لا شك أن ثقافة الاحتجاج غدت نوعا من الوجود بالضرورة ، الطامح إلى بناء فلسفة سياسية و ثقافية ، تمتح من معين الرصيد الثوري للشعوب، التي نجحت في تحقيق أمنها السياسي ، و تقعيد أسس الفعل السياسي في البعد الذي يجمع بين خطابها " النظري " و نزوعها العملي ، و قد أرست هذه الثقافة لمحو الخوف السياسي من النفوس ، الذي اعتاد ممارسة الوهم باسم السياسة ، انطلاقا من مبدأ " الطاعة و الرعية " ، غير أن هذا المنحى لم يستطع بعد أن يؤسس ذاته باعتباره فعلا احتجاجيا مقرونا بالحجاج السياسي ، الذي يتأسس على السلمية و القوة الاقتراحية ، و يترجم في المشروع الاجتماعي البديل الذي يطور من التراكم المحقق ، و يتجاوز الكوابح و المعيقات ، و يستطيع أن يستثمر خصوصياته المجالية و الاجتماعية و الثقافية و حبك مقوماتها ، و نسج اختلافها في وحدة منسجمة ، تتعالى على الانتماءات القبلية أو الدينية أو الحزبية الضيقة ، و الإحن العرقية الفجة .
فشلت " الأنماط " السياسية خاصة في العالم الثالث ، أن ترسي مجالا سياسيا محكوما بالتدافع و بناء الاختلاف ، و أقصى ما عملت على ترسيخه ضمان علاقات ميتافيزيقية ، تؤمن بالثنائيات الضدية التي تعكس وعيا إرهابيا أكثر منها بنية سياسية ، أي أن تمثل المجال السياسي و مكوناته لا يستقيم إلا إذا نحا حدين مختلفين و متناقضين ،بمعنى أن الخيارات المتاحة إما الطاعة العمياء من غير محاسبة ، أو الفتنة ، لدرجة تحولت كل مكونات هذا المجال إما تابعا من غير وعي ، أو ثائرا من دون سند اجتماعي أو كتلة تاريخية ، أو امتداد ثقافي بحكم منطق الدولة الأسطورية التي تحبس الأنفاس .
إن القول بضمور الإنتاجية السياسية في المجال الحضاري الإسلامي يوازيه في العمق غياب أية مشروعية سياسية أو اجتماعية ، لدرجة تحول معها " التفكير " في السياسة بمثابة تفكير في إثارة الفتنة ، أو في أقصى الأحوال ضمان استمرارية السلطة من دون نتيجة سياسية ، تتغذى على أن التفكير من خارج " الأنا " السلطوي ، هذا المنحى يعد إشعالا لأوار فتنة و إثبات مقومات الردة بالمعنى الديني لا السياسي ، و ما بدعة السنة و الجماعة إلا آلية لتكبيل التفكير خارج النمط التوجيهي ، فلا هو سنة بالمعنى الديني ، و لا جماعة بالمعنى الاجتماعي ، حيث لا يشكلان قاعدة متجانسة و كل محكم في الرؤية و الخطاب و الأفق ، إذ هما في المحصلة النهائية " طغمة " تم تعضيدها دينيا ، و تقوية شبكة نسيجها الاجتماعي بالدولة الريعية أو دولة العطاء .
لم ينفك المخزن الأسطوري عن طابع اليد الثقيلة و القوة و العسكرة ، و إنتاج الأجساد الطيعة ، و التفكير انطلاقا من الأنا الخيرة ، أو ما يسمى تجاوزا بالعنف المشروع الذي ارتقى إلى العنف المؤسس ،و الشطط في استعماله و توظيفه خارج أي قاعدة أخلاقية أو قانونية ، ما دامت لا تعترف بإنسية الإنسان و اختلافه في منطق القول و التأويل ، و لا غرابة أن يكون التاريخ الإسلامي حافلا بالاغتيالات ذات المرجعية السياسية و بغطاء ديني مفضوح ، حيث أن الاختلاف في تقديم الذات و ضبط مستويات الحقيقة السياسية عن طريق تقنين الممارسة السياسية و إخضاعها ليس للقاعدة القانونية أو الدستورية ، و لكن للقاعدة الإنسية و قانونها الخلاق في الاختلاف ، يوصف بالضمانة الوحيدة و المطلقة لمنطق سريان مستويات الفهم من داخل الوحدة ، و ليس الشذوذ و الأنا و الاستثناء بدعوى الحق في الاختلاف .
