اتسمت العلاقات المغربية العثمانية بالمد والجزر، فهي قد كانت في حالة جزر خلال الفترات الأولى من استقرار العثمانيين في شمال إفريقيا، فالمغرب في هذه الحالة بدأ معاديا في علاقاته مع الإمبراطورية العثمانية، لكنه انتهى إلى التعاطف معها.
فخلال المرحلة الأولى، يلاحظ أن الإمبراطورية قد هيمنت سياسيا على العالم العربي، فاستطاعت أن تملأ الفراغ السياسي الذي كانت تعيشه هذه البلاد التي أصبحت عرضة للهجمات الإيبرية خلال القرن السادس عشر. إلا أن المغرب الأقصى ظل بعيدا عن سيادتها، ذلك أن السعديين تمكنوا من سد الفراغ السياسي الذي نتج هن ضعف الدولة الوطاسية في مواجهة الهجمات الإيبرية، " فلم تكن ثمة حاجة لأية قوة أخرى تأتي إلى البلاد "، لذلك كانت محاولات العثمانيين في ضم المغرب دائما فاشلة.
أما خلال القرن السابع عشر الميلادي وما بعده، فإن الدولة العثمانية لم تعد تشكل أي خطر على السلطة في المغرب، ذلك أن الإمبراطورية كانت قد تجاوزت مرحلة شبابها ودخلت في مرحلة الشيخوخة والضعف الذي مس كل مفاصل حياتها الاقتصادية والاجتماعية والعسكرية وبالتالي السياسية.
كل ذلك جعل التغلغل الأوروبي يتزايد داخل الإمبراطورية، حيث حصلت الدول الأوروبية على عدة امتيازات، وأصبحت تتطلع إلى تنفيذ مشاريع استثمارية ضخمة، ففرنسا كانت تفكر في شق قناة السويس، وبريطانيا تفكر وتهمد لمد خط ملاحي في أنهار العراق أو مد خط حديدي بين الإسكندرية والموصل وبغداد والبصرة الشيء الذي دفع روسيا إلى التعجيل بضرورة تحقيق أطماعها القديمة في الأراضي الخاضعة لنفوذ الإمبراطورية خاصة عندما أدركت أن سياسة بريطانيا وفرنسا تهدف إلى إبعادها عن تحقيق تلك الأهداف، تلك الأطماع هي التي كانت وراء اندلاع الحروب الروسية العثمانية التي من أهمها " حرب القرم " سنة 1853 ميلادية.
والوثيقة التي بين أيدينا تتحدث عن أخبار تلك الحرب، عثرت عليها صدفة بين طيات مخطوط نادر، وهي عبارة عن نسخة من رسالة وردت على المغرب من المشرق، ناسخها مجهول، مكتوبة بخط مغربي مقروء، تتكون من صفحتين، عدد اسطرها إحدى وأربعون سطرا.
أما لغتها فيطغى عليها لسان الدارجة المغربية، وهذا ما يجعلنا نميل إلى القول، إنها عبارة عن رواية شفوية، إلا أن قراءتنا لبداية الوثيقة ونهايتها تفيد وتؤكد أنها نسخة من رسالة وردت من المشرق: " الحمد لله هذه نسخة كتاب ورد علينا من المشرق " وتنتهي بالعبارة التالية: " ناقلها في تسع حجة عام 1314 ".
لكن الخلط الذي تقدمه الوثيقة في البلاد، يجعلنا نرجح أن الناسخ نقل عن نسخة كانت في الأصل رواية شفوية، ومما يرجح هذا الاستنتاج هو الإفراط في إطلاق العنان للخيال، وذلك عندما نقرأ: " حتى رجعت مَحَلَة عبد المجيد بها طريق ثمانية أيام والروم دمرهم الله مثل ذلك " ، وتبدو تلك المبالغة مبررة، عندما نعلم أن المسافة الزمنية التي تفصل وقوع الحدث ( حرب القرم : 1853 م) وتاريخ نسخ الوثيقة ( 1896م ) هي حوالي 44 سنة، وعليه يبدو عاديا أن نلاحظ تضحيم الحدث بحكم تناقل الخير ( الحدث) بطريقة شفوية، إضافة إلى التأثير الذي أحدثه انتشار قصص ألف ليلة وليلة في تصورات الكتاب خاصة فيما يتعلق تصوير ووصف المعارك الجهادية.
وقد يبدو ذلك واضحا بعد دراسة الوثيقة، فهي تُظْهِر لنا ضخامة عدد جيش المسلمين، فتقدمه بصورة خيالية، وقد يكون لذلك تعبير على طبيعة الحرب الجهادية، فعدد هذا الجيش يتزايد حسب الحاجة.
