1ـــ مقدمة
أول ما أستهل به قراءتي المتواضعة عتبة العنوان "سحر البحر " كعلامة سيميائية لها وظائف متعددة ، تخص أنطولوجية النص ومحتواه، وتداوليته في إطار سوسيو ثقافي، كتعريف وكشف له، وهو الباب الأول لاقتحام المضمومة، والعنوان" سحر البحر " مركب من خبر لمبتدأ محذوف ومضاف إليه كجملة تامة المبنى والمعنى ...وكلمة سحر تتعدد معانيها لغويا، فهي تعني :جلب العين بدهشة ،أو عمل من أعمال الشيطان الذي يُذهب الصحة ،ويُحّول الشيء عن حقيقته، أو تعني الخديعة والغواية، غير أن مبدعنا يتناولها بشكل رمزي في إطار الإعجاب والافتتان بالشيء والروعة التي عليها البحر، لكن لا يقصد البحر العادي بأمواجه الخلابة وشاطئه ورماله الذهبية، وإنما عالم الشاعر المتقد بالتنوع : العشق ــ الحب ــ الموت ــ الحزن ــ الهلوسة ــ بل الكون برمته وما يحتويه من جمال ورونق مطليين بالقبح والتلوث.. وهي رؤية تفاؤلية /تشاؤمية في نفس الوقت لإجابية الحياة والكون مهما اعتلتهما من قضايا إنسانية شارخة، ومهما توسّده الكاتب على سريرها من مخدات الجمر والبؤس والألم ، وسلبيتهما حين اقتحمت الرؤيةَ بالسوداوية والقتامة.. فعين الكاتب مشرقة على الحياة، تراها وردية مزهرة تارة، وأخرى تُوشحها قيَم سائرة نحو المنفى، فكانت تلكُم شوكة حادة وخزت حِس الكاتب، ليزرع في واقع تَلبّد بالإبهام والغموض والمتنافر الأبهى والأروع من الإبداع "رواية "سحر البحر "..
استهلت الرواية بدفقة شعرية واسعة الدلالات كفاتحة، كأنها تناسلت من شعر أبي تمام، بضروب من المحسنات، تتلاطم ألفاظها وتشتق في جَدَلية لامحدودة، تنطق بصور شعرية بديعة، مكتنزة بالرمزي والإيحائي والمجازي والاستعارة، ليفتح شهية القارئ بلقطة، يعانق فيها الأشياء، ماحيا المسافات بينه وبينها، فانصهرت الذات الشاعرة والذات السردية في توحد عميق، بلغة متينة وصياغة مائزة، ترقص على وتره العازف لتقول ما لم يكن مألوفا ...
شعرية الذات المحاصرة بحبائل الشك والحيرة والندم من خلال ديوان : "عيون النسيان" لعبد الله بلعباس - د. برغوت امحمد
أراد عبد الله بلعباس أن يطل على قرائه من جديد بإصدار قصائد تنتظم بين دفتي كتاب وسمه صاحبه ب "مجموعتين شعريتين" تحت عنوان : "عيون النسيان"-1- بعد أن أصدر عمله الأول: "الكتابة بخط البحر" -2- ، والذي قسمه إلى مجموعتين شعريتين كذلك، ليؤكد من جديد أن بوحيه الشعري الذي أرقه طيلة عقود من الزمن دون أن يرى النور بفعل عوائق النشر لابد له أن يصل إلى المتلقي، وإن كلفهُ ذلك جهدا ماديا مضاعفا.
