إن البحث في الحياة، هو بحث في الفلسفة ذاتها، إذ لا يمكن الفصل بين الحياة والفلسفة. فحتى نتأمل الحياة أو الوجود الإنساني عامة، فذلك يستوجب نظرا فلسفيا؛ وتحقيقا عقليا وتعليلا منطقيا، وحتى يتسنى لنا عيش الحياة أو نتمكن من فن عيش الحياة، فالأمر يدفعنا إلى التساؤل حول جدوى الحياة أو الوجود بصفة عامة، وهذا التساؤل يمكن التعبير عنه بالصيغ التالية: لماذا نحن هنا؟ ما الفائدة من الحياة؟ وما الغرض من الوجود؟ وما السبيل للتعايش في ظل هذا الوجود المعقد؟
في بادئ الأمر، أنا هنا لا أدعي قدرة الإجابة على كل هاته التساؤلات ذات الصيت والعمق الفلسفي، وإنما أعمل على خلخلة وزعزعة الاستقرار المعرفي عندنا، لاسيما وأننا سنجوب في مختلف محطات الفكر الفلسفي، حتى نتحرى الدقة والصرامة المعرفية. إذا كانت الفلسفة ما قبل السقراطية اهتمت بموضوعات الطبيعة، و غاصت في مجموعة من الإشكالات من قبيل : ما أصل العالم ؟ أو بمعنى أدق كيف يمكن تفسير العالم؟ وجدير بالذكر، أن هذا السؤال كان نبراسا لباقي التساؤلات الفلسفية الأكثر ارتباطا بالإنسان والحياة، خصوصا مع فلسفة سقراط الذي قال شيشرون في حقه إنه أنزل الفلسفة من عالم السماء إلى الأرض، حري بنا الإشارة هنا أن سقراط لم يشيد مذهبا نسقيا في الفلسفة، وطريقته في التفلسف قائمة على الجدل، وكانت عادته أن يتوجه إلى السوق في أثينا يوميا أو أية بقعة أخرى يتجمع فيها الناس وهناك ينخرط في النقاش مع أي شخص مستعد للتحدث معه عن المشكلات العميقة للحياة والموت و الخير والشر الفضيلة الشجاعة والجمال ... معتمدا في نقاشاته على مبدأي التوليد والتهكم.
واستمرارا لنهج أستاذه عمل أفلاطون على مناقشة قضايا ارتبطت بحياة الإنسان، وقد كانت فلسفته عبارة عن محاورات تهدف إلى دراسة فلسفة السياسة كما هو الشأن بالنسبة لكتابه جمهورية أفلاطون الذي بين على إثره أن الفيلسوف هو من يقوى على تولي تدبير الشؤون السياسية داخل الدولة بعد تلقيه لتعليم رصين ودقيق، يبدأ من السنة الخامسة من عمره إلى حدود 20 سنة ويتلقى في هذا السنوات تعليم الموسيقى والشعر الرياضة وأسس الرياضيات وتسمى هذه الفترة بالتربية الأولية، ويتلقى التعليم في العلوم الرياضية بين 20 سنة و30 سنة، وبين 30 سنة و35 سنة يتعلم الجدل ومن 35 سنة إلى حدود الخمسين سنة يعمل على ممارسة ما تلقاه في الدولة، كما قام بتقسيم الدولة إلى ثلاث طبقات: طبقة العبيد وطبقة الجنود وطبقة الحكماء وجاء هذا التقسيم بناءا على تقسيمه للنفس البشرية إلى ثلاثة أصناف النفس الشهوانية، والنفس الغضبية والنفس العاقلة. ويتمثل دور الحكماء في تلبية الحاجات اللازمة لنظام الحياة، في حين تعمل طبقة الجنود على تأمين حاجات الدولة من الداخل والخارج، أما طبقة العبيد المشكلة من العمال والحرفيين والصناع، والفلاحين فتقع عليهم مسؤولية الغداء للجماعة (تأمين الغداء) جدير بالذكر أن الفلسفة الأفلاطونية لم تتوقف عند هذا الحد، بل تجاوزته للخوض في قضايا أخرى كالأخلاق، ونظرية المثل ...و تسمى فلسفته بالفلسفة المثالية.
