ارتبط المقترب الانقسامي أساسا بالانتروبولوجية الانجلوساكسونية التي إهتمت بدراسة التشكيلة الاجتماعية السياسية للمجتمع المغربي، منذ الحرب العالمية الثانية. فبينما طبق Evans Pridtchard الانقسامية على قبائل النوير "Nuer" في جنوب وشمال السودان ، نجد ايرنست كلنير طبقها في القبائل النازلة بالأطلس الكبير من خلال دراسته لقبائل "ايت عطا"، و D. Hart فحص هذا المقترب من خلال دراسته لقبائل "بني ورياغل" و "ايت عطا" و "دكالة"، في حين رحل J.Waterbury بالمقترب الانقسامي إلى المجال السياسي، حيث عمم نتائج الانقسامية على المجتمع السياسي المغربي و أحزابه السياسية، و ذلك في كتابه " أمير المؤمنين : الملكية المغربية و نخبتها ". رغم ذلك، فان فكرة الانقسامية ليست بالجديد على الانتوبولوجيا الانجلوساكسونية، إذ ترجع الانقسامية في الأصل إلى السوسيولوجي الفرنسي E.Durkheim الذي لاحظ أن المجتمعات الانقسامية تتكون عادة من عشائر متفاوتة الاتحاد فيما بينها، و متشابهة فيما بينها. و في كتابه "تقسيم العمل الاجتماعي" يقدم مثالا لهذا المقترب، مثال استقاه من المجتمع القبائلي بالجزائر والذي يلاحظ فيه أن الوحدة السياسية المهمة في هذا المجتمع تتجسد في العشيرة، فالعشيرة بهذا المفهوم تتفرع إلى قوى متعددة تسمى "اجماعات" وعدة "اجماعات" تكون القبيلة أو العرش وعدة عروش تكون اتحادا قبليا و الاتحاد القبلي يعتبر أعلى هيئة اجتماعية عند القبائليين الجزائريين .
1- ملاحظات حول مفهوم الانقسامية .
في إحدى مقالاته، حاول Paul Pascon الفحص في جذور مفهوم الانقسامية، إذ يرى أن أصل المفهوم مأخوذ من مصطلحات علم الحيوان (zoologie) أكثر مما هو مأخوذ من الفزياء أو الرياضيات. فالحيوانات المسماة "انقسامية" مكونة تكوينا يمكن معه للشخص الحيواني الواحد أن ينقسم على نفسه إلى شطرين، مخرجا للوجود شخصين منفصلين قادرين على الحياة. قياسا على هذا، فالمجتمعات الانقسامية، هي المجتمعات التي تنشطر بصفة لا متناهية، بحيث أن الأجزاء المتولدة عن هذا الانشطار تتشابه فيما بينها، و يعاد إنتاجها باستمرار، و على خلاف الحيوانات الغير الفقرية (الانقسامية)، فان المجتمعات الانقسامية لا تنشطر فحسب، بل هي قادرة أيضا أن تنصهر و تتحد لتخلف مجموعة مجموعة ذات مستوى اكبر. فعمليتا الانشطار و الانصهار تولد من جراء التنافس حول عدة أهداف، و تؤدي إلى مسلسل مستمر للتوازن فالشيء الأساسي الذي يميز هذا النموذج الاجتماعي المجرد: هو الطابع المشاعي للسلطة، أي عدم التمركز.
فمن بين الملاحظات الأخرى حول مفهوم الانقسامية، نستحضر هنا ملاحظة الباحث المغربي عبد الله حمودي، إذ يرى أن المجتمع الانقسامي يتكون من جماعات متداخلة بعضها في بعض. و كل نقطة من نقاط التداخل تعين وحدات مستوى من المستويات، وهكذا، فان القبيلة مثلا تتكون من وحدات سلالية مرتبطة فيما بينها ، وتكون في مجموعها وحدة اجتماعية و سياسية مستقلة استقلالا قد يكون يقوى أو يضعف. فالوحدات السلالية هاته عبارة عن أجزاء اجتماعية. و تندرج الوحدات الاجتماعية في إطار نسق يحدد نظاما خاصا من العلاقات تحديدا لا التباس فيه، سواء بين الجماعات أو بين الأفراد، وهو تحديد يتلافى النزاعات الإلزامية.
