تقديم توضيحي
سبق، في مقالة سابقة، أن قمت بالرد ومناقشة ما جاء في مقالة لوليد القبيسي ( أو الكبيسي al kobeissi ) العراقي الأصل، القاطن بالنرويج، في أسبوعية courrier internationnal، يوم الجمعة، 17 ديسمبر، 2010. وبدا لي من المهم جدا، لتقريب الرد والنقاش، عرض تفاصيل ما ورد في المقالة حتى يتبين القارئ، المهتم بقضايا العربية، جدوى الحذر من مثل هذه المنشورات.
العربية لا تسعف إلا في الترحم على الأموات
يرى الكبيسي أن العالم العربي يعاني من التراجع البطيء للغة العربية فنحن لم ننجح، في رأيه، في تجديد لغتنا، وهي رمز هويتنا، وضامن وجودنا فمنذ العصر الوسيط، أحطناها بجدار برلين، ولم نهدم هذا الجدار إلى اليوم وما أنتجه اللسانيون من قواميس، يمثل، في أغلبه، حارسا لمعبدٍ، اللغة العربية فيه، لا تسعف إلا في ترتيل الشعائر، والترحم على الأموات.
2. أسباب تعقد الإصلاح اللغوي
أصبح كل إصلاح معقد، في رأيه، بسبب الرابط القوي بين اللغة، والثقافة العربية المهيمنة التي تقوم على ثلاثة ركائز: القومية العربية، والإسلام، واللغة، بحيث إذا اختفى واحد من هذه الركائز انهارت ثقافتنا. ولوصف ثلاثية الأسس في الثقافة العربية، يستعير المصطلح المسيحي، ألا وهو، الثالوث المقدس (Sainte Trinité)، وذلك، كما يقول، لأن الأمر يتعلق، فعلا، بوحدة من ثلاثة مكونات، ويقصد بذلك، تشبيه اللغة العربية، والقومية، والإسلام، في التوحد، بتوحد الأب، والابن، والروح القُدس، في الثقافة الدينية المسيحية. وإذا كان التوحد الثلاثي، يبين، يحول دون عصرنة الإسلام، وتجديد الثقافة العربية، فإنه، هو نفسه، الذي يعوق إصلاح اللغة العربية، ذلك أن ارتباط الثقافة بالإسلام يجعل مس اللغة انتهاكا للمقدسات.
يقول الكاتب: إن ربط اللغة العربية بالقومية العربية جعلنا نخسر الأقليات غير العربية، فأكراد العراق، مثلا، تضاءل اهتمامهم باللغة العربية منذ 1990. ويضيف، معلقا: لهم الحق في ذلك، ماداموا، اثنيا، ليسوا عربا، إنهم يرون العربية لغة الطغاة المهيمنين.
وينطبق الأمر، عنده، على مسيحي العالم العربي، مع أنهم، يقول، هم الذين علمونا الاستعراب arabité)) في المرحلة الأخيرة من حكم الإمبراطورية العثمانية. وفي هذا الإطار، يرى أن قاموس المنجد، الذي يعاد طبعه بانتظام، ويرافق كل تلميذ، ألفه كاثوليكي؛ في حين يظل معجم المصطلحات الطبية للبناني المروني يوسف حتي (y. hitti) غير مواز له.
وبسبب هذا الرابط بين القومية والإسلام، بدأ الأقباط، يقول، يستعملون اللهجة المصرية في منتديات الإنترنيت. وفي رأيه، قاد الرابط، نفسه، في جنوب السودان، إلى مصيبة؛ ذلك أن رئيس الجمهورية تحدث عن قرار تعريب التعليم سنة 1990، باعتباره واجبا دينيا، فجعل مسيحيو جنوب البلاد يرون العربية وسيلة للهيمنة الدينية. ويضيف، خاتما: إني مقتنع أنه لو أن النرويجية ( أو لغات أوروبية أخرى) رُبطت بالدين المسيحي، وجُعل، تعلمها ضرورة دينية، فإن أطفال الأقليات المسلمة في أوروبا كانوا سيرفضون تعلمها. ويتابع: إن الفكرة القائلة بأن تطوير اللغة سيبعدنا عن الدين فكرة خاطئة، فثلثي المسلمين غير عرب، ومع أنهم لا يتكلمون العربية، فإنهم لم يتراجعوا عن الإسلام.
