتها بينما الثانية والثالثة تتناولان الصور. ورغم كون الحيوان والإنسان يشتركان فيهما فإن الأول يقتصر فقط على معرفة الفرد والصور الفردية، أما الإنسان، وهو الذي يتمتع بالعقل، فيستطيع معرفة الصور الكلية.
انطلاقا من هذه الأوليات حول النفس ووظائفها، يكون أرسطو أول من أنزل مفهوم العقل (oû) إلى ميدان الدرس الفلسفي. لقد اعتبره عنصرا أساسيا في الفعل المعرفي البشري. وبناء على الثنائية الأرسطية صورة/مادة، يعرف أرسطو النفس باعتبارها "صورة للجسد". لقد رفض أرسطو الثنائية الأفلاطونية روح/جسد ورفض اعتبار هاذين الأخيرين كينونتين مستقلتين. فلا يعترف أرسطو بوجود للنفس في استقلال عن الجسد.
بعد تعريف النفس باعتبارها صورة للجسد، وبعد تعريف العقل باعتباره مستوى من مستويات النفس، يميز أرسطو بين نوعين من العقل: الأول منفعل والثاني فعال. ويعتبر هذا الأخير منفصلا عن الملكات الدنيا للنفس لأن له طبيعة إلاهية. فبفضله تصبح المعرفة البشرية ممكنة: فهو يؤثر على الفكر البشري ليجعله قادرا على اكتساب صور الأشياء والاتحاد معها.
ما هي بالضبط طبيعة العقل الفعال؟ هل هو معرض للفناء؟ أو هل هو نفسه الله؟ أم أنه فقط هو فعل التفكير نفسه؟ حسب أرسطو، "لا يمكن القول بأن هذا العقل يفكر أحيانا ولا يفكر أحيانا أخرى. فعندما يصبح منفصلا، يصبح ما هو من حيث جوهره، وهذا بالضبط ما يجعله أزليا".
لقي هذا النص تأويلات مختلفة: فتلامذة أرسطو الأوائل اكتفوا بتأويل فيزيائي للعقل، واعتبروا أن أرسطو لم يكن يعتقد في وجود نفس منفصلة وخالدة. أما رجال الدين، مسيحيين أكانوا أو مسلمين، فقد قدموا تأويلا روحانيا لنفس النص. حسب رجال الدين بشكل عام، يتبين من خلال هذا النص أن أرسطو من المدافعين عن خلود النفس. والواقع أن تبني هذا التأويل تمليه الحاجة إلى تبرير البعث في الديانات السماوية. وقد لا يكون ذلك قصد أرسطو فعلا.
يعتبر الإسكندر الأفروديسي أول من أثار الانتباه إلى الأهمية التي يكتسيها مفهوم العقل. وانطلاقا من هذا الفيلسوف أصبح مفهوم العقل مركز جدل حاد دام قرونا. من فيلسوف إلى فيلسوف ومن ديانة إلى أخرى ومن بلد إلى بلد، لم يتوقف مفهوم العقل عن إثارة حب اطلاع أغلب المفكرين في كل مناطق البحر الأبيض المتوسط، جنوبا وشمالا، شرقا وغربا. بعض هؤلاء المفكرين قبل تعاليم أرسطو كما هي، وبعضهم ألحق بها تغييرات لتكييفها مع محيطه الثقافي وخاصة الديني.
خلال هذا العرض سوف نحاول تتبع الطريق الذي سلكه مفهوم العقل في الزمان وفي المكان، منذ الإسكندر الأفروديسي حتى نهاية القرن 13م، من أتينا حتى باريز مرورا بطليطلة ومراكش وغيرها من كبريات مدن الحضارات القروسطوية.
ملاحظات إبيستمولوجية حول مفهوم العقل:
في اللغة العربية استعملت كلمة "عقل" لترجمة الكلمة اليونانية "نوس" (oû) وتعني المعرفة، الفهم، المعنى، الذكاء… في القرون الوسطى اللاتينية تمت ترجمة كلمة "عقل" العربية بكلمة Intellectus اللاتينية. وهي أيضا تحمل معاني الفهم والتمييز والمعنى… لننبه هنا إلى ضرورة التمييز بين كلمة Intellectus وكلمة Ratio في اللغات النيولاتينية. فكلمة Ratio تعني الحساب والنظام والتعقل. فهي أقرب إلى كلمة لوغوس (ò)، رغم أن هذه الأخيرة أعم من الأولى. وفي اللغة اليونانية غالبا ما تفهم كلمة "نوس" (où) باعتبارها مقابلة لكلمة "لوغوس". نفس الشيء يقال على كلمتي Ratio وintellectus في اللغة اللاتينية. فالعقل، بمعنى Intellect هو مصدر المبادئ الأولى للمعرفة؛ والعقل بمعنى Ratio يقوم بمهمة الاستدلال. حسب أرسطو تتكون الحكمة من عنصرين: عنصر العلم البرهاني (épistémé) وهو من علم العقل بمعنى Ratio، وعنصر الحدس بمعنى Noétus (ò) وهو موضوع "النوس". بتعبير آخر، العلم البرهاني هو موضوع اللوغوس، أما موضوع النوس فهو المبادئ الأولى التي لا تحتاج إلى برهنة.
