حصيلة القول إن العولمة الثقافية تحاول بما أوتيت به من قوة تقانية وإعلامية اكتساح التاريخ العربي وتنميطه حسب توجهاتها، مما يعني إمكانية اختراقه تمهيدا لإقحامه ضمن ثقافة تجارية تتحكم فها الشركات الكبرى إذا لم يسع المؤرخ العربي إلى تخليصه من أوحالها،
إذا كانت العولمة قد بدأت في عقد التسعينات من هذا القرن كمفهوم اقتصادي يقوم على مبدإ توحيد الأسواق ورفع الحواجز والقيود أمام الشركات الاقتصادية العملاقة المتعددة الجنسيات، والسماح بسيولة السلع والبضائع عبر أرجاء المعمور، فإن أثرها سرعان ما امتد إلى الفضاءات السياسية والاجتماعية والثقافية؛ وهذا الفضاء الأخير هو الذي يعنينا في الورقة باعتبار أن حقل التاريخ يعد إحدى واجهاته الأساسية. فما هي إمكانات تأثير العولمة الثقافية في مجال التاريخ العربي؟ وما هي الظرفية التي تؤطر موقف المؤرخ العربي في تعامله معها؟ وما هي الاستراتيجية المستقبلية لمواجهتها أو التفاعل معها؟ تلك جملة من الأسئلة التي يطمح هذا البحث إلى إثارتها ومحاولة الإجابة عنها.
المؤرخ العربي وظرفية تحديات العولمة الثقافية:
لا مراء في أن الواجهة الثقافية تعتبر أخطر الواجهات المعرضة لرياح التغيير التي تفرضها العولمة، نظرا لما أصبحت تمارسه الثقافات الأجنبية من تأثير واضح على الثقافات المحلية، وما يتمخض عن ذلك من سيولة في الأفكار والإيديولوجيات، وانتشار سريع ومدهش للمعلومات عبر الصور السمعية-البصرية والوسائل الإلكترونية.
في ظل هذه المتغيرات ذات الإيقاع السريع، صار من المتوقع أن يتأثر التاريخ العربي ومعه الهوية التاريخية العربية لاختراق خطير إذا لم يتم رسم منهج قادر على الجمع بين التصدي للعولمة وإيجاد منافذ سليمة للتفاعل معها في الوقت نفسه بوعي وتبصر. ومن هنا تبدأ مهمة المؤرخ العربي ودوره في مواجهة أخطار التحولات التي قد تصيب التاريخ العربي من جراء هيمنة العولمة، كما ينعكس دوره أيضا في إيجاد صيغ علمية ومعقولة للتفاعل معها.
وفي سياق هذه الثنائية من المواجهة والتفاعل، لا بد من تحليل الظرفية التي يتحرك فيها المؤرخ العربي والأرضية التي تشكل منطلقه، وفي هذا المنحى يمكن تسجيل الملاحظات التالية:
1 – إن تحديات العولمة للتاريخ العربي جاءت في وقت لم يصف المؤرخ العربي معركته بعد مع مخلفات التاريخ الاستعماري الذي يزخر بالتحريفات، وينطق بمنظور المحتل. فالمعركة لا تزال مشتعلة بين النظريات التي طبخها أساقفة المؤرخين الغربيين، ومحاولات المؤرخين العرب دحضها وإبراز قصورها، لكن نقطة النهاية لم توضع بعد. ولذلك يمكن القول إن تحديات العولمة تأتي في وقت لا يزال المؤرخ العربي يعاني من الإنهاك نتيجة معاركته للتاريخ الاستعماري، وهي بذلك تفتح ضده جبهة ثانية عن طريق فرض "تاريخ كوني" يسعى إلى تجاوز الهوية العربية وإلغاء خصوصيتها.
2 – ومن أسف إن التاريخ الاستعماري نجح في اختراق جوانب من المنظومة الحضارية العربية، وهو ما يؤكده وقوع بعض المؤرخين العرب أحيانا عن غير قصد في مسلكيات توجهاته فكرا ولغة، باستثناء الفرقة الناجية منهم. معنى ذلك أن المؤرخ العربي يدخل المعترك مع أو ضد العولمة في وقت صار الاختراق الثقافي واقعا ملموسا، وأصبح الاستلاب الفكري نغمة متواترة ومألوفة تتم تحت سمع وبصر العالم العربي.
3 – إن المؤرخ العربي في مواجهته للعولمة يخوض معركة غير متكافئة بالمرة، فأرباب النظام الجديد نجحوا في تجييش كل الوسائل الإعلامية المرئية والمقروءة وكافة أشكال الاتصالات الإلكترونية والفضائيات القادرة على غزو العقول وتدميرها، والرسائل والصور الكفيلة باختراق المسافات البعيدة لخدمة توجهاتهم، ناهيك عن الإمكانات المادية الضخمة والتقانة العالية الذكية التي تسهل من مأموريتهم، في حين لا يزال المجتمع العربي يعيش على النمطية التقليدية والإرهاب الفكري والانقسام على مستوى الخطاب السياسي والثقافي، والتخلف الاقتصادي، ولا يزال قابعا في مستوى الهامش المستهلك لمنتوج الآخر، المرتمي في حمايته أحيانا..
4 – ثقافيا، لا يختلف اثنان في أن المؤرخ العربي ينتمي إلى عالم لا يزال يعيش فراغا ثقافيا، ولم يفلح بعد في بلورة مشروع حضاري تاريخي عربي، كما أنه لا يزال يعيش صراعا مع ذاته لتحقيق هويته ونظرته للمستقبل. وقد استغلت أمريكا هذا الفراغ الثقافي لتمرير مخططات العولمة، كما استغلت أيضا نتائج هذا الفراغ على نفسية المؤرخ التي أصيبت بالإحباط لفرض صيغ جاهزة، ما عليه إلا قبولها كما هي مملاة عليه.
5 – لقد جند دهاقنة العولمة مفكريهم لترسيخ معتقدات وهمية تسعى إلى تحطيم روح المقاومة لدى مؤرخ العالم الثالث، وتبشر بانتصار النظام الرأسمالي على حساب كل الأنظمة السائدة، وضد أي تطلع يروم تأسيس مشروع ثقافي، وكأن أمركة العالم أصبح قدرا لا مفر منه، وهذا ما يفسر ما روج له بعض منظري الرأسمالية الجديدة من أمثال فوكوياما لأفكار تؤكد نهاية التاريخ التي هي –في زعمهم- نتيجة حتمية وتتويج لانتصار الليبرالية الرأسمالية. كما وأنها تمثل محاولة لشل أي اجتهاد يأتي من قبل المؤرخ المنتمي للعالم الثالث.
6 – استغلت الولايات المتحدة تفوقها المادي والتقني والمعلوماتي لتصيغ نمطا ثقافيا له قيم ومعايير خاصة يسعى إلى تدجين الشعوب وفرض وصاية ثقافية عليها، ومن ثم فإن هذا القالب المفروض يشكل عدوانا على مثقفي العام الثالث بمن فيهم المؤرخ العربي الذي يشعر أن تاريخه يتعرض للتزييف والمسخ بمجرد إقحامه بطريقة تعسفية فيما يعرف "بالتاريخ الكوني" دون مراعاة للخصوصيات المحلية والقسمات الخاصة.
7 – وأخيرا فإن مهمة المؤرخ العربي تجاه تحديات العولمة تأتي في وقت حرج للغاية، عرف إبانه العالم العربي –ولا يزال- شرخا عميقا وانقساما حادا بعد حرب الخليج وما خلفته من آثار سلبية لا على الوحدة العربية فحسب، بل حتى على العواطف والسلوكات بين المؤرخين العرب أنفسهم، لذلك لا غرابة أن يمس هذا الانقسام اتحاد المؤرخين العرب كهيئة ثقافية كان من المفترض أن تكون قوة فاعلة لمواجهة أثر العولمة على التاريخ العربي، بيد أنه نحا للأسف نحو منحى التشرذم فأصبح اتحادان! مكرسا بذلك ظاهرة التشتت والانقسام.
هذه هي الظرفية العامة التي تؤطر فعل المؤرخ العربي وتحدد مهماته في مواجهة العولمة وآثارها على أي مشروع لكتابة التاريخ العربي في ضوء الثورة المعلوماتية، فما هو الموقع الذي ينبغي أن يحتله هذا التاريخ في ضوء الواقع المفروض؟
العولمة والعالمية وموقع المؤرخ:
قبل إبراز الاختيار الصعب الذي يتبناه المؤرخ العربي بين مقولتي العولمة والعالمية لا بد من التمييز بين المقولتين لصياغة مشروع تاريخي عربي مبني على أساس من الوعي المنتج يتماشى مع ما يحافظ للشعوب العربية على هويتها. فما المقصود بالعولمة وما الفرق بينها وبين العالمية؟
تعني العولمة من الناحية اللغوية تعميم الشيء وتوسيع دائرته ليشمل أرجاء العالم برمته. أما من الناحية الإيديولوجية فالعولمة هي تعبير مباشر عن إرادة الهيمنة على العالم وأمركته.
وترجع بداية ظهور هذا المصطلح إلى نهاية عقد الثمانينات بعد انهيار حائط برلين وانهيار قلاع الشيوعية، وإعلان الولايات المتحدة الأمريكية ما يسمى بالنظام العالمي الجديد. وفي سياق تكريس القطب الأمريكي الأوحد وتحكمه في مصائر العالم، أعلن في مرحلة تالية ما يسمى بالعولمة أو الكوننة أو الكوكبة وكلها مترادفات تشير إلى نفس المعنى.
على أن العولمة وإن لم تظهر قبل عقد من الزمن كمصطلح في الأدبيات السياسية الاقتصادية والثقافية، فإنها ظاهرة قديمة يمكن إرجاع جذورها حسبما يقرره "روبرستون" إلى فترة ظهور الدولة القومية، كما تعود إلى المرحلة الاستعمارية وتكون الرأسمالية. لذلك يمكن الجزم مع بعض الباحثين أنها تجسد اليوم التعبير الصحيح لانتصار النظام الرأسمالي العالمي كونيا، وتمثل الدرجة العليا في علاقات الهيمنة والإمبريالية.
بيد أن سر بروزها بصورة جلية في العقد الأخير يكمن في الثورة العلمية والتقانية وما حصل من تطورات ضخمة في عالم الاتصال، خاصة مع تطور الحواسيب الإلكترونية والأقمار الصناعية وظهور شبكة الإنترنيت.
