لأن الغرب الحديث عَلماني..صار أعداء العَلمانية ينسبون إلى العلمانية كل ما في التاريخ الغربي الحديث من عنف وحشي وجرائم وفساد، ولا يرون فيه إلا هذا! فرغم أن ظاهرة الاستعمار ضاربة الجذور في عمق التاريخ، والدولة العلمانية حديثة حتى بالنسبة للتاريخ الحديث، فقد صارت كل جرائم الاستعمار الغربي في العصر الحديث تعود برأيهم إلى العلمانية، والعنف الناتج عن صراع المصالح المسعورة وحروبها هو أيضا بسبب العلمانية، وكذلك العنف الحاصل في الثورات والصراعات الداخلية هو أيضا من صنع العلمانية، وعليه فكل ضحايا الحربين العالميتين، وضحايا المستعمرات والحروب بين الدول الاستعمارية، وضحايا الثورة الفرنسية والثورة الروسية والثورة الصينية كلها بسبب العلمانية، ولم لا ننسب إلى العلمانية أيضا عنف الصراعات الدنيية بين المذاهب المسيحية وكل ما سقط فيها من ضحايا ونقول أن العلمانيين الغربيين كانوا وراءها؟! فهذا ممكن طالما أن الغرب العلماني الكافر هو الذي يصنع الحركات التكفيرية الإرهابية من المسلمين المؤمنين وفي ديارهم!
أما لماذا يفعل العلمانيون ذلك؟!
فالجواب جاهز وسهل وبسيط!
إنهم يفعلون ذلك لأنهم ببساطة كفرة لا يؤمنون بالله ولا يخافونه، لذلك فهم ليس لديهم أي وازع عند قتل أي عدد من غيرهم من الكفرة أو من المؤمنين الأبرياء إرضاء لمصالحم الكافرة أو لأحقادهم الكافرة!
وهكذا يكون الدينيون وبشكل أكثر حصرية الإسلامويون قد شيطنوا العلمانية وبرؤوا أنفسهم من أعمال العنف الدموي التكفيري، وليس هذا فحسب بل ألبسوا كل هذه الجرائم لمنافستهم اللدود العلمانية بتصوير كل هذا الإجرام الحاصل كمؤامرة جهنمية يقوم بها الغرب العلماني الكافر على أمة المسلمين المؤمنة البريئة، ويصبح الغرب الكافر هو الجاني والأمة المؤمنة هي الضحية!!!
مع ذلك، ومع أنه من الخطأ الجسيم المطابقة بين العلمانية والإلحاد، فلا يمكن إنكار أن أعمالا وحشية كثيرة قام بارتكابها لادينيون أو ملحدون، فهل السبب في ذلك هو لادينيتهم أو إلحادهم، وهل يمكن مثلا تحميل العلمانية وزر جريمة يرتكبها علماني ما لسبب ما؟!
هنا يجب أن نحدد بدقة موضع المسؤولية عن الجريمة التي يرتكبها شخص ما عندما يكون هذا الشخص صاحب عقيدة أو انتماء أو هوية ما، كما يجب تحديد السبب الحقيقي لهذه الجريمة، وهل هو مرتبط بالعقيدة أو الانتماء أو الهوية أم بأسباب أخرى! فحين يرتكب متدين ما جريمة ما..فيجب تحديد ما إذا كانت هذه الجريمة متربطة حصريا بدينه أم أنها مرتبطة بأسباب خاصة يتساوى فيها مع أية حالة مماثلة لمجرم آخر من ملة أخرى وبمعزل عن أية هوية أو عقيدة، فالمتدين الذي يرتكب جريمة بسبب مصلحة خاصة أو ثأر شخصي أو ما شابه لا علاقة لدينه هنا بجرمه قطعا، ولكن المتدين الذي يقتل أو يؤذي شخصا آخر لأن هذا الآخر هو برأيه كافر أو عدو للدين أو لله تصبح هنا جريمته دينية، ولكن حتى هنا أيضا يجب عدم التسرع في