"عيون النسيان" عنوان مستفز للقارئ كي يقبل على تصفح الديوان. ويبدو لي في البداية أن هذا العنوان - كعتبة - ينطوي على مفارقة لافتة للانتباه، تتمثل فيما توحي إليه العينان أو المآقي أو اللواحظ في الشعر العربي القديم من جمال وسحر وأسر يجذب الرائي ويفقده صوابه، كلما حدق فيها إلا ووقع في فخ الانسياق والتيهان والاستحضار لا في فخ النسيان والجحود واللامبالاة - من جهة - أو ما ترمز إليه هذه العيون من قدرة خارقة على الرؤية النافذة لأعماق مظاهر الأشياء، واستكشاف الآماد البعيدة المحجوبة عن الرؤية العادية. كما يرويه لنا مؤرخو الأدب ورواته عن "زرقاء اليمامة" على سبيل المثال - من جهة أخرى - أو ما ترمز إليه في الشعر العربي الحديث من قدرة على الإيحاء والتحريض والتشهي، وهذا ما يدعو الشعراء إلى التملي فيها ومغازلتها والسفر فيها. في حين -وعلى النقيض من ذلك- يريد بلعباس أن ينسب إلى العيون وظيفة جديدة ألا وهي النسيان أو التناسي، بمعنى العماء والسديمية، وهذا هو ما لا يستقيم فهمه منطقيا على الأقل.
الكتب الأكثر "خطورة" ومدعاة لحظر قراءتها - أحمد رباص
تقول أسطورة كتب العرافة (النصوص الأسطورية والنبوية لروما القديمة) أنه في المدينة، اقترحت امرأة بيع 12 كتابًا للناس تحتوي على كل معارف وحكمة العالم، بسعر مرتفع للغاية.
لم يقبل الناس على شرائها وقراءتها، معتبرين العرض سخيفا، لذلك أحرقت صاحبة الفكرة نصف الكتب على الفور وعرضت الستة الأخرى بسعر مضاعف. سخر منها المواطنون، رغم القليل من التوتر.
أحرقت المرأة من كتبها ثلاثة كتب أخرى، وعرضت الباقي للبيع، وضاعفت مرة أخرى السعر. رفضت على مضض تعديل السعر مع أن الظروف كانت صعبة وبدا أن الحياة تزداد صعوبة.
في النهاية، لم يتبق سوى كتاب واحد. دفع المواطنون ثمنه الباهظ الذي طلبته المرأة وتداعوا وحدهم للتلاعب به بأفضل ما في وسعهم؛ علما بأنه هو الكتاب الثاني عشر من كل المعرفة والحكمة الموجودتين في العالم.
الكتب ملأى بالمعرفة. إنها ملقحات لأذهاننا، تنشر الأفكار التي تتكاثر عبر الزمان والمكان. ثم نجنح إلى نسيان كيف تجعل خصائص الصفحة أو الشاشة التواصل بين أدمغة بعيدة عن بعضها البعض، في نهاية العالم أو في نهاية القرن.
الكتب، كما قال ستيفن كينغ، "سحر محمول فريد" - والمظهر المحمول لا يقل أهمية عن السحر. يمكن حمل الكتاب وإخفاؤه، مثل مخزن المعرفة الخاص بك (مذكرات ابني بها قفل - غير ضروري ولكنه مهم من الناحية الرمزية).
سطوة الكلمات الموجودة في الكتاب هائلة جدا لدرجة أنه لطالما كان من المعتاد محو بعضها: مثل اللعنات في روايات القرن التاسع عشر، أو الكلمات التي يصعب كتابتها، مثل اسم الله في بعض النصوص الدينية.
الإبداع الروائي والمجتمع - د. ناصر السوسي
يَسُود اعتقاد فَحْوَاه أن الأديب إنسان يصنع عوالم من وَحْي أَخِيلَتِه تَعْنِيه وحده دون سواه. وتحت تأثير الثقافة التكنوقراطية، يَحْسبُ خَلْقٌ كثيرٌ أن الأدبَ مضْيَعَة للجهد والوقت معا؛ من ثم فلا فائدة من ورائه و لاجدوى.
