يحكى أن "يزيد بن الوليد"2 الخليفةٍ الأموي قد بلغ به القنوط والملل مبلغا كبيرا ذات ليلة ، فخرج إلى مجلسه يستجدي جلساءه أبياتاً تحرك ما سكن من مشاعره، وتذهب ما حل به من ضجر ،وكان بينهم حماد3 الراوية المشهور ، فقربه الخليفة إليه ، وأخذ يسأله إنشادَ نوادر الشعر ،فانبرى حماد ينشد من شعر الأحوص :
يا دار عاتكة الذي أتعزّل **** حَذَر العدى وبه الفؤاد موكل
فأشاح عنه الخليفة متأففـاً.. ثم أنشده من شعر جرير قوله :
هاج الهوى لفؤادك المهتاج **** فانظر بتوضح باكر الأحداج
فلم تحرك في الخليفة شيئـأ . ثم أنشده منشداً من شعر المجنون :
بربك هل ضممت إليك ليلى**** قبيل الصبح أو قَبّلت فاها
فأعرض عنه الخليفة ، فبينما هم كذلك حتى جرى ذكر عمار بن عمرو، الملقب بذي كبار4 ..، فطلب يزيد من حماد أن ينشده من شعره (أي عمار بن ذي كبار) . فشرع ينشـد –بجرأة و وقاحة - قصيدة ساقطة لذي كبار، نسوق بعضا منها ، ونستعيض عن بعض كلماتها بنقـط،احتراما لذوق القـارئ الكريم :
أحـــــب منكِ منــــــــكِ مــــــــــنــــــــــــــك مـــــــــــــــــــــــكانـــــــاً مُجَنْبَذا
مفعما في قــــبالـــــــة **** بيـــــــن ركنيــــــن ربّــــــدا
رابيا ذا محـــــــســــــــة **** أخنسا قد تقنفذا
تـــــــــــامكا كالسِّنام إذ **** بُـدّ عنــه مُـــــــــــــــــــقددا
فــــــــــأ..... فيه فيه فيـ **** ـه .........كـمــــــــــثل ذا
قال حماد : فانتفض الخليفة طرباً وانتشاء مما سمـع، وصفّـق بيديه و رجليه،آمـرا بحضور الشّراب و القيان و الدفوف ، ثم أمرني بالإنشاد، فجعلت أنشد هذه الأبيات وأكررها عليه، وهو يصفق ويشرب حتى سكر . فأمر لي بثلاثين ألفا ولعمار بعشرة ألاف درهم ..
فانبرى أحد الحكماء إلى جانب المجلس وهو يقول في قرارة نفسه حسرة و كَمَـدا :" لقد أدركت حينذاك أن عهد بني أمية قد ولى".. و قد كان ما قال الحكيــم فعـلا !!) 5.
أسوق هذه الواقعة من تراثنا العربي ،لأنني وجدت فيها توصيفا دقيقا لما نعيشه نحن اليوم في زماننا الأغبر هذا، الشيء قد يُؤذن بانصرام عهد ،وإطلالة عهد آخـر ..كما ندرك أيضا - دونما حاجة إلى حكمة أو بديهة - أن عهداً مغربياً قد ولى من منظور "المقياس الذوقي والابداعي" ذاته الذي اعتمده الحكيم في عهد هذا الخليفة الأموي..
ففي الوقت الذي تجد فيه أن القوم - شيباً وشباباً – لا تطربهم كلمات موشح جميل متقن الترتيب والتوضيب، ولا تَهُـزُّهُـم كلمات أغنية خالدة من خالدات الغناء العربي الراقي الأصيل مثل "الأطلال" أو " راحلة" أو " القمر الأحمر"،التي طالما أطربت ولا تزال الناس شيبا وشبابا، و الكثير ممن لايزالون يقاومون المسخ الذوقي و الهوياتي ،مثلما لا يزالون يديرون ظهورهم للرّداءة الفنية ،التي ما هي إلاّ تحصيل حاصل للرّداءة السياسية والفكرية والمجتمعية التي خيمت على الأمة بشكل عام..
في حين تجد - في المقابل - أن هؤلاء أنفسهم يتصايحون بجنون ،عند سماع كلمات غارقة في التّـفاهة والرّداءة بكل المقاييس،من قبيل التي طَـرب لها الخليفة الأموي ذاك.. فـاعلم آنئـذن أن " الزمان" ماعاد "زماننا"، ولا "التاريخ التليد تاريخنا"،وعلى كل من يعنيه الأمر، أن يفسر الزمان هذا، تبعاً لما يَليـه ،وأن ينظر إلى التاريخ من الزاوية التي تعنيــه ..
