من أجل اشباع فضولنا المعرفي المتطلع للوقوف على الطريقة التي تناولت بها السوسيولوجيا المعضلة الاجتماعية للفقر تعريفا ومنهجا ونظرية، أقترح تعريب هذه الدراسة ذات الصلة التي أنجزتها ماريز بروسون Maryse bresson، أستاذة علم الاجتماع بجامعة Saint-Quentin-en-Yvelines ونشرت على صفحات موقع إلكتروني بهذا الرابط: https://www.cairn.info/revue-pensee-plurielle-2007-3-page-9.htm.
- مقدمة عامة
إنذا ما صدقنا أعمال المؤرخين حول ظاهرة الفقر، فإننا نجد أنه رافق تاريخ الإنسانية، شكل جزءا لا يتجزأ من الوضع البشري، وهدده منذ الأزل (Geremek, 1987). بيد أن المقاربة السوسيولوجية تميل إلى معارضة هذه البداهة لأن كلمة "الفقر" تغطي مجموعة واسعة من الحالات: من تلك المتعلقة بالفروق في مستوى المعيشة إلى مأساة الفقر المدقع والفقر تحت درجة الصفر. . هل يشكل الفقر مشكلة أبدية للإنسانية، أو وسيلة لطرح مشاكل قديمة، إذن (ربما) متجاوزة؟ السؤال المصوغ هكذا، يسائل عمل التصنيف الذي ينجزه عالم الاجتماع، من خلال استفساره عن أساليبه وفرضياته النظرية.
الفقر كلمة شائعة، في وقت واحد تستعمل ويتنافس عليها الآخرون لوصف وتحليل "مشاكل" أفراد أو جماعات بأسرها في المجتمع. وهي أيضا مقولة للتحليل وموضوع للدراسة في العلوم الإنسانية، على أساسها بنت عدة أجيال من الباحثين، في جميع القارات، قاعدة من المعارف، في مختلف التخصصات: في التاريخ، في الاقتصاد، في الجغرافيا، في علم الاجتماع على وجه الخصوص. في أوروبا، حيث نشأ علم الاجتماع في القرن التاسع عشر، لا يزال بعض كتاب هذه الفترة يشكلون اليوم مرجعيات لا يمكن إهمالها عندما يتعلق الأمر بالفقر: على سبيل المثال، لويس رينيه فيليرمي Louis René Villermé,، عن لوحته التي صور فيها الحالة المادية والمعنوية للعمال في فرنسا (1840)، أو جورج سيمل Georg Simmel عن أطروحته حول الفقراء في ألمانيا (1908). فيما بعد خفت حدة السؤال .. في سنوات 1960-1970، كان من المسلم به عموما أن هذه "المشكلة" تم حلها في البلدان الغنية النامية، حيث اقتصرت فقط على شكل بقايا من ("العالم الرابع"). وشهدت سنوات 1980 - 1990 عودة الفقر بقوة باعتبارها قضية الساعة، اجتماعية وسوسيولوجية على حد سواء. وفي السنوات الأولى من الألفية الثالثة، ساهمت التغطية الإعلامية لبؤس المشردين، وتسليط الأضواء على وجود "عمال فقراء" في تبرير عودة الفقر، ما أدى الى الوعي بآخر التطورات. المناقشات حول الفقر بين الباحثين والملفات الخاصة به في المجلات تضاعفت من جديد .
يجب أن نضع هذه العودة موضع تساؤل. ألسنا بصدد نسيان أوجه القصور النظرية والمنهجية للمفهوم، والتي أبرزها الكتاب المؤلفون.. ندد سيرج بوغام Serge Paugam، الذي نشر في 2005 كتابا بعنوان "الأشكال الأساسية للفقر"، بمفهوم قبلي ودعا إلى تجاوزه عام 1991 في كتابه عن "انعدام الأهلية الاجتماعية: دراسة حول الفقر الجديد". واليوم، بعدما صارت أي إشارة إلى "الجدة"، متجاوزة فإن مقولات أخرى أكثر "حداثة" قد تبدو مفضلة: الهشاشة على وجه الخصوص (Bresson, 2007).