لِنَسْأَل بالارتكاز على هاته الملاحظة الأولية: هل يَصْنَعُ الأديبُ فعلا عوالم من نَسْجِ خياله؟ وإلى هذا الاستفهام نضيف: أَيُمْكِنُنَا الزَّعم أن الأدب بضاعة خاسرة؟
محاولة الاقتراب من هذين التساؤلين اللذين ابتغيناهما مُحَرِّكَين لعملنا هذا سَتَقْذِفُ بنا في خِضَم تَطَارُح مهمة الأديب، فوظيفة الأدب الروائي تخصيصا في مجتمعاتنا العربية.
فمثلما أن الشاعر يكون شاعرا لأنه " يشعر ما لايشعر به غيره، أي يعلم" 1؛ نلْفِي الروائي بدوره يعي ما لايعيه سائر الناس، اعتبارا لكون الرواية " تشكيلا للعلاقات الإنسانية بكل تعقيداتها "، وتعبيرا مُجَنَّحاً، ومُلتبساً عن عالم يكتشف نفسه " كغابة من الإشارات على حد قول عبد الكبير الخطيبي.2
وترتيبا على هذا القول تغدو الرواية نظرة فنية تعبر عن الوجود العيني من جهة، وتشريحا دقيقا بمبضع الإبداع لأدق تفاصيل المجتمع والسياسة، ولطبيعة العلاقات السائدة من جهة ثانية، ثم تركيبا، وإعادة تركيب واعية للواقع الاجتماعي عبر أساليب السرد؛ والوصف، وتقنيات الحوار، وبناء الشخوص من جهة ثالثة.
بهذا المعنى تضحى الرواية تجربة إنسانية وجودية حَمِيمَة تَهُزُّ كيان صاحبها لتُحَرِّكَ فيه كل طاقاته الخلاَّقة، ومقدراته التَّخْيِيلِيَّة التي تسعفه في استحضار كل الأبعاد النفسية والاجتماعية 3 دون فصلِ المعنى عن المبنى، وَوَصْمِ التجربة عن الأسلوب.
صرخة مغتصبة في "الحياة من دوني" لعائشة البصري - إبراهيم مشارة
الحرب كتيمة مفضلة ما انفكت محورا هاما للشعراء والروائيين منذ هوميروس في الإلياذة والأوذيسا وحرب داحس والغبراء وقصائد المهلهل في رثاء كليب وحرب البسوس وصولا إلى روائي العالم كهمنغواي وتولستوي وجورج أورويل وحنا مينة وكنفاني وغيرهم تمثيلا لا حصرا ،القتل العشوائي ،الحرب بلا هدف مسوغ ،التدمير والسادية ،العنف غير المبرر، التجارة في الحرب وتنمية حاسة الاستئذاب لدى الجشعين ومراكمي الأرباح من رائحة الدم والأشلاء تظل موضوعا مفضلا كذلك اليوم لدى لفيف من الكتاب في سوريا مثلا في يوميات الدم والاغتصاب وكما في نكاح الجهاد في العراق وأفغانستان والعنف والتجويع والإخضاع في اليمن وغيرها.
ورواية "الحياة من دوني" لعائشة البصري عضو بيت الشعر واتحاد كتاب المغرب تتخذ من الحرب تيمة لعملها الباذخ الذي اقتضى سنوات من الإعداد ومراجعة الوثائق والصور والرحلة إلى أقصى الأرض.
ترتكز هذه الرواية على بعد فكري راسخ هو الانتصار للمرأة والدفاع عن حقها في الوجود وصون كرامتها وشجب كل محاولات التضييق والاتجار بها وانتهاك معنى وجودها وكرامتها كإنسان وقد كانت الحرب ميدانا تعرضت فيه المرأة إلى أبشع جريمة تنال من كرامتها وإنسانيتها،لقد كانت ضحية لحرب موازية مسكوت عنها لا يتحدث عنها المؤرخون عادة.