فهو قد كان في البداية حسب الوثيقة: " 22 لكا واللك فيه مائة ألف " مما يعني 2.200.000 مجاهد، وبعد الجولة الأولى من الحرب، أضاف السلطان 2.300.000 مجاهد، وزاد في المرة الثالثة 7.000.000 مجاهد حيث نقرأ في الوثيقة: " زادهم عبد المجيد عشرون وادا من الإسلام، كل واد فيه خمس مائة ألف ".
إذن، فمجموع أعداد الجيش العثماني الذي شارك في هذه الحرب هو: 11.500.000 جندي، زيادة على الجيش النظامي والمتطوعين من عامة الشعب، وفي هذا الصدد تقول الوثيقة: " ثم أن الأقطار أرادوا الجهاد وقالوا تركنا أموالنا وأولادنا وأعراضنا حتى نموتوا جميعا على شأن الجهاد، ثم أنتم تقوموا للجهاد لأن من جنس الطُلْبَا من السطنبول مائة ألف ومن العلماء العظمة إثنين وعشرون ألف " وقد يفسر ذلك الطابع الجهادي لهذه الحرب.
أما عدة ذلك الجيش حسب الوثيقة، فتتمثل في 4000 سفينة مع 12800 مدفع، وفي الصدد تقول الوثيقة: " وخرج من السطنبول ثمانون قبقا والقبق فيه من المدافع مائة وستة مدفعا وثلاثة ألف رجل ".
وهكذا، يظهر أن الجيش العثماني كان ينقسم إلى عدة فرق: فرقة المدفعية والبحرية والمشاة.
وفي المقابل لا تعطي الوثيقة رقما دقيقا حول تعداد جيش العدو، بل تكتفي بالمقارنة، حيث نقرأ: " حتى رجعت محلة عبد المجيد فيها طريق ثمانية أيام والروم دمرهم الله مثل ذلك " ، يفيد هذا القول أن الجيشين كانا متكافئين من حيث العدد، لكنهما يختلفان من حيث العدة والحماس، فجيش العدو كان يتوفر على ' 120 قبقا " أي ما مجموع 19200 مدفعا، في حين كان جيش المسلمين يتوفر على 12800 مدفع، إلا أن الوثيقة قد سكتت على عدد سفن العدو، لكنها تتحدث بكيفية غير مباشرة عن حسن تجهيز جيش العدو من حيث العدة، تقول الوثيقة: " والملاقة الثانية أخذ المالك عبد المجيد أضاع الله بلاد المسك يقال لها دار الحرب، كان يصنع فيها المدافع والمهراز والكور وغير ذلك " ، واضح أن هذه العبارات تنطق بكيفية صريحة بمستوى التسليح الكبير الذي كان عليه الجيش الروسي أنداك، ورغم ذلك كانت نتيجة هذه الحرب حسب الوثيقة ثقيلة على الكفار، فلم يستشهد من المسلمين سوى 74000 مجاهد، وغنم المسلمون 4800 مدفع و 90000 أسير، وبذلك يبدو أن العدو مني بهزيمة كبرى، جعلته يطلب الصلح الذي سكتت الوثيقة عن محتواه بل اكتفت بالإشارة إلى الفرحة الكبيرة التي غمرت المسلمين بعد الانتصار.
وحسب بعض الدراسات فإن السلطان عبد المجيد قد استعان بالقوات المصرية إلى جانب تدخل الأسطول البحري الفرنسي والإنجليزي، فأرغمت القوات الروسية على التراجع، وقد استمرت الحرب حتى سنة 1956، حيث عقد مؤتمرا للصلح بباريس والذي قضى " بانسحاب جيوش كل من الفريقين من الأراضي التي احتلتها خلال حرب القرم، وضمن الدول استقلال الإمبراطورية العثمانية، وأجازت لها بصفتها عضوا في مجموعة الدول الأوروبية أن تتمتع بجميع امتيازات القانون الدولي... وبأن يصبح البحر الأسود منطقة حياد... وتعهد الباب العالي بأن يمنح كلا من البغدان والأفلاق إدارة أهلية مستقلة، وأن تضمن لسكانها حرية العبادة والتشريع والتجارة...".
يبدو أن نفقات حرب القرم كانت كبيرة، الشيء الذي جعل السلطان عبد المجيد يتجه نحو طلب القروض الأوربية، ورغم ذلك استمر عجز الخزينة العثمانية في الارتفاع حتى أن السلطان قبل في أواخر أيامه إلى رهن بعض موارد الدولة الحيوية مثل الجمارك واحتكار الدول الأوربية لتجارة الملح والتبغ، وبذلك ازداد التغلغل الأوربي داخل الإمبراطورية التي أصبحت تسير بسرعة نحو التدهور.