في مرحلة أولى، سنشرح أسباب الاحتفاظ بحذر حيال استخدام هذه المقولة، مع التذكير بالانتقادات المنهجية التي يمكن أن تتعرض لها. من زاوية نظرية، سوف نؤكد أن الأمر يتعلق بوسيلة لطرح مشاكل اجتماعية، من بين وسائل أخرى - هناك نماذج إرشادية أخرى في علم الاجتماع، مثل التهميش أو الهشاشة.
وفي مرحلة ثانية، سنجادل من ناحية أخرى لتبرير راهنية هذه المقاربة، بشرط أن نتساءل بالتحديد عن الأشكال الخاصة التي تأخذها في المجتمعات المعاصرة. وسندعو إلى اعتبار أن الفقر و / أو التفقير يشكلان على وجه التحديد خطرا كبيرا يرتبط اليوم بالهشاشة، في وقت لم يعد فيه أحد يؤمن بالتقدم الاجتماعي بوصفه الأفق الطبيعي لمجتمعاتنا.
1- الفقر، مقولة معرضة للنقد
كان علم الاجتماع منذ بدايته مهتما بالفقر - ألم يعتبر تفقير العمال في القرن التاسع عشر المسألة الاجتماعية الرئيسية التي تهدد أسس المجتمع الرأسمالي والجمهورية كليهما؟ ومع ذلك، فإن التماسك الاجتماعي أو المنطق العام للنظام الاقتصادي والاجتماعي وطفراته استرعت أنذاك على وجه التحديد المزيد من اهتمام الكتاب الكبار. وفي القرن العشرين، عندما انقسم العلم إلى تخصصات وجزأ الواقع إلى فضاءات مفتوحة، لم يجعل الفقر واحدا من "حقوله". وفي هذا الإطار العام يطرح السؤال: ما هو الفقر بالنسبة لعالم الاجتماع، أي: ما هو معناه وما سبب استخدام أو عدم استخدام الكتاب لهذا المصطلح؟
1.1- الفقر، مفهوم قبلي
الفقر يفرض ذاته أولا كقضية اجتماعية، قبل أن يكون مسألة سوسيولوجية. لقد كان من الوضوح بمكان في فرنسا القرن التاسع عشر. في عام 1840، وصف فيليرمي، في لوحته عن العمال، ما اكتشفه من خلال زيارته للأسر؛ وأدى البحث الذي ساهم به وظيفة الإدانة لأن الفقر يحيل على أوجه قصور متعددة، يكفي تسجيلها. كان العمال يئنون تحت وطأة ظروف سيئة في عملهم وفي معيشيتهم. وكثيرا ما كانوا يعيشون في أحياء فقيرة غير صحية، النقود التي كانوا يكسبونها تكفيهم بالكاد لتناول الطعام مع أفراد أسرهم. كانوا يقومون بعمل شاق وخطير، ومع ذلك كان راتبهم لا يكفيهم. لكن الواقع بالنسبة لعالم الاجتماع لا يقدم ببساطة ليتم "النظر" اليه، بل يتعين أن يكون موضع سؤال انطلاقا من عمل فكري وبحثي.
لذلك كان من المهم تعريف الفقر. الفكرة التي تتبادر إلى الأذهان هي: الفقر مرتبط بتدني الدخل. لكن هذا التعريف يتعين نقده وقد تم ذلك بحق في علم الاجتماع. في الواقع، ماذا تعني مداخيل متدنية؟ إذا ما تم تطبيق هذا التعريف للفقر على المجتمعات المعاصرة، الغنية والنامية، فلا بد أن نتقبل تعريفا نسبيا، سواء في زمان أومكان الفقر. كان النقاش حول الفقر المطلق أو النسبي مهما في الستينيات والسبعينات. غير أن هذا التمييز، بعيدا عن تذليل الصعوبات، طرح مشاكل جديدة، أمام تحديد المجموعة المرجعية. في أمريكا الأخرى خلال عام 1967، اعتبر مايكل هارينغتون Michael Harrington أن أمريكيا واحدا فقير "هنا" (يعني الولايات المتحدة)، "اليوم" ( لحظة كتابته ). وبعبارة أخرى، اختار الإطار الجغرافي للدولة؛ ولكن بالنسبة للبعض، فإن هذا الإطار محدود للغاية، ولا يجوز لنا أن نتكلم عن الفقراء في البلدان المتقدمة، إذا قارناها مع البلدان السائرة في طريق النمو. وبما أنه ضيق جدا بأحد المعاني ، يبدو إطار الدولة واسعا جدا: جورج سيمل قد جادل بأن الفقر، كعرض أو عار، يثير ردود فعل فورية من الجماعات المحلية (Simmel, 1908)..
