" لا ترتكز المعرفة التاريخية على معطيات جاهزة مثل بقية العلوم، بل يتم بناؤها من خلال منهج خاص يتبعه المؤرخ بحيث يستنطق الماضي ويحوله الى وثائق دلالية تمارس عليها الملاحظة والنقد"
بول ريكور، التاريخ والحقيقة، 1955.
يطرح وضع الفلسفة في التاريخ تحديا كبيرا، فالفلسفة تقدم نفسها على أنها معرفة بالأبدي بينما فن التاريخ يسرد ما وقع في حقبة معينة وبهذا التمشي يتعذر علي الفكر العثور على واحد منهما على أرضية المغاير.
الفلسفة نظرية تبريرية ذات مناهج كونية تبحث عن المطلق والعام بينما التاريخ تمشي معياري تراجعي يعتمد على قابلية الدحض من أجل البرهنة على حقيقة نظرية معينة ضمن موقف معرفي وإمكانية التعديل.
كما تبدو عبارة فلسفة التاريخ في غير محلها وفارغة من كل معنى لأنها تتناول صيرورة الحقيقة الأبدية من جهة أولى وتتعارض مع ما تعتقده الفلسفة من حيث هي شيء إنساني في إقرارها بأن الحقيقة ليس لها تاريخ بل تتابع جدلي في الأنساق المتعاقبة وتجاوز الأبدي الحقيقي للظني المرجح من جهة ثانية. فإذا كانت الفلسفة في معظمها متأتية من العالم الإنساني فأنى لها أن تنجو بنفسها على مستوى الوعي من التاريخية؟
علاوة على أن مجانبة تاريخ الفلسفة لتاريخ العلوم هو بمثابة وضع الماء والتراب على النار والهواء لأن الفلسفة تتمسك بوجود الحقيقية الأبدية بينما ينفي العلم كلية الحق ويجعله مجال اختراع ويقر بتعدد الحقائق ويسند لتاريخ المعارف مهمة التقاط الحقائق الجزئية والنسبية والمؤقتة والعرضية والمتغيرة والخاصة.
من هذا المنطلق تتطور العلوم بواسطة انتقاء ثقافي للنظريات يستبعد النظريات الضعيفة التي تقوم بوصف ظواهر الطبيعة وتتحكم فيها ويبقي على النظريات الحائزة على نجاعة عليا في التفسير والإنشاء والتوقع. في حين أن الفلسفة تحافظ على مميزات القول البرهاني وتضفي المشروعية على عقلانية الحقيقة الكونية وتمنح مباحث الكل والوجود والجوهر والماهية والذات والمطلق واليقين والأبدية حقوق المواطنة الفكرية.
فإذا كان تاريخ العلوم يرفع النسبية الابستيمولوجية في وجه الدوغمائية المعرفية ويجعل التقدم العلمي يضحي بالنماذج المعيارية واليقينيات الذاتية في سبيل بناء رؤية موضوعية تسير بالمعرفة البشرية في الطريق الواثق للعلومية فإن تاريخ الفلسفة يقحم النزعة الريبية في صميم منطق السؤال والجواب ويطارد كل المسلمات الميتافيزيقية والأحكام المسبقة عن طريق الموقف النقدي واليقظة المعرفية والحذر التعقلي. فأي تاريخ للفلسفة يكون لو خلا من الأفكار الفلسفية ومن تاريخ الحقيقة وبلا تقدم وبلا يقين وبلا مطلق؟
يمكن أن يختلف الفلاسفة حول الماهوي ويجوز لهم أن يتنازعوا على الكلي والإبحار في عالم المعرفة والقيم والوجود أينما أرادوا ولكن غير مسموح لهم بتاتا الهروب من تحمل مسؤولية تغيير الواقع وإلا قد يخرجوا من دائرة الفلسفة ويكفوا عن اقتحام مغامرة التفلسف لتلتصق بهم تهمة السفسطة والدجل والإثم.
بطبيعة الحال لا تكمن أزمة الفلسفة في التباس دلالتها وعطالة أدوارها وقلة المشتغلين بها والمتحمسين لها بل في ضعف جدواها على الصعيد الإبداعي وانخفاض منسوب الفاعلية وارتباطها بالماضي بدل الحاضر والمستقبل وخروجها من التاريخ ودخولها في سياق لغوي غزاه البعد الشكلاني وهجره البعد التداولي.
في نهاية المطاف يصبح تاريخ الفلسفة مجرد تاريخ للمفاهيم وتتحول المساحة التي يقطعها التفكير الفلسفي الميدان الذي تهاجر فيه هذه المفاهيم من سجل إلى آخر بغية استبدال دلالة ضمن مرجعية بدلالة مغايرة.
فهل يقدم تاريخ الأديان والفنون واللغات للفلسفة ما فقدته عندما جاورت تاريخ العلوم والمعارف الوضعية؟
كاتب فلسفي