لا يعد إشكال الدولة المظهر الوحيد المعبر عن أزمة السياسة ، بقدر ما يمتد إلى الفرد المحتج ، أو الفاعل السياسي ، و الذي غالبا ما يقتات على مفهوم اللقاحية و الحرية بمعناها غير المنتج باعتبار السلطة من تصاريف الزمن ، و غالبا ما كان تمجيد الثورة و التذمر يتم على حساب بناء العلاقة بين هذه النوعية من الأفراد و الدولة ، لدرجة أضحى الإشكال ليس في المجال السياسي بصنفيه الدولة ـ الفرد ، و لكن في مفهوم هذا المجال و مضمونه ، حيث إن الثورات و التمردات التي دونها التاريخ أو تجاهلها ، لم تقدم ذاتها خارج النمط المحدد سلفا ، إذ صاغت نفسها وفق ما هو مقدم تاريخيا من " نماذج " ، و أعادت إنتاج الإعاقة ذاتها مضمونا و شكلا ، حيث أن مفهوم الثورة و التمرد و الحركة و الهبة ظل راسخا في التمثل الاجتماعي على شكل قيم سلبية ، و تحول مع مرور الزمن إلى حقل دلالي لكل معاني الفوضى و الغريزية ، و تهديد الأمن و السلم الاجتماعيين ، و غالبا ما ارتدت هذه التمردات إلى عناوين للفشل السياسي الذريع و المريع معا ، و انتقلت من إمكان إعادة الثقة و البناء إلى مجال مفتوح للهدم و القتل و التشويه ، بيد أن ذلك تم على حساب جدوى التغيير وفق قراءات أخرى و منطق مغاير لا يهدد بالضرورة ، و يبدو أن نجاح الآلية السلطوية في إنتاج " الرهاب " من التغيير ، قد عمل على تشويه و تحقير و تصنيف الثائر دينيا و اجتماعيا ، و اعتبار فعله مجرد فوضى و في أحسن الأحوال تعبير عن مصالح فئوية ضيقة .
إن واقع الحال في المغرب يوحي بأن الدولة لم تتخلص من طابعها " الثقيل " رمزيا و نفسيا و سياسيا ، باحتكارها لجل المبادرات السياسية و تقعيد فلسفة الهامش المحاصر و الاجتهاد الظني الذي لا يمس القاعدة السياسية و جوهرها و المتواطئ في بنائها ، و إخراجها بالصورة التي تستدعي ضمان و استمرارية النسق و المنظومة المخزنية برمتها ، و إضفاء الهالة و الشرعية السياسية على جل ممارساتها ، لدرجة تحول الفاعل السياسي و المدني فيها إلى مجرد " رقم " لاستكمال الصورة السياسية للمخزن التقليدي ، و مجاراته و محاكاته في جل المبادرات و النسج على منوالها ، بشكل " إجماعي " غير مقنع و غير مفهوم فلسفيا و سياسيا و ثقافيا ، و الأدهى دون تقديم البدائل و القوة الاقتراحية المنتجة على المستوى التنموي ، حيث تم سحب البساط من تحت أقدام هذا الفاعل المدني منه و السياسي ، و لا أدل على ذلك من الرموز التي " تؤثر " في المشهد السياسي في المغرب ، حيث تطالها الضحالة و الفراغ القيمي عبر الزواج الفلكي ما بين القيم الحزبية ؛ الإسلامي مع اليساري و الوسطي مع اليميني ، و كأننا في حفلة تنكرية لا ندري ضيوفها سوى أنهم أرقام لتأثيث الحفلة و الفضاء ، تتداخل فيها الأنغام و تتعالى الأصوات من أجل "برامج " مهزوزة ، و أفكار يطبعها النشاز و التكرارية .
بالمقابل ؛ فشلت الحركات الاحتجاجية في صياغة مشروع منسجم و متكامل ، و ظلت أسيرة نزوعها الانقسامي و أحلامها السريالية ، و افتقارها إلى الامتداد الاجتماعي الدال على الكتلة التاريخية القادرة على التغيير ، إذ ركنت إلى التفاعل دون الفعل ، و أبدعت في الاشتغال على المقومات نفسها دون طرح البديل السياسي و الاجتماعي ، بحكم ارتباطها " الأرثودكسي " بالأحزاب ـ طبعا في إنتاج الولاء و الطاعة دون مسافة نقدية أو استقلالية ممكنة ـ بإيعاز من قبلية مفضوحة بعيدة عن التثوير الثقافي ، فلا النقابات أخذت بناصية الحراك الاجتماعي ، و لا المجتمع المدني استطاع إزاحة المكونات السياسية الهرمة ، و هنا تظهر الأزمة الاحتجاجية بكل تجلياتها ، هذه الصورة القاتمة لا تحجب عنا حركية اجتماعية كامنة ، تتظافر الأسباب الداعية إلى خروجها من " التصوير " المخزني ، و من التبعية للفاعل السياسي و النقابي ، و لا غرابة في ذلك إذ تستمد شرعيتها من القيم النضالية غير المادية معبرة عن روح عصرها ، تفتقر إلى العامل التنظيمي الفعال و الحجاج السياسي ، و تنويع مصادر الصراع دون حصرها في الخلفية القانونية أو الدستورية ، و ذلك ما قد يضمن لها النجاح في كسر المخزنة .
