17 دجنبر
على الشريط أسفل الشاشة تتوالى الأخبار..لا جديد يذكر.. و مذيعة الجزيرة الإخبارية لا تتوانى عن إعطاءك جرعتك اليومية من الكآبة والتفصيل الممل والأسئلة التي تشبه أسئلة المحققين ..وحتى من الجمال الذي لا ينتبه له إلا من صم أذنيه عن أخبار القتل والتشريد والأزمات ونظر في عيني تلك المذيعة وجهها الذي يبعث على الارتياح..على الشريط تتوالى الأخبار المتنوعة لكنها تشترك في كونها أخبار غير مفرحة ، مما جعلني أتساءل هل العالم حقا استحال كومة كبيرة من الحزن والظلم والفساد..أم أن الجزيرة تهوى جمع القمامة وانتقاء أجود الأحزان وتعقيد الحياة عنوة..ها هو خبر آخر محزن جدا وغريب ومقزز " شاب تونسي يحرق نفسه تنديدا بما تعرض له من ظلم "..حينها تخيلت المنظر .. شخص باختياره يصب الزيت على نفسه ويشعل النار.. يا لجرأة الفكرة.. بماذا كان يفكر ساعتها ؟ أغلب ظن أنه مجنون أو شخص من أولائك الذين يهوون لعبة "المخاطرة".. ولو أن الخبر لم يعد في ذلك اليوم مرات كثيرة وعلى قنوات متعددة لكنت نسيته كما أنسى كل تلك الغرائب التي أشاهدها على اليوتوب ، والتي مهما شدتك وفاجأتك تنساها بمجرد انتهاءها وكأننا ما عدنا نستغرب شيئا في زمن الانترنيت.. حتى ولو كان الخبر يتعلق بإنسان أحرق نفسه.. لكن إعادة الخبر عدة مرات وهذه المرة مرفوقا بالصور جعلني اهتم وأبحث ..الأمر فعلا كبير خصوصا عندما تفجرت مظاهرات في سيدي بوزيد -المدينة التي شهدت الحدث- ثم عرفنا فيما بعد أن ذلك الشاب المحترق يدعى "محمد البوعزيزي"
14 يناير
رغم أنني أنتمي إلى زمرة مدمني نشرات الأخبار و من المتابعين الجيدين للحدث أينما وجد من لبنان إلى السودان فمصر وطبعا البدء من المغرب ومن المطلعين على ما يجري في العالم من واشنطن إلى الصين.. إلا أنني وفي ذلك الأسبوع بالذات لم اهتم بالقدر الكافي بمظاهرات سيدي بوزيد وكان تقديري لها أنها مجرد احتجاجات محدودة اندلعت تضامنا مع محمد البوعزيزي وتنديدا بالغلاء الذي استعر مع الأزمة المالية العالمية ثم ما يلبث أن يخمد وينتهي..ورغم تلك الخرجات الإعلامية التي قام بها الرئيس بن علي للتعليق على ما يجري -على غير العادة - لم أفكر ولو للحظة أننا بصدد ثورة في تونس..هذا البلد الذي لا نعرف عنه الكثير إلا أنه نموذج للنمو الاقتصادي ومنافس كبير في مجال السياحة و التعليم كما صور لنا الإعلام وبعض الكتابات الاستقرائية المدفوع لها.. فكنا كلما ذكرت تونس نقول عن اقتناع إنه بلد انتهج سياسة داخلية وخارجية صائبة نأت به عن كل التقلبات والعواصف التي تهدد في كل حين الدول ذات السياسات المفتوحة..وكنا نلاحظ أن المغرب معجب بذلك النموذج التونسي بل يسير في طريقه وعلى منهاجه في مجالات عدة أهمها مجال الأحوال الشخصية ..لكن كل تلك الأفكار والظنون والتقديرات هوت فجأة في بئر سحيق بدأ حفره بصورة غريبة ومفاجئة ومذهلة في يوم 17 دجنبر وانتهى الحفر يوم 14 يناير عندما صاحت تونس على حين غرة من العالم "بن علي هرب" وصحنا وراءها بكل ما فينا من استغراب وذهول " بن علي هرب !!!!!!!!! ؟؟؟؟؟ "
25 يناير