في اللغة العربية استعملت أيضا كلمة "نفس"، أو النفس العاقلة. ولكن هذه الكلمة هي في الواقع ترجمة للكلمة اليونانية Psukhês التي استعملها أيضا أرسطو إلى جانب كلمتي Logos وnoûs. أما في اللاتينية القروسطوية فقد ترجمت كلمة "عقل" العربية أحيانا باستعمال كلمة intentio (تفكير، معنى، قصد…) وأحيانا باستعمال كلمة Intellectus. ينبغي أن نستثني هنا القديس أوغسطينوس ومؤرخ المنطق بوبتيوس اللذين ينطلقان مباشرة من نصوص إغريقية؛ فهما يستعملان كلمة mens (mentis) لتأدية كلمة عقل أو تفكير. لا بد كذلك من إقامة تمييز بين كلمتي Raison أو (Reason) وentendement أو (Understanding) في اللغات النيولاتينية القروسطوية. فهذا الأخير لم يظهر إلا في القرن 16م. ولا يعني العقل بمعنى Intellect كما استعمله القروسطويون الأوائل. فالفهم (Entendement) هو قدرة على التمييز وليس ملكة للتفكير. وهذه القدرة على التمييز التي هي الفهم، تتكون من ملكتين هما: التعقل البرهاني (Démonstration) والحدس (Intuition).
التأويل اللاهوتي لنص أرسطو حول مفهوم العقل:
مر مفهوم العقل منذ أن دشنه أرسطو بمسار كثير الالتواء. استقبله أولا مسيحيو الشرق الأوسط. ثم انتقل بعد ذلك إلى مسلمي نفس المنطقة من خلال تأويلي الإسكندر الافروديسي وتيمستيوس. وتدارسه الكندي والفارابي وابن سينا قبل انتقاله من شرق البحر الأبيض المتوسط إلى غربه وإلى الأندلس. وهناك تجادل حوله ابن طفيل وابن باجة وابن رشد وابن ميمون وغيرهم لمدة قرون قبل انتقاله إلى أوروبا المسيحية. ففي باريز وأوكسفورد تناظر حوله أساتذة الفنون (مثل سيجي الأبربنتي وبويتيوس الداسي) وعلماء اللاهوت والفلاسفة (مثل القديس ألبرت الأكبر والقديس طوما الأكويني) وغيرهم.
يعتبر الاسكندر الأفروديسي نقطة انطلاق كل التأويلات التي صيغت حول فكرة العقل. فإليه يرجع الفضل في إثارة الانتباه حول إمكانية التأويل اللاهوتي (غير الفيزيائي) لهذا المفهوم.
ما مضمون تأويل الاسكندر الأفروديسي؟
تقليدا لأرسطو لا يعتبر الاسكندر الأفروديسي النفس كينونة مستقلة عن الجسد. ولقد أدى به هذا إلى نتيجة ذات قيمة لاهوتية هامة، وهي القول بفناء الروح مع فناء الجسد. لكن هذه النتيجة لم تثر أي رد فعل في عهد الاسكندر الافروديسي. بل إن مفهوم العقل، الذي يشكل مستوى من مستويات النفس، هو الذي أدى إلى ظهور ردود فعل مختلفة. حسب الاسكندر الافروديسي، يولد الانسان ومعه عقل بدون صورة، عقل مادي، أو هيولاني. ومع التعلم يكتسب هذا العقل صورة فيصبح تفكيرا. يسمح هذا التحول للعقل البشري بالمرور من حالة انفعال إلى حالة فعل. وبين هاتين الحالتين يوجد العقل بالملكة، وهو في الواقع صورة العقل الهيولاني.
من حيث المضمون، لم يأت الاسكندر بأي جديد، بالنسبة لما قاله أرسطو. فالعقل الهيولاني عنده هو العقل بالقوة عند أرسطو، وهو عقل يندثر مع اندثار الإنسان لكونه صورة للجسد والجسد فاسد. أما العقل الفعال فهو عند الفيلسوفين نوع من النور يضيء الموضوعات ليجعلها قابلة لأن تصبح معقولات. وهو الذي يجعل العقل الهيولاني ينتقل من حالة مادية فاقدة لكل صورة إلى حالة محددة، أي حالة العقل بالملكة. وفي النهاية يتحد هذا الأخير مع العقل الفعال الذي ليس شيئا آخر، حسب الاسكندر، سوى الله، مكتسبا بذلك صورة أزلية.
انتقل بعد ذلك مفهوم العقل إلى العالم الإسلامي انطلاقا من الترجمة العربية لكتاب Péri Noûs للإسكندر الأفروديسي التي قام بها إسحاق ابن حنين خلال القرن الثالث الهجري. ولقد استغل هذه الترجمة كل القروسطويين المسلمين من الكندي حتى ابن رشد. هل أتى هؤلاء المفكرون المسلمون بجديد حول مفهوم العقل؟ هذا ما سنحاول البث فيه في الصفحات القادمة.
تكييف مفهوم العقل الأرسطي مع الديانة الإسلامية:
اهتم المفكرون المسلمون بفكرة العقل اهتماما يثير الانتباه فألفوا فيها تأليفا وتناولوها بالشرح والتحليل، كل حسب قدرته. ومن المسلم به أن عرضنا هذا لن يسمح بتفصيل وجهة نظر كل مفكر على حدة؛ لهذا سوف نكتفي فقط بما يميز كل فيلسوف عن الآخرين، مهملين التفاصيل ومتجنبين التكرار.
1 ـ تميز الكندي في كتابه رسالة في العقل، بقوله بنوع من العقل سماه: "العقل البياني"، بالإضافة إلى تبنيه لتصنيف الاسكندر الأفروديسي للعقل. والعقل البياني هو العقل الذي بواسطته يمرر عقل ما تعقله إلى عقل آخر. والواقع أن هذا ليس تجديدا؛ لأن العقل البياني ليس ملكة قائمة بذاتها، بل هو فقط تجلية من تجليات واحد من العقول الثلاثة التي قال بها الاسكندر الافروديسي.
2 ـ أما الفارابي فقد برع في تقويم الحالات التطورية للعقل الهيولاني. ولم يأت هو الآخر بأي جديد.
3 ـ أما الجديد الذي أتى به ابن سينا فيما يخص مفهوم العقل فيتمثل في كونه برع في تحسين المصطلحات النيوسية (noés = pensée). ولا يختلف إلا قليلا عن الفارابي في تصنيفه لأشكال العقل.