هل يمكن فهم اللغة بدون النحو؟
جواب كاتب المقالة: "نعم". ومبررات جوابه تبدأ من عقد مقارنة بين تعلمه النرويجية، وفشله في جعل أربعة طلبة نرويجيين يتقنون العربية. فخلال سنتين، لم يصبح قادرا على تكلم النرويجية، بل أصبح يكتب مقالة، في عمود خاص، في إحدى الأسبوعيات النرويجية، بينما ظل طلبته غير قادرين، رغم الجهد، على إتقان العربية، إلى حد أن أحدهم قال له: لقد علمناك لغتنا في سنتين، وها أنت قادر على الكتابة ، في الوقت الذي ما زلنا ، نحن، لم نتعلم العربية.
ويُصرح: لقد قلقت، لأنني كنت أعتمد الطريقة، نفسها، التي تُستعمل في الجامعة، ولأن تلاميذي لم يكونوا أطفالا صغارا. ويستخلص تفسيرا للمعضلة قائلا: إن العربية الأدبية (littéraire) لغة مكتوبة، أولا، وليست متكلمة، وأغلب الكتاب العرب لا يفرضون أنفسهم إلا بعد سن الأربعين، ذلك، في تصوره الاستكشافي، لأن إتقان اللغة العربية يتطلب وقتا أكبر مما تتطلبه اللغات الأوروبية.
وهنا يُراجع تجربته في تعليم العربية، ويصل إلى بيت القصيد، ويلاحظ أننا نضيع الوقت في تعلم التركيب (la syntaxe)، خصوصا، وأن قلة فقط من المختصين، هم الذين يتوفقون في التمكن منه. ثم يُضيف: فعلا، يعد التحليل النحوي هو المشكل الرئيس للغتنا، لأنه يُمثل عائقا يُتعب المدرسين، ويحول دون إمكان التمكن من القراءة والكتابة.
ولتأكيد خلاصته، عاد إلى الكتب القديمة، وبحوث المصلحين، واكتشف أن آباءنا، وأجدادنا كانوا يُخطئون مثلنا، وذلك منذ العصور الإسلامية الأولى، لكن، ولأن المحيط كان أكثر انفتاحا، ولم يكن أحد يتهم مصلحي اللغة بالاستشراق، فقد جاء الحل من أعلى سلطة في ذلك العصر: الخليفة الأموي الوليد (668- 715) الذي أصدر مرسوما يمنع الحديث عن النحو حين لا يكون ذلك ضروريا.
وهكذا، بعد سرد اكتشافاته، وقصصه، يُؤكد جوابه بدلائل. ودليله الأول أن اللهجات العربية، التي نتكلم، تستغني عن التركيب، مما يدل على أننا يمكن أن نتكلم العربية دون دراستها (sans l’étudier )، فاللهجات، عنده، ردمت الهوة بين المكتوب والمنطوق.
الهجرة إلى أوروبا وتغيير الموقف من العربية
لنقرأ قصة تغيير الموقف: يقول: حين هاجرت من المشرق إلى أوروبا، كنت أرى في الدعوات إلى إصلاح اللغة رغبة في الانقسام، لأن اللغة العربية توحدنا، وعداوة للإسلام، لأن اللغة العربية تربطنا بديننا، وقرآننا.
لكن ما أن وصلت إلى النرويج حتى حصلت على وظيفة أستاذ اللغة العربية لتدريس أبناء المهاجرين العراقيين، والسوريين، واللبنانيين، والفلسطينيين، والتونسيين، والمغاربة. ومنذ الدرس الأول، عرفت أن هؤلاء الأطفال لا يتكلمون العربية الكلاسيكية، ولا يتفاهمون بهذه اللغة، بل ، كانوا يتكلمون لهجاتهم، ولم تكن العربية لغتهم الأم. ويتابع: لن أنسى مشهد الاستغراب، من خلال الأفواه والعيون المفتوحة للتلاميذ الصغار عندما سمعوني أتكلم العربية، فقد بدوت ، لهم، كما لو أني قادم من كوكب آخر.
يسترسل في الحكاية، ويقول: قلقت، وفكرت في المدافعين عن اللغة العربية، فهم يعتبرون صيانة اللغة العربية الكلاسيكية عامل وحدة، في وقت لاحظت فيه العكس، فالمغربي لا يفهم العراقي، والعراقي لا يفهم التونسي، والتونسي لا يفهم الفلسطيني، وبالنظر إلى واقع الأمور، ستستمر اللهجات، يقول، في الابتعاد عن بعضها البعض، واكتشفت، في الآن نفسه، أن اللغة النرويجية الحالية ليست هي اللغة التي كانت قبل خمسين سنة، ففي الإدارات، كان يجب تعلم اللغة الرسمية المكتوبة، فحل المشكل بكتابة اللهجات، واستعمالها في الإعلام، وبهذا، أصبحت اللهجات المختلفة لغة واحدة اندمجت، والتحمت باللغة الرسمية، واليوم، النرويجيون يكتبون كما يتكلمون.