يحيل العنوان وهو عتبة من عتبات هذا المنجز التخييلي على معنى الغياب والتلاشي وتأتي الصورة بالأبيض والأسود كعتبة ثانية بخلفية رمادية لفتاتين صينيتين تنظران نظرات حائرة،سارحة، مشجية تغور في أعماق الإنسان منا لتثير توترنا وشجونا كذلك ثم الإهداء الذي جاء هكذا :إلى ضحايا اغتصاب الحروب ، ثم الأقوال المختارة التي تكثف المعنى في اقتصاد لفظي لأديبين فرنسيين وثالثة أمريكية عن هول الحرب ولا إنسانيتها خاصة إزاء المرأة:
شوقي ضيف لمن لا يعرفه - إبراهيم مشارة
لا تخلو مكتبة من مكتبات الجامعات العربية،ولا مكتبة عامة من مكتبات المدن والحواضر العربية، ولا مكتبة تجارية أو مكتبة خاصة لأي مثقف أو أكاديمي أو قارئ للكتب أو جامع لها من بعض كتب الناقد والعالم والباحث الكبير الأستاذ شوقي ضيف (أولاد حمام، دمياط1910 /القاهرة 2005) فما تناثر من تراث شعري ونثري في المدونات الأدبية الكبرى كالأغاني والعقد الفريد والجمهرة وزهر الآداب والذخيرة وغيرها مدونة بلغة عصية على ذوق ولسان العصر صاغه شوقي ضيف في لغة ميسورة بليغة ودقيقة دارسا ومتذوقا وناقدا لهذا التراث الأدبي الضخم منذ العصر الجاهلي وحتى العصر الحديث ، دارسا الفن ومذاهبه في الشعر العربي والفن ومذاهبه في النثر العربي ثم معرجا على الفنون الأدبية المختلفة وهي تشكل موسوعة أدبية ضخمة كلفت الناقد سني عمره درسا واستقصاء ونقدا بموضوعية وروح لاتكل من البحث والاستقصاء والصبر والعزوف عن الأضواء والعجلة في الحكم والرغبة في المكاسب المادية على حساب الإخلاص والفضول والمعرفة تهيمن على ذلك كله وطنية صادقة وقومية عربية لا غبار عليها وروح إسلامية تتسرب قيمها فيما خطت يمينه تكرس حب العلم ونشره أسوة بعلماء الإسلام الكبار في شتى مجالات الدين والأدب والفلسفة والعلم.
أحمد المجاطي ومغربية القصيدة الشعرية الحديثة(*) - عبد الله صدوكي
1- على سبيل البدء.
لا يختلف الباحثون المهتمون بالشأن الشعري المغربي في كون تجربة الشاعر المغربي "أحمد المجاطي" الشعرية تجربة فريدة ومتميزة، تكمن فرادتها وتميزها في أنها استطاعت بشكل نَضِجٍ التأسيس([1]) لمغربية الشعر العربي المكتوب من طرف المبدعين المغاربة، الذين كانوا إلى عهد قريب، ينعتون وينعت منجزهم الشعري بالتبعية والتقليد للشعر المشرقي.
ولعل التدليل على ما ذهبنا إليه يتمظهر فيما تنماز به معظم قصائده الشعرية من خصوصيات، يطبعها العمق من جهة، والأصالة من جهة أخرى، بحيث يتبدى العمق من خلال مرس المجاطي بالشعر العربي القديم والحديث، حفظا ومعرفة وتدريسا، وكذلك من خلال ضبطه التام لعلمي البلاغة والعروض، هذه المعارف والعلوم عمقت قصائده الشعرية وخصبت مستوياتها الدلالية المعنوية والتخيلية والإيقاعية، ثم الأصالة المغربية المتجلية في ارتباطه الأثيل الأثير بهموم وطنه، وبهموم باقي الأوطان العربية.