أما العالمية فهي منظومة إنسانية حضارية تقوم على أساس الحوار مع الآخر، والتسامح مع ثقافته، والتفاعل معه انطلاقا من مبدإ الأخذ والعطاء. كما تعني "الإصغاء المتبادل من سائر الثقافات بعضها إلى بعضها الآخر، والاعتراف المتبادل بينهما، ومنه الاعتراف بحق الاختلاف.. والحوار والتفاهم". وقد كان الإسلام سباقا للدعوة للعالمية، وحسبنا أن القرآن الكريم يحفل بالآيات الدالة على هذا المعنى حيث قال تعالى: "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين" وقوله تعالى: "وما أرسلناك إلا كافة للناس" وغيرها من الآيات التي نلاحظ أنها تركز كلها على الكونية كما تدل على ذلك التعبيرات القرآنية مثل "العالمين" و"للناس كافة" و"للناس جميعا". ولعل أبلغ آية تشير إلى معنى العالمية تتجلى في قوله تعالى: "يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا". فالعالمية من هذا المنظور سلوك حضاري يدعو إلى حوار الثقافات مع الاحتفاظ بالخصوصيات الثقافية، وينحو نحو الأخذ والعطاء من أجل التلاقح والنضج والاكتمال. إنها بتعبير آخر طريقة "الأنا" للتعامل مع "الآخر" واحترام ثقافته وتقاليده، وهو النهج الذي سارت على هديه الحضارة العربية-الإسلامية عندما مدت جسور التواصل والتلاقح مع الحضارات المتزامنة معها كالحضارة الفارسية والهندية واليونانية وغيرها من الحضارات الإنسانية، فكانت عالمية بمعنى الكلمة، تفتح بابها لكل طارق، ولا تغلقه دون قاصد.
ومن خلال عناصر المقارنة يتضح أن ثمة فرق واضح بين العالمية التي دعا إليها الإسلام والمبنية على مبدإ الأخوة، والعولمة التي تحاول الولايات المتحدة الأمريكية طبخ نظرياتها وفرضها على الشعوب بما في ذلك حتى شعوب بعض البلدان المصنعة(*). ويعد تحديد هذه المفاهيم ضرورة منهجية لتلمس الموقع الذي يتموضع فيه المؤرخ العربي مستقبلا، ويحدد موقفا سليما تجاه العالمية كظاهرة صحية تتلاءم ومبادئه، والعلومة كظاهرة ثقافية مفروضة عليه.
الأسس والقيم المعرفية للعولمة تجاه التاريخ العربي: تكامل أم تناقض؟
لا سبيل لإنكار إيجابيات العولمة الثقافية التي سنعرضلها عند ذكر إمكانية استفادة التاريخ العربي منها، لكن يجب تفحص الأسس والقيم التي يتأسس عليها كيان العولمة ومنظوراتها للنظام الثقافي، لنناقش بعد ذلك مدى تطابقها مع قيم التاريخ العربي وعناصره الأساسية.
ففيما يخص الأسس، يمكن اختزالها في ما يلي:
ـ إن مصادر المعرفة في نظام العولمة –شأنها شأن مصادر الاقتصاد- تظل بيد الشركات التجارية المتعددة الجنسيات. وبما أن الثقافة وضمنها التاريخ يعد جزءا لا يتجزأ من بنية المعرفة، فمعنى ذلك أن تواريخ الأمم ستصنف في مجال العمليات الاقتصادية على غرار كل المنتوجات الأخرى، وهذا سيكون له أسوأ الأثر على التاريخ العربي كما سنرى.
ـ إن العولمة –في مجال التاريخ- تعني الانتقال من تاريخ البنى القبلية والدولة والأمة إلى تاريخ المجموعة الإنسانية. والمجموعة الإنسانية المقصودة هنا هي تلك القرية الكونية الموحدة التي صاغتها رؤية النظام الجديد بزعامة أمريكا، قرية لا محل فيها إلا للقوى وأصحاب سلطة المال والشركات العملاقة، فهل يتوافق هذا المعنى مع روح التاريخ العربي؟ ذلك ما سنناقشه في موضعه.
ـ والعولمة هي أيضا تعبير عن إرادة الهيمنة الثقافية الأمريكية التي تتحكم في القرية الكونية المذكورة. ومن المسلم به أن فرض نموذج ثقافي بعينه يعني إقصاء نموذج ثقافة الآخر، مما يترتب عليه نتائج خطيرة على أساس إلغاء الصراع الإيديولوجي الذي كان محتدما إلى حدود التسعينات، ومن ثم إلغاء مقولة التدافع الحضاري التي يقوم عليها التاريخ العربي-الإسلامي.
ـ تسعى العولمة أيضا إلى تسطيح الوعي وإحلال "الإدراك" محله. و"الإدراك" المقصود في هذا المجال هو مجموعة من الصور والمشاهد ذات الطابع الإعلامي الإشهاري الذي يحجب العقل ويقلل من أهمية الوعي الطبقي، فيتم بموجبه إخضاع النفوس والتشويش على نظام القيم وقولبة السلوك، والهدف تكريس نوع معين من الاستهلاك المعرفي يشل ما يطلق عليه المفكر المغربي محمد عابد الجابري "ثقافة الاختراق".
ـ لا تعترف العولمة بالحدود الثقافية، فهي ترسم "حدودا" أخرى غير مرئية تحددها الشبكات العالمية قصد الهيمنة على الأخلاق والنفس والسلوك، وهذه أيضا من القضايا التي تؤثر على التاريخ الإسلامي كما سنفصل.
أما فيها يخص قيم العولمة ومنظوراتها، فإذا ما تعمقنا في كنه العولمة وقيمها، وجدناها تتناقض تماما مع قيم التاريخ العربي ومنها:
*منظور الفردية: تحاول العولمة أن توهم الإنسان بأن حقيقة وجوده محصورة في فرديته وانعزاليته، وأن كل ما عداه أجنبي لا يعنيه، وبذلك فهي تكرس روح الأنانية وإقصاء أي بعد جماعي أو تعاوني في المنظومة الكونية.
*منظور الحياد: فباسم الحرية تدعو العولمة الثقافية إلى الحياد، حياد الإنسان تجاه مجتمعه، وحياد هذا الأخير تجاه غيره، مما يعني تكريس مبدأ التحلل من كل التزام أو ارتباط أو مسؤولية في النقد والتوجيه.
*ويسعى نظام العولمة إلى تكريس اعتقاد خاطئ يقوم على فكرة عدم إمكانية تغير البنى الاجتماعية، ومن ثم يعمل على صرف النظر عن رؤية الفوارق بين الأغنياء والفقراء، بين البيض والسود، بين المستغلين والمستغلين، ويعتبر كل ذلك فوارق طبيعية عادية كالفارق بين الليل والنهار أو الفصول، والهدف من ذلك شل روح المقاومة في الفرد والجماعية لتحسين وضعه وممارسة حق الارتقاء الاجتماعي.
*كما يقوم منظور العولمة على نفي الدولة وتأسيس عالم بدون دولة أو وطن أو أمة، فالعالم الذي تجري وراءه هو عالم المؤسسات والشبكات العالمية. أما الوطن أو الأمة فهو الفضاء المعلوماتي والمواقع التي تضعها شبكات الاتصال. وفي هذا المنحى ذكر الرئيس الأمريكي بيل كلينتون في خطاب له "أن عصر تدخل الدولة قد مضى وانقضى".
*تعمل العولمة كذلك على تعميق الخلاف بين الثقافة التقليدية والثقافة العصرية في البلدان التي تتشبث بتراثها مثل المجتمعات الإسلامية.
*الثقافة في العولمة هي ثقافة الصورة، لا الثقافة المكتوبة، وهذا له تأثيره أيضا على وضعية كتابة التاريخي العربي كما سنبين.
*من المسلم به أن العولمة تقوم على التقدم التكنولوجي، وينطوي هذا التقدم على رغبة المجتمع المصنع في زيادة قدرته وتفوقه على المجتمع غير المصنع لتحقيق تفرده وهيمنته.
*ويقوم نظام الإعلام فيها على القول وسرعة البث، سواء في مجال الفضائيات أو على صعيد شبكة الأنترنيت الدولية، وهذه إحدى المظاهر التي تؤثر كثيرا على كتابة التاريخ الإسلامي أو دراسته واستيعابه بالنسبة للطالب المتلقي كما سنوضح في الشق الموالي من البحث.
كيف تؤثر العولمة على كتابة التاريخ العربي؟
من باب الإنصاف الإقرار بالعديد من القضايا الإيجابية التي أفرزها نظام العولمة على المستوى الثقافي، من بينها سرعة الاتصال واختراق الحدود وتقليص المسافات، وهو ما أسماه "هارفي" بظاهرة الاختزال السريع لبعدي الزمان والمكان؛ ولا غرو فقد صار بإمكان الباحث أن يصل إلى ابعد مكتبة في العالم عن طريق شبكة الأنترنيت، وأن يبحث في المواقع التي توفرها هذه الشبكة عن أبرز المواضيع التي يعالجها، أو يتصل بالخبراء الذين يحتاج إلى خبرتهم. كما أن ثورة الحاسوب سهلت عليه كثيرا مما كان يعتبر من قبل مضنيا وشاقا سواء من ناحية البيبلوغرافيا وتنظيمها، أو تشكيل الجداول والإحصاءات والفيشات وغيرها، أو الحصول على المعلومات من مصادر كانت تعتبر من قبل مستحيلة.
لكن رغم هذه الإيجابيات، فما هو تأثير العولمة الثقافية على الهوية التاريخية العربية انطلاقا من الأسس والقيم التي تقوم عليها العولمة والتي سبق أن عرضناها في العنصر السابق؟
إن الهوية التاريخية التي نعنيها في هذا المجال هي الخصوصية التاريخية التي أفرزها الواقع البيئي والديني والثقافي للمجتمع الإسلامي، ولكي نجيب على تساؤلاتنا سننطلق من الأسس التي تقوم عليها العلومة.
لقد أسلفنا القول أن مصادر المعرفة في نظام العولمة تخضع لتحكم الشركات التجارية، وهذا يعني أن التاريخ العربي كجزء من نظام المعرفة يصبح بدوره مجرد سلعة ينطبق عليها من الأحكام والإجراءات ما ينطبق على سواها من السلع المادية فيخضع إنتاج التاريخ العربي بكتبه وندواته وأفلامه لقانون العرض والطلب، ويبقى حكرا على القوى الأجنبية التي تمتلك المال والقدرة التقنية، وبالتالي لن يصبح بين أيدي أمينة تحافظ على حقيقته وموضوعيته، بل سيصبح لا محالة معرضا للتشويه والتحريف والبعد عن الحقيقة كما يقع للسلع التي تقوم الشركات بالإعلان عنها، فتروج لها بالحق والباطل دون استهداف الحقيقة ما دام الربح يبرر الوسيلة، لذلك سيتعرض التاريخ العربي مع سيادة العولمة لتشويه وافتراءات لا تقل عن الافتراءات التي لصقت به منذ القرن 19 مع الدراسات الاستشراقية، وسيستقبله الغرب بهذه الصورة المزيفة لأن تأثير الإعلام وقوة وسرعة نفاذه لا يخفى على أحد، وبذلك ستتكرس من جديد ظاهرة "تاريخ المنتصرين" التي طالما حاول المؤرخون والباحثون الأكاديميون التصدي لها طيلة القرن السابق.