ومع مرور الأيام عرفنا القصة الكاملة لذلك الهروب التاريخي و فهمنا مالذي حدث بالضبط ، وانكشفت كل الأسرار وفتحت الخزائن واتضحت كل الأسباب والدوافع..يومها تغير كل شيء .. يومها تغير العالم بأكمله ، ويومها فقط تعلمنا دروسا كثيرة عن الحياة وعن العالم وعن دورة التاريخ ، أشياء لم نتعلمها في الجامعات ولا في كتب الدراسات..العالم كله يومها تعلم درسا مهما وخطيرا وهو درس " الممكن والمستحيل ".. الممكن عندما يقهر المستحيل والمستحيل عندما يفر هاربا من إرادة الشعب القاهرة ..والقاهرة ليست عن الدرس ببعيدة..هكذا فهمناها بحيث لم يعد يفاجئنا مثلا أن نسمع أن ما حدث بتونس سيعاد من مصر ..واتفقت التكهنات على أن الثورة لن تقتصر على تونس وأن النار التي أشعلها البوعزيزي لا محالة ستأكل الأخضر واليابس وستقضي على أنظمة بالكامل وتقلم أظافر أنظمة أخرى..والجميع خمن أن النار لم تبدأ بتونس إلا لتصل مصر .. وأن تلك الروابط التي قيل أنها مقطوعة بين المغرب والشرق العربي ستصلها نار التغيير..لكن بعضنا إلم نقل أغلبنا كان يشك أن يعاد في مصر نفس السيناريو الذي حدث في تونس .. وتفسير ذلك أن النظام في مصر نظام أقوى والشرطة المصرية أشرس ولن تكون لقمة سائغة أمام هتافات الشباب الثائر ..ورغم أننا رأينا كيف أن شباب مصر عزم على إعادة التجربة التونسية داخل مصر وتحديدهم لموعد الشرارة الأولى لانطلاق الثورة رغم ذلك أحسسنا أن التجربة لن تعاد بهذه السهولة وإلا أننا سنكون أمام معجزة...وجاء يوم 25 يناير والذي صادف احتفال الشرطة المصرية بعيد التأسيس ... وتناقلت القنوات الإخبارية على استحياء خروج بعض المظاهرات المتفرقة داخل القاهرة .. وفجأة وكما هي عادة المعجزات وجدنا أنفسنا أمام ثورة مصرية مجيدة
11 فبراير
يومها كان المخاض عسيرا وظن الجميع أن مبارك ليس هو بن علي .. ولم نغنى تلك الأغنية المجيدة التي صارت تطربنا وهي مبارك هرب على وزن بن علي هرب ، وقلنا مكانها مبارك تنحى دون علامة استفهام أو تعجب فقد اعتدنا أخيرا سقوط الأنظمة واقتنعنا بما لا يدع مجالا للشك أن حكامنا ليسوا كائنات خرافية لا يمكن أن تهزم بل هم مجرد بشر عاديين لدرجة تثير الشفقة
17 فبرار
هم فعلا مثيرون للشفقة والاشمئزاز وخصوصا عميدهم وملك ملوكهم "العقيد القذافي" الذي ومنذ اليوم الأول لاشتعال الثورة الليبية أبان عن تميز كبير جدا في التهريج والإضحاك لدرجة أنه صنع لنفسه جمهورا عريضا افتتنوا بجنونه وعشقوا خرجاته الإعلامية وتناقلوا فيما بينهم آخر قفشاته وعهره .. وتمنوا استمرار الأزمة الليبية لا لشيء فقط ليستزيدوا من ألوان الجهالة والسخف التي كان العقيد يقدمها لهم كل يوم تقريبا مقابل دماء الليبيين.. بل وأظهر عميد الحكام العرب جدارة منقطعة النظير في ألوان الحمق والإجرام معا ، حتى خشي كثيرون أننا ربما بصدد مجنون افتك من عقاله وبدأ ينشر القتل والتنكيل بمن حوله دون تمييز منه ولا رادع..وما جعلنا نطمئن قليلا هو تدخل "الناتو" فعرف العقلاء منا أننا نشهد تحقق حكمة جديدة من حكم الزمان هو تسليط الله الظالمين بعضهم يفني بعض
20 فبراير
أما فيما يخص المغاربة فقد استبشروا خيرا وهم يتابعون عن كثب سقوط العقيد ، لما لا وهم لم يسلموا من شره ومؤامراته الصبيانية الدنيئة.. لكن كل ذلك لم يكن كافيا بالنسبة لبعضهم ، فاختار مجموعة من الشباب يوما لأنفسهم ، يوم يخرجون فيه للشارع ويعبرون فيه عن مواجعهم.. وبالفعل كان لهم ذلك وخرجوا يوم 20 فبراير .. فبعضهم خرج قاصدا التظاهر بالفعل وكان مزيجا بين جماعة العدل والإحسان التي كانت بالفعل تنوي تفجير ثورة كما حدث في تونس ومصر وإسقاط النظام ، وقد جاءتها فرصة من ذهب لانجاز نواياها المبيتة وانخرطت فيها بهمة كبيرة رغم أنها ليست القومة التي تتراءى بين الفينة والأخرى في أحلام الشيخ..