4 ـ بتأثير من الفارابي، صاغ ابن باجة نظرية حول العقل تجمع بين الصوفية والعقلانية. وهذا هو ما يميز موقف ابن باجة عن باقي الفلاسفة المسلمين قبله وبعده. ففي رسالة اتصال العقل بالإنسان يعتبر ابن باجة "العقل بالفعل" ممثلا للقوة العاقلة من بين مجموع القوى التي تحرك الإنسان ويعتبر أيضا هذا العقل "هبة إلهية" يعطيها الله للطائعين من خلقه. لكن هذا الجانب الميتافيزيقي من موقف ابن باجة لم يمنعه من انتقاد المنهج الصوفي، ومن تبني دراسة العلوم النظرية باعتبارها أساسا لمنهجه.
والواقع أن ابن باجة ليس لا عقلانيا محض ولا صوفيا محض. حسب هذا الفيلسوف، تبدأ المسيرة النظرية للعقل الإنساني بدراسة العلوم النظرية وتنتهي بالانفصال عن موضوعات العالم المادي، باتحاد العقل مع الله مرورا بالتجريد الميتافيزيقي. اعتقد ابن باجة أنه حقق هنا نوعا من "الهرمونيا" بين العلم والإيمان. غير أن ابن باجة لم يفسر كيف يجتمع العقل الفعال بالإنسان. لكن فيلسوفنا حقق تقدما في نظرية العقل العامة وذلك بوضعه الأسس الأولى لنظرية وحدة العقل البشري التي سوف يطورها ابن رشد لتغزو بعد ذلك أوروبا المسيحية.
5 ـ قبل مجيء ابن رشد لم يكن ابن باجة وابن طفيل الوحيدين اللذين تناولا مشكلة العقل بالأندلس. بل كان هناك أيضا فلاسفة يهود أبدوا هم أيضا آراءهم في مسألة العقل. أشهر هؤلاء اليهود ابن جبرول (Ibn Gabirol) صاحب منبع الحياة (Meqor Hayim) المعروف. يتحدث ابن جبرول عن نظرية العقل في الفصل الخامس من هذا الكتاب، ويتحدث عن جوهر الروح في الفصلين الأول والثالث، وعن العقل باعتباره جوهرا في الفصل الثاني وعن المعرفة بشكل عام في الفصل الخامس. ويتميز هذا الفيلسوف باستعماله مصطلحات تختلف عن التي استعملها معاصروه: فالعقل الهيولاني عنده هو "العقل الأول" والعقل بالفعل هو "العقل الثاني" والعقل الفعال هو "العقل الثالث". لقد تأثر ابن جبرول، كباقي فلاسفة الأندلس، بالتقليد الأرسطي. لكن، في عهده (ق11م) لم يكن الفارابي وابن سينا معروفين في الأندلس.
6 ـ تعتبر فكرة "وحدة" العقل نتيجة لعلم طويل بدأه ابن باجة وأكمله ابن رشد. الفكرة في حد ذاتها بسيطة، لكن نتائجها الإبستيمولوجية هامة. فهي التي تسمح لنا بتعميم نتائج تجاربنا الفردية قصد بناء نظرية علمية قابلة للتطبيق على كل ظروف التجارب المشابهة لتجربتنا الأولية، بغض النظر عن عاملي الزمان والمكان وبالنسبة لكل الكائنات البشرية. وحدة العقل البشري هي التي تسمح للكائنات البشرية بالتواصل لأنهم يتقاسمون نفس المعايير المعرفية، صورية أكانت أو تجريبية. وتعتبر نظرية وحدة العقل أهم ما يميز عمل ابن رشد حول العقل. وتختلف عن باقي نظريات المشائيين الآخرين لا فقط من حيث مضمونها المعرفي، بل أيضا لأنها هي الوحيدة التي أثارت، بشكل مثير للانتباه، حفيظة الفلاسفة القروسطويين المسيحيين. عرض ابن رشد نظريته هذه في المؤلفات التالية:
ـ شرح كتاب في النفس لأرسطو
ـ تفسير كتاب في النفس لأرسطو
ـ مقالة في العقل (مفقود)
ـ رسالة في اتصال العقل بالإنسان.
تتشكل نظرية العقل عند ابن رشد من ثلاث نقاط أساسية:
أ ـ مفهوم العقل وأنواعه؛ ب ـ وحدة العقل؛ ج ـ خلود الروح.
ينطلق فيلسوفنا من بضع أسئلة، يعتبرها هو نفسه أساسية، لم يتمكن أرسطو من الإجابة عنها. ومن بين هذه الأسئلة: هل هناك صورة عقلية منفصلة عن الإنسان؟ هل هذه الصورة موجودة بالقوة أو بالفعل أو أحيانا بالقوة وأحيانا بالفعل؟ هل هي خالدة؟ ما طبيعة النفس البشرية؟ هل هي أيضا خالدة.
يبدأ ابن رشد بالبرهنة على وجود صورة عقلية منفصلة. ويميز أولا بين نوعين من الإدراكات: إدراك الكلي وإدراك الجزئي. الأول هو إدراك الأفكار العامة مستقلة عن المادة، بينما الثاني هو إدراك الأفكار في المادة. ويقابل هاذين النوعين من الإدراك ملكتان مختلفتان: الملكة العقلية التي تدرك الكلي منفصلا عن المادة؛ والملكة المتمثلة في الإحساس والتخيل التي تدرك الأفكار في المادة. والفرق بين هاتين الملكتين كامن في كون الأولى لا تقتصر فقط على الإدراك بل تقوم أيضا بتركيب الأفكار واستنتاج بعضها من بعض. هذه الملكة العقلية هي التي تميز الإنسان عن الحيوان باعتبار أن هذا الأخير لا يتمتع إلا بالإحساس والخيال. ثم يقسم ابن رشد الملكة العقلية إلى قسمين: العقل النظري والعقل العملي. توجد الثانية عند كل الكائنات البشرية بدرجات مختلفة؛ أما الأولى فلا يتمتع بها إلا بعض الناس لأنها ذات طابع إلهي.