ساهمت الصعوبات التي اعترضت اقتراح تعريف دقيق في اعتباطية مقاييس الفقر. وإذا تكلمنا عن الفقر المطلق، علينا أن نقيس الفقر عند أدنى مستوى، وهو ما يتطابق، على سبيل المثال، مع الحد الأدنى لكي نتمكن من إطعام أنفسنا. ولكن هناك احتياجات أساسية أخرى (السكن على سبيل المثال). كيف نقوم بقياسها؟ في الولايات المتحدة، يتم بشكل اعتباطي تحديد مستوى معين من الدخل، محسوب بالدولار، ويعاد تقييمه كل عام. وفي أوروبا، يستخدم مفهوم عتبة الفقر لتحديد الفقر النسبي واحتسابه. وتقتضي الطريقة تحديد متوسط للدخل، وهو انزياح عن المعدل. ولكن، انطلاقا من أي انزياح نكون فقراء؟ من النصف، من 60٪ من متوسط أو معدل الدخل؟ وفي جميع الحالات، تعتبر هذه المقاييس مواضعاتية، أذن مشكوك فيها. وبالإضافة إلى ذلك، فإن اختلاف المواضعات بحسب الأمصار يجعل من الصعب إجراء مقارنات دولية. وفي الوقت نفسه، فإن هذه المشاكل المنهجية المثارة عند دراسة السكان الذين يعتبرون "فقراء" من خلال الإحالة إلى مستوى دخلهم لا زالت تثير المزيد من الانتقادات: هل الفقر مجرد مسألة مداخيل؟ إذا أردنا أن نجيب بالنفي، يبقى الحل الأكثر شيوعا هو إجراء تجميع المتغيرات، من خلال ربط الدخل بالتعليم والصحة والإسكان ...عندها يصبح الفقر تراكما من الإعاقات. ولكن يبقى السؤال مفتوحا عن أهمية المعايير المختارة، المرفوضة، ووزن كل واحد من هذه المعايير في تحديد السكان الفقراء، وعن دلالة العلاقات بين هذه المعايير ...
يطرح الفقر إذن مشاكل منهجية رهيبة أمام تحديد، أولا، الأشياء التي يكون الأفراد محرومين منها؛ وثانيا، انطلاقا من أي درجة من الحرمان هم فقراء. هذه العناصر تسهم في توضيح وتبرير التشخيص الذي وضعه سيرج بوجام. في كتابه عن "انعدام الأهلية الاجتماعية: دراسة حول الفقر الجديد"، ويذكر هذا المؤلف المعاصر بأن الفقر لا يزال، على الرغم من جميع الأعمال التي أنجزت، "مفهوما قبليا" لأنه إذا كانت مشكلة تعريف الفقر قد طرحت حقا في علم الاجتماع، فلم يتم حلها. ثم زاد قائلا: "هناك مفارقة: لا يمكن للباحثين في العلوم الإنسانية أن يقيسوا بشكل يشفي الغليل ظاهرة يبدو تعريفها واضحا للرأي العام والتي، بالإضافة إلى ذلك، تعبئ طاقة العديد من المؤسسات والجمعيات " (Paugam, 1991, 19-20).
1.2- الفقر، نموذج إرشادي ضمن نماذج أخرى
في علم الاجتماع (تماما كما هو، بشكل ضمني، في اللغة اليومية)، الفقر هو أولا وقبل كل شيء نموذج إرشادي، طريقة معينة لمعالجة مشاكل السكان، تفترض فكرة الحرمان، النقص، المادي بالأساس.
ولذلك فإن هذه المقاربة، الكلاسيكية والمتكررة، يتعين مناقشتها أيضا.