وبين بعض شباب اليسار الراديكالي الذين خرجوا للتعبير عن شطحاتهم الفلسفية التي نظّروا لها كثيرا دون أن يجدوا لها تحققا إلا في كتب ( شلاغمية) الثورة الروسية..فاندفعوا دون أن يعرفوا بالضبط ماذا يريدون وبمن يبدءون هل بالملك أم بالشعب..فلا الأول سهل السقوط ولا الثاني يتبنى فكرة السقوط ، ليدخلوا بعد ذلك في نوع جديد ومبتكر من الفلسفة الوجودية ملخصها : أنا في الشارع إذن أنا موجود ،هكذا يصبح الوجود في الشارع - بالنسبة لهم - والتنديد بكل شيء نوع من تحقيق الوجود الفكري والفلسفي لطائفة الرفاق الثورية..ولحكمة ما لا أعرف هل هي حكمة ربانية أم مخابراتية التقى النقيضان في مكان واحد ، العدلاويون المتمسكون لآخر رمق بالكتاب والسنة ورؤى الشيخ واليساريون رفاق القديس ماركس ، وبذلك جمع الزيت والماء في إناء واحد فاستحالت حركة 20 فبراير إلى مادة دياليكتيكة يلغي بعضها بعضا في معادلة فيزيائية تغري بالدرس والنقاش.. ( كتبت هذه الفقرة قبل انسحاب جماعة العدل والإحسان من حركة 20 فبراير) وأما المكون الثالث لحركة 20 فبراير فكان الفضوليون وما أكثرهم في بلدنا الحبيب بلد الاستثناء المقدس.. فهؤلاء لا تخلو منهم "مضاربة " في زقاق من الأزقة فكيف تخلو منهم خرجة تاريخية عظيمة قد تتحول في أي لحظة إلى مضاربة كبيرة لا تفوّت بأي حال من الأحول....هكذا مر ذلك اليوم وهكذا رتّب لأن تكون الحركة من غير هوية ولا تجاه وتدخل بالتالي ضمن الاستثناء المغربي المقدس
15 مارس
ولم يشك أحد من زمرة المتشائمين أو حتى من هواة نظرية التفاؤل أن الثورة لا بد وستضرب حصون دمشق ، وستقتلع لا محالة نظاما مخابراتيا عتيدا شيد ليكون رمزا عربيا وعالميا لإرهاب الدولة ، وهو في ذلك يشبه في أوجه كثيرة النظام الروسي ..ولعله من حكمة القدر أن تشترك روسيا وسوريا في كل الحروف المكونة لإسميهما.. وهو نظام أقل ما نقول عنه أنه نظام مبني على فكرة ( قاتل أو مقتول) وفي ظله تستحق سورية أن تكون " فاتيكان المخابرات العالمية " ..وسقوطه يعني سقوط منطقة كبيرة جدا من العالم ..وهذا ما يبرر الارتباك الأممي الحاصل تجاه الأزمة السورية و شبه التواطؤ العالمي ضدا عن رغبة الشعب السوري وما يبرر كذلك تبادل الأدوار الذي تلعبه أمريكا وروسيا فبدلا من الإسراع في تدويل الأزمة ( بالدال ) يتم تطويلها ( بالطاء) والزيادة بالتالي في تعقيدها ..وما يفسر كذلك الابتزاز الذي يتعرض له العالم من طرف شخص تافه وغبي يضع أصبعه على زر باستطاعته لو ضغط عليه أن يفجر العالم بكامله أو على الأقل منطقة الشرق الأوسط هذا الشخص هو ببساطة بشار فيا للبشرى
9 مارس
كثيرون تفاجئوا بمحتوى الخطاب الملكي وقليلون فقط توقعوا الخطاب بل ووجدوه خطوة طبيعة ومنتظرة ، فأما الذين فوجئوا فكانوا يعتقدون أن الملك منزه عن التنازل ومحصن ضد كل دعوات التغيير والإصلاح ، وقدّروا أن حركة 20 فبراير ليست بالقوة والفعالية التي تدفع إلى مثل هذا الخطاب الاسترضاءي ( على وزن استعطافي)، وأما الذين لم يفاجئوا فقد وطّنوا أنفسهم على التغيير واستعدوا له وتفاءلوا به منذ الصرخة الأولى التي نادت بالتغيير في عالمنا العربي.. بل وقرأوا شخصية الملك جيدا وفهموا أسلوبه في الحكم فهو كما عرفوه من خلال خطاباته وتحركاته وإصلاحاته وحتى من ملامحه وجهه المسالمة والمائلة إلى التواضع منه إلى العناد.. فتوقعوا أن يستجيب لدعوى الإصلاح بسرعة الذي ينتظر الفرصة ليريح ويستريح