اتهام الدين نفسه كما هو في مصادره الأصلية، ويجب التأكد مما إذا كان هذا الذنب هو ذنب المصادر الأصلية أم أن هذا الذنب هو ذنب ما بني على هذه المصادر وصار جزءا لا يتجزأ من المنظومة الدينية، أم أن هذا الشخص وقع ضحية ضلال أو تضليل أو استغلال! لكن مهما كانت الأسباب واختلفت، فالحقيقة تبقى أنه ثمة جريمة دينية! وهذه الجريمة تقوم على دافع ديني عند مرتكبها مهما كانت ملابساتها، وهي متربطة بواقع ديني وبأسلوب ممارسة دينية قائمين، وهذا النمط من الجريمة لا يقتصر على الدين فقط، فالمؤمن القومي المتعصب يمكنه أن يقتل أو يضطهد شخصا آخر بدافع قومي، كأن يراه من عرق قومي منحط ولابأس بالقضاء عليه أو إلحاق الأذى به من أجل مصلحة العرق الأرقى، والإيديولوجيا نفسها يمكنها أيضا أن تتسبب بهذا النوع من الجرائم فقد يقتل أو يضطهد أصحابها أشخاصا مختلفين معهم أو عنهم بدعوى أنهم خونة أو أعداء للوطن أو الأمة أو الطبقة أو الحزب مثلا! وهذه الجرائم سواء كان وراءها الدين أم القومية أم الإيديولوجيا وما يشبهها مما له علاقة بهوية أو انتماء أو معتقد يمكنها جميعا أن تصنف في فئة واحدة، وتسميتها بـ "جرائم المقدس" أو "الجريمة المقدسة"، لأن القومية والإيديولوجيا هي أيضا من أشكال المقدس وتخلق هوية مقدسة مثل الدين.
فهل يمكن للعلمانية أن تفعل الشيء نفسه؟
هذا مستحيل كليا!
فالعلمانية هي منهجية محض، وهي ليست عقيدة ولا إيديولوجيا ولا حتى فلسفة نسقية على غرار الهيغلية أو الماركسية وما شابه، وعندما نقول أنها منهجية فهذا يعني أنها كالعلم تماما، فهل يمكن الحديث عن جريمة يكون دافعها علمي؟
مثلما هو حال العلم كذلك هو حال العلمانية، فهي لا تصنع هوية مقدسة ولا عقيدة مقدسة، وهي على العكس من ذلك لا تفصل بين الدين والدولة وحسب، بل تفصل بين القومية والدولة وبين الإيديولوجيا والدولة، وبشكل عام بين الدولة والمقدس بكل أشكاله، وليس هذا فحسب بل هي تفصل كلما تقدم عن الشأن العام وليس عن الدولة فقط.
أما لماذا تقوم بذلك؟ فهي تقوم به لكي لا يُستغل هذا المقدس في السياسة ويستخدم في "جريمة مقدسة" ضد إنسانية من ناحية أولى خصوصا، ولأن العلمانية تتمركز على مبدأ الإنسان المجرد المطلق الذي يتعالى عن كافة أشكال المظاهر الإنسانية الظرفية المتغيرة من ناحية ثانية عموما.
إذاً هكذا نكون قد وصلنا إلى نتيجة قاطعة مفادها أن العلمانية هي نقيض تام لجريمة المقدس، ولا يمكنها هي نفسها أن تتحول إلى مقدس يحرك جريمة، ولكي تكون وتبقى كذلك فهي لا تنفصل عن العقلانية والإنسانية، وهذا مبدأ قطعي فيها، فالعلمانية هي الواقعية العقلانية الإنسانية، وهي تساوي بين كل الناس من حيث المبدأ على أساس إنسانيتهم المجردة.
لكن مع ذلك يجب أن نعترف بأنه ثمة علمانيون متطرفون رغم أنهم غير مؤدلجين.. ولكنهم يعادون بضراوة الدين، بل ويحاربونه، وبالتالي يصبح ممكنا الحديث عن علمانيين متعصبين!