هذه المقاربة النظرية يمكن أيضا، والحالة هاته، الطعن فيها، كما يتضح من برهان ذي حدين على ثقافة الفقراء. وقد انتقد أوسكار لويس Oscar Lewis، في الستينيات، المسلمة المتمثلة في تحديد الفئات الاجتماعية بواسطة فكرة النقص، وأشار إلى أن عائلة سانشيز في الأرجنتين على سبيل المثال كانت لديها أيضا ثقافة "إيجابية" مع نمط من السلوك وتقليد معين ينتقل من جيل إلى جيل (Lewis, 1961). إن رفض تحديد فئة انطلاقا من فكرة النقص، ما ينسب لها هوية سلبية، هو ما تطالب به اليوم حركة ATD Quart Monde .
بطريقة تكاملية، من المهم التأكيد على أن هناك طرقا أخرى لمعالجة المشاكل الاجتماعية. إيميل دوركايم (1857-1917) Émile Durkheim ساءل التضامن الاجتماعي ("ما يجعل الناس تعيش سويا"). مع هذا المقاربة، فإن العمال، وإن كانوا فقراء، قد أدمجوا في التضامن "العضوي" عن طريق التكامل، والمشاكل الاجتماعية التي حددها هذا المؤلف كانت بشكل متزايد بمثابة عيوب (أو نادرا نتيجة إفراط) في إدماج الأفراد في مجموعة، فضلا عن عيوب الضبط (أو التنظيم) الاجتماعي - علة اللانظامية. وهناك مقاربة أخرى، بعد عام 1945، عندما كانت المدرسة الماركسية مهمة جدا، تساءل معظم علماء الاجتماع الفرنسيين عن التفاوت بين الطبقات. ومع ذلك، في خطاطة المجتمع الطبقي، لا يتدخل الفقر كمقولة (باستثناء البروليتاريا المكونة من المهاجرين السريين). تقتضي منهجية دراسة السكان مقارنة الأطر العليا بالعمال، ولكن العمال هم رموز "الطبقة الشعبية"، فهم ليسوا فقيراء (إلى جانب ذلك، وقع في وقت مبكر من سنوات الستينيات الحديث عن تبرجز العمال، عن الطبقة العاملة الجديدة التي أدمجت تدريجيا في الطبقة الوسطى العريضة). لا تزال هناك نماذج أخرى تجعل من الممكن معالجة "المشاكل الاجتماعية" في علم الاجتماع، مثل الهامشية والانحراف، التي هيمنت على مناقشات مدرسة شيكاغو في سنوات 1920-30 بالولايات المتحدة، والتي يتم تعبئتها حتى اليوم، تقريبا كلما طرحت مسألة الضواحي الحساسة وأعمال شغب حضرية، على سبيل المثال (Beaud et Pialoux, 2003 ; Le Goaziou et Mucchielli, 2006). في هذا النموذج النظري، يتم تحديد السكان عن طريق الانحراف عن المعيار، والانتهاك، وحتى العنف، أو الإقامة في الأماكن المهجورة. أخيرا (ولكن هذه القائمة لا تدعي هنا أن تكون شاملة)، ظهر نموذج إرشادي آخر في فرنسا في الآونة الأخيرة: هو نموذج الهشاشة، الذي يبدو مناسبا بشكل خاص لوصف وتحليل التحولات في سوق العمل، وعلى نطاق أوسع ، في المجتمع المعاصر. في هذه الظروف، فإن السؤال الذي سنطرحه هو كالتالي: الفقر، كمفهوم تعرض للنقد، ومثير للجدل، ونموذج من بين نماذج أخرى، هل هو اليوم مسألة سوسيولوجية قديمة؟
2- الراهنية الاجتماعية والفائدة النظرية للمسألة
الأطروحة التي سندافع عنها هنا هي أن الفقر هو في الواقع مسألة رئيسية لا يمكن أن يستخف بها كاتب باحث يرغب في فهم معنى التحولات الحالية في المجتمع، ومن ثم فهو مشكلة سوسيولوجية كبرى سيكون علماء الاجتماع على خطأ إن هم أهملوها، وعليهم، بخلاف ذلك، أن يعيدوا إدماجها في كل تحليلاتهم ل(ما بعد) الحداثة.