اللغة العربية لغة فقيرة
يقر الكاتب معاناة العربية من فقر حقيقي، رغم وعيه، يقول، بخطورة ما قد يثيره ذلك (أي إقراره) من سخط المتمسكين بوهم عبقرية اللغة العربية. ويذهب إلى أن الخطاب المستدل بغنى العربية لتعدد كلماتها خادع، لأن اللغات الأخرى، تتميز، بدورها ،بهذا التعدد، والغنى. ثم يدفع الوهم بسؤاله: فيما ينفع وجود 6000 كلمة تدل على الجمل، إذا كانت لا تستعمل للحديث عن الجمل. إننا، يتابع مستخلصا: يمكن أن نفعل مثلما فعل النرويجيون في جعل مكتوبنا مثل منطوقنا، شرط تغيير حكمنا المسبق عن اللهجات، والتوقف عن اعتبارها وسيلة اتصال مع الأجانب من غير العرب، ومن غير ذوي الأصل العربي، أو غير الأقحاح، ولنا في القرآن عبرة، فهو، يتضمن كلمات عبرية، ولاتينية، أو فارسية، كما أنه استمد أكبر من 300 كلمة مما يزيد عن خمسين لهجة لقبائل تلك المرحلة.
خاتمة وتوسيع للمناقشة
كانت تلك تفاصيل الدعوة إلى تبني اللهجات العربية بدل اللغة العربية الفصيحة، لغات كلام، وحديث، وتواصل. ولقد ناقشنا، بتركيز عددا من الأفكار الخاطئة ، المنشورة باللغة الفرنسية، ضمن الأسبوعية المذكورة، ونظرا لخطورة المغالطات، نوسع النقاش، بفحص التفاصيل المعروضة.
نكتفي، بالنسبة لما ورد ، في الفقرة الأولى، بتكرار حيوية العربية الفصيحة في الاستعمال الرسمي ، الحديث، المعبر عن قضايا العصر، بينما يقتصر الانحسار على العلوم، وليس ذلك لنقص في العربية نفسها، بل، بسبب الخطط المتتابعة، والقرارات السياسية المتخاذلة.
وإذا كان الكاتب يعتبر أن تعقد إصلاح العربية يعود لعلاقة هذه اللغة بالقومية العربية، والإسلام، فإننا، على العكس، نرى أن الارتباط، القومي العربي الإسلامي، مصدر قوة اللغة العربية، وارتفاع نسبة متكلميها، وانتشارها، كما نراه سر المجد، والثقافة العميقة، والتاريخ الحافل... المرتبط بهذه اللغة. فقد تميزت لغة الشعر الجاهلي، قبل الإسلام، بالرونق، والجمال، ولما جاء الإسلام ازدادت اللغة العربية جمالا، واكتسحت مختلف التخصصات، بتطورٍ، لم يشهده التاريخ من قبل...فكيف يكون الدين القومي العربي الإسلامي، الذي جعل العربية تعيش أرقى، وأزهى مراحل التاريخ، هو الدين، نفسه، الذي يدعي صاحب المقال إعاقته لإصلاح العربية اليوم؟ أ ليس، لأن المسلمين آنذاك، بعكسهم اليوم، كانوا متحكمين في قضايا السياسة، والأدب، والعلم، متمكنين من آليات الإنتاج، والإبداع، والتقدم، والرخاء؟
إن سطحية الكاتب، في رؤية، إيجابيةِ الرابط الديني القومي العربي، هو الذي أوقعه في مغالطات سماها خسائر، فمثل لذلك بالأكراد، والأقباط، والمهاجرين إلى أوروبا، من جهة، وبمسيحي جنوب السودان، من جهة أخرى.
