مع بداية عقد السبعينيات، شهدت منطقة الصحراء نزاعا مصعدا بين المستعمر الإسباني من جهة، والأطراف المطالبة بأحقية السيادة على المنطقة من جهة أخرى : متمثلة في دولة المغرب وموريتانيا والجزائر، هذه الأخيرة فقط كداعم لحق الشعوب في الدفاع عن استقلالها وتحرير أراضيها. فاستمر التصعيد مع استمرار المستعمر الإسباني في رفض تسليم الصحراء والتخلي عن سياسة الاستعمار التعسفي. ف"رفض إسبانيا تخليها عن إقليم الصحراء كان يبرره منطق واحد، هو مخطط هذه الأخيرة حول إنشاء دولة مستقلة ذات حكومة محلية تحت وصاية وسيطرة إسبانية"(1).
بهذا، وإثر إحالة كل من المغرب وموريتانيا لملف القضية إلى محكمة العدل الدولية (1974) مع التساؤل حول الروابط التاريخية للمنطقة جغرافيا، وما تبعه من رد المحكمة (1975) المشوش حول القضية بتحفظها عن تأكيد تبعية المنطقة للسيادة المغربية، أعلن العاهل المغربي في خضم ما نتج عن ذلك ـ يوم 5 نوفمبر 1975 ـ عن تنظيمه لمسيرة وطنية شعبية لعبور منطقة الصحراء تأكيدا لمغربيتها سميت بالمسيرة الخضراء. "وبعد أربعة أيام على انطلاق المسيرة الخضراء بدأت اتصالات دبلوماسية مكثفة بين المغرب وإسبانيا للوصول إلى حل يضمن للمغرب حقوقه على أقاليمه الصحراوية وفي 14 نوفمبر 1975 وقع المغرب وإسبانيا وموريتانيا اتفاقية"(2). وهي اتفاقية مدريد التي تم بموجبها "إنهاء الوجود الإسباني على الأراضي نهائيا قبل 28 فبراير 1976"، مقابل "إشراكها (إسبانيا) في استغلال مناجم فوسفات بوكراع، وبقاء أسطول صيدها البحري في المياه الإقليمية الصحراوية، وبضمان قاعدتين عسكريتين لها قبالة جزر الكناري"(3). فسارعت كل من الدولتين المغربية والموريتانية لضم المناطق الممنوحة حسب الاتفاقية المذكورة بسيادة المغرب على ثلثي المنطقة وموريتانيا على الثلث الجنوبي، والذي سرعان ما تخلت عنه اثر الاشتباكات بينها وبين الجيش الشعبي لتحرير الصحراء (التابع للجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب «البوليساريو» : المطالبة بتأسيس الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية):
لكن المغرب تدخل لفرض سيادته على المنطقة المتخلى عنها من الجانب الموريتاني. فمن البداية "قبول المغرب بتقسيم الصحراء مع موريتانيا جاء أولا لأن هذا التقسيم سينهي حالة المواجهة والحرب بين بلدين لم يكن بينهما إعتراف خاصة من الجانب المغربي، حيث لم يعترف المغرب بموريتانيا سوى سنة 1969، ويعلم الجميع أن الموقف من إستقلال موريتانيا كان موضوع خلاف.. حيث كانت تعتبر موريتانيا صناعة فرنسية خالصة لا تمتلك مقومات الدولة إنما خلقتها فرنسا وأصرت عليها لتتمكن من إستمرار إستنزاف مناجم الحديد في شمال موريتانيا والتي كانت مصيرية بالنسبة للصناعة الفرنسية، فكان الفرنسيون يفضلون دولة ناشئة ضعيفة على دولة عريقة واجهت الإستعمار الفرنسي بكل قوة وأجبرته على الإنسحاب.. وعندما قبل المغرب من خلال إتفاقية مدريد تقسيم الصحراء مع موريتانيا فإنه كان يفعل ذلك لأن هذا الجزء من التراب المغربي سوف يستمر وفق علاقات قبلية ثابتة تتمرد على معطى الدولة القومية ذات الحدود المعروفة والثابتة، فكان العنصر الثقافي والقبلي عنصرا ضامنا لإستمرار وحدة المنطقة ولو ضمن نظامين سياسيين مختلفين، خاصة في ظل تطابق شبه كلي لوجهات النظر في تلك الفترة بين المرحومين الملك الحسن الثاني والرئيس الموريتاني ولد دادة"(4).
