" إن القانون كالمسافر، يجب أن يكون مستعدا للغد، عليه أن يحمل بذرة التطور في ذاته "
القاضي كرد وزو.
يرفض الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز أن تكون الفلسفة في تميزها و اختلافها عن العلوم و المعارف الأخرى ,مجرد تأمل أو انعكاس الفكر على ذاته,كما يرفض أن تكون تواصلا و مشاركة بين الذوات في الفضاء العمومي, من أجل صياغة الحقيقة, و الرفض هنا يطال القول الذي يجعل من الفلسفة وليدة للدهشة , و تعلم التفكير , و ممارسة الشك لمعرفة الذات لذاتها بذاتها, ننتهي مع دولوز إذن أن الفلسفة لا هي تأمل و لا تفكير و لا توصل , إنها بكل تأكيد فن تشكيل و إبداع للمفاهيم, و بذلك تصير المهمة الأولى للفلسفة هي خلق المفاهيم و نحتها ، وهي بذلك تنفرد بهذه المهمة عن باقي المعارف الأخرى, من حيث كونها مبحثا ثوريا لا يتوقف عن ابتكار المفاهيم، وعملية النحت و الإبداع هاته ليست بالعملية السهلة ، كونها تخرج على حد تعبير دولوز من رحم الكتابة الفلسفية ، كما يخرج الوليد من رحم أمه ، عبر سلسلة من الألم و المعاناة القاسية.
غير أن الفيلسوف الأمريكي رونالد دوركين المتخصص في فلسفة القانون و العدالة يرى بأن عملية الابتكار و الخلق هاته لا يمكن حصرها فقط على الفلسفة بل تمتد إلى حقوق معرفية أخرى ، و القانون أحدها ، و في هذا الصدد يقول دوركين أن أعظم إنجاز حققته اللغة البشرية يكمن في أنها خلقت مجموعة من المفاهيم العامة في القانون, حيث أن معاملة التجريدات ككيانات حقيقية قائم بقوة في ميدان المفاهيم القانونية ، بحيث يعطى لهذه المفاهيم وجودا ماديا في الحقل القانوني، مثل الحقوق ، الواجبات ، الدولة ، العقود ، الالتزامات، المسؤولية ، و الأشخاص المعنوية ، فهذه المفاهيم تقابل أشياء يمكن التعرف عليها ، لكنها غير ملموسة فهي كائنات ميتافيزيقية قائمة في ذهن الإنسان فقط، و بهذا ينطوي نطاق القانون على نظام أكثر تعقيدا . بحكم تشعب القانون عبر مختلف أوجه الحياة الاجتماعية، إضافة إلى اكتساب القانون لميل خلاق نحو التطور و التغير باستمرار، وذلك من خلال سن تشريعات جديدة. في هذا الصدد تصير عملية التشريع فيض زاخر و متصل من صنع القوانين المنظمة و المركبة لأنماط المعاملات التي تتم في الحياة الحقيقية, ففي الوقت الذي يرغب فيه الأشخاص على إعطاء و عود و إنشاء التزامات لفائدة الأغيار بقصد تنفيذها ،هنا يتدخل القانون فيعطي هذه الوعود و الالتزامات عنصر الشرعية بكل ما يترتب عليها من نتائج يحددها القانون نفسه في إطار النظام القانوني ، كما أن الناس و في معرض حياتهم ينزعون إلى القيام بأفعال و تصرفات تنتج عنها أضرار مادية و معنوية للغير ، وعندها يتدخل القانون أيضا فيحدد قواعد المسؤولية بشقها المدني و الجنائي ،واضعا أحكاما يتم من خلالها ضبط كافة أشكال الأفعال التي يتناولها ، فيترتب عن ذلك أن يتدخل القانون ليضع بناءا شامخا من المفاهيم مثل الخطأ و الضرر، و طبيعة المسؤولية ن و غير ذلك من المفاهيم و الأحكام القانونية ، كما أن الأشخاص و في معرض حديثهم عن الاعتداء و القتل ، فهم قد يميزون ، بين القتل الخطأ و العمدي لكن القانون الجنائي يتدخل فيعطي لهذه الأفعال مفهوما دقيقا وبشكل منهجي و عقلاني، ومن خلال تحديده بكل دقة لأصناف الجرائم المعاقب عليها ، و كذا حالات الأعذار التي يستطيع المتهم الاستناد إليها من اجل تخفيف العقوبة أو الإعفاء منها .
هكذا صارت العديد من المفاهيم القانونية في الوقت الراهن إبداعا قانونيا في جميع الميادين، يواكب التطور الذي يعرفه المجتمع البشري في جميع الميادين الاقتصادية و الاجتماعية ,و يمكن اعتبار إبداع مفهوم شركات المساهمة عملا خلاقا ، والذي جاء كنتيجة لحاجات معينة شعرت بها فئة التجار في النصف الأول من القرن الماضي، و كاستجابة من رجال القانون في خلق هذا التصور الفريد للشركة ، الذي يعد عالما قانونيا جديدا وواسعا ، سيطرت عليه فكرة وجود شركة تتميز عن المساهمين فيها .
كما يمكن استحضار مفهوم الملكية الفكرية و الصناعية، و العلامات التجارية, و التي جاءت بدورها كتلبية لحاجيات اقتصادية و اجتماعية، هذه المفاهيم كبرت و تطورت حتى صارت ميادين قانونية متشبعة و هائلة، تحتوي على أحكام و مقتضيات خاصة. لهذا يمكن القول بأن هذا الإبداع القانوني الجديد قد خلق ثورة في جميع المجالات الاقتصادية منها و الاجتماعية لتترسخ لدينا فكرة مفادها أن القانون يستطيع أن يخلق عالما من فكرة ما .
إن القانون كمجموعة كبيرة من القواعد و الأوامر و المبادئ المستمرة التدفق ، وإن كانت بطيئة الحركة ،يبقى من بين الملامح الأساسية الجوهرية لهذا المركب تواجد المفاهيم الأساسية التي تكتسي و وظيفة رمزية معينة ضمن القانون , غير أن هذا المركز الرمزي في النظام القانوني لا يمكن أن يكون متطورا بشكل كامل و مكتمل ، فهو رمز غير كامل ، وفي عدم الاكتمال هذا تكمن منفعته الجوهرية في التطور القانوني , ألم يقل كافكا بأن القانون لغز كونه يحدث بالفعل تنظيما في العالم الخارجي ، و بشكل متغير و باستمرار, حيث يخضع العلاقات بين الناس وعلاقات الناس بالطبيعية إلى إمبراطورية الموضوعية و الصيرورة و التغيير, و خلق المفاهيم القانونية الكبرى .
المسعودي محماد , باحث في فلسفة القانون