أما بخصوص سعي العولمة إلى صياغة تاريخ المجموعة الإنسانية"كقرية كونية متجانسة" ضاربة عرض الحائط بتاريخ البنى القبلية والدولة والأمة، فهذه من أخطر ما يحيط بالتاريخ الغربي من مطبات، ذلك أن تاريخ العرب والإسلام هو تاريخ قبائل وتاريخ دولة وأمة. لقد انتقلت الجزيرة العربية ببنياتها القبلية قبل ظهور الإسلام إلى تاريخ الدولة الموحدة L’état unificateur لتنصهر القبائل تحت لوائها في إطار الأمة العربية-الإسلامية؛ ومن غير المنطقي أن ينسحق هذا الهيكل العام للتاريخ الإسلامي إلى ما هو نقيضه. من ناحية أخرى فإن مفهوم القرية الكونية المتجانسة مفهوم مخادع ومزيف لحقيقة الكون، ذلك أن الاختلاف ناموس من نوامس الله في خلقه، يجري على قدر وينتهي إلى غاية ومن مقتضى هذه الواميس أن تتعدد المجتمعات البشرية وتتنوع في صفاتها وسماتها. والقرآن الكريم الذي يعد المصدر الأول لاستلهام التاريخ العربي-الإسلامي يبين هذه الحقيقة حيث قال تعالى: "لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه" و"لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا، ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة". لذلك نعتقد أننا لا نبتعد عن الصواب إذا افترضنا أن تاريخ المجموعة الإنسانية وهم يسعى إلى إقصاء الخصوصيات التاريخية لكل مجتمع، أو أنه محاولة لأمركة التاريخ العالمي وجعل التاريخ العربي يخضع لرؤاه وتوجهاته، وبعبارة أخرى فإن تاريخ المجموعة الإنسانية هو تاريخ استعماري يحاول أن يخترق التاريخ الإسلامي ويسلبه خصوصيته ويخضعه لقوانينه تمهيدا لاحتوائه ثم التهامه بعد ذلك.
ومما يدعم هذا التخريج أن العولمة كما أجمع على ذلك الباحثون هي وجه آخر لإرادة الهيمنة الثقافية الأمريكية التي لا تتحاور مع الثقافات الأخرى على قدم المساواة، بل تحاول –مستفيدة من تفوقها التقني- فرض ثقافتها على الآخر، مما يعكس الموقع الحرج الذي سيصبح فيه التاريخ العربي، إذ سيغدو آنذاك خاضعا للثقافة المسيطرة فتخترقه وتطلق فيه يدها. والأنكى من ذلك أن هذا الاختراق سيمتد ليشمل الجامعات والمؤسسات الأكاديمية، مما يتمخض عنه دون شك إملاء الوصايات على تدريس التاريخ العربي-الإسلامي ومقرراته ومناهجه وبالتالي فإن "السيادة" في تدريس التاريخ ستتعرض بدورها لاختراق كبير، فتتدخل القوى المهيمنة وعملاؤها لفرض مقررات بعينها كالصناعة السياحية وإدارة الفنادق عوض تاريخ المعمار الإسلامي والآثار والفنون الإسلامية، وذلك تحت حجة ربط الجامعة بمحيط العمل وإيجاد الشغل. ويصبح الطالب نفسه هدفا لهذا الاختراق لسبب بسيط وهي أن العولمة كما سبقت الإشارة لا تعترف بالحدود الثقافية إذ لها حدود أخرى غير مرئية ترسمها الشبكات والتشويش على معرفته التاريخية ونظرته لتاريخ الإسلام.
والقول بأن العولمة تسعى إلى تسطيح الوعي وإحلال "الإدراك" محله، يكشف الوجه الآخر لخطورتها على التاريخ الإسلامي، ومنطلقاتها المحبوكة، ذلك أن الوعي هو جزء من بنية العقل. ولا يمكن دراسة التاريخ الإسلامي بدون حضور وعي الدارس أو الباحث، ودون حضوره في البحث نفسه كعامل مؤثر في موضوع الدراسة. فالوعي بكل أبعاده الاجتماعية والدينية والسياسية والاقتصادية ضروري في كل تحليل. والقرآن الكريم يحفل بالآيات التي تدعو إلى تبني العقل والوعي بأمور الأشياء. كما أن تراثنا في التاريخ الإسلامي يزخر بهذا النوع من الوعي التاريخي، وينهض نموذج ابن خلدون دليلا قاطعا على ذلك. أما "الإدراك" الذي تدعو إليه العولمة فهو نوع من فرض الأمر الواقع، يعبر عنه المروجون له بعبارة "هكذا يجب أن تدرك ولا تجادل". ومثل هذه المقولة تتنافى مع منهج البحث التاريخي الذي ينقب عن الحقيقة انطلاقا من إثارة التساؤلات القلقة تتنافى مع منهج البحث التاريخي الذي ينقب عن الحقيقة انطلاقا من إثارة التساؤلات القلقة ومحاولة استشفاف الثاوي الدفين، وطرح الفرضيات المحفزة على البحث للوصول من خلال الوعي بأمور الأشياء خاصة، وبطبيعة الصراع الاجتماعي إلى الحقيقة التاريخية.
وبالمثل فإن إلغاء الصراع الإيديولوجي كما يدعو إلى ذلك منظرو العولمة معناه إلغاء تفسير وتأويل الماضي، علما بأن التفسير يشكل في حد ذاته بنية التاريخ. فإلغاء الإيديولوجيا –وهو أمر غير ممكن في العلوم الإنسانية- يجعل التاريخ العربي مبتورا وناقصا.
وإذا تأملنا المنظورات التي تشكل "فلسفة" العولمة، لا نجد عناء في إيجاد تناقض أطروحاتها مع فلسفة التاريخ الإسلامي.
فالعولمة كما أسلفنا الذكر تقوم على أساس الفردية والأنانية، وهذا في حد ذاته يعبر عن تناقضها الداخلي لأنها في الوقت الذي تدعو فيه إلى نظرية "المجتمع الدولي" فإنها تعبر عن هذه النزعة الضيقة للفرد. وعلى كل حال، فإن ذلك يناقض أيضا واقع التاريخ العربي-الإسلامي الذي يقوم على مبدإ الجماعة والشورى والحل والعقد والبيعة العامة ومبدأ الرجوع إلى جمهور المسلمين، وكلها صيغ تعكس الضمير الجمعي، بل إن التاريخ العربي يزخر بالملفات التي سببت فيها الفردية والاستبداد بسلطة القرار مساحات واسعة من التمردات والانتفاضات كما حدث في عهد الخليفة عثمان بن عفان والخلفاء الأمويين، لا بل إن التاريخ العربي-الإسلامي خاصة في بنيته المجتمعية هو تاريخ علاقات تضامن ومؤازرة يعيش الفرد داخل أمته التي تتكفل بحمايته، ويعتبر كل إنجازاته إنجازات لأمته، وهذا ما لا يتفق البتة مع مبدإ الفردانية التي تعمل على تخريب وتمزيق الرابطة الجماعية والقومية، وتسعى إلى فصل الفرد عن أمته. وبقراءة مختلف حقب التاريخ الإسلامي، يتبين أنه ظل يسير دوما على إيقاع الأمة لا على وتيرة الفرد. ومن العسير أن نجد مؤرخا واحدا من مؤرخي المسلمين منذ ظهور التدوين التاريخي يكتب بعيدا عن هموم أمته، إذ ظلت منظومة الأمة هي السمة التي وسمت بميسمها ذهنية المؤرخ في جل العصور الإسلامية. بل إن حتى زعماء حركات الاحتجاج والعصيان في التاريخ العربي-الإسلامي لم يرفعوا شعار الخروج عن الأمة. فكيف يمكن قلب هذه الحقيقة لتفشي هذا التاريخ بمقولة الفردانية الوهمية، علما بأن التاريخ نفسه من صنع المجتمع، لا من صنع الفرد كما أجمعت على ذلك معظم الاتجاهات التاريخية العلمية الحديثة.
أما بخصوص نقطة الحياد التي تقوم عليها ثقافة العولمة، فتمثل منحى خطيرا في دراسة التاريخ العربي. فتطبيق الحياد بالمفهوم العولمي يجعل المؤرخ العربي يكتب وهو في حل من كل التزام بقضايا أمته. وعندما يلاحظ أخطاء ترتكب في التحليل أو تهم مجانية تلصق ببعض الشخصيات الإسلامية، لا يمكن أن يعارض انطلاقا من مبدإ الحياد. وعندما يقرأ أحكاما ملغومة تسطرها أقلام بعض المستشرقين عن تاريخ السيرة النبوية أو الصحابة أو الخلفاء الراشدين أو أو..، عليه أن "يسكت" دون أدنى تعليق أو مساءلة أو فحص باسم الحياد..! إنها محاولة لتركيع الحس التاريخي لا يمكن أن يقبلها كل عاقل ودارس أمين للتاريخ العربي.
إذا انتقلنا إلى المغالطة التي تطرحها العولمة حول طبيعة الفوارق البشرية التي لا تتغير حسب وجهة نظرنا، واعتبارها مسألة عادية، نلاحظ أن هذا التوجه يتناقض كذلك مع روح التاريخ العربي-الإسلامي. فمعظم التحولات والانعطافات التي شهدها العالم الإسلامي في تاريخه إنما كانت نتيجة الصراعات المتأججة بسبب الفوارق الطبقية والاجتماعية وكثرة الاستغلال وما يتمخض عن ذلك من صراع اجتماعي. وفي القرآن الكريم تنبث العديد من الآيات التي تجسد هذه الروح، وتؤكد حتمية الصراع الاجتماعي، وثمة العديد من النماذج في التاريخ العربي-الإسلامي التي تؤكد هذه الحقيقة ودورها في المتغيرات التي يشهدها التاريخ مثل حركة أبي ذر الغفاري وحركات الخوارج والموالي في العصر الأموي وحركة الزنج في العصر العباسي. ولم يغفل القرآن الكريم حتمية انتصار المستغل على المستغل وما يتركه ذلك من اثر في صيرورة التاريخ.
ثم نصل إلى نقطة جوهرية تقوم عليها "فلسفة" العولمة، وهي تأسيس عالم دون دولة أو وطن أو أمة. ويخيل إلينا أن هذه المسألة تناقض بالتمام والكمال مقولات التاريخ العربي-الإسلامي، ففي جل حقب هذا التاريخ، نجد مؤسسة الدولة والخلافة تلعب دورا أساسيا. وقد تطرق مصنفو كتب الأحكام السلطانية كالماوردي وابن خلدون والفارابي والطرطوشي وابن الأزرق وابن رضوان وغيرهم إلى مؤسسة الخلافة كواجب شرعي. فابن خلدون يذكر في مقدمته أنها "حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها.. فهي في الحقيقة نيابة عن صاحب الشريعة في حفظ الدين وسياسة الدنيا". وعلى العموم لا يمكن فهم التاريخ الإسلامي دون الدولة وعلاقتها بالرعية، لقد ظلت هذه المؤسسة السياسية والاقتصادية تلعب دور الموجه. والقول بوجود مجتمع دون دولة يتناقض تماما مع طروحات التاريخ العربي، فما هي النتيجة المترتبة عن فرضية دراسته على محك هذا المنطق المغلوط (انعدام الدولة)؟ إن ذلك سيسفر دون شك عن تحرك أقلام من يريدون إذكاء النعرات القبلية والطائفية والدفع بها إلى الاحتراب، مما يساهم في تصدع الوحدة والدخول في حرب أهلية لا تحمد عقباها ولا تدرك رواجعها. ومثل هذا التحليل الطائفي يشكل تناقضا صارخا مع الروح الإسلامية، ومحاولة لتلغيم حقل التاريخ العربي.