ويذهب ايرنست كلنير إلى القول بأن المجتمع الانقسامي، هو المجتمع الذي يكون فيه حبل النسل العامل الوحيد الذي يضبط العلاقات بين الأجزاء الاجتماعية. حبل النسل هذا الذي غالبا ما يكون من نوع أبوي، وذلك تفاديا لإقحام عناصر قبلية جديدة من جهة الخؤولة. فالجماعات الاجتماعية تتحدد إذن نسبة إلى مجموعة من الأجداد الذكور من الأسفل إلى الأعلى الو، حيث تنتهي جميع الأصول، نحو جد مشترك تنسب إليه القبيلة أو اتحادية من القبائل.
2- المكانة الرمزية و السامية للصلحاء في المجتمع القبائلي، و كأنهم في لعبة سياسية.
إن الدور الذي تقوم به الزاوية لا يقتصر فقط على طقوس العبادة، بل كذلك تقوم بإخماد التوترات و الصراعات بين القبائل و تكرس الاستقرار في النظام الاجتماعي القبائلي، إلى الحد الذي يكون فيه دور الزاوية في المجتمع القبائلي أشبه باللعبة السياسية. إلى جانب الدور السلمي الذي تقوم به القبيلة فإنها تقوم بأدوار اجتماعية أخرى، حيث يقول ابن مرزوق أن الزاوية في المغرب " هي الموضع لإرفاق الواردين وإطعام المحتجين من القاصدين " .
إن ظهور الزاوية بالمغرب ارتبط بمجموعة من الظروف السياسية والاجتماعية والتاريخية، مما استغل شيوخ الزوايا هذه الأوضاع المحدقة بهذا المجتمع، وتحركوا لتعبئة المجتمع ضد ما يتعرض له من الأخطار.لذلك، فان مؤسسة الزاوية خصية من خصائص المجتمع المغربي، إذ لا يمكن الخوض في أي موضوع كان دون أن نأخذ بعين الاعتبار حضور الزاوية. فالكتابات التاريخية حول المغرب جد متفطنة و مدركة لما لهذا المعطى من أهمية في تفسير الكثير من الظواهر التي يحفل بها تاريخ المغرب.
و نظرا لدخول الانثربوليجيين الانجلوساكسونيين الى المجتمع المغربي كمجال لدراستهم من اجل فهم المؤسسات التقليدية للمجتمع، بما فيها الزاوية و ما تلعبه من ادوار داخل المجتمع؛ من عبادة وعمل خير و صلح بين القبائل المتصارعة، ارتحل بنا ارنست كيلنير إلى دراسة دور الصلحاء في ترسيخ الأمن بين القبائل. ففي دراسته المعروفة : " صلحاء الأطلس " حاول كلنر الإجابة على السؤال الذي كان الدائرة التي يدور حولها البحث، و هو كيف يتم الحفاظ على الاستقرار و الأمن داخل القبائل في غياب السلطة المركزية ؟ يجيب كلنر بأن معادلة الاتحاد نتيجة تواجد إمكانية التحالفات، و الدور التسكيني للصلحاء بحكم مكانتهم السامية، هو الذي يضمن المحافظة على مستوى من النظام و السلم المدني.
لقد كانت أضرحة و مقابر الصلحاء أماكن محايدة تستقطب الزوار، و يمنع القتال حولها، كما كانت الأسواق و المستودعات الجماعية، أي ما يسمى ب(اكادير) تقام بجوارها. فهذه المكانة الحيادية التي تميز بها الصلحاء، هو ما سما بهم فوق النزاعات وجعلهم حكاما مؤهلين، لكن السؤال الذي يمكن طرحه هل كان هذا المبدأ محترما دائما ؟ لذلك سيتخذ كلنر الزاوية الحنصالية وعلاقته بقبيلة ايت عطا كموضوع لبحثه، و كنموذج للإجابة على السؤال المطروح.
فمن خلال الوثائق التاريخية و الروايات الشفوية التي اعتمد عليها كلنر؛ نتشف حياة شخصين من مؤسسي الزاوية الحنصالية، الشخص الأول هو "دادا سعيد" و الشخص الثاني هو "سيدي يوسف اوسعيد احنصال" . فبصدد الشخصية الحنصالية الأولى، تحدثت الروايات الشفوية عن النزاعات الدامية بين "دادا سعيد" و السكان الذين حل بديارهم. و عندما وصل إلى المنطقة استقر عند "ايت تغله" أحسنت استقباله في البداية، إلا أن أقرباءها من "ايت واسر" حاولوا طرده. حينئذ، استنجد "دادا سعيد" ب "دادة عطا" الذي واصل بمعية انصاره، وطرد "ايت واسر و "ايت تغله"، إلا أن كلنر لا يرى كيف تمكن "دادا سعيد" من الاستغاثة "بايت عطا" التي لم تتكون اتحاديتها إلا في القرن 16 .
