مصادر عديدة تدخل في تشكيل الماركة السياسية منها العامل البلاغي الذي يصاغ عبره المنتج السياسي سواء كان مؤسسة أو مرشحاً او برنامجاً ، وهو يندرج تحت ما يسمى بالحدث المتحكم به.
وفي تفكيك أثر هذا العامل لا بد من الإشارة إلى أن البلاغة بالتعريف هي مطابقة الكلام لمقتضى الحال وأنها لكي تؤتي أكلها في التشكيل الناجح للماركة السياسية تمرّ بثلاث مراحل في مساهمتها في سيرورة صناعة المعنى التي تساهم بدورها ، و باعتبارها ممارسة اجتماعية تتوسط - بحسب نظرية التشييدية الاجتماعية - بين الخطاب وبين الكيانات الاجتماعية في التأثير على هذه الكيانات التي هي الجمهور المستهدف باستعارة مصطلحات التسويق السياسي الأول هو التأطير والثاني هو التحقيق والثالث هو الترسيخ .
أما التأطير فيقصد به الصياغة للمنتج ، وأما التحقيق فيعني تجسيد المنتج تجسيداً عملياً ، وأما الترسيخ فهو قدرة العامل البلاغي عبر انتشاره على تحويل المنتج إلى مكون متناسج مع البنية الذهنية والنفسية للمستهدف بهذا المنتج .
والترسيخ سيرورة معقدة لا تنجز إلا عندما يمتلك المستهدفون الأساسيون الخطاب ، ويتموضعون داخله ، ويتكلمون ويفكرون ويتصرفون وفق منطقه.
من هذا العرض المقتضب للعامل البلاغي يمكن الاستدلال على أسباب فشل المكونات السياسية المعارضة السورية في الوصول إلى أهدافها في إقناع المستهدف بخطابها سواء كان الشعب السوري أو المجتمع الدولي ، وبالمقابل النجاح النسبي للتنظيمات المتطرفة في الوصول إلى عقل ووجدان المستهدف.
فالمنتج المقدم منتج مستورد يتمثل في مفاهيم مستوردة من سياق مغاير كالديمقراطية ، وفصل الدين عن الدولة تشكلت في ذلك السياق عبر صدمات عديدة كوزمولوجية وسيكولوجية وابستمولوجية وبيولوجية تمثلت بالتوالي عبر تطبيع العالم وترويضه وسبر أغوار النفس البشرية واكتشاف بحر اللاوعي الذي يسبح الوعي على سطحه واقصاء القوى السحرية والغيبية عن العالم وجعل الإنسان خاضعاً لعملية تطور بيولوجية.
ولأنها مستوردة فهي مبنينة بمحدّدات السياق الأصلي الذي استوردت منه وهو إطار معلمن مزمنن دنيوي؛ الأمر الذي حوّل محتواها إلى محتوى هجين يمتزج فيه محتوى البيئة المستوردة مع محتوى المصدر ولهذا لم تجد منفذاً للتعبير عن هجونتها ومسخها إلا في الأيديولوجية التي تتيح التوافق التلفيقي ، وليس الربط العضوي بين المحتوى السحري والغيبي مع المحتوى المدنيون والمطبع والرياضي والنسبي .
أدلجة المحتوى الهجين حولت المنتج الذي يفترض أن يكون مرناً وقادراً على إعادة التشكل وفق السياقات إلى منتج صلب عصيّ على التغيير .
وهذا ما جعل تجاوزها للمرحلتين الثانية والثالثة في سيرورة نجاحها وهما التحقيق والترسيخ غير ممكنتين فكان تحقيقها تلفيقاً يمكن للمرء ان يلمسه في شكل ديمقراطي خال من المضمون في مؤسسات المعارضة وأحال ترسيخها إلى محاولة مستحيلة .
أما التنظيمات المتطرفة فبالرغم من رفض قطاعات كبيرة من الشعب لما تقدمه إلا أنها استطاعت تقديم منتج سياسي هو بدوره أيديولوجيا إلا أنه قادر على التحقيق النسبي في شكل الخلافة الإسلامية، وعلى الترسيخ في مخاطبته لموروث قابل للانسجام معه بدون عوائق مستفيداً في الوقت نفسه من مؤازرة السياق الذي يلعب فيه التوتر الطائفي الدور الأبرز .
إيديولوجيتان تعمل إحداهما على استهداف الشعب والمجتمع الدولي ، والأخرى على استهداف الأول منهما فقط غير آبهة بالثاني فلا تجد الأولى في مخاطبتها للشعب قدرة على النفاذ بما تقدمه إلى النسيج اللاواعي للمستهدف وتلبية حاجاته الكامنة ، وتعدم وسيلة في استهداف المجتمع الدولي غير النوح والتذمر من انكفائه ولا مبالاته وتحميله المسؤولية عن فشلها وقصورها .
أما الأيديولوجية الثانية فتستهدف المستهلك المطلوب بما يستطيع تلبية شعوره بالمظلومية ، وبما يترابط مع مكوناته الذهنية والنفسية بدون عوائق تذكر وتواجه المجتمع الثاني مواجهة مفتوحة في انسجام مع ذاتها تفتقده الأيديولوجية الأولى .
يساريون واسلاميون وقوميون في مكونات الأجسام المعارضة يشكلون جذعها الأساسي ويلوكون المقولات نفسها بدون أن يكونوا قادرين على تمثلها إلا فيما ندر، وبالتالي على جعلها مطابقة لمقتضى الحال الذي يحقق لها الوصف البلاغي فتتوقف عند مرحلة التأطير وتعجز عن التحقيق والترسيخ .
هذه الماركة السياسية الكاسدة عبر السنوات المنصرمة تحتاج إلى تأطير جديد وربما إلى لاعبين جدد ، وليس مبالغة القول إنها بحاجة لكي تحقق الانتشار البلاغي الى عمل ثقافي لا يمرّ بالضرورة عبر الصدمات التي مرت بها المقولات التي ترددها في السياق الأصلي ، ولكن على الأقل إلى ما يجعلها كفيلة بصلاحية الاستنبات في سياقها وفي أرضها ، وإلى قدرتها على تلبية الحاجات الكامنة لمستهدفيها ، وإلى استحالتها إلى ممارسة اجتماعية تجعل الخطاب الذي تقدمه قادراً على التأثير في الكيانات الاجتماعية ومغالبة العوائق التي تعمل هذه الكيانات على تحصين ذاتها من تأثير الخطاب بواسطتها، وهو جهد يقتضي تمثلّها عند من يرددها أولاً ؛ لكي يصبح أكثر قدرة على الإقناع ، وعلى الربط العضوي بين المستجلب والموجود، وليس على التلفيق كما هو حاصل .