كما أن إلغاء الدولة يستتبعه إلغاء الحدود والجمارك، وهو ما ينادي به نظام العولمة. والتسليم بهذه الفكرة يعني نجاح خطط الاختراق وإمكانية تسرب كتب أو أشرطة قد تشوش على ثوابت التاريخ العربي في غياب ضبط ومراقبة علميين.
ومن الآثار السلبية التي تخلفها العولمة على صعيد كتابة التاريخ العربي تعميق الخلاف بين الاتجاه التقليدي والتحديثي في الكتابة التاريخية. فرواد اتجاه التحديث يستفيدون من التكنولوجيا التي توفرها العولمة من حيث امتلاك تقنيات البحث خاصة الوسائل السمعية والبصرية، المرئية واللامرئية بفضل تعاملهم باللغة الإنجليزية، مما يؤدي إلى توسيع الهوة بينهم وبين المؤرخين التقليديين الذين تزيد انعزاليتهم ويرتمون في ثقافة الجمود، ويتمخض عن ذلك ازدياد العداء بين الجانبين قد يكون له تأثير سلبي على تكاثف الجهد المفروض أن يكون بين الاتجاهين، والحوار الواجب إقامته بينهما من أجل كتابة التاريخ العربي-الإسلامي كتابة سليمة تثريها الآراء المتنوعة.
ودون تغافل مسألة اللغة الإنجليزية، لا يخفى أن العولمة تسعى إلى جعلها اللغة التي توحد مستويات كتابة التاريخ العربي وتعطيل فاعلية لغة القرآن.
وبالرجوع إلى إحدى الأسس التي تقوم عليها ثقافة العولمة وهي ارتكازها على ثقافة الصورة لا ثقافة المكتوب، يمكن أن نتنبأ بأن التاريخ العربي سيصبح مختزلا في مجموعة من الصور التي لا تعبر عما يحويه التراث التاريخي المكتوب من قيمة علمية وفنية. وبما أن الصورة تكتسي سلطة رمزية على صعيد الإدراك الثقافي العام، فإن النظام السمعي-البصري يصبح المصدر الأقوى لإنتاج القيم وتشكيل الوعي والوجدان، ويتم الابتعاد عن الثقافة المكتوبة، مما يؤدي إلى تراجع معدلات القراءة في كتب التاريخ العربي، وعدم الإحاطة بمضمونه الغني بالتجارب والإنجازات، وهو ما يعكس النفق المظلم الذي تسير نحوه دراسة هذا التاريخ. هذا لا يعني أننا نقف موقفا مضادا لثقافة الصورة، لكننا نرى أنها يجب أن تسير موازية مع التراث المكتوب.
يبقى أخيرا الإشارة إلى مسألة هامة وهي أن ثقافة العولمة التي تقوم على تفوق في التقانة تحاول أن تسخر هذا التفوق لإبراز ذاتها وإقصاء ثقافة الآخر بما يعني ذلك إقصاء تاريخه وهويته فتصبح التكنولوجيا أداة قهر ومحاولة من الأمة المصنعة لطمس تاريخ الأمم غير المصنعة بما ينطوي عليه التقدم التكنولوجي من زيادة درجة النمطية Standarisation في عملية الإنتاج علما بأن النمطية نقيض التميز. ويستشف من هذا الكلام أن نظام العولمة بما يملكه من طاقة تكنولوجية، يسعى إلى إقحام التاريخ العربي في دائرة النمطية، ضاربا بعرض الحائط خصائص الهوية التاريخية العربية-الإسلامية. وتعد هذه العملية عدوانا على التاريخ العربي، لا يمكن إلا أن ينتج تاريخا مشوها يخضع للنمطية الأمريكية.
وتلعب وسائل الإعلام التي هي الابنة الشرعية لهذا للعولمة الثقافية دورا خطيرا في تشويه بعض المعتقدات الإسلامية كما تفعل أحيانا بعض المواقع الصهيونية في شبكة الإنترنيت، مماي يؤثر سلبا على التاريخ العربي.
هذه بعض الجوانب التي يخيل إلينا أنها ستكون ضحية العولمة في أفق الألفية الثالثة، بل إن بعضها بدأ تأثيره منذ الآن، فما هي الوسائل التي نراها كفيلة بالتصدي للعولمة حتى يبقى تاريخنا العربي بمنأى عن أخطارها، وبعيدا عن الابتذالية والتحريفية؟
التاريخ العربي في مفترق الطرق: مقترحات للمواجهة والتفاعل:
هل المؤرخ العربي قادر على مواكب العولمة ودخول معتركها ومواجهة نتائجها السلبية وإثبات الهوية التاريخية العربية؟ هل يمتلك ما يكفي من قوة الفعل والتأثير ما يجعله يبتعد عن خطر الانطماس والذوبان؟
تختلف مواقف المثقفين العرب من العولمة عموما بأبعادها الحضارية ما بين رافض إلى درجة القطيعة دون أن يعي أنه يقف بموقفه هذا ضد مسيرة البشرية، وقابل دون تحفظ لأنها في نظره قدر لا مفر منه، دون أن يتنبه إلى سلبياتها الخطيرة كما تبين من خلال تطبيق مقولاتها على التاريخ العربي. ونحن من جهتنا نرى أن العولمة حتمية تاريخية، لكن ذلك لا يعني التسليم بحتمية القيم التي تتأسس عليها.
من ناحية أخرى فإن بناء خطة لمواجهة العولمة من أجل الحفاظ على "صحة" تاريخنا العربي لا ينبغي أن تؤول على أنها دعوة رجعية تسعى إلى التنكر للمثاقفة وحوار الحضارات، بل هي إجراء دفاعي وممانعة لا مفر منها ضد عدوان واضح على تاريخنا، واستفزاز تشير كل التوقعات إلى احتمال تزايد خطورته، لذلك وجب البحث عن نقطة توازن للتصدي لهذا التيار الجارف والقضاء على خلاياه السرطانية. فما العمل في ظل هذا الواقع؟
قد تكون أولى المقترحات التي يفترض أن تصنف ضمن الأولويات هي تحصين التاريخ العربي أمام العولمة تجنبا لسلبياتها. وهذا أمر صحيح، لكن يرد عليه بأن نظام العولمة نظام لا يقاوم إلا بنظام يكون ندا له. ويخيل إلينا أن الأمر الصواب يكمن في تعرف المؤرخين العرب على مزايا العولمة فيأخذوا منها، وعلى عيوبها فيتجنبوها، وذلك من خلال إظهار عوراتها وقصورها، ومن ثم يمكن تحويل العولمة لصالحنا عن طريق إظهار عيوبها ودراستها وإبراز تناقضاتها، مع الأخذ بما تتيحه من إمكانيات علمية وخاصة الثورة التقنية التي أفرزت الحاسوب والإنترنيت، هذا الكائن الذي غير المعطيات وقلص بعدي الزمان والمكان وأحدث ثورة معلوماتية لا يمكن للمؤرخ العربي أن يدير له الظهر، خاصة أن مادة المؤرخ هي "المعلومات" في المقام الأول. وفي هذا الصدد نقترح دون أن نزعم أن اقتراحاتنا تشكل وصفة جاهزة ما يلي:
*إنشاء موقع عربي في الأنترنيت حول التاريخ العربي-الإسلامي يكون مبنيا على الحقائق التاريخية المنسجمة مع الروح الإسلامية والقومية العربية، ومؤيدة بالأدلة والأرقام والحجج المنطقية ويتضمن هذا الموقع:
ـ Home Page لكل المشتغلين في التاريخ العربي تسهيلا لإقامة الاتصال والحوار فيما بينهم عبر شبكة الإنترنيت العالمية، وفتح حوار علمي مع أساتذة التاريخ في الجامعات والمراكز الدراسية الغربية.
ـ وضع إمكانيات خزانات ومكتبات الجامعات العربية والإسلامية بكتبها ومخطوطاتها رهن إشارة الباحثين في التاريخ العربي عبر شبكة الأنترنيت.
ـ إنشاء بنك للمعلومات في مادة التاريخ العربي-الإسلامي حول الأعلام والأماكن والقبائل والطوائف والآثار التاريخية، وتصنيف الأقراص المدمجة (سيديروم) حول أهم المنجزات الحضارية للعالم العربي-الإسلامي.
ـ تسخير الحاسوب لوضع فهرست لكل ما كتب عن التاريخ العربي والمخطوطات غير المحققة، وإبراز المؤلفات الجديدة والأطروحات الجامعية التي تمت مناقشتها في هذا التخصص.
ـ استغلال الحاسوب لإقامة ندوات حوارية بين المتخصصين عبر كاميرا فيديو جهاز الكمبيوتر تهم إشكاليات تاريخ العرب والمسلمين، وتكون منبرا لإبراز وجهة النظر العربية ومقارعة حجج المفترين على التاريخ العربي.
ـ إدخال الدوريات المهتمة بالتاريخ العربي-الإسلامي في شبكة الحاسوب وتسهيل استغلالها عن طريق الإنترنيت كذلك.
ـ تجاوز التشتت الذي يوجد في أوساط المؤرخين العرب والمسلمين، لأنه لولا هذا التشتت لما كان ثمة تخوف من أن تمارس العولمة تأثيرا سلبيا على تاريخنا. وفي هذا الصدد ينبغي إعادة لحمة وحدة اتحاد المؤرخين العرب وتجاوز حساسيات الماضي الضيقة، خاصة أن العالم مقبل على قرن لا موقع فيه إلا للتكتلات الاقتصادية والسياسية والثقافية العملاقة، كما ينبغي تأسيس فرق بحث متخصصة، على أن تتكلف كل فرقة بفتح ورش من الأوراش داخل هذا المعمل الكبير الذي هو التاريخ العربي-الإسلامي، ثم القيام بالتنسيق وعرض النتائج عبر الموقع العربي في شبكة الأنترنيت.
ـ انخراط العالم العربي في عالم التقانة والعقلانية كفاعلين مساهمين انخراطا يكون واعيا ومتجدرا، واستغلال التكنولوجيا ومنها الأقمار الصناعية في اكتساح مختلف الحقول المعرفية، ومنها التاريخ العربي-الإسلامي الذي يهمنا في هذه الدراسة.
ـ خلق تواصل بين الجامعات العربية-الإسلامية بكل الوسائل بما في ذلك شبكة الأنترنيت لبدء حوار جاد لإصلاح مقررات هذه الجامعات بما يتلاءم مع التحولات الدولية الراهنة، ونقصد في هذا المقام مقررات مادة التاريخ العربي بما يتيح فهمه فهما جيدا وإعداد الطالب إعدادا علميا على أساس مناهج سليمة يراعى فيها إدخال الوسائل التكنولوجية الحديثة تمهيدا لإعداد مؤرخ ذي تكوين ثقافي متعدد التخصصات لمواجهة ما يدور في ساحة العولمة.
ـ تأسيس قناة فضائية عربية موحدة تهتم بالمشروع الحضاري العربي مستقبله وماضيه يكون ضمن برامجها حلقات بحث ومحاضرات وندوات وأفلام عن تاريخ العرب والإسلام، وتتصدى في الوقت ذاته لتصحيح ما تبثه وسائل الإعلام الغربية من مغالطات حول هذا التاريخ.
ـ تأسيس مركز عام لدراسة التاريخ العربي-الإسلامي يكون نواة تحيط بها دوائر مراكز أخرى منبثة في العالم الإسلامي.