يميز كذلك ابن رشد بين أربعة أصناف من العقل:
أ) العقل الهيولاني (أو المنفعل) وهو مجرد استعداد (تتمتع به الملكة العقلية) للحصول على الصور؛ ب) العقل بالفعل، وهو نفسه العقل الهيولاني بعد حصوله على الصور؛ ج) العقل المكتسب، وهو نفسه العقل بالفعل عندما يصبح ملكا للإنسان؛ د) وأخيرا العقل الفعال، وهو الذي يضمن تطور العقل البشري ابتداء من حالته الهيولانية.
ما هي طبيعة المعقولات النظرية وطبيعة علاقتها بالإنسان؟ هل ارتباط هذه المعقولات بالإنسان يشبه في طبيعته ارتباط العقل الفعال بالإنسان؟ بالنسبة لابن رشد، المعقولات النظرية هي صور سيكولوجية لها طبيعة خاصة، تختلف عن الصور الأخرى في كون إدراكها لا متناهيا (بينما إدراك الصور الأخرى متناه) وفي كونها هي نفسها العقل عندما تكون مدركة. إن الحصول على المعقولات التي تشكل مبادئنا الامبريقية الأولى يمر بطريق محدد: فنحن أولا نشعر، ثم بعد ذلك نتخيل، وأخيرا نصوغ الكلي. هنا يدشن ابن رشد تقليدا أمبريقيا سوف يصبح فيما بعد أساس المذهب التجريبي الكلاسيكي (عند بيكون وأوكام وهيوم مثلا). يؤكد ابن رشد على أن الإحساس ضروري لصياغة الكلي. وهذا الأخير لا يتم انطلاقا من إحساس واحد، بل لا بد من تكرار نفس الحالة مرات كثيرة. يؤكد ابن رشد نزعته التجربانية هذه عند حديثه عن طبيعة العقل الهيولاني في تلخيص كتاب النفس. فالعقل الهيولاني، بطبيعته، لا يحتوي على أي شيء موجود بالفعل، أي أنه لا يحتوي على أية صورة كيفما كان نوعها؛ لأنه لو احتوى على صورة ما لما أمكنه قبول كل الصور. فابن رشد هنا يدافع بصراحة عن نوع من التجربانية دافع عنها فلاسفة أوروبيون مع بداية عصر النهضة، بعد أن ساهم مفكرو القرون الوسطى في تطويرها.
بشكل عام، نسب مفكرو القرون الوسطى المسيحية إلى ابن رشد مجموعة من القضايا أهمها: خلود العالم، نفي حرية الإرادة، ازدواجية الحقيقة (دينية وفلسفية) ووحدة العقل. ولكي لا نتجاوز إطار هذا العمل، سوف نكتفي فقط بالحديث عن وحدة العقل.
نحن نعرف أن نسبة هذه القضية إلى ابن رشد وكون ابن رشد قال بها أو لم يقل بها، مسألتين مختلفتين. بالنسبة لرينان، لم يقل قط ابن رشد بوحدة العقل البشري. لكنه، في كتاب تهافت التهافت، تحدث عن كلية مبادئ المعرفة البشرية. لا يتفق عبد الرحمان بدوي مع رينان في إطلاق هذا الحكم على ابن رشد، ويفضل تبني أطروحة أوتافيانو في هذا الصدد والتي عبر عنها هذا الأخير في مقدمة ترجمته لكتاب طوما الأكويني حول وحدة العقل؛ وهو كتاب ألف أساسا للرد على ابن رشد من خلال الرد على الرشديين الأوربيين، خاصة سيجي البرابنتي. حسب أوتافيانو، من المؤكد أن ابن رشد يأخذ بالآراء التالية:
1 ـ يتحد العقل المادي مع الفرد بواسطة عنصر صوري هو النوع (espèce) الذي يحقق هذا العقل؛
2 ـ يقوم العقل الفعال بتحقيق الأنواع في الفرد ليتحد العقل المادي معها؛
3 ـ إن اتحاد العقل الفعال مع الفرد يسبق (ويحدد شروط) اتحاد العقل المادي مع الفرد؛
4 ـ يقوم العقل الفعال بتحقيق الصور التي توجد بالفرد ليجعلها أنواعا، أي أنه يحدد تشكيل العقل بالملكة، أو العقل المكتسب الذي هو شخصي (فردي)؛
5 ـ العقل الفعال، باعتباره صورا بالفرد، وباعتباره يحقق الأنواع انطلاقا من هذه الصور، هو صورة الصور (Phantasmes)، أي جزء من العقل المكتسب. وهكذا يمكن القول بأن العقل المكتسب مركب من العقل بالملكة والعقل الفعال؛
6 ـ العقل المكتسب فاسد لأنه مرحلة انتقالية؛
7 ـ بما أن الأنواع التي تشكل العقل المكتسب هي فعل من أفعال العقل الهيولاني، وأن العقل الفعال صورة لنفس العقل المكتسب، فإن العقل الهيولاني هو، في نفس الوقت، موضوع للعقل المكتسب وللعقل الفعال؛
8 ـ العقل المكتسب الموجود في الأشخاص هو عقل بالفعل؛
9 ـ العقل الفعال، باعتباره صورة الصور الموجودة بالفرد، أي صورة العقل المكتسب، هو صورة الشخص (أو الفرد). وبالتالي يمكن قول نفس الشيء على العقل الهيولاني الذي لا يقبل الانفصال عن العقل الفعال.