لكن "حالة التوافق هاته بين المغرب وموريتانيا كانت تثير حفيظة بومدين في الجزائر، ولكسر هذه الحالة قام بومدين بخلق إضطرابات في موريتانيا ودفع الجيش إلى الإنقلاب على نظام الرئيس ولد دادة، بل جهز قوات من البوليساريو بقيادة الراحل الوالي مصطفى أبرز القيادات التأسيسية للجبهة، لمهاجمة نواكشوط والسيطرة على الحكم في موريتانيا"(5).
لقد أبدت الجزائر منذ البداية عن اعتراضها للمنحى السياسي الذي اتخذته القضية، فباسترجاع المغرب وموريتانيا للمناطق الصحرواية يعتبر الأمر بالنسبة للجزائر كحليفة للمعسكر الاشتراكي الشرقي خسارة جيوبولوتيكية لموقع استراتيجي بالمنطقة المغاربية ـ من العالم الثالث المتنازع حوله بين القطبين العالميين بالحرب الباردة ـ لصالح المعسكر الرأسمالي الغربي. لهذا سعت الجزائر لدعم الجبهة طالما أن توجهها السياسي كان "توجُّهًا شيوعيًّا ماركسيًّا، ومن ثَم فقد حصلت على الدعم مباشرة من ليبيا ثم من الجزائر، والذين كانوا ينتمون إلى نفس الاتجاه، بينما كان توجُّه المغرب أمريكيًّا واضحًا، وهذا يؤثر على الأوضاع كما هو معلوم"(6).
ف"الجزائر وقفت مع جبهة البوليساريو في مطالبها، وذلك بالطبع نظرًا للتوجُّه الماركسي للفريقيْن، إضافةً إلى الخلفية التاريخية للصراع بين المغرب والجزائر"(7)، ليتم الإعتراف بهذه الجبهة المختصرة في اسم بوليساريو Polisario وهي في الأصل Frente Popular de Liberacion de Saguia el Hamra y Rio de Oro (الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب). فتم استهداف السلطة الموريتانية لضعفها آنذاك ـ عن طريق الجبهة ـ لقلقة النظام وزعزعة استقراره وما يترتب عن ذلك من إضعاف لموقف موريتانيا السياسي تجاه القضية، ليسفر موقف الضغط عن تخلي موريتانيا عن موقعها في المنطقة للجبهة اعترافا بشرعيتها الدولية وحقها في تأسيس دولة بالمنطقة. وهو الاتجاه المعاكس لموقف المملكة المغربية السياسي تجاه القضية والتي تنظر للجبهة "على كونها أداة جزائرية (ولهذا السبب تشير إليها في بعض الأحيان باسم «الجيليساريو» أي الجزائرساريو). كما أن المغرب تجادل أيضا على أنه سوف لن تكون هناك مسألة اسمها «مسألة الصحراء» دون الدعم الدبلوماسي والمالي والعسكري والإقليمي الذي تقدمه الجزائر. كما أن المغرب تعتقد بأن الجزائر تستخدم البوليساريو والصراع ككل في سبيل إضعاف منافسها الكامن داخل المغرب ولتتقي وتدرأ عن نفسها مناقشات تتم من فوق حدودها ولتضمن وصولا لها إلى المحيط الأطلسي عبر دولة عميلة صحراوية كي تقوم بالاستغلال التام لإمكانيات مناجم «غارا جيبلت»"(8).
وما أن تم الإعلان من طرف جبهة البوليساريو عن قيام «الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية»، حتى تم ـ من طرف الإدراة المغربية ـ الطعن في ادعاء هذه الأخيرة، والتي جعلت مقرها بنتدوف وهي المنطقة الجزائرية (التي اقتطعها المستعمر الفرنسي من الجارة المغربية) التي تحتضن اللاجئين الصحراويين المعبرين عن انفصالهم من المغرب : معتبرة نفسها دولة ذات كيان معارض للسياسة المغربية، وموالية للجزائر التي تعتبر "أول الدول اعترافًا بهذه الجمهورية الجديدة، وتوالت اعترافات الدول صاحبة التوجُّه الشيوعي الماركسي مثل ليبيا وكوريا الشمالية وإثيوبيا وإيران (تحت حكم الشاه) وأفغانستان (تحت الحكم الروسي)، وغير ذلك من دول"(9)، كاتفاق سياسي تضامني (من جهة المعسكر الشرقي الشيوعي) لتعزيز الهيمنة الدولية لأحد القطبين على الآخر في خضم الصراع الدولي البارد بين الجهتين الشرقية والغربية بدفاع كل منهما على قيم الأيديولوجية السياسية لكلا الطرحين : بغرض فرض النظام الاقتصادي الخاص بشكل عالمي، يتم من خلاله توجيه اقتصادات الشعوب. هذا ما يفسر التضامن الاشتراكي (السوفياتي) للدول الحليفة هنا لدعم الرؤية الجزائرية في تأسيس دولة صحراوية للاجئين تحقق للجزائر مصالح اقتصادية وسياسية : من ضمنها إضعاف الموقف السياسي للمغرب بالمنطقة المغاربية.