ـ إعداد مؤرخ عربي متعدد التخصصات، متنوع الثقافات، قادر على استيعاب إيجابيات العالمية لمواجهة أخطار العولمة، ونعني بذلك دراسة التاريخ العربي برؤى ومناهج تجمع بين الأصالة والمعاصرة، بين ما هو غني متوفر في تراثنا، وبينما هو موجود في الغرب، أي أننا لا نرى أي ضرر في تحديث تاريخنا دون التفريط بذرة من أصالته. ومسألة التحديث لا تعني انبهار بالمدارس الغربية أو تأثرا بسلطة الغرب المعرفية بقدر ما تعبر عن قناعتنا بأن الحداثة يمكن أن تنطلق من الداخل، أي من التراث التاريخي نفسه دون أن تتنصل من إمكانية الاستفادة من المناهج الإنسانية سواء كانت غربية أو شرقية، وهذا يعني أنه ليس ثمة أي حرج في التعامل مع مبدإ العالمية القائم على قاعدة الأخذ والعطاء والإصغاء للآخر دون نفي الذات، والاحترام المتبادل بين الحضارات نتيجة التفاعل بين الخطاب التاريخي ومشاكل المجتمع الإنساني، لذلك ينبغي من أجل التصدي للعولمة، الاستفادة من المناهج العالمية الأخرى كالمنهج الكمي الإحصائي والمنهج المقارن، ومناهج مدرسة الحوليات Ecole des annales والتاريخ الاقتصادي الجديد The New Economic History ونظريات فوكو، بل حتى مناهج المدرسة الأمريكية العلمية وغيرها من المناهج التي لا تفرض نفسها، ولكنها تقدم ذاتها كأدوات للتحليل دون أن تتعارض مع التاريخ العربي-الإسلامي.
حصيلة القول إن العولمة الثقافية تحاول بما أوتيت به من قوة تقانية وإعلامية اكتساح التاريخ العربي وتنميطه حسب توجهاتها، مما يعني إمكانية اختراقه تمهيدا لإقحامه ضمن ثقافة تجارية تتحكم فها الشركات الكبرى إذا لم يسع المؤرخ العربي إلى تخليصه من أوحالها، والتصدي لها عن طريق الاقتصار على الأخذ بإيجابياتها كما وردت في مقترحات هذه الورقة، ثم مواجهة التأثيرات السلبية المحتملة، مع الاستفادة من ظاهرة العالمية المرتكزة على التعامل بالندية مع الثقافات الأخرى تمهيدا لولوج الألفية الثالثة بثقة في الذات، وتحصين للهوية التاريخية العربية على أساس من الحوار الحضاري.
4 – ثقافيا، لا يختلف اثنان في أن المؤرخ العربي ينتمي إلى عالم لا يزال يعيش فراغا ثقافيا، ولم يفلح بعد في بلورة مشروع حضاري تاريخي عربي، كما أنه لا يزال يعيش صراعا مع ذاته لتحقيق هويته ونظرته للمستقبل. وقد استغلت أمريكا هذا الفراغ الثقافي لتمرير مخططات العولمة، كما استغلت أيضا نتائج هذا الفراغ على نفسية المؤرخ التي أصيبت بالإحباط لفرض صيغ جاهزة، ما عليه إلا قبولها كما هي مملاة عليه.
5 – لقد جند دهاقنة العولمة مفكريهم لترسيخ معتقدات وهمية تسعى إلى تحطيم روح المقاومة لدى مؤرخ العالم الثالث، وتبشر بانتصار النظام الرأسمالي على حساب كل الأنظمة السائدة، وضد أي تطلع يروم تأسيس مشروع ثقافي، وكأن أمركة العالم أصبح قدرا لا مفر منه، وهذا ما يفسر ما روج له بعض منظري الرأسمالية الجديدة من أمثال فوكوياما لأفكار تؤكد نهاية التاريخ التي هي –في زعمهم- نتيجة حتمية وتتويج لانتصار الليبرالية الرأسمالية. كما وأنها تمثل محاولة لشل أي اجتهاد يأتي من قبل المؤرخ المنتمي للعالم الثالث.
6 – استغلت الولايات المتحدة تفوقها المادي والتقني والمعلوماتي لتصيغ نمطا ثقافيا له قيم ومعايير خاصة يسعى إلى تدجين الشعوب وفرض وصاية ثقافية عليها، ومن ثم فإن هذا القالب المفروض يشكل عدوانا على مثقفي العام الثالث بمن فيهم المؤرخ العربي الذي يشعر أن تاريخه يتعرض للتزييف والمسخ بمجرد إقحامه بطريقة تعسفية فيما يعرف "بالتاريخ الكوني" دون مراعاة للخصوصيات المحلية والقسمات الخاصة.
7 – وأخيرا فإن مهمة المؤرخ العربي تجاه تحديات العولمة تأتي في وقت حرج للغاية، عرف إبانه العالم العربي –ولا يزال- شرخا عميقا وانقساما حادا بعد حرب الخليج وما خلفته من آثار سلبية لا على الوحدة العربية فحسب، بل حتى على العواطف والسلوكات بين المؤرخين العرب أنفسهم، لذلك لا غرابة أن يمس هذا الانقسام اتحاد المؤرخين العرب كهيئة ثقافية كان من المفترض أن تكون قوة فاعلة لمواجهة أثر العولمة على التاريخ العربي، بيد أنه نحا للأسف نحو منحى التشرذم فأصبح اتحادان! مكرسا بذلك ظاهرة التشتت والانقسام.
هذه هي الظرفية العامة التي تؤطر فعل المؤرخ العربي وتحدد مهماته في مواجهة العولمة وآثارها على أي مشروع لكتابة التاريخ العربي في ضوء الثورة المعلوماتية، فما هو الموقع الذي ينبغي أن يحتله هذا التاريخ في ضوء الواقع المفروض؟
العولمة والعالمية وموقع المؤرخ:
قبل إبراز الاختيار الصعب الذي يتبناه المؤرخ العربي بين مقولتي العولمة والعالمية لا بد من التمييز بين المقولتين لصياغة مشروع تاريخي عربي مبني على أساس من الوعي المنتج يتماشى مع ما يحافظ للشعوب العربية على هويتها. فما المقصود بالعولمة وما الفرق بينها وبين العالمية؟
تعني العولمة من الناحية اللغوية تعميم الشيء وتوسيع دائرته ليشمل أرجاء العالم برمته. أما من الناحية الإيديولوجية فالعولمة هي تعبير مباشر عن إرادة الهيمنة على العالم وأمركته.
وترجع بداية ظهور هذا المصطلح إلى نهاية عقد الثمانينات بعد انهيار حائط برلين وانهيار قلاع الشيوعية، وإعلان الولايات المتحدة الأمريكية ما يسمى بالنظام العالمي الجديد. وفي سياق تكريس القطب الأمريكي الأوحد وتحكمه في مصائر العالم، أعلن في مرحلة تالية ما يسمى بالعولمة أو الكوننة أو الكوكبة وكلها مترادفات تشير إلى نفس المعنى.
على أن العولمة وإن لم تظهر قبل عقد من الزمن كمصطلح في الأدبيات السياسية الاقتصادية والثقافية، فإنها ظاهرة قديمة يمكن إرجاع جذورها حسبما يقرره "روبرستون" إلى فترة ظهور الدولة القومية، كما تعود إلى المرحلة الاستعمارية وتكون الرأسمالية. لذلك يمكن الجزم مع بعض الباحثين أنها تجسد اليوم التعبير الصحيح لانتصار النظام الرأسمالي العالمي كونيا، وتمثل الدرجة العليا في علاقات الهيمنة والإمبريالية.
بيد أن سر بروزها بصورة جلية في العقد الأخير يكمن في الثورة العلمية والتقانية وما حصل من تطورات ضخمة في عالم الاتصال، خاصة مع تطور الحواسيب الإلكترونية والأقمار الصناعية وظهور شبكة الإنترنيت.
أما العالمية فهي منظومة إنسانية حضارية تقوم على أساس الحوار مع الآخر، والتسامح مع ثقافته، والتفاعل معه انطلاقا من مبدإ الأخذ والعطاء. كما تعني "الإصغاء المتبادل من سائر الثقافات بعضها إلى بعضها الآخر، والاعتراف المتبادل بينهما، ومنه الاعتراف بحق الاختلاف.. والحوار والتفاهم". وقد كان الإسلام سباقا للدعوة للعالمية، وحسبنا أن القرآن الكريم يحفل بالآيات الدالة على هذا المعنى حيث قال تعالى: "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين" وقوله تعالى: "وما أرسلناك إلا كافة للناس" وغيرها من الآيات التي نلاحظ أنها تركز كلها على الكونية كما تدل على ذلك التعبيرات القرآنية مثل "العالمين" و"للناس كافة" و"للناس جميعا". ولعل أبلغ آية تشير إلى معنى العالمية تتجلى في قوله تعالى: "يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا". فالعالمية من هذا المنظور سلوك حضاري يدعو إلى حوار الثقافات مع الاحتفاظ بالخصوصيات الثقافية، وينحو نحو الأخذ والعطاء من أجل التلاقح والنضج والاكتمال. إنها بتعبير آخر طريقة "الأنا" للتعامل مع "الآخر" واحترام ثقافته وتقاليده، وهو النهج الذي سارت على هديه الحضارة العربية-الإسلامية عندما مدت جسور التواصل والتلاقح مع الحضارات المتزامنة معها كالحضارة الفارسية والهندية واليونانية وغيرها من الحضارات الإنسانية، فكانت عالمية بمعنى الكلمة، تفتح بابها لكل طارق، ولا تغلقه دون قاصد.
ومن خلال عناصر المقارنة يتضح أن ثمة فرق واضح بين العالمية التي دعا إليها الإسلام والمبنية على مبدإ الأخوة، والعولمة التي تحاول الولايات المتحدة الأمريكية طبخ نظرياتها وفرضها على الشعوب بما في ذلك حتى شعوب بعض البلدان المصنعة(*). ويعد تحديد هذه المفاهيم ضرورة منهجية لتلمس الموقع الذي يتموضع فيه المؤرخ العربي مستقبلا، ويحدد موقفا سليما تجاه العالمية كظاهرة صحية تتلاءم ومبادئه، والعلومة كظاهرة ثقافية مفروضة عليه.
الأسس والقيم المعرفية للعولمة تجاه التاريخ العربي: تكامل أم تناقض؟
لا سبيل لإنكار إيجابيات العولمة الثقافية التي سنعرضلها عند ذكر إمكانية استفادة التاريخ العربي منها، لكن يجب تفحص الأسس والقيم التي يتأسس عليها كيان العولمة ومنظوراتها للنظام الثقافي، لنناقش بعد ذلك مدى تطابقها مع قيم التاريخ العربي وعناصره الأساسية.
ففيما يخص الأسس، يمكن اختزالها في ما يلي:
ـ إن مصادر المعرفة في نظام العولمة –شأنها شأن مصادر الاقتصاد- تظل بيد الشركات التجارية المتعددة الجنسيات. وبما أن الثقافة وضمنها التاريخ يعد جزءا لا يتجزأ من بنية المعرفة، فمعنى ذلك أن تواريخ الأمم ستصنف في مجال العمليات الاقتصادية على غرار كل المنتوجات الأخرى، وهذا سيكون له أسوأ الأثر على التاريخ العربي كما سنرى.