تعرض أيضا ابن رشد لمسألة اتحاد العقل البشري بالعقل الفعال الكلي. ينطلق ابن رشد، على عادة سابقيه، من بداهة الترابط الحاصل بين العقل الفعال الكوني والعقل البشري. كيف يتحد هاذان العقلان؟ يؤكد ابن رشد أولا على أن العقل بالملكة هو الذي يدرك العقل الفعال الكوني. وعندما يتحد العقل الإنساني بالعقل الكوني يندثر العنصر القابل للفساد من العقل الإنساني. وبعد ذلك تندثر كل ملكات الروح الإنسانية. وهذا دليل على أن خلود النفس مجرد وهم في رأي ابن رشد.
بقي أن نعرف الطريقة التي بواسطتها يصل الإنسان إلى الكمال النهائي (إن صح هذا التعبير). بالنسبة لابن رشد، الطريقة هي الدراسة والبحث. فعلى الذي يرغب في تذوق سعادة العقل الأسمى أن يحسن عقله النظري وذلك بدراسة العلوم. فنلاحظ هنا أن التأمل العقيم، على الطريقة الصوفية، لا قيمة له، في نظر ابن رشد.
كخلاصة، يمكن القول إن ابن رشد موزع بين تأثيرين مختلفين: فهو، من جهة، يؤيد الرأي الأرسطي القائل بأن الروح هي مجرد صورة للجسد؛ لكنه، من جهة ثانية، لم يسلم من تأثير روحانية الأفلاطونية الجديدة، المؤسسة على كون العقل الفعال مصدر الإلهام أو الحدس. يبدو أن ابن رشد، كباقي المسلمين قبله، سقط ضحية بعض الكتب المنسوبة خطأ لأرسطو. ولكن، مع ذلك، تحمل نظرية ابن رشد في العقل طابعا أصيلا: فكلما اعتقد ابن رشد أنه يقترب من أرسطو كلما ابتعد عنه في الواقع عن غير قصد، فيما يخص مشكل العقل. أما فيما يتعلق بطبيعة العقل الفعال فيقبل ابن رشد نظرية الاسكندر الافروديسي القائلة بأن هذا العقل له طابع إلهي. لكنه لم يقبل، على عكس الاسكندر، القول بأن هذا العقل هو الله نفسه. أما العقل الهيولاني فقد اعتبره الاسكندر مجرد استعداد شخصي محض. بينما ابن رشد، على غرار تيمستيوس، يعتبره شيئا أسمى من الروح، وهو ملك للبشرية جمعاء. وهو ليس مرتبطا بالجسد ولا بمادة. وهكذا، بالنسبة للبشرية، ليس هناك إلا عقل فعال واحد وعقل منفعل واحد. وهما معا كليان وخالدان وليسا في الواقع إلا شيئا واحدا.
يختلف كذلك ابن رشد عن سابقيه في كونه طور تقليدا أمبريقيا سوف يتمظهر فيما بعد، عند القروسطويين المسيحيين، في ما سمي بمشكلة "الكليات" (Universaux). بالنسبة لابن رشد، الكليات غير موجودة في ذاتها، بل هي فعل الفهم فقط. أضف إلى ذلك الأهمية التي ينسجها ابن رشد لدور التجربة في تشكيل المعرفة البشرية. بالنسبة لفيلسوفنا، المبادئ الفطرية غير موجودة (وهذا ما يميزه عن العقلانيين): فالعقل الهيولاني يفكر كل الصور لكنه ليس مختلطا بأية صورة. يرفض ابن رشد أيضا منهج التأمل المحض الذي تقول به الصوفية والذي يهدف إلى كسب المعرفة انطلاقا من حالات معينة للتأمل. بالنسبة لابن رشد لن يكون التأمل مثمرا إلا إذا كان مؤسسا على دراسة العلوم. وهذه هي الوسيلة الوحيدة التي سوف تسمح للإنسان بإدراك كينونته الخاصة والعقل الفعال. ويشترك ابن رشد في هذه المسألة مع ابن باجة وابن طفيل.
انتقال مفهوم العقل نحو أوروبا القروسطوية:
يمكن القول، بشكل عام، إن الغرب كان دائما على اتصال مع شمال إفريقيا والشرق، سواء في العهد القديم أو الوسيط أو الحديث أو المعاصر. ولقد شكلت إيطاليا والأندلس وصقليا وفرنسا أبرز المراكز التي تم فيها اللقاء بين الثقافة العربية الإسلامية القروسطوية والثقافة المسيحية الغربية. أما من حيث الزمن، فقد كان القرنان الثاني عشر والثالث عشر الميلاديان أهم فترات غزو الغرب من طرف الفلسفة العربية الإسلامية واليهودية. ففي أقل من ثلاثين سنة وصلت أغلب أعمال أرسطو وابن رشد إلى أوروبا، ابتداء من 1220م. بل بدأ المترجمون ينقلون النصوص العربية إلى اللاتينية منذ منتصف القرن الثاني عشر الميلادي. وفي منتصف القرن الثالث عشر الميلادي كان حاضرا بجامعة باريز كل تعليقات ابن رشد على أعمال أرسطو، باستثناء تعليقه على الأوركانون. ولقد تمت ترجمة نصوص أرسطو سواء من العربية أو مباشرة من اليونانية (حالتا كتابي الميتافيزيقا والشعر مثلا).
أما مفهوم العقل، وهو الذي يهمنا في هذا العرض، فقد تم نقله هو الآخر في هذه الحركة العامة للترجمة. وقد برز من بين المترجمين للأعمال التي تناولت مفهوم العقل هذا أكثر من مترجم. نذكر من بينهم على سبيل المثال الأسماء التالية:
1 ـ كونديسالفي (ت: 1151) Dominique Gundissalvi وهو مترجم إسباني من أصل يهودي، تأثر كثيرا بالفارابي وابن سينا. ترجم الجزء الثاني من كتاب الشفاء لابن سينا وكتاب مقاصد الفلاسفة للغزالي. ولقد حاول كونديسالفي الربط بين الأفلاطونية المحدثة الإسلامية والأفلاطونية المحدثة المسيحية. وبهذا يكون أول من أدخل ما سماه جيلسون (E.Gilson) "السيناوية-الأوغسطينية" إلى أوروبا. وبالإضافة إلى الترجمات التي قام بها كونديسالفي، ألف هذا الأخير أيضا في العقل كتابا تحت عنوان De anima.