1.2- الفقر، قضية اجتماعية لا مناص منها
لفهم ما أسماه دانيلو مارتوتشلي Danilo Martuccelli على سبيل المثال ب"الهيمنات الاعتيادية" وإجراء "استكشافات للوضع الحديث" (2002)، لا يمكن لعالم الاجتماع المعاصر أن يتجاهل مسألة الفقر. والواقع أن حالة نقص (الدخل بوجه خاص) كانت ولا تزال حاليا مسألة اجتماعية .
من البديهي أنه ليس من المجدي أن نذكر بأن الفقر يبقى القاسم المشترك للبشرية. وحتى إذا كان من الواضح أن المعطيات بالأرقام والمقارنات قد انتقدت ولا زالت قابلة للنقد، فإن تقرير الأمم المتحدة لعام 2001 قد قدر، على سبيل المثال، أن ما يقرب من نصف البشرية لا يزال يعيش تحت وطأة الفقر. وفي البلدان ذات الدخل المنخفض، التي بلغ عدد سكانها 2.5 مليار نسمة، يموت أكثر من مائة من كل ألف طفل، ولا يزال أربعة من كل عشرة أطفال يجهلون القراءة والكتابة ... وحتى في البلدان الغنية، يكون الفقر كثيفا، ونادرا ما يكون على شكل بقايا. فبينما أعاد المراقبون في الثمانينيات اكتشاف ما أسموه ب"الفقر الجديد" في البلدان الغنية النامية، ، أصبحت الظاهرة اليوم تفرض ذاتها على نطاق واسع، إلى درجة أن الصفة "الجديدة" نفسها عفا عليها الزمن. في ما وراء المحيط الأطلسي، وفي كل مكان من أوروبا، أيضا هناك "عمال فقراء" « working poors » ومشاكل حضرية. وعندما اقترح سيرج بوجام "تشخيصا واضحا" للفقر في أوروبا قام بترتيب تعدد الحالات من خلال التمييز بين ثلاثة أشكال معاصرة. فالفقر المندمج يترجم هيئة يشكل فيها الفقراء عددا كبيرا، ولا يختلفون كثيرا عن قطاعات أخرى من السكان (كما هو الحال في بلدان الجنوب). ويشير الفقر الهامشي إلى هيئة مختلفة يشكل فيها أولئك الذين يطلق عليهم اسم "الفقراء" مجموعة صغيرة من الناس، ملغاة أحيانا، ضحية ل"حوادث الحياة". ويعكس الفقر الاقصائي هيئة يكون فيها "الفقراء"، الذين يزداد عددهم، مستبعدين من مجال الإنتاج. توجد اذن علاقة اعتماد متبادل بين الفقراء والمجتمع الذي يعانون فيه، بالأخص، من ضعف الرابطة الاجتماعية الذي يميزه (بوجام، 2005).
يعرض هذا التحليل الاهتمام بإبراز الواقع الاجتماعي والسياسي لمشكلة الفقر. وهو يساعد في الوقت نفسه على قياس التمايز بين الحالات المعنية بفكرة الفقر ومراعاة في آن واحد ما هو مشترك بين الحالات وما هو خاص بالنظر الى المستوى الاقتصادي للبلد وثقافته و والاستجابات المؤسسية المقترحة. وأخيرا، فإنه يدعونا، وهذا ما نود أن نؤكد عليه الآن، لإقامة علاقة مع طريقة أخرى لتناول المشاكل الاجتماعية، حول أفكار الروابط الاجتماعية والهشاشة على وجه الخصوص.
2.2- الفائدة السوسيولوجة من الربط بين مسألتي الفقر والهشاشة
إن راهنية المسألة الاجتماعية للفقر لن تكون كافية لنجعل منها مسألة سوسيولوجية هامة. ولكن ما نريد أن نبينه هنا هو أن المقاربة النظرية الخاصة بالسكان من خلال النقص هي مفيدة ومهمة على حد سواء لتحليل تحولات المجتمع المعاصر.