وقد أسهم المجاطي بالإضافة إلى مجموعة من الأسماء الشعرية المغربية الرائدة([2]) في إغناء مسار القصيدة الشعرية المغربية الحديثة، وذلك بنقلها من ضيق التقليد للشعرية المشرقية إلى رحب التجديد في الشعرية المغربية، التي صارت بعد ذلك نموذجا جماليا متفردا، دفع الشعرية المشرقية إلى الاقتداء والتناص مع مختلف مكوناته الموسومة بالتعدد والغنى الناتجين عن التنوع الثقافي والحضاري المغربيين، كما تفاعلت معه عدة شعريات غربية، انطلاقا من إنجازها لترجمات شعرية تترى ابتغاء الاسترفاد منه والانفتاح على خصوصياته.([3])
و رغم أن المجاطي كان مقلا في كتابة القصائد الشعرية إلا أن هذا الأمر ما عُدَّ نقيصة أو عيّا في مقدرته الشعرية، بل كان رهانا حصيفا على تلك القصيدة الأولى، أو القصيدة التي لم تُكْتَبْ بعدُ؛ لذلك كان يردد في غير ما مرة قوله المأثور:" لا نحتاج إلى من يكتب العشرات من الدواوين، بل نحتاج إلى من يكتب القصيدة الأولى"، وفي هذا إشارة عميقة إلى أن مكانة الشاعر وقيمة شعره لا تحدد في كثرة الدواوين الشعرية، ولا في كثرة الإصدارات والطبعات، وإنما تحدد في إجادة وإبداعية ما يكتبه من نصوص شعرية ضافية بالقيم الجمالية والإنسانية العليا.
ولعل الاطلاع على ديوانه الوحيد المسمى "الفروسية" يعد خير مثال وأفضل نموذج، يمكن أن يلمس فيه القارئ الخبير بمضايق الشعر تلك الجودة الإبداعية، التي راهن عليهما خلال عمره الشعري، المتجاوز لأربعة عقود، لذلك كله، يجدر بالقارئ الشاغف بالشعر المغربي الحق عدم الصدوف أو القفز على تجربة الشاعر أحمد المجاطي الشعرية، إذا ما أراد استجلاء الجوانب الدالة و المؤسسة لمغربية القصيدة الشعرية، المبنية عنده أساسا على حب الإنسان و المدينة و الأمكنة المغربية.
الطابع المحوري والعلائقي للشخصية في رواية « ريحون » - عبد النبي بزاز
تعتبر رواية « ريحون » المنجز الروائي الثالث للروائية والأديبة المغربية أسمهان الزعيم . ويمكن تصنيفها ضمن خانة الرواية الطويلة كما ( 361 صفحة ) لما تتميز به من وفرة الشخوص والتي نيفت على الأربعين ، وتعدد الوقائع والأحداث ... ونوعا في اختراق سيرورة السرد بعناصر من قبيل الصدفة واللامتوقع ، وغزارة « التيمات » الموزعة بين ما هو اجتماعي وعقدي وأنطولوجي ... فضلا عن نزعات جمالية تلتئم داخل توليفة يتجاور فيها المجازي بالرومانسي بالواقعي عبر لغة تمتح من معجم يجمع التراثي بالحداثي . ونظرا لحدود طبيعة هذه المقاربة سنقتصر على مكون الشخصية في الرواية بمحدداتها العلائقية ، وروابطها المحيطية . ولعل الشخصية المحورية فيها « ريحون » لقب ألصق به بعد حادث فتاة القرية التي تعلق بها : " سلبتني ما تبقى من عقلي واتزاني ... " ص 10 ، وارتأى أن يبعث لها رسالة يضمنها أحاسيسه تجاهها ، وما تحبل به من عشق ووله : " وضعت ظرفي في علبة بريدها... وانتظرت بضعة أيام ... فتأتيني كما حمام زاجل بخطابها