2 ـ (1150-1070) Adélard de Bath.
هو مترجم من أصل إنجليزي. درس في فرنسا وإيطاليا وصقليا واليونان وفي بلدان عربية.ترجم من العربية إلى اللاتينية كتبا علمية هامة من بينها مبادئ أوقليدس والماجسط لبطليموس وكتاب الجبر للخوارزمي.
3 ـ Constantin l'Africain (XIèmes.)
هو طبيب من أصل قرطاجي ترجم من العربية إلى اللاتينية كتبا في الطب لمؤلفين عرب ويهود ويونان.
4 ـ Michel Scot (mort en 1235)
ترجم من العربية إلى اللاتينية تعليق ابن رشد على كتاب في السماء والعالم ورسالة ابن رشد في اتصال النظري بالإنسان وتعليقات ابن رشد على كتاب النفس لأرسطو وكتاب الميتافيزيقا وغيرها.
5 ـ Guillaume de Moerbecke (né en 1215)
ترجم كتاب في الخير المحض (Liber de causis) (وهو كتاب ترجم مرة ثانية من طرف Girard de Crémone). ولقد وفر هذا المترجم نصوصا أساسية نقلها من اليونانية إلى اللاتينية للقديس طوما الأكويني. ومن المعروف تاريخيا أن هذا المترجم يقرأ ويفهم جيدا العربية. غير أنه ترجم بالخصوص نصوصا يونانية. وهذا لا يمنع من افتراض أنه ساعد طوما الاكويني في فهم النصوص العربية ومن بينها تلك التي تتعلق برده على الرشديين في مسألة وحدة العقل.
6 ـ Girard de Crémone (mort en 1187)
ترجم كثيرا من أعمال أرسطو. وترجم للكندي كتاب رسالة في العقل. كما ترجم لابن سينا القانون ولمبطليموس الماجسط، وترجم للفارابي كتاب في العقل والمعقولات. كما ترجم أيضا كتاب في الخير المحض.
7 ـ Jean d'Espagne (?)
ترجم منطق ابن سينا وميتافيزيقاه وكتابه حول النفس. وترجم أيضا كتاب منبع الحياة لابن جابرول.
8 ـ ابن داوود Avendaoud
من المحتمل أن يكون هذا الشخص هو نفسه يوحنا الإسباني (رقم (7) أعلاه) وأيضا يوحنا الطليطلي (Jean de Tolède).
9 ـ ابن فلقيرة Ibn Flaqéra (né entre 1224 et 1228)
هو مترجم يهودي من أصل إسباني. ترجم منبع الحياة لابن جابرول من العربية إلى العبرية. ألف كتابا حول النفس (في عشرين فصلا) وعلق على كتاب الفارابي في العقل والمعقولات.
10 ـ Alfredus Anglicus (ou Alfred de Sareshel)
تعلم اللغة العربية بطليطلة. وترجم الكتب العلمية المنسوبة خطأ إلى أرسطو. كما ترجم مباشرة من اليونانية إلى اللاتينية كتاب النفس لأرسطو.
11 ـ Herman l'Allemand (mort en 1272)
ترجم تعاليق ابن رشد على الأخلاق النيقوماقية وعلى الريطوريقا والشعر.
12 ـ إلى جانب المترجمين المذكورين أعلاه، شارك في حركة نقل المفاهيم من العالم الإسلامي إلى العالم المسيحي الغربي مجموعة من علماء اليهود القروسطويين نذكر من بينهم:
Jacob ben Abba
Moïse ben Samuel Ibn Tibbon
Lévi ben Gerson
Calonimas ben Galonimos
Moïse de Narbone
Jacob ben Makhir
Samuel ben Ichouda
Isaac Albalag.
بدأ التأثير العربي الإسلامي منذ منتصف القرن الثاني عشر الميلادي، كما ذكرنا. وكان هذا التأثير موجها في البداية بفعل آراء الفارابي وابن سينا والغزالي. تلقى الغربيون أولا الكوسمولوجيا العربية: أي الكوسمولوجيا الأرسطية ممزوجة بالأفلوطينية، خاصة نظرية العقول العشرة. حسب هذه الكوسمولوجيا، يتوقف الفعل المعرفي الإنساني على العقل الفعال. وهذا الأخير هو آخر العقول الصادرة عن الله. وحسب تعاليم الفارابي وابن سينا، هناك عقل فعال منفصل يشكل في نفس الوقت مبدأ وغاية المعرفة البشرية. ولقد تمتع ابن سينا على الخصوص بشهرة لا يستهان بها بين المسيحيين القروسطويين خلال النصف الثاني من القرن 12م. وأحيانا يمزج هؤلاء المسيحيون التقليد السينوي بالتقليد الأفلوطيني المتمثل في القديس أوغسطينوس وبوويتيوس الحاضرين بالعالم المسيحي منذ القرن الرابع الميلادي.
لم تبد الثقافة المسيحية القروسطوية أي رد فعل ضد الغزو الفلسفي الإسلامي في مرحلته الأولى. لكن، منذ بداية القرن 13م، ظهرت بوادر الاختلاف والصراع بين الثقافتين، وخاصة بجامعتي باريس وأوكسفرد. فمنذ السنوات الأولى من القرن 13م بدأت نصوص أرسطو تصل إلى هاتين الجامعتين. وفي سنة 1210م قام رجال الدين بجامعة باريس بمنع فيزياء أرسطو (مع السماح بتدريس الأوركانون فقط). وفي سنة 1215م تم منع ميتافيزيقا أرسطو وكل كتبه العلمية. وفي سنة 1245م تم تمديد هذا الحظر ليشمل جامعة تولوز أيضا.