وهذه قضية جد حساسة وجد دقيقة، ولإيضاحها سنعود إلى مقارنة العلمانية بالعلم (ونحن هنا لا نخلط بين العلمانية بفتح العين، المشتقة من كلمة علم بفتح العين أيضا وتعني العالم، والعلمانية بكسر العين المشتقة من علم بكسر العين أيضا بمعناه المعروف)، فالموقف العلمي لا يعني عدم وجود حكم قيمة على آخر، فعندما يكون شخص ما علميا فهذا لا يعني أنه لا يعتبر المؤمن بالأساطير شخصا متخلفا، وهنا يبدو للوهلة الأولى أن حكم القيمة الذي يطلقه الشخص العلمي على المؤمن بالأساطير هو مشابه في الشكل لموقف المؤمن الذي يطلق حكم قيمة تكفيري على المختلف عنه عقائديا، وهو كذلك، لكن هذه الشكلية لا تعني حكما التساوي، فحكم العلمي يقوم على عقل علمي معرفي أما حكم المتدين فهو يقوم على إيمان غيبي تسليمي، والحكم العلمي لا يستهدف الآخر بصفته آخر، ولا يستهدف هويته أيا كانت، ولكنه يستهدف حاله ووضعه، أي في مثالنا حالة تخلف معتقداته وعاداته ومخالفتها للصالح الإنساني، والأهم من ذلك كله، أن حكم القيمة العلمي لا يترتب عليه أي موقف إلغائي لهذا المتخلف، وهو فعليا لا يشكل آخر على مستوى الهوية بالنسبة له، فهذا المتخلف يبقى بالنسبة للعلمي ضمن حدود العلم إنسانا مثله تماما، إلا أنه لم يبلغ المستوى المعرفي والحضاري الذي بلغه العلمي، وبالتالي لا يمكن للعلمي أن يرتكب "جريمة علمية" باسم العلم بحق المتخلف مهما غالى في علميته، كما يمكن للمتدين المتطرف أن يفعل بحق الآخر الكافر بالنسبة له أو القومي المتطرف بحق الآخر المنحط عرقيا برأيه! حكم القيمة العلمي لا تنجم عنه مفاعيل إجرامية، ولكن العلمي يمكنه أن يتخذ موقفا عمليا حازما من المتخلف حين يتحول هذا التخلف إلى فعل وتنجم عنه مفاعيل مؤذية، كأن يبادر هذا المتخلف هو نفسه بالاعتداء على العلمي..أو يقوم بأفعال عامة الضرر، وحتى هنا فهذا الموقف من قبل العلمي يكون موجها ضد مفاعيل التخلف وضد التخلف بصفته سبب هذه المفاعيل..وليس ضد المتخلف بصفته صاحب هوية ما أو عقيدة ما!
إن العداء الديني والقومي وما شابه للآخر موجه ضد شخصية وهوية هذا الآخر كآخر، وليس بسبب فعل هذا الآخر الضار إنسانيا ولا لأن الآخر يبادر بالعدوان، فالجريمة المقدسة ضد الآخر هي عادة جريمة مبادرة وليست مرتبطة بأفعال هذا الآخر وإنما بشخصه وهويته، فمثلا بالنسبة للمسلم البوذي كافر لأنه بوذي سواء كان صالحا أم طالحا إنسانيا، وسواء كان يقوم بفعل عدائي ضد المسلمين أم لا، وهذا الموقف يجعل إلغاء البوذي كبوذي أمرا ممكنا ومقبولا إسلاميا من حيث المبدأ، وفي حين ما وظرف هذا يجعل العدوان عليه وعلى من هم في مثل وضعه محللا كما فعلت داعش بالإيزيديين، فبادرت بمهاجمتهم واعتدت عليهم بأبشع الأشكال لأنهم برأيها كفرة وفقط كفرة، مع أنهم لم يقوموا بأي فعل ضد الإسلام ولا حتى ضدها هي نفسها، ومثل هذا السلوك الداعشي الإجرامي بحق الإيزيديين وغيرهم من الآخرين، نجد ما يشبهه قوميا في جرائم الطورانيين الأتراك بحق الأرمن على سبيل المثال!