وبالرجوع إلى الوثيقة التي بين أيدينا، نلاحظ أنه يطغى على محتواها نزعة المبالغة وتضخيم المحاسن مع غض الطرف عن المشاكل والسلبيات، وربما تلك هي سمة تطبع هذا النوع من الوثائق التي تميل إلى الخطاب الحماسي / الجهادي، الشيء الذي يؤدي إلى تضخيم الأحداث لكي تكون لها قوة التأثير على المجاهدين؛ فالوثيقة كذلك يطغى عليها كراهية المسلمين للكفار.
ورغم ذلك فالوثيقة قد تفيد الباحث في مدى اهتمام المغاربة بأخبار الدولة العثمانية، والمحن المتكررة التي واجهتها تلك الدولة قبل سقوطها بعد نهاية الحرب العالمية الأولى.
فالاهتمام الشعبي المغربي بأخبار الدولة العثمانية يأتي من كون الإمبراطورية كانت تحارب قوة كافرة " فالسلطان عبد المجيد نصره الله خرج إلى عدو الله المسك دمره الله " وهذا يفيد أن العثمانيين كانوا يمثلون دار الإسلام ومن ثم وجبت مناصرتهم.
إن الوثيقة التي بين أيدينا تفيدنا كذلك في رصد درجة العداء التي تعبر عنها وجهة نظر العامة تجاه الدول النصرانية المسيحية التي تهدد الأراضي العربية الإسلامية.
كما تفيد الوثيقة في معرفة ضراوة المعارك التي كانت تدور بين العثمانيين والإمبراطورية الروسية المسيحية الشيء الذي يدفعنا إلى أن نستنتج أن أسباب هذه الحرب تتمركز حول جلب التأييد الشعبي لمناصرة العثمانيين، قد يفهم ذلك من خلال عداء الدولة العثمانية للحركة الوهابية التي قامت على أساس محاربة زيارة الأضرحة والطرق الصوفية، فبدا ذلك الموقف متجاوبا مع ما كان يسود المغرب من الاهتمام الشعبي بالأولياء والطرق الصوفية المختلفة.
تعمق هذا الاهتمام خصوصا وقد كانت العلاقات المغربية العثمانية يطبعها الود والاحترام المتبادل حيث نجد سلطان المغرب المولى عبد الرحمن قد راسل السلطان العثماني عبد المجيد مبلغا إياه تعازيه في والده السلطان محمود الثاني، ومهنئا إياه بتتويجه سلطانا على رأس الإمبراطورية العثمانية.
ما مدى إذن مطابقة المعلومات الواردة في الوثيقة مع الوقائع التاريخية، كما تقدمها كتب التاريخ التي تحدثت عن هذه الحرب؟
الوثيقة لم تشر إلى الأسباب التي أدت إلى اندلاع حرب القرم، والتي يقول عنها فيشر:" قامت حرب القرم نتيجة نزاع بين رهبان الكنيستين الأرثوذوكسية والكاثوليكية في أيهم أحق بحراسة بعض الأماكن المقدسة المسيحية ببيت المقدس، وكان النزاع في ذاته تافها... وانتهى هذا النزاع المتعب المثير للخواطر بوضع الحكومة التركية تسوية له أثارت حنق القيصر الشديد." .
إن ذلك النزاع لم يكن تافها كما يقول فيشر، بل هو نزاع يحدد المستفيد من امتياز حراسة الأماكن المقدسة المسيحية، والذي يعبر في حد ذاته عن ازدياد النفوذ الأجنبي داخل أراضي الإمبراطورية؛ من هذا المنطلق وحتى يتم إبعاد روسيا من توسيع نفوذها داخل أراضي السلطنة العثمانية، تدخلت القوات الإنجليزية والفرنسية إلى صف الجيش التركي ضد روسيا، وهذا أمر آخر لم تتعرض له الوثيقة.
تزامنت ظروف تلك الحرب مع تزايد مع ازدياد تنامي الأطماع الأوربية في أراضي التابعة للإمبراطورية العثمانية حيث تم احتلال الجزائر سنة 1830 م من طرف فرنسا التي كانت قد نظمت حملة عسكرية بقيادة نابليون بونبارت سنة 1798 م على مصر والشرق الأوسط، بهدف قطع الطريق ما بين بريطانيا ومستعمراتها في الهند واستغلال مواردها في غزواته في أوروبا. استمرت الحملة ثلاث سنوات وفشلت، وأسفرت عن عودة القوات الفرنسية الي بلادها.
وهكذا استمر التنافس الاستعماري بين الدول الأوربية عامة وفرنسا وإنجلترا خاصة على البلاد العربية وإفريقيا، حتى أنتهى ذلك التنافس باحتلال تلك البلاد وتقسيمها، حيث سيتم احتلال تونس من طرف فرنسا سنة 1880م بعدما كانت قد احتلت الجزائر سنة 1830، واحلت انجلترا مصر سنة 1882 م ، بينما تأخر احتلال والمغرب حتى 1912 م.
*باحث في التاريخ