فلو لم يكن هنالك "سقوط ذوقي" لما احتشدت فضاءاتنـا وفضائياتُـنا بكلماتٍ من القـاع ،وأضحى كل من هب ودبّ، يقتحم علينا بيوتنا دون استئذان، وبمباركة ممن وضعنا بين أيديهم أمر أمْنِـنا القِيمي والأخلاقي و الذوقي !!..فراحوا يُمْعِنون في هدم ما تبقى من متاريس وحُصون ،مُنشغلين عنّـا بمصالحهم الخاصة ،و تاركين الأمر بين يَدي من لا يُهمُّـهُ أمرُنــا و لا زمانُنا و لا تاريخُنـا .. ولست هنا في حاجة إلى التذكير بما كان من أمر "الدفاتر المزعومة" للمتقول الرسمي باسم الحكومة البائدة، دفاتر الشؤم، التي لاكَـتْـــهـا أبـواق الدعاية لأمد غير قصير ، قصد الاستهلاك الإعلامي الذي لا طائل منه ،غير أن الأيام أظهرت أنها لم تكن سوى زوبعة في فنجـان،(فنجان) لم يُـؤتَ وزراءُ المصباح القدرة على حسن قِراءتِه ،شأنُه في ذلك شأن ملف الرخص (لكريمات) في النقل و الصيد بأعالي البحار و المقالع و الضيعات و..و.
تلك التي تهافت حينها وزراء المصباح إلى نشرها، لوائح اختزلت الصورة عن حجم الفساد الذي يدب في الجسد المغربي، وينخره من الداخل في صمت ،والتي تكشف عن حجم الفساد وشراء الذمم من قبل السلطة لسياسيين كبار، ولعائلات نهبت و ماتزال خيرات الوطن..لوائح كان إخراجها صاعقا للجميع،بما تضمنته من أسماء لأصهار الملك ولأعضاء من الأسرة الملكية، ولمستشارين للملك، وسياسيين وضباط ومخبرين وجلادين ورياضيين وفنانين وأسر وعائلات غنية، أسماء وعائلات يُدرك الجميع اليوم أنها لم تكن في حاجة إلى مثل هذه الامتيازات، و ربما يكون بعض هذه الامتيازات "تافهـــا" تفاهة من ظل يستفيد منها خلسة ، مثل الثعلب الذي يدفن رأسه في التراب ،عندما يريد أن يأكل من نتانــة سرقاته . واقع يبعث على الاشمئزاز من هذه الأسماء "الكبيـــــرة" التي ظلت تستفيد من امتياز تُدرك قبل غيرها أنه ليس من حقها، وأن هناك أسرا فقيرة هي في أمس الحاجة إليــه .. إنها حقا تماسيح وعفاريت ضارية !! .
وقد تَوَهّمْنا آنـذاك أن السادة الوزراء ، لن يتوقفوا عند نشر تلك اللوائح، و سيذهبون بعيدا في وقف هذا النزيف، بوضع حدّ لسياسة الامتيازات و الرّيع الذي قامت وتقوم عليه الدولة منذ أمد بعيد !.. لكن الأمر لم يكن سوى ذرّ للرماد في العيون ،أو ربما قد أملته ظرفية معينة ،و فرضه تكتيك خاص ،لا يعلم خلفياته سوى دائرة خاصة جدا، هي بالفعل من تملك سلطة القرار ،أو ربما قد يدخل في باب البولميك السياسي ،والدماغوجية الانتخابوية، التي دأب عليها كل من تعاقب على الحكم بالمغرب ،يمينـا و يســارا ..
غير أن المشترك في هذا وذاك عنصران رئيسيان هما :
- أولا : غياب الحد الأدنى من الوازع القيمي والأخلاقي، ابتداء من البناء الذوقي والفني،الذي هو المُعَبّـر عن روح الأمة، وانتهاء بالبناء المؤسساتي الاقتصادي والاجتماعي، الذي هو تنزيل عملي، لكل ما له علاقة بالقيم و الأخلاق والذوق ،أو لنقل بعبارة موجزة بكل ما هو إنساني محض..
- ثانيا : الوعود الكاذبة التي أمطرنـا بها وزراؤنا المحترمون خلال الحملة الانتخابية وبعدها ، والتي خِـلناها ـ في فترة من الفترات ـ وعودا صادقة وجديّة، تستجيب لحجم انتظارات الشعب المغربي ،وفئاته الفقيرة على الخصوص ، وعود تأسست عليها أحلام كبيرة ،طال انتظارها ، وقد حان وقت تحققها على أيدي هؤلاء المُنقِذين المفترضين الذين أتوا من القاع ، راكبين موجة الربيع المغربي المبارك..