2 ماي
قتل ابن لادن .. هكذا إذن .. لقد أراح واستراح ، وصادف مقتله سقوط الطواغيت والمستبدين وذوا السوابق في قتل الأبرياء
20 أكتوبر
وفي الوقت الذي ازداد فيه الوضع العربي تعقيدا وإثارة وفوضى وانفرج فيه الوضع المغربي قليلا بعد قبول مشروع الدستور المعدل ، وفي اللحظة التي نصاب فيها نحن معشر المتابعين بنوبة من الفتور والملل في ملاحقة الأخبار العاجلة للثورات العربية والتحليلات المتناقضة والتوقعات والاختلافات في هذه اللحظة بالضبط نسمع خبر مقتل القذافي ، ويعيدنا الخبر سريعا إلى حماستنا الأولى ونعود فنبحث عن آخر التطورات صوت وصورة ، وتصلنا أولى صور مقتل العقيد والتي تصيبنا بحالة اختلط فيها الإحساس بالانتصار بالتقزز الشديد من بشاعة المنظر لتتملكنا في الأخير رغبة ملحة في التقيؤ ، لننام ليلتنا تلك ونحن متأكدين أن العرب هم أشد خلق الله عنفا و وحشية إن هم ابتعدوا عن رجاحة العقل وهدوء النفس
29 نونبر
فأما عن رجاحة العقل فتظهر في الذكاء السياسي الذي من مستلزمات الحكم الرشيد وأما هدوء النفس فعلى أساسه تتولد الأفكار وتتخلق السياسات وتبنى الحضارات .. ولعل المغرب بما تختزنه ذاكرته السياسية من دروس وتجارب في شؤون الإدارة والحكم وبما يمتلكه من خبرة في فقه الشعوب لعل ذلك كله ساعده في تخطي بؤرة النار وتلافي شراراتها المتطايرة .. وأكاد أجزم أن صدور ظهير تعيين بنكيران - بعد فوز حزبه "العدالة والتنمية" بالانتخابات التشريعية ل25 نونبر - كأول رئيس وزراء في تاريخ المغرب ، وفي هذه الفترة بالذات وبهذه الصلاحيات وبهذه السلاسة المنقطعة النظير أكاد أجزم أنه كان مقررا منذ 20 فبراير الم اقل قبلها.. والقول بأن الانتخابات الحرة هي التي أفرزت الخريطة السياسية الحالية وهي التي جاءت ببنكران وحزبه إلى الحكم القول بذلك هو قول صحيح من حيث الإجراءات و أما من حيث الأهداف والمقاصد فالأمر مدبر دون اتهام بالتزوير وإن كان أمر التزوير واردا ..ولكن وكما أن للدولة أداة مكشوفة وتقليدية لترتيب السياسة الداخلية على المقاس وهي حينما تزور إرادة الشعب فإن لها أداة أخرى غير مكشوفة ولا تستعمل إلا في ظروف معينة واستثنائية وهي أداة أكثر نقاءا وتكمن حينما "تسمح" الدولة بحدوث شيء لها فيه مصلحة تساهم في تشكل وضع لها فيه مخرجا من ورطة كبيرة.. لقد سمحت الدولة المغربية بنجاح العدالة والتنمية في لعبة ذكية للخروج من ورطة سياسية واجتماعية كانت لو استمرت على تلك الوثيرة أن تحدث مفاجئات غير سارة.. غير أن أمر الحكم في بلد كالمغرب هو أمر معقد أشد التعقيد..فلا يكفي أن تنجح في الانتخابات وتتسلم السلطة وتأخذ الصلاحيات اللازمة لكي تحكم وتنفذ برامجك وإصلاحاتك .. فهناك الكثير من العوائق لم ينص عليها في أي قانون ولا احتواها تشريع وهذه العوائق لو فعّلت لما أغنت عليك سلطتك ولا صلاحياتك شيئا.. وهذا بالضبط ما تعانيه حكومة بنكيران والتي تألفت من ثلاث أحزاب مكملة للأغلبية وفي نفس الوقت ضابطة للإيقاع ومستعدة في أي وقت للإيقاع..
إنه عام من المفاجآت والدروس والألغاز .. عام ابتدأ هذه المرة في 17 دجنبر لكنه لن ينتهي في موعده المحدد ولن يكون له رأس يحتفل به بل هو عام أطاح بكل الرؤوس، وسيستمر طويلا بلا رأس إلى أن نفهم ما جرى وما يجري في عالم تتشكل عناصره من جديد .