ومع ذلك، فقد اختار العديد من المؤلفين المعاصرين، وخاصة في فرنسا، بناء موضوع آخر للدراسة من أجل أخذ المشاكل الاجتماعية المعاصرة بعين الاعتبار. وهذه طريقة أخرى لطرح المشاكل، أكثر حداثة، تبدو أنها مفروضة، وتنص على أن المشاكل الاجتماعية، ولا سيما المشكلة الرئيسية للمجتمع، ليست ناجمة عن وضعية النقص بل بالأحرى عن الهشاشة، بمعنى ظاهرة عدم اليقين المعمم التي تؤثر اليوم على الروابط الاجتماعية وتساهم في إنتاج أفراد يعانون (Bresson, 2007).
إن ما نقترح تسميته بنموذج الهشاشة في علم الاجتماع يقوم على فكرة التغيرات العميقة في المجتمع. وترتبط الاضطرابات بالحداثة، بالعولمة الاقتصادية، بعمليات التفردن. ولكن إذا كانت هذه المسلمة مشتركة، هناك من جهة أخرى نقاشات حول نطاق التغيير: هل يتعلق الأمر بتعميق الحداثة أم بتغيير حقيقي في المجتمع؟ وبالإضافة إلى ذلك، توجد خلافات في علم الاجتماع حول التقدير الإيجابي أو السلبي عموما لهذا التطور. ومن الناحية التخطيطية، يعتبر تيار التحليل الأول أن المجتمع الحالي يسير على طريق ما بعد الحداثة، أو على طريق حداثة أخرى، ما يشكل فرصة (إن لم تكن أكثر) من مشكلة. ويشير أولريش بيك Ulrich Beck إلى أن المعركة من أجل الخبز اليومي في الدول الغنية قد فقدت ملحاحيتها، وتوقفت عن أن تكون مشكلة مركزية. ولذلك فقد فقدت عملية التحديث أيضا شرعيتها السابقة القائمة على مكافحة الندرة وأصبحت "منعكسة": فنحن لا نعيش في عالم أكثر خطورة من ذي قبل، ولكننا ندرك أن التطور العلمي - التقني يزيد من المخاطر الشخصية التي يتعرض لها الفرد، الأمر الذي يظهر لنا توزيع المخاطركقضية مركزية جديدة. ومع ذلك، فإن "مجتمع المخاطر" له العديد من المزايا، بما في ذلك "تحرير" الأشكال الاجتماعية للحضارة الصناعية: الطبقة، الأسرة، الوضع الجنسي. الضوابط الاجتماعية تخففت، مما سمح للفرد بالتحرر . وفي الوقت نفسه، يواكب التحديث عملية التفردن على نطاق وبكثافة لم يسبق لهما مثيل، حيث أن كل واحد يعاد إلى نفسه ومصيره الفردي، ولا سيما في سوق العمل (Beck, 2001). بموجب هذا التأويل، فإن عدم الاستقرار محايث للديناميات الاجتماعية والسياسية للحداثة. وهو يسير جنبا إلى جنب مع النزعة الفردية التي تكون، أو قد تكون إيجابية. وبالمثل، فإن اكتساب الحرية للأفراد يسمح لهم أيضا بإقامة روابط جديدة وعلاقات اجتماعية جديدة (Singly, 2005)..