إلا أن الأحلام تحولت إلى كوابيسَ وخيبات ، والوعود تحولت إلى هجمات مُتتالية على من أتى بهؤلاء ، فكان ردّ الجميل بأحسن ما يُردّ الجَميل، زياداتٌ في كل المواد ،تضييق على الحريات،تراجع عن المكتسبات،وتنكر لكل الوعود والعهود ،وتحولت محاربة الفقر إلى حرب على الفقراء، و محاربة الفساد إلى تطبيع وتسامح معه، وتعايش مع التماسيح و العفاريت ،التي عاثت وتعيث فسادا في كل تفاصيل الحياة ..فسادٌ بل إفســاد ،لم يسلم منه الذوق العـام للأمة ،حتى أصبحنا جميعُنا لا نكاد نُفرق بين الرفيع و الوضيع،لا في الفن و لا في السياسة ، ولا في أي من مناحي الحياة.. فأثرى صُنّـاعُ الوضاعة والإسفاف ( مغنين و ساسة وباعة أحــلام وسماسرة دين) ،واحتلوا المنابر و الفضائيات ،وتزاحموا أمام أبواب الدعاية والإعـلام ، شعارهـم في ذلك "الجمهور عَـايِـز كيده" على حد قول إخواننا المصريين . بينما تراجع بُـنــاةُ الوطن الحقيقيون و شُرَفاؤه إلى الخَلــف ،إما طوعا بعدما وصلوا إلى حالة من اليأس والإحباط بشأن انبعاث الأمـة، أو كَـرْها ،بعدما حُوربوا وحوصِروا أينما حلّوا وارتحلوا،فآثروا الابتعاد عن الوطن مُرغَـمين، واضعين عُصارة تجربتهم تحت تصرف أمم ،يبحث حكامها فعلا عن كل ما ينفع شعوبهم و أوطانهم..رحل هؤلاء، لأن كلامهم لم يطرب لـه أشباه الخليفة الأمـوي ذاك،الذين اعتادوا ألا يطرَبوا إلا لكل ساقط و رذيء، و ألا يُنصتوا إلا لأنفسهـم الخبيثـة .
فليهنأ الشاعر عمار بن عمرو صاحب (أحبُّ منكٍ منك..) في مرقده الأبدي، فقـد جاد علينا هذا الزمان الأغبـر بتلاميــــذَ لـه ،يَحمِلون نفس مَعاوِلـه و نفس مَرامِيــه ،فأثخنوا في الأمـة هَـدْما و مَسخـا.. و ليبكي - قبل فوات الأوان - من هُــم في مَقـام (الخليفة الوليد) إعراضا عن رفيع الكلام ، وصادق المَـرام ، وليتأهب حكيم من حكمائنا ، ونحن في ذروة إعجابنـا بأنفسنـا - إن لم نتدارك الأمر- ، لِيُنشدَ فينا رثــــــاءً يَحملُ إلينا فيه خبر نَعْينـا ،مشيرا بالبَنان إلى تماسيحنا وعفاريتنا الظاهرة و الباطنة، و هو يـُتمتِمُ بما قالـه حكيم بني أمية آنذاك " علمت أن أمرهم قد ولّــى".
محمد المهدي – تاوريرت
16 أبريل 2017
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- يزيد بن الوليد، هو يزيد الثالث بن الوليد بن عبد الملك بن مروان (و. 701-744)، وهو الخليفة الأموي الثاني عشر. تولى الحكم بعد قيامه بانقلاب على ابن عمه الوليد بن يزيد.
2- هو أبو القاسم حماد بن أبي ليلى بن المبارك بن عبيد الديلمي الكوفي، المعروف بـ"الراوية". كان من أعلم الناس بأيام العرب، وأخبارها، وأشعارها، وأنسابها ولغاتها، وهو الذي جمع "المعلقات" فيما ذكره أبو جعفر النحاس. وكانت ملوك بني أمية تُقَدّمه وتؤثره وتستزيره، فيفد عليهم وينال منهم ويسألونه عن أيام العرب وعلومها . ولد حماد الراوية سنة 95هـ وكانت وفاته سنة 155هـ .
3- هو عمار بن عمرو بن الأكبر الملقب بذي كُبار ،نشأ في دولة بني أمية ولم يرد ذكره في دولة بني العباس .. كان لين الشعر ، ماجنا خمّيـرا مُعاقرا للشراب،أغلب شعره ظريف يُضحك لـه ، رافق حماد الراوية بالكوفة .
4- من كتاب "الأغاني" لأبي الفرج الأصفهاني ـ ج 24 ــــــ ص 220 . طبعة الهيئة المصرية للكتاب 1994 .