استطاع عبد الكبير الخطيبي قراءة الجسم العربي من خلال موروث الثقافة الشعبية، جاعلاً من الموروث الشعبي المغربي نموذجاً لهذه الثقافة العربية. فاعتمد على التحليل العقلاني والنقد البناء، حيث نقد النظرة اللاهوتية للجسم العربي من ناحية، ونقد المقاربات الإثنولوجية التي تتعامل مع الثقافة الشعبية تعاملا خارجيا ومتعاليا من جهة أخرى. إذن فالعمل الذي قام به الخطيبي يميزه هذا "النقد المزدوج"؛ أي نقد موجه للذات عبر أمثالها وحكاياتها الشعبية، وتبيان أهمية هذا التراث، ثم نقده للمركزية الغربية التي تهمش الآخر جسداً وفكراً.
إذن، قبل تبيان ملامح مشروع الخطيبي نبين المناهج التي أنهل منها في مشروعه، حيث أنهل من تفكيكية ديريدا، وجينالوجيا نيتشه، وتداولية جاكبسون، كما نلمس تأثير هايدجر عليه كذلك. وفي مقابل هذا نجد اعتراف متبادل لقوة الخطيبي، مثلا نأخذ شهادة رولان بارت حيث يقول من بين ما أدين به للخطيبي "أننا نهتم بأشياء واحدة، بالصور، الأدلة، الحروف، العلامات. وفي الوقت نفسه يُعلمني الخطيبي جديداً، يخلخل معرفتي، لأنه يغير مكان هذه الأشكال كما آراها، يأخذني بعيداً عن ذاتي، إلى أرضه هو، في حين أحس كأني في الطرف الأقصى منه"[1]. بهذا يكون الخطيبي ذو ثقافة مزدوجة أي مشبع بمناهج غربية من جهة، وثقافة مغربية شعبية من جهة ثانية.
إن عمل الخطيبي يتجلى بوضوح في جعل الثقافة الشعبية مجال الاهتمام والدراسة، وتخليصها من النظرة اللاهوتية، كما يهدف كذلك إلى وضع فصل ما بين الجسم المفهومي والجسم الحقيقي المُعاش واقعيا، فيخاطبنا الخطيبي بأن نقرأ الجسم في ظل واقعه التاريخي وحمولته الثقافية. لأن الجسم بالنسبة لخطيبي هو أساس الهوية، وليس كما كان التقليد الديكارتي الغربي الذي جعل من العقل أساس الهوية الشخصية، وبالعقل تم تهميش ثقافات غير غربية كالثقافة العربية، لأنها في نظرهم لا تنتمي إلى ثقافة اللغوس logos(العقل). الخطيبي يؤسس لهوية مختلفة ومتغيرة حسب الزمن وحسب المجتمعات، أي ليس هناك هوية واحدة، ودليل هذا القول كما يقول كلود ليقي ستراوس ليس هنالك ثقافة واحدة. إذن، ما دام الخطيبي يتحدث عن هوية متعددة ومختلفة، فإنه يُؤسس لثقافة الاختلاف وقيم الاختلاف من داخل ثقافتنا العربية، وهذا الاختلاف والتعدد الذي يدعو له ـ الخطيبي ـ هو الفاعل والمحرك الذي نومناه لمدة طويلة، مدفوعين بمبدأ الاستبداد والهيمنة.
بهذا يكون الخطيبي استطاع أن يفكك الأرضية اللاهوتية التي ظلت تتعامل مع الجسم العربي كغياب وليس كحضور، تقسمه بين النور والظلام، يمين ويسار، خير وشر، ملائكة وشياطين، آن الآوان لهذا الجسم أن يحتفل بشهوته ومتعته تبدع قيما أخرى ليس من الضرورة تحديدها مسبقا. فكان الجسد بالنسبة للخطيبي نصاً يقرأ حروفه ومعاناته وثقله وحمولته الثقافية. فالجسم الذي يحاوره الخطيبي في الثقافة العربية ويحاول أن يرفع عنه الخصوصية، يطرح "نفسه ككوكبة من الأمثال، واقفاً على اللبس الذي ظل قائما بين الجسم المفهومي والجسم الحقيقي الذي يتكلم من خلال هذه الكوكبة من الأمثال"[2].
وقف الخطيبي على أشكال هذه الثقافة الشعبية وعلاقتها بالجسد، فتحدث عن تمظهراتها في أشكال عدة منها السحر، فتحدث عن علاقة السحر بالجسد، وكيف كان يستعمل في الثقافة الشعبية مثلا مخ الضبُع لـ "تثقف" الرجل، إنه سحر للرغبة، والنتيجة هي أن التميمة تغلف نظام الجسم وستبدله[3]. كما وقف على نجاسة الجسم من نظافته، بحيث الماء هو الذي يحل هذه المفارقة، فينقل الجسم من النجاسة إلى النظافة عندما يقبل الشخص على الصلاة، فالماء يرتب الجسم وأعضائه فتصير في طهارة.
إذن، فالهوية حسب الخطيبي لا تتحدد في الكشف عن أنا ومسرحها الداخلي، كما يزعم "ديكارت"، وإنما في التعدد والاختلاف كما قال "لوك"؛ الاختلاف الذي يؤسس لهذا الجسم الشعبي المشترك، فأساس الهوية هو الاختلاف الثقافي والسؤال عن الذات في ظل هذا التعدد، لذا الخطيبي يستلهم السؤال الدريدي الذي يسأل فيه هل نحن يونانيون؟ ليقول الخطيبي هل نحن شرقيون؟ هل نحن مغاربة؟ في ظل هذا التعدد يجب أن نسأل عن الأنا، لأنه إن ضاع الجسد ضاع المعنى حسب الخطيبي. إذن عبر هذا الجسد كيف يمكن أن نؤسس يقول الخطيبي لسلطة المتعة؟ وهو المفهوم الذي يدين به لرولان بارت.
بهذا يكون الخطيبي استطاع أن يُؤسس لموقف جديد للهوية السخصية، والخصوصية العربية، ليس على أساس العقل (اللغوس) الذي غلَّف المركزية الغربية، إنما على أساس لغة الجسد، هذا الجسد الذي ينهل من الثقافة الشعبية، فبثقافتنا الشعبية يتحقق الوجود، لذا يدعونا الخطيبي إلى الاهتمام بها، عبر خلق مؤسسات تهتم بالثقافة الشعبية كالفلكلور والحلقة والأمثال وغيرها...
الهوامش:
ـ عبد الكبير الخطيبي، الإسم العربي الجريح، ترجمة، محمد بنيس، منشورات عكاظ، شارع الحسن الثاني الرباط، سنة 2011.
[1] ـ عبد الكبير الخطيبي، الإسم العربي الجريح، ترجمة، محمد بنيس، منشورات عكاظ، شارع الحسن الثاني الرباط، سنة 2011، ص 14.
[2] ـ عبد الكبير الخطيبي، نفس المرجع، ص 32.
[3] ـ عبد الكبير الخطيبي، نفس المرجع، ص 33.