وباعتراف الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية كدولة عضو بمنظمة الوحدة الإفريقية، تقرر انسحاب المغرب من هذه الأخيرة (الاتحاد الإفريقي) : على اعتبار أن قبول عضوية البوليساريو يمثل خرقا لميثاق المنظمة ـ التي كانت المملكة المغربية من ضمن مؤسسيها ـ ف"الميثاق المؤسس كان ينص على عدم التدخل في شؤون الدول الداخلية واحترام سيادة الدول الأعضاء في المنظمة وحرمة حدودها، عندما ثبت للمغرب أن هذه البنود قد تم خرقها قرر الانسحاب منها في العام 1984 إثر قبول المنظمة عضوية البوليساريو في ظروف إقليمية ودولية غاية في الاستقطاب الإيديولوجي والسياسي. كان الاعتبار الأول لانسحاب المملكة هو قبول عضوية بوليساريو تحت ضغوطات الجزائر بالرغم من أنها لا تمتلك مقومات دولة كاملة الأركان من حدود وحكومة وشعب، والاعتبار الثاني هو تدخل عضو داخل المنظمة في شؤون المغرب الداخلية بتبني أطروحة انفصالية، الاعتبار الثالث هو عدم احترام سيادة المغرب فوق أراضيه ومساهمة عضو من الاتحاد الإفريقي في خلق كيان وهمي ودعمه سياسيا ولوجيستيا وماديا فوق أراضي مغربية"(10).
فالمسألة ـ بالنسبة للسيادة المغربية ـ لا تتعلق فقط بالإدارة السياسية أو الحكومة أو النخب، بل تتعدى ذلك ك"هم" سياسي ذا بعد اجتماعي يهم كافة الفئات من مختلف شرائح المجتمع المغربي. فقضية الصحراء هي قضية شعب وليست مجرد معطى سياسي لاستقطاب أطماع اقتصادية خاصة كما هو الأمر بالنسبة للإدارة الجزائرية : تتخذ الجبهة كواجهة للتغطية. لهذا "يصر المسؤولون الرسميون المغاربة أيضا على أهمية المسألة الصحراوية بالنسبة لاستقرار المملكة المغربية واستمرارها، مشددين على أن الرأي العام المحلي هو الذي يرفض بشكل جماعي استقلال الصحراء، وهي حجة يتردد صداها بقوة في باريس وواشنطن. وبحسب دبلوماسي مغربي حيث يقول:
ليس الملك هو الذي يقوم بإملاء هذا الموقف، بل هو تعبير صريح عن عاطفة شعبية عميقة. ولا يجوز لأية شخصية سياسية مغربية أن تراوغ باستخدام الكلام حول هذه المسالة. إنها خط أحمر وطني حقيقي. ولن يكتب لأية حكومة النجاة والاستمرار في الحكم تقوم بالتشكيك بصحة هذا الإجماع الوطني. إنها مسالة حياة أو موت"(11).
إن مهزلة الموقف الجزائري بخصوص القضية وضعف التبرير في الدفاع ـ من ضمن ذلك دعم الجبهة في تصعيد الصراع مع المغرب والتغلغل لداخل حدوده وحث الصحراويين الموالين بالانتماء للسيادة المغربية لقلب انتمائهم نحو الجبهة واللجوء للمنطقة الحدودية تندوف التي تخضع للسيادة الجزائرية بشكل تعسفي ـ يتجلى (الموقف السخيف) في الحالة القانونية التي تصنف البوليساريو كجماعة منشقة وليس كدولة ! ف"جبهة البوليساريو ـ كما كتب عز الدين قريوح ـ لا يمكن اعتبارها تنظيما عسكريا منظما على المستوى الدولي، وإنما هي جماعة خارج القانون، تلجأ إلى إستعمال طرق عسكرية من أجل تحقيق أهدافها بإستعمال العنف. إن جبهة البوليساريو تحاول تحقيق مصالحها بإستعمال العنف العسكري، وهذا الأمر مسلّم لا يشكل أي نقاش لدى زعماء وأنصار الجبهة. إن القانون الدولي الجاري به العمل ينص في المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة على الحق الطبيعي المسمى بحق الدفاع عن النفس. ولكن حق الدفاع عن النفس يُخوّل فقط للدول القائمة وذات سيادة، وليس لجماعة خارج القانون كما هو الشأن بالنسبة لجبهة البوليساريو. فجبهة البوليساريو ليست بدولة، بل هي جماعة خارج القانون كما قلنا ولهذا فليس لها الحق في حق الدفاع عن النفس، وما يسمى كذلك بالجمهورية العربية الديمقراطية التي تم الإعلان عنها من طرف جبهة البوليساريو لا يحق لها استعمال حق الدفاع عن النفس.