ـ إن العولمة –في مجال التاريخ- تعني الانتقال من تاريخ البنى القبلية والدولة والأمة إلى تاريخ المجموعة الإنسانية. والمجموعة الإنسانية المقصودة هنا هي تلك القرية الكونية الموحدة التي صاغتها رؤية النظام الجديد بزعامة أمريكا، قرية لا محل فيها إلا للقوى وأصحاب سلطة المال والشركات العملاقة، فهل يتوافق هذا المعنى مع روح التاريخ العربي؟ ذلك ما سنناقشه في موضعه.
ـ والعولمة هي أيضا تعبير عن إرادة الهيمنة الثقافية الأمريكية التي تتحكم في القرية الكونية المذكورة. ومن المسلم به أن فرض نموذج ثقافي بعينه يعني إقصاء نموذج ثقافة الآخر، مما يترتب عليه نتائج خطيرة على أساس إلغاء الصراع الإيديولوجي الذي كان محتدما إلى حدود التسعينات، ومن ثم إلغاء مقولة التدافع الحضاري التي يقوم عليها التاريخ العربي-الإسلامي.
ـ تسعى العولمة أيضا إلى تسطيح الوعي وإحلال "الإدراك" محله. و"الإدراك" المقصود في هذا المجال هو مجموعة من الصور والمشاهد ذات الطابع الإعلامي الإشهاري الذي يحجب العقل ويقلل من أهمية الوعي الطبقي، فيتم بموجبه إخضاع النفوس والتشويش على نظام القيم وقولبة السلوك، والهدف تكريس نوع معين من الاستهلاك المعرفي يشل ما يطلق عليه المفكر المغربي محمد عابد الجابري "ثقافة الاختراق".
ـ لا تعترف العولمة بالحدود الثقافية، فهي ترسم "حدودا" أخرى غير مرئية تحددها الشبكات العالمية قصد الهيمنة على الأخلاق والنفس والسلوك، وهذه أيضا من القضايا التي تؤثر على التاريخ الإسلامي كما سنفصل.
أما فيها يخص قيم العولمة ومنظوراتها، فإذا ما تعمقنا في كنه العولمة وقيمها، وجدناها تتناقض تماما مع قيم التاريخ العربي ومنها:
*منظور الفردية: تحاول العولمة أن توهم الإنسان بأن حقيقة وجوده محصورة في فرديته وانعزاليته، وأن كل ما عداه أجنبي لا يعنيه، وبذلك فهي تكرس روح الأنانية وإقصاء أي بعد جماعي أو تعاوني في المنظومة الكونية.
*منظور الحياد: فباسم الحرية تدعو العولمة الثقافية إلى الحياد، حياد الإنسان تجاه مجتمعه، وحياد هذا الأخير تجاه غيره، مما يعني تكريس مبدأ التحلل من كل التزام أو ارتباط أو مسؤولية في النقد والتوجيه.
*ويسعى نظام العولمة إلى تكريس اعتقاد خاطئ يقوم على فكرة عدم إمكانية تغير البنى الاجتماعية، ومن ثم يعمل على صرف النظر عن رؤية الفوارق بين الأغنياء والفقراء، بين البيض والسود، بين المستغلين والمستغلين، ويعتبر كل ذلك فوارق طبيعية عادية كالفارق بين الليل والنهار أو الفصول، والهدف من ذلك شل روح المقاومة في الفرد والجماعية لتحسين وضعه وممارسة حق الارتقاء الاجتماعي.
*كما يقوم منظور العولمة على نفي الدولة وتأسيس عالم بدون دولة أو وطن أو أمة، فالعالم الذي تجري وراءه هو عالم المؤسسات والشبكات العالمية. أما الوطن أو الأمة فهو الفضاء المعلوماتي والمواقع التي تضعها شبكات الاتصال. وفي هذا المنحى ذكر الرئيس الأمريكي بيل كلينتون في خطاب له "أن عصر تدخل الدولة قد مضى وانقضى".
*تعمل العولمة كذلك على تعميق الخلاف بين الثقافة التقليدية والثقافة العصرية في البلدان التي تتشبث بتراثها مثل المجتمعات الإسلامية.
*الثقافة في العولمة هي ثقافة الصورة، لا الثقافة المكتوبة، وهذا له تأثيره أيضا على وضعية كتابة التاريخي العربي كما سنبين.
*من المسلم به أن العولمة تقوم على التقدم التكنولوجي، وينطوي هذا التقدم على رغبة المجتمع المصنع في زيادة قدرته وتفوقه على المجتمع غير المصنع لتحقيق تفرده وهيمنته.
*ويقوم نظام الإعلام فيها على القول وسرعة البث، سواء في مجال الفضائيات أو على صعيد شبكة الأنترنيت الدولية، وهذه إحدى المظاهر التي تؤثر كثيرا على كتابة التاريخ الإسلامي أو دراسته واستيعابه بالنسبة للطالب المتلقي كما سنوضح في الشق الموالي من البحث.
كيف تؤثر العولمة على كتابة التاريخ العربي؟
من باب الإنصاف الإقرار بالعديد من القضايا الإيجابية التي أفرزها نظام العولمة على المستوى الثقافي، من بينها سرعة الاتصال واختراق الحدود وتقليص المسافات، وهو ما أسماه "هارفي" بظاهرة الاختزال السريع لبعدي الزمان والمكان؛ ولا غرو فقد صار بإمكان الباحث أن يصل إلى ابعد مكتبة في العالم عن طريق شبكة الأنترنيت، وأن يبحث في المواقع التي توفرها هذه الشبكة عن أبرز المواضيع التي يعالجها، أو يتصل بالخبراء الذين يحتاج إلى خبرتهم. كما أن ثورة الحاسوب سهلت عليه كثيرا مما كان يعتبر من قبل مضنيا وشاقا سواء من ناحية البيبلوغرافيا وتنظيمها، أو تشكيل الجداول والإحصاءات والفيشات وغيرها، أو الحصول على المعلومات من مصادر كانت تعتبر من قبل مستحيلة.
لكن رغم هذه الإيجابيات، فما هو تأثير العولمة الثقافية على الهوية التاريخية العربية انطلاقا من الأسس والقيم التي تقوم عليها العولمة والتي سبق أن عرضناها في العنصر السابق؟
إن الهوية التاريخية التي نعنيها في هذا المجال هي الخصوصية التاريخية التي أفرزها الواقع البيئي والديني والثقافي للمجتمع الإسلامي، ولكي نجيب على تساؤلاتنا سننطلق من الأسس التي تقوم عليها العلومة.
لقد أسلفنا القول أن مصادر المعرفة في نظام العولمة تخضع لتحكم الشركات التجارية، وهذا يعني أن التاريخ العربي كجزء من نظام المعرفة يصبح بدوره مجرد سلعة ينطبق عليها من الأحكام والإجراءات ما ينطبق على سواها من السلع المادية فيخضع إنتاج التاريخ العربي بكتبه وندواته وأفلامه لقانون العرض والطلب، ويبقى حكرا على القوى الأجنبية التي تمتلك المال والقدرة التقنية، وبالتالي لن يصبح بين أيدي أمينة تحافظ على حقيقته وموضوعيته، بل سيصبح لا محالة معرضا للتشويه والتحريف والبعد عن الحقيقة كما يقع للسلع التي تقوم الشركات بالإعلان عنها، فتروج لها بالحق والباطل دون استهداف الحقيقة ما دام الربح يبرر الوسيلة، لذلك سيتعرض التاريخ العربي مع سيادة العولمة لتشويه وافتراءات لا تقل عن الافتراءات التي لصقت به منذ القرن 19 مع الدراسات الاستشراقية، وسيستقبله الغرب بهذه الصورة المزيفة لأن تأثير الإعلام وقوة وسرعة نفاذه لا يخفى على أحد، وبذلك ستتكرس من جديد ظاهرة "تاريخ المنتصرين" التي طالما حاول المؤرخون والباحثون الأكاديميون التصدي لها طيلة القرن السابق.
أما بخصوص سعي العولمة إلى صياغة تاريخ المجموعة الإنسانية"كقرية كونية متجانسة" ضاربة عرض الحائط بتاريخ البنى القبلية والدولة والأمة، فهذه من أخطر ما يحيط بالتاريخ الغربي من مطبات، ذلك أن تاريخ العرب والإسلام هو تاريخ قبائل وتاريخ دولة وأمة. لقد انتقلت الجزيرة العربية ببنياتها القبلية قبل ظهور الإسلام إلى تاريخ الدولة الموحدة L’état unificateur لتنصهر القبائل تحت لوائها في إطار الأمة العربية-الإسلامية؛ ومن غير المنطقي أن ينسحق هذا الهيكل العام للتاريخ الإسلامي إلى ما هو نقيضه. من ناحية أخرى فإن مفهوم القرية الكونية المتجانسة مفهوم مخادع ومزيف لحقيقة الكون، ذلك أن الاختلاف ناموس من نوامس الله في خلقه، يجري على قدر وينتهي إلى غاية ومن مقتضى هذه الواميس أن تتعدد المجتمعات البشرية وتتنوع في صفاتها وسماتها. والقرآن الكريم الذي يعد المصدر الأول لاستلهام التاريخ العربي-الإسلامي يبين هذه الحقيقة حيث قال تعالى: "لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه" و"لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا، ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة". لذلك نعتقد أننا لا نبتعد عن الصواب إذا افترضنا أن تاريخ المجموعة الإنسانية وهم يسعى إلى إقصاء الخصوصيات التاريخية لكل مجتمع، أو أنه محاولة لأمركة التاريخ العالمي وجعل التاريخ العربي يخضع لرؤاه وتوجهاته، وبعبارة أخرى فإن تاريخ المجموعة الإنسانية هو تاريخ استعماري يحاول أن يخترق التاريخ الإسلامي ويسلبه خصوصيته ويخضعه لقوانينه تمهيدا لاحتوائه ثم التهامه بعد ذلك.
ومما يدعم هذا التخريج أن العولمة كما أجمع على ذلك الباحثون هي وجه آخر لإرادة الهيمنة الثقافية الأمريكية التي لا تتحاور مع الثقافات الأخرى على قدم المساواة، بل تحاول –مستفيدة من تفوقها التقني- فرض ثقافتها على الآخر، مما يعكس الموقع الحرج الذي سيصبح فيه التاريخ العربي، إذ سيغدو آنذاك خاضعا للثقافة المسيطرة فتخترقه وتطلق فيه يدها. والأنكى من ذلك أن هذا الاختراق سيمتد ليشمل الجامعات والمؤسسات الأكاديمية، مما يتمخض عنه دون شك إملاء الوصايات على تدريس التاريخ العربي-الإسلامي ومقرراته ومناهجه وبالتالي فإن "السيادة" في تدريس التاريخ ستتعرض بدورها لاختراق كبير، فتتدخل القوى المهيمنة وعملاؤها لفرض مقررات بعينها كالصناعة السياحية وإدارة الفنادق عوض تاريخ المعمار الإسلامي والآثار والفنون الإسلامية، وذلك تحت حجة ربط الجامعة بمحيط العمل وإيجاد الشغل. ويصبح الطالب نفسه هدفا لهذا الاختراق لسبب بسيط وهي أن العولمة كما سبقت الإشارة لا تعترف بالحدود الثقافية إذ لها حدود أخرى غير مرئية ترسمها الشبكات والتشويش على معرفته التاريخية ونظرته لتاريخ الإسلام.