فلا يشك أحد في أن تراجع الأكراد عن العربية في العراق، إذا كان صحيحا، سببه الوضع السياسي الذي عرفه هذا البلد منذ سنة 1990، أي منذ ما عرف بعاصفة الصحراء. كما يعلم الملمون بقضايا اللغة، من الناحية السوسيولسانية، أن استعمال الأقباط، أو غيرهم، بما فيهم العرب، اللهجة للحديث في المنتديات الإلكترونية، غالبا ما يكون سببه العلاقات الحميمة، أو ضعف الموضوعات المناقشة، أو ضعف المتحدثين أنفسهم، إذ اللغة ترتبط بالفكر، وكلما ارتقى الفكر، ارتقت اللغة المعبرة. ومن الطبيعي، فيما تؤكد الدراسات السوسيولسانية، أن يكون رد الفعل، الذي أثاره قرار الرئيس السوداني، سلبيا، لأن كل قرار سياسي أو خطة لغوية، لا تراعي لغات الأقليات، تُحدث رفضا، واحتجاجا لدى أصحاب اللغة المتضررة. أما تعلم أبناء المهاجرين للغات الأوروبية، فلأنه ضرورة سوسيولسانية كذلك، بصرف النظر عن ارتباط أو عدم ارتباط اللغة المتعلمة بالدين، فعلوم أن الناس يتعلمون اللغات التي تحقق لهم أغراضا شخصية، أو مهنية، كالاندماج في مجتمع المهجر، ومعروف، أيضا، أ، تعلم لغة أجنبية لا يؤثر أبدا على اللغة الأصل، من حيث هي لغة الهوية.
ومن الغريب، الصادم، ادعاء الكاتب تعلم العرب الاستعراب، في المرحلة الأخيرة، من الحكم العثماني. وتأتي الغرابة من الجهل بالتاريخ، إذ تمثل المرحلة العثمانية التراجع العربي القومي، والتلاميذ الصغار، أنفسهم، على علم بمصطلح الرجل المريض الذي ارتبط بزمن الإمبراطورية العثمانية. ومن منا يجهل أن التعريب أينع، والعربية تقدمت، في العصور الإسلامية، والأموية، والعباسية.
ومن الأسئلة الممكن طرحها، بخصوص ما قاله الكاتب في الفقرة الثانية: ما هو الفرق بين انتشار قاموس عربي ألفه كاثوليكي، وعدم انتشار آخر ألفه عربي؟ وإذا تركنا جانبا، أن انتشار القاموس الأول، قد يعود لاستجابته للمتطلبات العامة للمستعمل، بينما يحول التخصص القطاعي الطبي دون انتشار الثاني؛ فلماذا يربط الكاتب الأسباب بالعرق، والجنس؟ ومتى كان للإنتاج الفكري، عربيا كان أو غير عربي، عرقا، أو جنسا ، غير الجنس الإنساني، بمعناه العام؟ ثم من قال، غير الكاتب: إن تطوير اللغة يُبعد عن الدين؟ أ لا يعلم أن كل من صفة: عربي، ومسلم، أو غير عربي، ومسلم، يُمثل رمزا هويا، وتاريخا، ورصيدا، وثقافة؟ وهل حدث أن غير شعب جلده بسبب لون هذا الجلد حتى يحتج الكاتب بأن المسلمين غير العرب لم يتراجعوا عن دينهم؟
على مستوى آخر، يذهب الكاتب، في الفقرة الثالثة، إلى إمكان فهم اللغة بدون نحو. فهل هناك لغة تُفهم بدون نحو؟ بماذا تُميز اللغات بين الفعل، والفاعل، والمفعول، والحرف، والكلمة، والجملة، وغير ذلك من مكونات الكلام، إن لم يكن بالنحو؟ وكيف يمكن فهم نسق بدون مفاتيح الفهم؟
ونكرر، بالنسبة لقصة الفشل في تعليم الأجانب العربية، أن تعليم العربية، لغير الناطقين بها ، يحتاج إلى متخصص، بينما قدمت الأسبوعية الكاتب على أنه صحافي، وروائي. كما نكرر، بخصوص استخلاصه، أن العربية لغة مكتوبة غير متكلمة، أنه، إذا استثنينا اللغات الميتة، ليست هناك لغة طبيعية تكتب ولا تُتكلم، بل إن الكلام يسبق الكتابة في الوجود. ويعد، من المضحك، القول أن صعوبة العربية تجعل أغلب الكتاب العرب لا يفرضون أنفسهم إلا بعد سن الأربعين، وإلا فبماذا نفسر بزوغ أطفال صغار نثرا، وشعرا؟
ونعتبر ادعاء تطلب تعليم العربية وقتا أطول مما تتطلبه اللغات الأوروبية جهلا بحقيقة تساوي اللغات الطبيعة، وإذا صح أن لغة تُتعلم بسرعة، عكس أخرى، فإن ذلك يعود إلى مناهج التعليم، وأدواته، وإلى المعلمين أنفسهم.