فيما يخص الطبيعة السلمية للصلحاء سعى كلنر إلى معاينة مستويين في التفسير:
- المستوى المحلي : حيث يبدأ الصلحاء بنسج روابط الولاء و التبعية، وحيث يلتزمون جانب الحياد في النزاعات لإستقطاب اكبر قدر ممكن من التأييد. في هذا المستوى يبدو بالفعل أن التحكيم يكون من أهم وظائفهم، كما تبدو الطبيعة السلمية من بين أهم خصائص الولاية .
- المستوى الثاني : سواء المحلي أو الوطني، يحاول الصلحاء خوض المغامرة التاريخية الكبرى، و حيث لا يحتجب دور التحكيم، و لكنه يتزحزح إلى المرتبة الثانية. فحينئذ، يلعب الصالح على روابط غامضة بين المقدس والسياسة. فيعض الناس، و يجدد الجيش، و يستوي في الحركية السلالات الحاكمة، ونعتقد أن الحنصاليون قد ظهروا من هذا النوع من الولاية.
ويبدو بالفعل أن الزاوية الحنصالية تقوم بوظائف اجتماعية، و ذلك من خلال وظائف الوساطة و الفصل في الخصومات وكذا عن طريق العوائق التي يضعونها أمام كل النزاعات إلى الاستبداد و التميز عن الجماعة . كما يمكن اعتبار المكانة التي تحتلها الزاوية داخل جغرافية قبيلة "ايت عطا" مظهر من المظاهر التي تحدد الموقع الاجتماعي للزاوية في النظام القبلي، حيث تقع الزاوية في منطقة عبور بين السهل و الجبل، إذ أن جزءا من القبيلة كان ينتقل بين السهل و الجبل. فقد كان هذا الترحال يخلق صراعات عديدة بين مكونات القبيلة الواحدة من مستقرين و رحل، مما كان للزاوية أدوارا كبرى تقوم بها من ممارسة التحكيم و السهر على إبرام الاتفاقات بين الأطراف المتصارعة، مثلما تسهر على مراقبة وتوزيع أوقات الاستفادة من السقي و كذا المراعي الخصبة.
فيكون كل جيل من الأجداد في آن واحد داخل المجتمع الانقسامي، عامل انشطار و عامل انصهار. فهو عامل انشطار مكونه يعين لنا أجزاء جديدة، فبتعيينه لأجزاء يحدد مستوى من مستويات الانقسام و التداخل. فالمستوى الأول مثلا هو مستوى القبيلة، و الثاني هو مستوى الفرقة، و الثالث هو مستوى الوحدة السلالية، وهكذا دواليك إلى الحد الأدنى.
كما أن جيل من الأجداد عامل انصهار. ويعنى هذا إمكانية التحالف بين الأجزاء الاجتماعية المنتمية للجد الواحد رغم تنافسها، وذلك ضدا على أجزاء أخرى بعيدة من حيث النسب، و كذلك إمكانية التحالف بين هذه الأجزاء الأخيرة الأولى إذا ما كان هنا خطر خارجي يهدد كل هذه الأجزاء المجتمعة. و تتبادر إلى الذهن هنا مقولة: " أنا ضد أخي، و أنا و آخي ضد أبناء عمي، أنا و أخي و أبناء عمي على الغريب و هكذا... " .