والقول بأن العولمة تسعى إلى تسطيح الوعي وإحلال "الإدراك" محله، يكشف الوجه الآخر لخطورتها على التاريخ الإسلامي، ومنطلقاتها المحبوكة، ذلك أن الوعي هو جزء من بنية العقل. ولا يمكن دراسة التاريخ الإسلامي بدون حضور وعي الدارس أو الباحث، ودون حضوره في البحث نفسه كعامل مؤثر في موضوع الدراسة. فالوعي بكل أبعاده الاجتماعية والدينية والسياسية والاقتصادية ضروري في كل تحليل. والقرآن الكريم يحفل بالآيات التي تدعو إلى تبني العقل والوعي بأمور الأشياء. كما أن تراثنا في التاريخ الإسلامي يزخر بهذا النوع من الوعي التاريخي، وينهض نموذج ابن خلدون دليلا قاطعا على ذلك. أما "الإدراك" الذي تدعو إليه العولمة فهو نوع من فرض الأمر الواقع، يعبر عنه المروجون له بعبارة "هكذا يجب أن تدرك ولا تجادل". ومثل هذه المقولة تتنافى مع منهج البحث التاريخي الذي ينقب عن الحقيقة انطلاقا من إثارة التساؤلات القلقة تتنافى مع منهج البحث التاريخي الذي ينقب عن الحقيقة انطلاقا من إثارة التساؤلات القلقة ومحاولة استشفاف الثاوي الدفين، وطرح الفرضيات المحفزة على البحث للوصول من خلال الوعي بأمور الأشياء خاصة، وبطبيعة الصراع الاجتماعي إلى الحقيقة التاريخية.
وبالمثل فإن إلغاء الصراع الإيديولوجي كما يدعو إلى ذلك منظرو العولمة معناه إلغاء تفسير وتأويل الماضي، علما بأن التفسير يشكل في حد ذاته بنية التاريخ. فإلغاء الإيديولوجيا –وهو أمر غير ممكن في العلوم الإنسانية- يجعل التاريخ العربي مبتورا وناقصا.
وإذا تأملنا المنظورات التي تشكل "فلسفة" العولمة، لا نجد عناء في إيجاد تناقض أطروحاتها مع فلسفة التاريخ الإسلامي.
فالعولمة كما أسلفنا الذكر تقوم على أساس الفردية والأنانية، وهذا في حد ذاته يعبر عن تناقضها الداخلي لأنها في الوقت الذي تدعو فيه إلى نظرية "المجتمع الدولي" فإنها تعبر عن هذه النزعة الضيقة للفرد. وعلى كل حال، فإن ذلك يناقض أيضا واقع التاريخ العربي-الإسلامي الذي يقوم على مبدإ الجماعة والشورى والحل والعقد والبيعة العامة ومبدأ الرجوع إلى جمهور المسلمين، وكلها صيغ تعكس الضمير الجمعي، بل إن التاريخ العربي يزخر بالملفات التي سببت فيها الفردية والاستبداد بسلطة القرار مساحات واسعة من التمردات والانتفاضات كما حدث في عهد الخليفة عثمان بن عفان والخلفاء الأمويين، لا بل إن التاريخ العربي-الإسلامي خاصة في بنيته المجتمعية هو تاريخ علاقات تضامن ومؤازرة يعيش الفرد داخل أمته التي تتكفل بحمايته، ويعتبر كل إنجازاته إنجازات لأمته، وهذا ما لا يتفق البتة مع مبدإ الفردانية التي تعمل على تخريب وتمزيق الرابطة الجماعية والقومية، وتسعى إلى فصل الفرد عن أمته. وبقراءة مختلف حقب التاريخ الإسلامي، يتبين أنه ظل يسير دوما على إيقاع الأمة لا على وتيرة الفرد. ومن العسير أن نجد مؤرخا واحدا من مؤرخي المسلمين منذ ظهور التدوين التاريخي يكتب بعيدا عن هموم أمته، إذ ظلت منظومة الأمة هي السمة التي وسمت بميسمها ذهنية المؤرخ في جل العصور الإسلامية. بل إن حتى زعماء حركات الاحتجاج والعصيان في التاريخ العربي-الإسلامي لم يرفعوا شعار الخروج عن الأمة. فكيف يمكن قلب هذه الحقيقة لتفشي هذا التاريخ بمقولة الفردانية الوهمية، علما بأن التاريخ نفسه من صنع المجتمع، لا من صنع الفرد كما أجمعت على ذلك معظم الاتجاهات التاريخية العلمية الحديثة.
أما بخصوص نقطة الحياد التي تقوم عليها ثقافة العولمة، فتمثل منحى خطيرا في دراسة التاريخ العربي. فتطبيق الحياد بالمفهوم العولمي يجعل المؤرخ العربي يكتب وهو في حل من كل التزام بقضايا أمته. وعندما يلاحظ أخطاء ترتكب في التحليل أو تهم مجانية تلصق ببعض الشخصيات الإسلامية، لا يمكن أن يعارض انطلاقا من مبدإ الحياد. وعندما يقرأ أحكاما ملغومة تسطرها أقلام بعض المستشرقين عن تاريخ السيرة النبوية أو الصحابة أو الخلفاء الراشدين أو أو..، عليه أن "يسكت" دون أدنى تعليق أو مساءلة أو فحص باسم الحياد..! إنها محاولة لتركيع الحس التاريخي لا يمكن أن يقبلها كل عاقل ودارس أمين للتاريخ العربي.
إذا انتقلنا إلى المغالطة التي تطرحها العولمة حول طبيعة الفوارق البشرية التي لا تتغير حسب وجهة نظرنا، واعتبارها مسألة عادية، نلاحظ أن هذا التوجه يتناقض كذلك مع روح التاريخ العربي-الإسلامي. فمعظم التحولات والانعطافات التي شهدها العالم الإسلامي في تاريخه إنما كانت نتيجة الصراعات المتأججة بسبب الفوارق الطبقية والاجتماعية وكثرة الاستغلال وما يتمخض عن ذلك من صراع اجتماعي. وفي القرآن الكريم تنبث العديد من الآيات التي تجسد هذه الروح، وتؤكد حتمية الصراع الاجتماعي، وثمة العديد من النماذج في التاريخ العربي-الإسلامي التي تؤكد هذه الحقيقة ودورها في المتغيرات التي يشهدها التاريخ مثل حركة أبي ذر الغفاري وحركات الخوارج والموالي في العصر الأموي وحركة الزنج في العصر العباسي. ولم يغفل القرآن الكريم حتمية انتصار المستغل على المستغل وما يتركه ذلك من اثر في صيرورة التاريخ.
ثم نصل إلى نقطة جوهرية تقوم عليها "فلسفة" العولمة، وهي تأسيس عالم دون دولة أو وطن أو أمة. ويخيل إلينا أن هذه المسألة تناقض بالتمام والكمال مقولات التاريخ العربي-الإسلامي، ففي جل حقب هذا التاريخ، نجد مؤسسة الدولة والخلافة تلعب دورا أساسيا. وقد تطرق مصنفو كتب الأحكام السلطانية كالماوردي وابن خلدون والفارابي والطرطوشي وابن الأزرق وابن رضوان وغيرهم إلى مؤسسة الخلافة كواجب شرعي. فابن خلدون يذكر في مقدمته أنها "حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها.. فهي في الحقيقة نيابة عن صاحب الشريعة في حفظ الدين وسياسة الدنيا". وعلى العموم لا يمكن فهم التاريخ الإسلامي دون الدولة وعلاقتها بالرعية، لقد ظلت هذه المؤسسة السياسية والاقتصادية تلعب دور الموجه. والقول بوجود مجتمع دون دولة يتناقض تماما مع طروحات التاريخ العربي، فما هي النتيجة المترتبة عن فرضية دراسته على محك هذا المنطق المغلوط (انعدام الدولة)؟ إن ذلك سيسفر دون شك عن تحرك أقلام من يريدون إذكاء النعرات القبلية والطائفية والدفع بها إلى الاحتراب، مما يساهم في تصدع الوحدة والدخول في حرب أهلية لا تحمد عقباها ولا تدرك رواجعها. ومثل هذا التحليل الطائفي يشكل تناقضا صارخا مع الروح الإسلامية، ومحاولة لتلغيم حقل التاريخ العربي.
كما أن إلغاء الدولة يستتبعه إلغاء الحدود والجمارك، وهو ما ينادي به نظام العولمة. والتسليم بهذه الفكرة يعني نجاح خطط الاختراق وإمكانية تسرب كتب أو أشرطة قد تشوش على ثوابت التاريخ العربي في غياب ضبط ومراقبة علميين.
ومن الآثار السلبية التي تخلفها العولمة على صعيد كتابة التاريخ العربي تعميق الخلاف بين الاتجاه التقليدي والتحديثي في الكتابة التاريخية. فرواد اتجاه التحديث يستفيدون من التكنولوجيا التي توفرها العولمة من حيث امتلاك تقنيات البحث خاصة الوسائل السمعية والبصرية، المرئية واللامرئية بفضل تعاملهم باللغة الإنجليزية، مما يؤدي إلى توسيع الهوة بينهم وبين المؤرخين التقليديين الذين تزيد انعزاليتهم ويرتمون في ثقافة الجمود، ويتمخض عن ذلك ازدياد العداء بين الجانبين قد يكون له تأثير سلبي على تكاثف الجهد المفروض أن يكون بين الاتجاهين، والحوار الواجب إقامته بينهما من أجل كتابة التاريخ العربي-الإسلامي كتابة سليمة تثريها الآراء المتنوعة.
ودون تغافل مسألة اللغة الإنجليزية، لا يخفى أن العولمة تسعى إلى جعلها اللغة التي توحد مستويات كتابة التاريخ العربي وتعطيل فاعلية لغة القرآن.
وبالرجوع إلى إحدى الأسس التي تقوم عليها ثقافة العولمة وهي ارتكازها على ثقافة الصورة لا ثقافة المكتوب، يمكن أن نتنبأ بأن التاريخ العربي سيصبح مختزلا في مجموعة من الصور التي لا تعبر عما يحويه التراث التاريخي المكتوب من قيمة علمية وفنية. وبما أن الصورة تكتسي سلطة رمزية على صعيد الإدراك الثقافي العام، فإن النظام السمعي-البصري يصبح المصدر الأقوى لإنتاج القيم وتشكيل الوعي والوجدان، ويتم الابتعاد عن الثقافة المكتوبة، مما يؤدي إلى تراجع معدلات القراءة في كتب التاريخ العربي، وعدم الإحاطة بمضمونه الغني بالتجارب والإنجازات، وهو ما يعكس النفق المظلم الذي تسير نحوه دراسة هذا التاريخ. هذا لا يعني أننا نقف موقفا مضادا لثقافة الصورة، لكننا نرى أنها يجب أن تسير موازية مع التراث المكتوب.