أما بشأن تلميذه أرسطو فاهتمامه كان منصبا على خمسة أقسام وهي المنطق، الميتافيزيقا، الفيزياء، الأخلاق والسياسة. من أهم مقولاته أحب أفلاطون لكن الفلسفة أحب إلي منه. فإذا كان أستاذه يؤمن بعالم المثل " السماء" فعلى العكس من ذلك بالنسبة لأرسطو الذي وضح أن الحقيقة موجودة في عالم الأرض يقول " علينا ألا نضع نصب أعيننا الدولة الأفضل فقط، بل الدولة الممكنة". عموما يبدو واضحا، أن الفلسفة اليونانية كان شغلها الشاغل هو البحث في مجموع القضايا الملتصقة بالذات الإنسانية، إن لم نقل أن الإنسان هو جوهر هذه الحقبة الزمنية. وفي السياق ذاته نجد الفيلسوف العربي المسلم ابن رشد .
ابن رشد "يعرف فعل الفلسفة باعتباره ليس شيئا أكثر من النظر في الموجودات من جهة دلالتها على الصانع" وبتعريفه هذا نجده قد حاول معالجة الإشكال المرتبط بعلاقة الفلسفة بالدين، معتمدا في ذلك على دليل شرعي تمثل في الآية القرآنية التالية" فاعتبروا يا أولي الأبصار" . فكل إنسان مدفوع إلى ممارسة التفلسف عندما تعترضه مشكلات تثير فضوله المعرفي، بغية تحليلها ومعالجتها وتحليل كل الأشياء لإدراك مكنوناتها وسبر أغوارها ومعرفة عللها القصوى.ما يمكن استخلاصه مما سبق، هو أن الفلسفة فعل عقلي منهجه التأمل في الوجود المحسوس والمعقول، في العالم المادي والماورائي بغية معرفة العلل والأسباب البعيدة بالاعتماد على الشك والتحليل المنطقي العميق والنقد ...قصد الوصول إلى المعرفة اليقينية. ويتجسد دور الفلسفة في حياة الإنسان، في مستويات عدة:
المستوى الفردي " التنشئة الفردية": حيث يتعلم الفرد على إثرها تنمية جملة من المهارات والقدرات ؛ تقوية وتعزيز السلوك العقلاني المنظم نفسيا وفكريا واجتماعيا؛ امتلاك ثقافة علمية وفلسفية؛ التحلي باليقظة الفكرية والصرامة المنهجية؛ تنمية القدرة على القراءة والفهم والتعبير والاستدلال الدقيق؛ تنمية القدرة على اتخاذ مسافة نقدية من الأحكام الجاهزة والمسبقة..... أما بخصوص المستوى الاجتماعي" التنشئة الاجتماعية" ترسيخ ثقافة التسامح بين الأفراد؛ إعداد منظومة قيمية قادرة على فتح أواصر القرابة بين أفراد المجتمع؛ الإعلاء من شأن الإنسان وإنسانيته حتى يكون صالح و مصلح، الرقى بالقيم الاجتماعية والثوابت الأخلاقية السائدة في المجتمع؛ إنتاج بنية مجتمعية قادرة على تلبية حاجات الأفراد، وتشبعهم بالقيم الإنسانية النبيلة ...