إذن فان الصلحاء شكلوا بدون شك عامل تغيير في إطار التنظيم الانقسامي، لكونهم جعلوا السلم و التوازن الاجتماعيين مرتبطين أيضا بوساطتهم، و ليس فقط بتعارض القسمات و تحالفها، إلا انه مع ذلك تعديل ضروري لا يمكن أن يستغني عن المجتمع الانقسامي في المغرب العربي بدون أن يختل سيره و نظامه. من هنا فإن مكانة الصلحاء الدينية و السلمية و إن كانت تتعارض مع المبادئ التي يقوم عليها المجتمع الانقسامي، تسهم على مستوى أخر في ضمان استمراره، و تحول دون انقراضه و تلاشيه، على أن تدخل الصلحاء لا يعني وضع حد نهائي للنزاعات بين القبائل المتحالفة فالتوازن بين القبائل الذي يكون بفعل وساطة الصلحاء يسود لمدة و يعود الصراع من جديد . و يحيلنا ذلك على ما أكده الانثروبولوجي الفرنسي René Girard في كتابه "العنف و المقدس" ، حيث يرى أن العنف الذي يتولد بين القبائل ليس عنفا مستمرا و لا يختفي نهائيا في وقت من الأوقات، بل هو عنف يتوقف لمدة ويعود من جديد و هكذا دوليك. ففي حالة العنف تسعى القبائل المتصارعة إلى انتساب هذا العنف و السخط لشخص غريب أو حيوان كضحية تسمى "بكبش الفداء" لما يقتلون هذه الضحية، يعتقدون أنهم تخلصوا من المشاكل التي أدت بهم إلى الصراع و التطاحن، بهذا يخمدون العنف بالعنف نفسه على الضحية، لكن الصراع بين القبائل لا ينتهي عند هذا الطقس، بل يستمر الاستقرار لمدة و يعود العنف من جديد . فإذا كان ارنست كلنر يرى أن الزاوية هي التي تجسد السلم و الاستقرار في النظام القبائلي، فإن روني جيرار يذهب إلى إعتبار أن قتل الضحية سواء كانت حيوان أو شخص غريب هو ما يجسد الاستقرار داخل القبائل.
من خلال عرضنا لهذه الأفكار حول الدور الذي كانت الزاوية تقوم به في النظام القبائلي، يبقى السؤال المطروح، هو؛ ما مصير الزاوية من جراء التحولات التي عرفه المجتمع المغربي؟ للإجابة عن هذا السؤال يمكن القول، أن التفكك الذي عرفه النظام الاجتماعي التقليدي لصالح النظام الاجتماعي الحديث هو ما أدى باختفاء الدور السلمي الزاوية. إذ أصبحت في هذا النظام الاجتماعي الجديد السيادة لصالح الدولة المخزنية بكل أجهزتها، بما فيها النظام الأمني الذي يسعى إلى تثبيت الاستقرار في المجتمع، باعتباره الدور الذي كانت الزاوية تقوم به في النظام القبائلي. إن الحيلة التي وظفتها الدولة في الإطاحة بالتنظيم القبائلي مكنه من إلقاء منفذ للإطاحة بالزاوية. فقد كانت للدولة علاقة وطيدة بالزاوية انتهت بخضوع الزاوية لسلطة الدولة، حيث يؤكد " جورج دراغ" أن في عهد الدولة السعدية التجأت (الدولة) إلى الصلحاء من اجل تكريس الطابع الشريف للدولة، إذ يظهر خضوع الدولة للزاوية في مسألة توالي الحكم يمر السلاطين من امتحان الصلحاء و شيوخ الزوايا قبل اخذ زمام الحكم، لكن في وقت ستدخل الدولة السعدية في صراع مع الزاوية تنهيه الدولة العلوية بخضوع الزاوية لسلطة السلطان، فلم يبقى للزاوية أي اختيار سوى الخضوع أو النفي أو القتل، فلا تقوم الزاوية بأي نشاط أو تحركاتها إلا بإذن الدولة وبترخيصها . فرغم بقاء هيكل الزاوية إلا و أن دورها المتمثل في الصلح و تجسيد الاستقرار ولى و انقضى منذ عصر دخول الدولة العلوية إلى الحكم.
المراجع :
P.Pascon. « segmentation et stratification dans la societé rurale marocaine »,in actes de durham, B.E.S.M, 1979,pp.105-119.1-
2- عبد الله حمودي، " الانقسامية و التراتب الاجتماعي و السلطة السياسية و الولاية: تاملات حول مقولات كيلنير " مجلة دار النيابة ، السياسة الثانية،العدد الخامس ، شتاء 1985، ص.38.
3- نور الدين الزاهي، المدخل الى علم الاجتماع المغربي. دفاتر وجهة نظر، الطبعة الاولى، 2011. ص 132-133 .
4- المسند الصحيح الحسن الباب 42 الفصل الرابع.
Magali Morsy : les Ahnsals. Examen du rôle historique d’une famille maraboutique de l’Atlas Marocaine, Paris, Mouton, 1972. P 5 -6.5-
Ernest Gellner. Les saints de l’Atlas, éditions Bouchene, collection interieurs du Maghreb, décembre 2003. – 6
Ernest Gellner.ibid. 7-
8- انظر كتاب، René GIRARD, La violence et le sacré, Editions Grasset, 1979
9- نوردين الزاهي، نفس المرجع، ص 48-49.