في هذا الجو الثقافي المشحون بالقمع والصراع بين المثقفين من جهة وبينهم وبين السلطة الدينية من جهة أخرى، تشكل بالغرب المسيحي أربعة اتجاهات ثقافية أساسية:
أ ـ اتجاه أوغوسطيني تزعمه الفرنسيسكانيون مثل بيكون (R.Bacon) وكيوم الأوكامي (Gu.d’Occam) وبنافنتور (Bonaventure) وغيرهم. وهذه مدرسة يمكن اعتبارها امتدادا للتقليد اللاهوتي الذي ساد خلال القرن 12م.
ب ـ اتجاه أرسطي تزعمه الدومينيكانيون أمثال ألبرت الأكبر وطوما الأكويني. وهما معا يمثلان مدرسة تحاول تكييف أرسطو مع الديانة المسيحية. ولم يسلم هذا الاتجاه هو الآخر من بطش السلطة الدينية آنئذ.
ج ـ الاتجاه الرشدي. ويتزعمه بعض أساتذة الفنون والآداب بجامعة باريس مثل سيجي البرابنتي (Siger de Brabant) وبويس الداسي (Boèce de Dacie) وغيرهما. وترتبط هذه الحركة بالتعاليق التي قدمها ابن رشد على أعمال أرسطو وخاصة تلك التي ترجمها Michel Scot منذ 1230م. تقوم هذه المدرسة على القول بأن مذهب أرسطو، كما عرضه ابن رشد، هو الحقيقة عينها.
د ـ اتجاه علماني يبحث عن الحقيقة في علوم الطبيعة ويمثله على الخصوص روجي بيكون وعلماء إنجليز آخرون. اهتم هؤلاء على الخصوص بالرياضيات وعلم الفلك والفيزياء، بينما اهتم الباريزيون على الخصوص بالمنطق.
لقد مارس المثقفون المسلمون تأثيرا كبيرا على كل هذه المدارس، وخاصة على المدرسة العلمانية. أما من الناحية الفلسفية، وخاصة فيما يتعلق بمفهوم العقل، فقد ظهرت حركات ثقافية تمحور عملها حول موقف ابن رشد من العقل. وفيما يلي أهم آراء تلك الحركات.
مفهوم العقل في أوربا القروسطوية:
لن نتناول في هذا العرض إلا الأثر الذي خلفته فكرة العقل كما جاءت في كتابات ابن رشد المنقولة إلى اللاتينية؛ لأن تأويل ابن رشد لهذه الفكرة هو التأويل الوحيد الذي أثار ردود فعل هامة في الوسط المسيحي القروسطوي بأوروبا الغربية.
ما الذي يقصده الغربيون بالحركة الثقافية التي يطلقون عليها "الرشدية" (Averroïsme)؟ لقد رأينا أن هذا المذهب يستمد أصله من النصوص الرشدية التي ترجمها Michel Scot من العربية إلى اللاتينية، وذلك خلال مقامه بمدينة باليرمو (Palerme) ما بين 1228 و1235م. وصلت النصوص المترجمة إلى باريس سنة 1230م. وفي سنة 1250م بدأ القديس ألبرت الأكبر يحيل عليها. وخلال السنوات 1250-1270م بدأت الحركة الرشدية تتشكل. وكان أساتذة الفنون والآداب أول من ساهم في تشكيلها وتبنيها. كان مبدأهم الأساسي هو التالي: إن مذهب ابن رشد هو الحقيقة الفلسفية نفسها. ولقد أثار هذا الموقف رد فعل كثير من علماء اللاهوت. ففي سنة 1270م مثلا، قام أسقف باريس المشهور Etienne Tempier بمنع خمس عشرة أطروحة من بينها ثلاث عشرة أطروحة رشدية. وفي سنة 1277، مدد نفس الأسقف هذا المنع ليشمل 219 أطروحة. ومن أهم هذه الأطروحات: وحدة العقل، نفي قدرة الإنسان على اختيار أفعاله، الحتمانية التنجيمية، خلود العالم، فناء الروح ونفي كون العناية الإلهية تشمل الأفراد أو الأعمال البشرية. غير أنه، رغم حظر هذه القضايا، نمت الحركة الرشدية في كل الاتجاهات. وبقدر ما تنتشر بقدر ما يكثر أعداؤها. ولقد اتضح خطرها بالخصوص لما فهم علماء اللاهوت جيدا أن ابن رشد نجح في إعلاء الحقيقة الفلسفية على الحقيقة الدينية: أي إعلاء العقل على الإيمان. ووجهت تهمة التعاطي للرشدية آنئذ إلى مفكرين باريزيين كبيرين هما: سيجي البرابنتي وبوويس الداسي. كتب الأول كتابين أساسيين حول العقل تحت عنوان:De Intellectus و De anima intellectiva. في هاذين المؤلفين يدافع سيجي عن أطروحة "وحدة العقل" الرشدية. أما بوويس فقد ألف كتابا تحت عنوان De sunno bano فيه يدافع عن أطروحات ابن رشد بشكل عام، وخاصة مسألة تأمل الحقيقة بواسطة العقل. ويعتبر ما قاله بوويس هذا بداية لعقلانية عصر النهضة.