تستند الدولة الأسطورية إلى شرعية تاريخية أجاد العديد من فقهاء السياسة في إيجاد المسوغات لتبريرها و تقنينها ، و تزويدها بالخلفية الدينية التي تدعمها و تقويها ، و تضفي عليها مناعة خاصة ، تجعل منها غولا يتجاوز المجتمع و إن كان ينطلق و يستمد شرعيته منها ، و استطاعت أن تجعل من إمكانية المحاسبة حتى لا نقول الثورة أو التغيير ، مجرد هوامش يستحيل إيجاد مسوغاتها الشرعية للمطالبة بالحق أو الرغبة في الحصول عليه بالقواعد الأخلاقية و القانونية ، لذلك عد الفقه السياسي في الكثير من مناحيه مجرد امتداد للسلطة و تعبير فقهي باسمها ، حين فشل في معانقة القضايا الاجتماعية و الدفاع عنها ، بشكل يوحي بأن الكثير من ملامح الفقه في التاريخ الإسلامي مسكون بهاجس السلطة و الخوف من الفتنة ، حتى غدا الخوف منها وسيلة للدفاع عن سلطة أصلها فتنة ، حين تساقطت كل شروط الإمامة تباعا لدرجة الاعتراف الشرعي الصريح بالشوكة و العصبية و القوة .
تطفو على سطح و عمق الدولة الكثير من فلسفات الاستقواء ، خارج أي ميثاق سياسي أو اجتماعي ، فتارة تعالت الدولة على المجتمع باسم القبيلة ذات السيادة و الحق في امتلاك السلطة ، و تارة أخرى " تفرعنت " على المجتمع باسم الشرف و نبالة الدم ، الذي من حقه امتلاك السلطة بتفويض إلهي ، لا يرقب في المجتمع إلا و لا ذمة ، يراكم الثروة ، يراكم الجاه ، و يراكم العنف و يستبد بكل القيم المادية و الرمزية ، التي تخوله القفز على كل الأعراف القانونية و الدستورية ، و تأويلها بما يخدم سلطته ، هذا دون الحديث عن حق المجتمع في الصدح بالشكوى باعتبارها من أتفه و أحقر الحقوق المنصوص عليها تجاوزا في الوثيقة الدستورية ، التي أضحت في ظل الدولة الأسطورية نقط عروس و أبعار ضباء كما تقول العرب ( كناية على الشيء العابر ) ، هدفها تسويق الصورة السياسية في الخارج ، و تقديمها مادة للاستهلاك في الداخل .
الدولة الأسطورية مسكونة بهاجس الأمن بالمعنى البيولوجي ، و هو الخوف الشاذ من التغيير ، و من الاختلاف و صراع التأويلات الراغبة في الشرعية الاجتماعية ، لذلك الأمن المعبر عنها في أدبيات هذه الدولة هو أمن أمني ، تقوم فلسفته على إلحاق ميادين التنمية بالعنصر الأمني ، و احتواء القضايا الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و السياسية ،و ابتلاعها بضرورة الأمن و السلم الاجتماعي ، و لا غرو ، فالمغرب في هذا السياق يشكل الاستثناء الأمني ، و طبعا ليس الأمن الغذائي أو الفني أو الروحي أو الثقافي أو العلمي ، و إنما الأمن بمعنى الشوكة و القوة و كل الصيغ المرتبطة بالأدب السلطاني في شكل الدستوري الحالي ، و لا أدل على ذلك من الالتفاف على كل المطالب التي أحدتثها الحركية الاجتماعية سنة 2011، و لعل الإنفاق المتزايد على البعد العسكري مقابل ضحالة و هزالة إن لم يكن الغياب شبه التام لميزانية علمية أو ثقافية ، بإمكانها تحقيق القفزة و الطفرة العلمية و التنموية ، ليعد الملمح الأكثر تعبيرا عن الدولة الميتافيزيقية .
تتغذى الدولة الأسطورية على نسيج اجتماعي هش ، مبني على هندسة اجتماعية تروم فبركة الخرائط و الأنسجة المرتبطة بها ، حيث يجري تحويل الإحن و النعرات القبلية إلى قانون للصراع الذي لا يمس جوهر العملية الاجتماعية و السياسية ، أي أن هذه الصراع لا يخدم الوطنية و ثقافة الانتماء ، بقدر ما يسهل الانقياد و إنتاج الأجساد الاجتماعية الطيعة ، و التي لا ترى العدو في غياب قيم العدل و الحرية و الكرامة في المؤسسات ، نظير النظر إليه في الفرد المختلف و القبلي أكثر تحديدا ، بشكل يحول أدبيات الصراع من صراع حول القيم المشتركة ، إلى صراع حول الأصل العرقي و أفضليته و أحقيته و أسبقيته التاريخية ، و هو ما يؤبد الهزيمة و الفشل التنموي و الحضاري ، و يقوي قواعد القوة و الاستمرار في بنية الدولة الأسطورية و المخزنية .