ومع ذلك، هناك اتجاه تحليلي آخر في علم الاجتماع يؤكد على الجوانب السلبية للتغيير. وفيما يتعلق بالمسألة الاجتماعية، كما طرحت في القرن التاسع عشر، فإن عدم اليقين يحمل تهديدا جديدا يضغط على المجتمع. بوصفه مرجعا رئيسيا لهذا النموذج من التأويلات، وصف روبرت كاستيل Robert Castel في كتابه " استحالات المسألة الاجتماعية" الاهتزاز العميق ل"حضارة العمل" بأسرها، التي تعززت تاريخيا في ظل العمل المأجور. يشير مصطلح "العمل المأجور" إلى الصلة بين عقدة العمل والحقوق المرتبطة بها، بما في ذلك الحماية الاجتماعية. مع تعدد الأشكال الخاصة للعمل، أصبح مستقبل هذا الصرح كله من الآن عشوائيا. وهناك ضعف جماعي يتطور، مما جعل الهاجس الشعبي القديم لكسب لقمة العيش "يوما بعد يوم" يطفو على السطح (Castel 1995). هذا التحليل يسير جنبا إلى جنب مع تشخيص اضعاف معمم للرابطة الاجتماعية. ويؤكد مؤلفون آخرون على تدهور حالة الشغل والعمل بالنسبة لأفراد أو مجموعات بأكملها. هكذا نجد أن ريتشارد سينيت Richard Sennett ميز بين نمطين من الشغل: نمط مختف - خاص بالمنظمات الصلبة والهرمية حيث كان من المهم قبل كل شيء أن يزدهر العامل في عمله - ونمط جديد من إعادة هيكلة المقاولاات، والمخاطر، والمرونة، والعمل ضمن شبكات: اليوم، أصبح قصر مدة العمل وانعدام الأمن هما القاعدة (Sennett, 2000). . فالفكرة القائلة بأنه الى جانب نمط العمل المأجور والمحمي تشكل عالم بأكمله من عدم الاستقراروالهشاشة غذت الدراسات المتعلقة بسوق العمل المزدوج، بثنائية المجتمع، بالمعارضة بين المدمجين والمستبعدين. هذا هو الجانب المظلم من الحداثة.
وهذه الظاهرة، في سياق العولمة، ليست فريدة من نوعها بالنسبة لفرنسا. ولكنها تقدم على أنها سلبية عندما يصر المؤلفون على الصعوبات المتزايدة التي يواجهها السكان الموجودون على وجه الخصوص في الجزء السفلي من السلم الاجتماعي. وهنا تثار مسألة الصلة بالفقر. ولفهم المعنى (أي المعنى والاتجاه المختار) لعدم اليقين المعمم الذي يميز المجتمع اليوم، من الضروري التساؤل عن الربط بين انعدام الأمن والفقر. - فالفقر، من وجهة النظر هذه، لا يقتصر على حالة فئات معينة من السكان، بل هو أيضا تهديد محسوس به على نطاق أكثر اتساعاا. إن نهاية الاعتقاد بالتقدم الاجتماعي تدعونا أيضا إلى التساؤل عن التفقير، أي خطر أن نصبح "أفقر" من ذي قبل، على مستوى الحياة، أو على مستوى الأجيال - حركة لا تستثني أحدا وتؤثر على الطبقات الوسطى بالأخص، ضحايا "أعطال" المصعد الاجتماعي (Chenu, 2006). وبعبارة أخرى، من الضروري الجمع بين التفكير في الهشاشة والتفكير في الفقر، وعدم الاقتصار على التجريد فيما يخص المظاهر الإيجابية والسلبية من عدم اليقين والاستقلالية، والاحتماء من رؤية ساخرة جدا ل(ما بعد) الحداثة.
- خاتمة
في هذه المقال القصير، أردنا أن نعود إلى المصير المفرد للمقولة الاجتماعية والسوسيولوجية "للفقر" التي، دون أن تختفي تماما، قد تبدو في بعض الأحيان متجاوزة وتظهر (أكثر من أي وقت مضى؟) ذات راهنية.
والخيط الناظم للتفكير المقترح هو أنه سيكون من الخطأ التعامل مع الفقر على أنه مجرد حقيقة حزينة أو أبدية أو على الأقل متكررة. والواقع أننا شددنا على أن الفقر هو أولا وقبل كل شيء وسيلة لطرح المشاكل التي يجب التذكير بمساهماتها وحدودها ومناقشتها من أجل إحراز تقدم في معرفة المجتمعات المعاصرة. ومن وجهة النظر هذه، دعونا على وجه الخصوص إلى الاشتغال على الربط بين الفقر والهشاشة.
ونحن، من جانبنا، لا نعتبر الفقر مشكلة أبدية ومتكررة؛ ولا مسألة سوسيولوجية متجاوزة. ولكن الأمر يتعلق بطريقة لطرح المشاكل، طريقة كانت ولا زالت اليوم خصبة، لا سيما إذا تقاطعت مع مكتسبات الأعمال والتأملات المعاصرة حول الهشاشة والرابطة الاجتماعية.