بالإضافة إلى هذا الانتشار الجغرافي للرشدية، اتسعت هذه الأخيرة أيضا على المستوى الثقافي لتنتقل من الفلسفة إلى السياسة حيث ظهرت حركة ثقافية سياسية تؤيد الرشدية وتطبيقها على مستوى السياسة وذلك بمعارضتها للكنيسة وللثقافة الدينية بشكل عام. من بين رواد هذه الحركة أستاذ الفنون بجامعة باريس Jean de Jandun (ت: 1328). فهذا الأخير لا يقبل إلا الحقيقة العقلية ويؤيد أهم الأطروحات المنسوبة لابن رشد وخاصة "خلود الحركة والعالم" و"وحدة العقل الفعال" بالنسبة للنوع البشري، و"استبعاد خلود الروح والبعث والحياة الأخروية". من زعماء هذه الحركة أيضا: Marsile de Padoue (ت:1343). ولقد قابل هذا الأخير التمييز الرشدي بين الحقيقة الدينية والحقيقة العقلية في الفلسفة مع التمييز بين الروحي والوضعي في السياسة. غير أن هذه الحركة الرشدية شهدت مقاومة شديدة من طرف أعداء الرشدية، وعلى رأسهم القديسان ألبرت الأكبر وطوما الاكويني. من أهم ما يميز هاذين المفكرين كونهما توصلا معا بفلسفة أرسطو من خلال ترجمات النصوص العربية إلى اللاتينية (باستثناء بعض النصوص التي توصل بها القديس الأكويني مترجمة مباشرة من اليونانية على يد دومويربيك). وقد احتوت هذه النصوص على مجموعة من الأفكار لم يعرفها اليونان، مثل: خلود العالم ووحدة العقل ونفي خلود الروح وغيرها. نحن نعرف أن التقليد الديني المسيحي لا يترك أي مكان لهذه الأطروحات. فكان على المسيحيين الغربيين أن يختاروا: إما أن يكيفوا الأرسطية مع معتقداتهم أو يرموا بها. وفي الواقع حصل الاثنان معا: فالكنيسة رفضت الأرسطية، أما الرشديون فقبلوها كما علق عليها ابن رشد. أما القديسان ألبرت وطوما فقد حاولا تبني الأرسطية ولكن مع رفض الرشدية. لقد حاول ألبرت التصدي للأطروحات الرشدية بما فيها أطروحة وحدة العقل في كتاب له تحت عنوان:
Libellus contra ees qui dicunt quod post separationem ex omnibus animabus non remanet nisi intellectus unus et anima una.
درس ألبرت ايضا نفس المسألة في كتاب آخر تحت عنوان: Summa Theologiae. وبأمر من البابا الاسكندر الرابع، ألف ألبرت كتابا آخر حول العقل تحت عنوان:
De unitate intellectus contra averroistas.
ثم بعد ذلك نشر كتبا أخرى حول نفس المسألة أهمها:
De intellectu et intellegibili,
De natura et origine animae,
De quindecim problematibus.
أما القديس طوما الأكويني فقد ألف كتابا في نفس الموضوع يرد فيها على أطروحات ابن رشد والرشديين المسيحيين. ومن أهمها:
Opusculum de unitate intellectus contra Averroistas,
Summa theologiae
Summa contra gentiles,
De anima.
يتبين أخيرا أن مفهوم العقل تنقل من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب ومن الجنوب إلى الشمال وتقاذفه الفلاسفة لمدة قرون. وخلال هذه المسيرة التاريخية لمفهوم العقل شهد هذا الأخير، خاصة في اللغات اللاتينية والنيولاتينية تغيرات أساسية، سواء في معناه أو في تطبيقاته. ولا يزال هذا المفهوم حتى اليوم موضع بحث كما تدل على ذلك المؤلفات التي تظهر من حين لآخر في الساحة الثقافية بشكل عام، سواء في أوروبا أو في المغرب أو في المشرق
بعض المصادر والمراجع:
الاسكندر الأفروديسي، رسالة في العقل، ترجمة إسحاق ابن حنين (ت:298هـ). في: عبد الرحمان بدوي 1971، شروح أرسطو المفقودة باليونانية ورسائل أخرى، ص31-42، بيروت، المطبعة الكاثوليكية.
الفارابي، كتاب العقل والمعقولات، في: جلسون 1981.
ابن سينا، كتاب النفس، في: كتاب الشفاء، تحقيق قنواتي وزيد، القاهرة، 1975.
ابن سينا، أحوال النفس، الأهواني، القاهرة، 1952.
ابن باجة، رسالة في النفس، معصومي محمد حسن، دمشق، 1960.
ابن باجة، رسالة الاتصال، في: فخري 1968، رسائل ابن باجة الإلهية، بيروت.
ابن طفيل، حي بن يقظان، أحمد أمين، القاهرة، 1958، صليبا وعياد، 1962.
ابن رشد، تلخيص كتاب النفس، الاهواني، القاهرة، 1950.
Albert le Grand, De anima, in : Oeuvres, éd. Borgnet, 36 vols, Paris 1896.
Albert le Grand, De unitate intellectus contra Averroistats, in : Oeuvres, éd. Borgnet, Paris, 1896.
Aristote, Péri Psukhês, trad. Française accompagnée du texte grec par E.Barbotin et A.Jannone, Paris, les Belles Lettres, 1966.
Augustin, confessions, in : Migne (1841), Patrologie latine, tomes 32-47.
Boèce, De consolatione Philosophae, in : Migne 1854, Patrologie Latine, Paris.
Gilson E. (1981), Les sources gréco-arabes de l’augustinisme avicennisant, suivi de L.Massignon, Notes sur le texte original arabe du « De intellectu » d’Al-Farabi.
Ibn Gabirol, Fons Vitae, traduit en français par S.Munk, 1947.
Maïmonide de Cordoue, Guide des égarés, traduit en Français par S.Munk, 1856.
Siger de Brabant, De anima intellectiva, édité par B.Bazan, Louvin/Oarusn, 1972.
Thomas d’Aquin, Contro la doctrina averroistica dell’ unità dell’ intellecto, Lanciano, 1935.