يبقى أخيرا الإشارة إلى مسألة هامة وهي أن ثقافة العولمة التي تقوم على تفوق في التقانة تحاول أن تسخر هذا التفوق لإبراز ذاتها وإقصاء ثقافة الآخر بما يعني ذلك إقصاء تاريخه وهويته فتصبح التكنولوجيا أداة قهر ومحاولة من الأمة المصنعة لطمس تاريخ الأمم غير المصنعة بما ينطوي عليه التقدم التكنولوجي من زيادة درجة النمطية Standarisation في عملية الإنتاج علما بأن النمطية نقيض التميز. ويستشف من هذا الكلام أن نظام العولمة بما يملكه من طاقة تكنولوجية، يسعى إلى إقحام التاريخ العربي في دائرة النمطية، ضاربا بعرض الحائط خصائص الهوية التاريخية العربية-الإسلامية. وتعد هذه العملية عدوانا على التاريخ العربي، لا يمكن إلا أن ينتج تاريخا مشوها يخضع للنمطية الأمريكية.
وتلعب وسائل الإعلام التي هي الابنة الشرعية لهذا للعولمة الثقافية دورا خطيرا في تشويه بعض المعتقدات الإسلامية كما تفعل أحيانا بعض المواقع الصهيونية في شبكة الإنترنيت، مماي يؤثر سلبا على التاريخ العربي.
هذه بعض الجوانب التي يخيل إلينا أنها ستكون ضحية العولمة في أفق الألفية الثالثة، بل إن بعضها بدأ تأثيره منذ الآن، فما هي الوسائل التي نراها كفيلة بالتصدي للعولمة حتى يبقى تاريخنا العربي بمنأى عن أخطارها، وبعيدا عن الابتذالية والتحريفية؟
التاريخ العربي في مفترق الطرق: مقترحات للمواجهة والتفاعل:
هل المؤرخ العربي قادر على مواكب العولمة ودخول معتركها ومواجهة نتائجها السلبية وإثبات الهوية التاريخية العربية؟ هل يمتلك ما يكفي من قوة الفعل والتأثير ما يجعله يبتعد عن خطر الانطماس والذوبان؟
تختلف مواقف المثقفين العرب من العولمة عموما بأبعادها الحضارية ما بين رافض إلى درجة القطيعة دون أن يعي أنه يقف بموقفه هذا ضد مسيرة البشرية، وقابل دون تحفظ لأنها في نظره قدر لا مفر منه، دون أن يتنبه إلى سلبياتها الخطيرة كما تبين من خلال تطبيق مقولاتها على التاريخ العربي. ونحن من جهتنا نرى أن العولمة حتمية تاريخية، لكن ذلك لا يعني التسليم بحتمية القيم التي تتأسس عليها.
من ناحية أخرى فإن بناء خطة لمواجهة العولمة من أجل الحفاظ على "صحة" تاريخنا العربي لا ينبغي أن تؤول على أنها دعوة رجعية تسعى إلى التنكر للمثاقفة وحوار الحضارات، بل هي إجراء دفاعي وممانعة لا مفر منها ضد عدوان واضح على تاريخنا، واستفزاز تشير كل التوقعات إلى احتمال تزايد خطورته، لذلك وجب البحث عن نقطة توازن للتصدي لهذا التيار الجارف والقضاء على خلاياه السرطانية. فما العمل في ظل هذا الواقع؟
قد تكون أولى المقترحات التي يفترض أن تصنف ضمن الأولويات هي تحصين التاريخ العربي أمام العولمة تجنبا لسلبياتها. وهذا أمر صحيح، لكن يرد عليه بأن نظام العولمة نظام لا يقاوم إلا بنظام يكون ندا له. ويخيل إلينا أن الأمر الصواب يكمن في تعرف المؤرخين العرب على مزايا العولمة فيأخذوا منها، وعلى عيوبها فيتجنبوها، وذلك من خلال إظهار عوراتها وقصورها، ومن ثم يمكن تحويل العولمة لصالحنا عن طريق إظهار عيوبها ودراستها وإبراز تناقضاتها، مع الأخذ بما تتيحه من إمكانيات علمية وخاصة الثورة التقنية التي أفرزت الحاسوب والإنترنيت، هذا الكائن الذي غير المعطيات وقلص بعدي الزمان والمكان وأحدث ثورة معلوماتية لا يمكن للمؤرخ العربي أن يدير له الظهر، خاصة أن مادة المؤرخ هي "المعلومات" في المقام الأول. وفي هذا الصدد نقترح دون أن نزعم أن اقتراحاتنا تشكل وصفة جاهزة ما يلي:
*إنشاء موقع عربي في الأنترنيت حول التاريخ العربي-الإسلامي يكون مبنيا على الحقائق التاريخية المنسجمة مع الروح الإسلامية والقومية العربية، ومؤيدة بالأدلة والأرقام والحجج المنطقية ويتضمن هذا الموقع:
ـ Home Page لكل المشتغلين في التاريخ العربي تسهيلا لإقامة الاتصال والحوار فيما بينهم عبر شبكة الإنترنيت العالمية، وفتح حوار علمي مع أساتذة التاريخ في الجامعات والمراكز الدراسية الغربية.
ـ وضع إمكانيات خزانات ومكتبات الجامعات العربية والإسلامية بكتبها ومخطوطاتها رهن إشارة الباحثين في التاريخ العربي عبر شبكة الأنترنيت.
ـ إنشاء بنك للمعلومات في مادة التاريخ العربي-الإسلامي حول الأعلام والأماكن والقبائل والطوائف والآثار التاريخية، وتصنيف الأقراص المدمجة (سيديروم) حول أهم المنجزات الحضارية للعالم العربي-الإسلامي.
ـ تسخير الحاسوب لوضع فهرست لكل ما كتب عن التاريخ العربي والمخطوطات غير المحققة، وإبراز المؤلفات الجديدة والأطروحات الجامعية التي تمت مناقشتها في هذا التخصص.
ـ استغلال الحاسوب لإقامة ندوات حوارية بين المتخصصين عبر كاميرا فيديو جهاز الكمبيوتر تهم إشكاليات تاريخ العرب والمسلمين، وتكون منبرا لإبراز وجهة النظر العربية ومقارعة حجج المفترين على التاريخ العربي.
ـ إدخال الدوريات المهتمة بالتاريخ العربي-الإسلامي في شبكة الحاسوب وتسهيل استغلالها عن طريق الإنترنيت كذلك.
ـ تجاوز التشتت الذي يوجد في أوساط المؤرخين العرب والمسلمين، لأنه لولا هذا التشتت لما كان ثمة تخوف من أن تمارس العولمة تأثيرا سلبيا على تاريخنا. وفي هذا الصدد ينبغي إعادة لحمة وحدة اتحاد المؤرخين العرب وتجاوز حساسيات الماضي الضيقة، خاصة أن العالم مقبل على قرن لا موقع فيه إلا للتكتلات الاقتصادية والسياسية والثقافية العملاقة، كما ينبغي تأسيس فرق بحث متخصصة، على أن تتكلف كل فرقة بفتح ورش من الأوراش داخل هذا المعمل الكبير الذي هو التاريخ العربي-الإسلامي، ثم القيام بالتنسيق وعرض النتائج عبر الموقع العربي في شبكة الأنترنيت.
ـ انخراط العالم العربي في عالم التقانة والعقلانية كفاعلين مساهمين انخراطا يكون واعيا ومتجدرا، واستغلال التكنولوجيا ومنها الأقمار الصناعية في اكتساح مختلف الحقول المعرفية، ومنها التاريخ العربي-الإسلامي الذي يهمنا في هذه الدراسة.
ـ خلق تواصل بين الجامعات العربية-الإسلامية بكل الوسائل بما في ذلك شبكة الأنترنيت لبدء حوار جاد لإصلاح مقررات هذه الجامعات بما يتلاءم مع التحولات الدولية الراهنة، ونقصد في هذا المقام مقررات مادة التاريخ العربي بما يتيح فهمه فهما جيدا وإعداد الطالب إعدادا علميا على أساس مناهج سليمة يراعى فيها إدخال الوسائل التكنولوجية الحديثة تمهيدا لإعداد مؤرخ ذي تكوين ثقافي متعدد التخصصات لمواجهة ما يدور في ساحة العولمة.
ـ تأسيس قناة فضائية عربية موحدة تهتم بالمشروع الحضاري العربي مستقبله وماضيه يكون ضمن برامجها حلقات بحث ومحاضرات وندوات وأفلام عن تاريخ العرب والإسلام، وتتصدى في الوقت ذاته لتصحيح ما تبثه وسائل الإعلام الغربية من مغالطات حول هذا التاريخ.
ـ تأسيس مركز عام لدراسة التاريخ العربي-الإسلامي يكون نواة تحيط بها دوائر مراكز أخرى منبثة في العالم الإسلامي.
ـ إعداد مؤرخ عربي متعدد التخصصات، متنوع الثقافات، قادر على استيعاب إيجابيات العالمية لمواجهة أخطار العولمة، ونعني بذلك دراسة التاريخ العربي برؤى ومناهج تجمع بين الأصالة والمعاصرة، بين ما هو غني متوفر في تراثنا، وبينما هو موجود في الغرب، أي أننا لا نرى أي ضرر في تحديث تاريخنا دون التفريط بذرة من أصالته. ومسألة التحديث لا تعني انبهار بالمدارس الغربية أو تأثرا بسلطة الغرب المعرفية بقدر ما تعبر عن قناعتنا بأن الحداثة يمكن أن تنطلق من الداخل، أي من التراث التاريخي نفسه دون أن تتنصل من إمكانية الاستفادة من المناهج الإنسانية سواء كانت غربية أو شرقية، وهذا يعني أنه ليس ثمة أي حرج في التعامل مع مبدإ العالمية القائم على قاعدة الأخذ والعطاء والإصغاء للآخر دون نفي الذات، والاحترام المتبادل بين الحضارات نتيجة التفاعل بين الخطاب التاريخي ومشاكل المجتمع الإنساني، لذلك ينبغي من أجل التصدي للعولمة، الاستفادة من المناهج العالمية الأخرى كالمنهج الكمي الإحصائي والمنهج المقارن، ومناهج مدرسة الحوليات Ecole des annales والتاريخ الاقتصادي الجديد The New Economic History ونظريات فوكو، بل حتى مناهج المدرسة الأمريكية العلمية وغيرها من المناهج التي لا تفرض نفسها، ولكنها تقدم ذاتها كأدوات للتحليل دون أن تتعارض مع التاريخ العربي-الإسلامي.
حصيلة القول إن العولمة الثقافية تحاول بما أوتيت به من قوة تقانية وإعلامية اكتساح التاريخ العربي وتنميطه حسب توجهاتها، مما يعني إمكانية اختراقه تمهيدا لإقحامه ضمن ثقافة تجارية تتحكم فها الشركات الكبرى إذا لم يسع المؤرخ العربي إلى تخليصه من أوحالها، والتصدي لها عن طريق الاقتصار على الأخذ بإيجابياتها كما وردت في مقترحات هذه الورقة، ثم مواجهة التأثيرات السلبية المحتملة، مع الاستفادة من ظاهرة العالمية المرتكزة على التعامل بالندية مع الثقافات الأخرى تمهيدا لولوج الألفية الثالثة بثقة في الذات، وتحصين للهوية التاريخية العربية على أساس من الحوار الحضاري.