المفعم ودا وعشقا وجوى ... " ص 10 ، إلا أن آماله تحطمت ، وأحلامه أجهضت عندما اكتشف أخوها الرسالة فواجهه بطريقة لا تخلو من تهديد رهيب : "رأيت وجه أخيها محمرا من الغيظ وقد انتفخت أوداجه وحل رعب مدو في عينيه وقد كز على شفتيه وهو يردد متغيظا : ـ إذا رأيتك ثانية بحارتنا هاته فلا تلومن إلا نفسك !" ص 10 ، لُينْبَذ ويغدو غير مرغوب فيه حتى من أقرب المقربين كوالده : " فقد كان أول المتنكرين لي أبي الذي صرخ بأعلى صوته في واضحة النهار : أنا بريء من هذا الشيطان الذي تحول إلى غاو يريد السوء بصبايا حارتنا العفيفات . " ص 11 ، فتحول اسمه « كامل » إلى لقب « ريحون » : " وقد بلغني أنكم ابتدعتم لي لقبا ... ومسحتم اسمي الشرعي القديم . فأصبحت « ريحون » في نظركم . " ص 12 . وهو في عز حيرته وضياعه ، بعد تنكر محيطه الصغير ( العائلة ) ، والكبير ( الحارة ) له : " لكن أنى له أن يتم دراسته وقد طرد من بيت العائلة ومن الحارة بأسرها ؟ " 14 يتسكع بين دروب الرباط وأحيائها تائها حائرا : " وبينما كان يحث الخطى منهكا وعلى غير هدى بين حارات الرباط القديمة ... " ص 14 فتنتأ الصدفة لتخلصه من براثن التيه وشرنقة الضياع بعد مصادفته لأستاذه الذي فتح أمامه بصيص أمل لمتابعة دراسته : " إذا بالقدر الرحيم يفتح ذراعيه لا حتضانه... ولم يشعر إلا ويد أستاذه تستوقفه وقد غمره ببسمته وطيبة روحه . " ص 14 ، فوعده مطمئنا بالتدخل له لدى إدارة المدرسة للاستفادة من سرير بالداخلية من أجل استكمال تعليمه ليتخطى ، بفعل عنصر الصدفة التي شكلت ثابتا سرديا داخل متن الرواية ، حاجز الضيق والضياع بما حققه ، بعد ذلك ، من تفوق دراسي اتسعت معه طموحاته ، وارتفع منسوب آماله وأحلامه: " وهو يدرك تماما أن الإجازة في بلده لن تضمن له وظيفة كالتي يصبو إليها . وليس في مقدوره أن يتم دراسته العليا في المغرب وقد بلغه ما بلغه من مراوغات ومساومات ومقايضات في سوق التسجيل بالماستر... " ص 20 ، فحول بوصلة تفكيره صوب الهجرة إلى أوروبا ، وفرنسا بالضبط حيث أفلح في إتمام دراسته العليا وتخرج مهندسا معماريا يحظى بعيش كريم : " وها هو ذا بعد سنوات قضاها في كنف الحي الجامعي يتخرج مهندسا معماريا ويلتحق بعمل متعاقد مع إحدى الشركات أهله للعيش الكريم وامتلاك شقة أنيقة بأرقى الأحياء الباريسية تطل شرفاتها الوسيعة على نهر لاسين . " ص 55 ، فينخرط في تجارب عاطفية محفوفة بارتدادات واهتزازات بعد تجربته البكر مع فتاة الحارة حيث تعرف على الفرنسية ميراي والتي قطع علاقته بها عقب خلافات جوهرية مرتبطة بمبادئ عقدية وقومية ( موقفها العدائي والعنصري من القضية الفلسطينية ) ، كما جمعته علاقة سابقة ب « سناء » ملخصا ذلك في قول استرجاعي : " في تلك الليلة وهو يندس في سريره ... حضر طيفها . لم يكن طيف ميراي ولا طيف حبيبته الأولى وإنما طيف صديقته القديمة التي جاءت تقدم العزاء في جنازة والده !" ص 35 .