لقد أكثر الكاتب من الحجج الواهية ليصل إلى كون العرب يضيعون الوقت في تعلم التركيب، وأن النحو يحول دون تعلم القراءة، والكتابة. وفي هذا السياق، يضيف من دلائله الاستشهاد بمنع الخليفة الوليد الاحتجاج بالنحو حين لا يكون ذلك ضروريا. وهو، وإن كان يصرح ، ضمنا، أنه غير مختص في التركيب، فإنه، يقرر دعوة العرب للاستغناء عنه، ويسعى لإقناعهم بإعاقة النحو تعلم القراءة، والكتابة. أ فلا يعلم أن هاتين المهارتين تمكنان من النحو، وأن النحو يمكن منهما، بحكم تفاعل مكونات اللغة؟ ثم، لا شك، أن الكاتب لا يستحضر من العرب غير تلاميذه الصغار، وإلا ما غفل عن خلفيات نهي الخليفة عن استعمال النحو بدون ضرورة: فتاريخ النحو العربي، عُرف باستدلال التعجيز بين العلماء، خصوصا في حضرة الخلفاء، فقد كان الكوفي يعقد المعطيات حتى يظهر، خصمه البصري، أقل دراية بالنحو، فيحظى بنيل إعجاب الخليفة دونه: فالدعوة لم تكن للتخلي عن النحو، بل لعدم تعقيد غير المعقد.
وعموما، ظل الكاتب يغالطنا، ويغالط نفسه، ليصل إلى اقتراحه العجيب، ألا، وهو: أيها العرب، تكلموا اللهجات، لأنها تستغني عن التركيب. وهنا يؤكد لنا أن لا علاقة له لا بالنحو، ولا بالتركيب، ولا باللغة. لماذا؟ لأن اللهجات لغات، ولكل اللغات نحو، وتركيب، ودلالة. وإذا كنا نتقن اللهجات دون تعلمها، فلأنها مكتسبة، تُتعلم بشكل طبيعي، وتلقائي، ضمن العشيرة اللغوية. وإذا كان المهاجرون العرب لا يتفاهمون باللهجات، كما لاحظ، فلأن اللهجات لا تختلف من بلد إلى آخر فقط، بل تختلف في البلد الواحد من قرية إلى قرية، ومن منطقة إلى أخرى فكيف نوسط للتواصل لغات متعددة، مختلفة، تتباين بتباين البيئات المجتمعية، ونترك لغة مشتركة، منمطة، تاريخية، رسمية، ممعيرة؟
لقد حل مشكل اللغة النرويجية، يقول، بالسماح لدخول اللهجات القطاع الإعلامي، فهل الإعلام العربي لا يُترجم جديد اللهجات؟ أ لا يعبر الإعلام العربي على القضايا المعاصرة بلغة حيوية ، تدمج لألفاظ العصر، سواء أتت من اللهجات، والعاميات، أو من المعرب، والمترجم من اللغات الأجنبية؟ إن العرب الذين لا يكتبون كما يتكلمون، هم غير المتعلمين ممن لم تتح لهم فرصة التعلم، والدرس.
ويخلط الكاتب، في الفقرة الرابعة، بين ثروات اللغة، التي تتمثل في تعدد الكلمات للمعنى الواحد، وبين استعمال هذه الثروة بحسب الحاجة. كما يعتبر عدم استعمال الثروة فقرا، وبذلك يغفل، مرة أخرى حقائق بيداغوجية دالة، منها، أننا قد لا نعلم الطفل إلا لفظ جمل، وأن غير ذلك من أسماء هذا الحيوان، يظل، خارج المناهج الدراسية، مخزنا في ذاكرة اللغة، عبر المعاجم، والكتب.
وكان ينبغي على الكاتب أن يرى في إدماج لغة القرآن الفصيحة للهجات، والألفاظ اللاتينية، والفارسية، سيرورة تقريب قادها القراء، والفقهاء، والعلماء، بقواعد النسق العربي، وقيوده المشتركة، الموحدة.
ومرة أخرى، ندعو القارئ، المهتم بقضايا اللغة العربية، إلى التمعن في خطورة حسم البعض، من غير المتخصصين، في قضايا لغوية مصيرية، دون أدنى استحضار للمفاهيم البسيطة عن طبيعة اللغات، واللهجات، والفرق بين اللغات المشتركة، العامة، التاريخانية، وبين اللغات الجهوية، المحلية، اللهجية، من ناحية، وسيرورات التقريب، والدمج، مما يحتاج إلى درس متأني، وتنسيق علمي بناء، من ناحية أخرى.