إن عضوية أي دولة ما في منظمة الأمم المتحدة تحتاج إلى الإعتراف بهذه العضوية من طرف جميع الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي وهي:
الولايات المتحدة الأمريكية، روسيا، الصين، فرنسا، والمملكة المتحدة لبريطانيا العظمى وإيرلندا الشمالية.
إن ما يسمى بالجمهورية العربية الديمقراطية الصحراوية التي تم الإعلان عنها من طرف جبهة البوليساريو لا تحظى باعتراف هذه الدول.
وعلى سبيل المثال، تجدر الإشارة إلى أن أغلبية الدول الأعضاء في منظمة الوحدة الأفريقية وكذلك أغلبية الدول الأعضاء في منظمة الأمم المتحدة لم تعترف بما يسمى بالجمهورية العربية الديمقراطية الصحراوية التي تم الإعلان عنها من طرف الحركة الإنفصالية البوليساريو"(12).
وبالنسبة لجبهة البوليساريو "لا يحق لنا المقارنة بين حق الشعوب في تقرير مصيرها وحقها في الانفصال"(13)، لأنه "يمكن لشعب ما ضمان حق تقرير مصيره ببقائه داخل وتحت سيادة دولة قائمة مستقلة ذات شعوب وقبائل متعددة"(14). وبمطالبة البوليساريو بحق تقرير مصير الصحروايين والانفصال عن المغرب كدولة قائمة ذات سيادة ـ لتتولى قيادة الجبهة إدارتهم كدولة ـ ف"إن الرأي العام السائد في العلوم القانونية يرفض مثل هذا الحق في تقرير المصير، ويشير إلى أهمية الدول القائمة في الحفاظ على وحدتها الترابية و مصلحة الدول في الدفاع عنها.. وحتى حسب الرأي السائد لدى الأقلية، فالشروط الواجب توفيرها على الأقل للحصول على حق الأنفصال (هنا) منعدمة.. وطبقا للمبادئ الأساسية للقانون الدولي فإن السكان الرحل المتنقلين غير أكفاء لتكوين دولة معترف بها"(15). دون الإشارة لاضطراب الجبهة : بما في ذلك من انشقاقات ونزاعات بين القيادات حول السلطة واستغلال المؤن والمساعدات الدولية، والحالة المزرية التي يعيشها اللاجئون في ظل إدارة الجبهة. ما يمكن أن ينعكس سلبيا على استقرار المنطقة.
ـ هوامش :
1 : عبدالاله سطي ـ قصة قضية الصحراء المغربية الغربية من المسيرة الخضراء إلى خطة الإتفاق/الإطار؛ موقع الحوار المتمدن.
2 : ماهر حسن ـ زي النهاردة.. انطلاق «المسيرة الخضراء» في المغرب 6 نوفمبر 1975؛ المصري اليوم 06/11/2013.
3 : اتفاق مدريد 1975، ويكيبيديا: الموسوعة الحرة.
4 : تيريس الغربية والإستفتاء المنسي؛ موقع جريدة العلم المغربية 14/8/2012.
5 : تيريس الغربية والإستفتاء المنسي ـ المصدر السابق.
6 : راغب السرجاني ـ المصدر السابق؛ ص148و149.
7 : راغب السرجاني ـ المصدر السابق؛ ص149و150.
8 : الصحراء الغربية، تكاليف النزاع ـ تقرير الشرق الأوسط رقم 65 -11 حزيران (يونيو) 2007؛ ص2 من التقرير.
9 : راغب السرجاني ـ المصدر السابق؛ ص151.
10 : محمد بن امحمد العلوي ـ المغرب والاتحاد الإفريقي.. العودة المحمودة مشروطة بتعليق عضوية البوليساريو؛ موقع ميدل ايست أونلاين 2013/12/22.
11 : الصحراء الغربية، تكاليف النزاع ـ تقرير الشرق الأوسط.. المصدر السابق.
12 : عز الدين قريوح ـ أطروحة "البوليساريو" خارج القانون الدولي؛ موقع ناظور سيتي.
13 : عز الدين قريوح ـ المصدر السابق.
14 : عز الدين قريوح ـ المصدر السابق.
15 : عز الدين قريوح ـ المصدر السابق.