وأخيرا المستوي الإنساني " أنسنة الإنسان" إقدار الإنسان على معرفة التراث الفلسفي وكيفية التجاوب معه؛ التعرف على مختلف النظم السياسية والاجتماعية والاقتصادية وأبعادها؛ الإيمان بالمثل العليا والدفاع عنها مثل الحرية والتسامح والعدالة والحق ... احتواء العنف بكل مظاهره وتوجيهه إلى ما فيه من صلاح للفرد والمجتمع والإنسانية. ومادام حديثنا منصب حول المعرفة وإبراز مدى أهميتها في حياة الفرد، فالأمر يجرنا إلى الحديث عن الفلسفة الحديثة التي جعلت المبحث الإبستمولوجي موضوعا لاشتغالها، حيث تساءلت عن أيسر الطرق والسبل لبلوغ المعرفة اليقينية ومن تم الحقيقة، مما جعلنا أمام اتجاهين فلسفيين: تيار تجريبي كان يعلي من قيمة الحواس والتجربة بصفة عامة، حيث أقر أن المعرفة لا تكون صحيحة ما لم يؤكدها الواقع التجريبي، وتيار عقلاني، يرى أن المعرفة التي يتم تحصيلها عن غير طريق العقل تكون خاطئة أو على الأقل محفوفة بالأخطاء، مما فتح المجال للعقل باعتباره القادر على إنتاج معرفة علمية وذلك اعتمادا على قواعد لتوجيه وحسن اشتغال العقل وهي : قاعدة الشك لا يقبل أي شيء على أنه حقيقي ما لم يكن واضحا وبديهيا. قاعدة التحليل والتي تهدف إلى تقسيم وتجزئ المعضلة " المشكلة " إلى مجموعة من الأجزاء، قاعدة التركيب والتي يقصد بها تركيب وترتيب هذه الأجزاء من البسط إلى المعقد وأخيرا قاعدة المراجعة التي يراد بها مراجعة جميع الأفكار المتوصل إليها كلما سمحت الفرصة بذلك. وبين هذين التيارين هناك التيار النقدي، الذي حاول التوفيق بين الاتجاهين منطلقا من فكرة فحواها أن المعرفة لا يتم التوصل إليها إلا بوساطة الجمع بين التجربة والعقل كما هو الحال بالنسبة لايمانويل كانط الذي تأسس مشروعه الفكري بناء على ثلاث تساؤلات وهي : ماذا يمكنني أن أعرفه ؟ ماذا يمكنني أن أمله ؟ وما الإنسان ؟ في ظل إجابته عن تساؤلاته هاته أقر كانط على أهمية التربية في حياة الإنسان حتى قال : وبالرغم من أن الفلسفة المعاصرة اتخذت من العلم وما يرتبط به موضوعا لها، وجاء ذلك جراء الثورة العلمية التي عرفتها بعض التخصصات خصوصا الرياضيات والفيزياء، علاوة على انفصال العلوم الإنسانية عن الفلسفة كعلم النفس والاجتماع و الأنتروبولوجيا، إلا أنها عملت من جهة ثانية على إحياء الفلسفة اليونانية .كما أكد على ذلك الفيلسوف الألماني فريدريك هيجل، ومن أهم اهتمامات الفلسفة المعاصرة، مسألة الوعي؛ الإدراك ؛ السلطة ... ولعل أبرز ما اشتهرت به الفلسفة المعاصرة هو إلحاحها على ضرورة العودة إلى الإنسان ودراسة القضايا المرتبطة به ارتباطا وثيقا، كما عملت الفلسفة الوجودية مع جون بول سارتر إذ أقرت بأسبقية الوجود عن الماهية، كما نظرت إلى الإنسان باعتباره مشروعا يتجه نحو المستقبل وجعلت من الحرية مطلب إنساني بامتياز، ويعني الحرية ها هنا اختيار الإنسان لكل أفعاله دون قيد أو شرط من أي مؤثرات خارجية كالمجتمع أو الأسرة أو غيرهما.
يتراءى لنا إذن، أن الفلسفة في مختلف توجهاتها وتياراتها ومحطاتها، اهتمت بالإنسان والقضايا المرتبطة به بدءا من ولادته وصولا إلى نهايته. الأمر الذي يجعلها مطلبا أساسيا ودعامة من الدعائم التي تجعلنا قادرين على فهم الإنسان واستيعاب بعض أفكاره وتصرفاته وسلوكاته على كافة المستويات فكريا، اجتماعيا، ونفسيا ... أضف إلى ذلك أن الفلسفة بعيدة كل البعد عن النظرة الضيقة التي قلصت من وضعيتها كمادة أساسية لتنشيط الذهن على الاشتغال بمنأى عن الإكراهات والضغوطات الخارجية، وهكذا يبدو واضحا أن للفلسفة دور أساسي وريادي في خدمة الإنسان وتحقيق طموحاته وأهدافه المنشودة اعتمادا على كل القيم الايجابية من تواصل وتعاطف وتسامح. ونبذ العنف والعنصرية والتعصب.