لعلني أشعر بسعادة تأمل الموجودات الجميلة من حولي، غير أنه، ولأنني أحس بمقابل امتلاء النفس بسعادة الحياة، أشعر بحزن فقدان تلك الحياة (...)
سيستمر العالم في مغامرته دون أن نعرف إن كانت نحو مصير الزوال أو الميلاد المتجدد،
وأنا أشعر بالأسى لأنه لا يمكنني معرفة ما الذي ستفضي إليه الأزمات الهائلة التي تتعرض لها الإنسانية، وأخاف بأن تصير إلى مرحلة تراجعية طويلة، بقدر معرفتي بأن اللاّمتوقع يمكنه تحويل كل شيء إلى الأفضل كما إلى الأسوأ .
بالفعل فأنا لا أعرف حقيقة ً لماذا صرت شخصا معمّرا وبلغت المائة سنة. يمكنني على الأقل وضع فرضيتين وتقديم مسألة يقينية .
المؤكد أنني خلال السنوات الأخيرة كنت أفضل، وبامتياز- مع بعض المبالغة الضرورية- التغذية الصحية ، وكلما أمكن من أصل طبيعي، واتبعت نظاما غذائيا متوسطيا(نسبة لمجال البحر المتوسط) منذ طفولتي، أساسه زيت الزيتون، وكنت أتجنب منتوجات الفلاحة ذات المنشأ المُصنّع، كما قمت بالحد من شربي للكحول(...) ولكنني لم أمارس رياضة معينة، عدا نشاطا كثيفا في ركوب الدراجة الهوائية حتى سن الخامسة والعشرين، والمشي طيلة حياتي . أولى فرضياتي ترتبط بنوع من الصمود، والقدرة على التأقلم مع المحن.
لقد قاومت، وأنا جنين في بطن أمي، المواد المجهِضة التي تناولتها بعدما أصابها مرض في القلب، وصارت ممنوعة طبيا من الإنجاب .
مع ذلك جئت إلى الحياة، لكن وأنا أتعرض للاختناق بسبب الحبل السُّرّي الذي التف حولي، وكان الطبيب المختص في الولادة في حاجة لوقت طويل، حسب ما حكاه لي والدي، حتى يتمكن، وهو يشدني من قدمي ،وبفضل ضربات متواصلة، من دفعي إلى إطلاق أول صرخة .
لما بلغت من العمر عشر سنوات، وأنا الطفل الوحيد، صعِقتُ بوفاة أمي التي كنت أحبها وتحبني.
تعرضت سنة بعدها لحُمى قوية، ولمرض غريب، أطلق عليه الأطباء "حمى قلاعيّة" (نادرا ما تصيب الإنسان).
للهروب من شدة حزني لجأت إلى عوالم الأدب، والسينما، والحفلات، والمعارض.
وبالرغبة في الافلات من الحقيقة، اكتشفت عبر تلك التجارب وبصدماتها حقيقة العالم .
أصل هنا إلى فرضيتي الثانية.
لم أتوقف، وإلى غاية مرحلة متقدمة من عمري، من الانشغال بما لا يحصى، وبشغف نَهِمٍ، من فضول الطفولة( يعني أسئلة الطفولة).
لقد احتفظت بطموحاتي لفترة المراهقة، وأنا أفقد في نفس الآن أوهامها . ومنذ بلوغي السنة الثانية والعشرين من العمر انخرطت في حركة مقاومة، واكتسبت معنى المسؤوليات عند الراشد .
عبر الزمن، وإلى غاية الآن، لم تكن لدي ثمة طموحات أخرى سوى الانغماس في عملي(مشروعي) المتعلق بإصلاح المعرفة والتفكير، والرغبة في نشر تلك المعرفة.
وفي نفس الوقت، مع فضولي وشغفي بعملي، فإن الحب والصداقة هما ما كان لهما الفضل في أن أحيا .
إنه البحث عن الخاصية الشاعرية للحياة كما الثورة ضد كل ما فيها من رعب وقساوة، ما صان وجودي كما أنا عليه.
وأخيرا، هو ذا يقيني.
يتحتم عليّ أن أقول بأنه ما كان لي أن أبلغ المئة سنة الحالية من عمري، سوى بفضل الرعاية التي حظيت بها، ومنذ 2009، من طرف زوجتي "صباح" ليظل قلبي شابا، كما شجعتني على متابعة المهمة (الرسالة) التي اخترتها في الحياة، وأنقذتني لأربع مرات من موت شبه محقق بسبب التعرض لنزف دموي و تسمم (تعفن) دموي .
وفي الحقيقة، فإن صمودي، أمام المحن، لم يكن أمرا كافيا. فقد كانت الحاجة على الدوام للآخر/الغير،
منذ طبيب التوليد وإلى غاية الزوجة صباح مرورا بعدد كبير من الذين أحبهم وأحبهن ،حتى أصل إلى هذا العمر.
كتبت "ريتا ليفي-مونتالسيني" الحاصلة على جائزة نوبل للطب(وهي أيضا صارت معمّرة مئوية):
"اِمنَحِ الحياة لأيامك بدل أيام لحياتِك" .
لقد حاولتُ أن أمنح نوعا من الحياة لأيامي...وهو ما لم يمنعني من منح أيام لحياتي.
*عنوان عن المترجم.
نص مختار عن:
Edgar Morin ,Encore un moment... ,2024(p.18-p23).