وبعد ما تقدم نعود إلى موضوع تعصب العلمانيين، ففعليا يمكن أن يتواجد لدى شرائح واسعة من العلمانيين من الدين موقف مشابه لموقف العلميين من أصحاب العقائد البدائية، فيكون لدى هؤلاء العلمانيين رأي بأن الدين هو معتقدات باطلة..بل وحتى خرافات، ولكن هذا حتى الآن لا يتعدى حكم القيمة، لأن العلماني مع قناعته بأن المتدين يؤمن بخرافات فهو من حيث المبدأ يعترف له بالحق الكامل بالوجود والتساوي الإنساني التام معه، وهذه من فضائل العلمانية الكبيرة، لكن عندما يبادر المتدين بالتعصب ضد العلماني أو يقوم بأفعال ضارة اجتماعيا أو إنسانيا على أساس ديني، فهذا يؤدي إلى ردة فعل معاكسة لدى بعض العلمانيين الذين يتحولون إلى متعصبين ضد الدين، وهذا يفسر حالة التعصب الموجودة لدى فئة ليست قليلة من العلمانيين ضد الإسلام، فهذا التعصب يأتي كردة فعل على حالة التخلف والتطرف الإسلامية الراهنة، وعلى نشاط جل الإسلامويين التعصبي والرجعي، الذي يكفر الآخر ويكرس حالة التخلف المستفحلة، وعلى أية حال فمن النادر أن تتعدى ردة الفعل العلمانية هذه ضد الدين حكم القيمة لتتحول إلى فعل إلغائي أو جريمة عنف ضد الغير، فإن حصل هذا فهذا لا يحصل إلا لأن العلماني يحاول ردع عدوان المتدين أو لأنه ينتقم منه أو لأنه يخاف منه، وهذه الجريمة إن حصلت فهي عبارة عن ردة فعل أو "جريمة ردية"، وهي لا تحدث لأن العلماني يشيطن المتدين ويريد إلغاؤه كمتدين ولأنه مختلف عنه كعلماني، وهي تحدث فقط عندما يحوّل المتدين نفسه إلى عدو للعلماني ويعرضه للخطر، أما "الجريمة المقدسة" فهي "جريمة مبادرة" أو "جريمة بدورية"!
بناء على الكلام أعلاه يمكننا القول أنه ثمة ثلاثة أنواع من الجريمة، مصلحية وعنصرية وردية، ويمكننا أيضا أن نضيف إليها نوعين آخرين هما الجريمة المرَضية والجريمة الصراعية!
الجريمة المصلحية هي الجريمة التي ترتكب لتحقيق مصلحة مهما كانت الأثمان وبمعزل عن أية أسباب أخرى، والعنصرية هي المرتبطة بدين أو قومية أو إيديولوجيا أو طائفة أو طبقة وما شابه، والردية هي التي ترتكب ضد الغير من منطلق دفاعي أو ردعي أو اتقائي أو ثأري وما ماثل، والمرضية هي الجريمة التي ترجع أسبابها إلى شخصية مضطربة تتحكم فيها نزواتها وأهواءها وأوهامها وماشابه، أما الجريمة الصراعية فهي التي تحدث أثناء الصراعات والحروب، حيث يتفاقم العنف وتتنامى الأحقاد بين المتصارعين وتسيطر الغرائز ويفقد المتحاربون مناعتهم الإنسانية والقدرة على التحكم بأنفسهم وضبط أفعالهم، وتجد النفوس المضطربة والمريضة فرصتها للتعبير عن وحشيتها وهلم جرى!
فأين هي جرائم العلمانية بناء على هذا التصنيف؟!
هل جرائم الغرب الاستعماري التي قامت من أجل المصالح المسعورة، والتي شارك فيها بفاعلية أحيانا رجال دين انتهازيون أو متعصبون هي بسبب العلمانية أو من أجلها؟ وهل يمكن قول هذا ونحن نجد الكثير من صغير أو كبير الجرائم والصراعات التي يرتكبها أو يخوضها مسلمون بسبب المصلحة، فهل هذه الجرائم علمانية أم إسلامية؟ إنها ليست لا هذه ولا تلك إنها جرائم مصلحية محض، فلم هي كذلك في حالة الإسلام، لكنها تصبح علمانية في حالة الغرب؟!
وماذا عن الجرائم التي ارتكبها النازيون والفاشيون والتي ارتكبت في الثورات الفرنسية والروسية وفي الصين وكمبوديا، وذهب ضحيتها الملايين؟! هل هذه الجرائم بسبب العلمانية؟!
بالنسبة لجرائم النازيين والفاشيين هي جرائم قومية عنصرية، وهي "جرائم مقدس" تماما، وهي لا تختلف عن جرائم الصليبين والجرائم التي ارتكبت في الصراعات الدينية بين المذاهب المسيحية المختلفة في أوروبا كما في الصراع بين الكاثوليك والبروتستانت، ومثل هذه الجرائم موجودة في التاريخ الإسلامي وما تزال مستمرة حتى اليوم على يد الحركات التكفيرية! وعليه لا تكون جرائم النازية والفاشية "علمانية" بل على العكس تماما هي "ضد علمانية" كليا بقدر ما هي "ضد إنسانية"!
أما الجرائم التي ارتكبت في الثورتين الفرنسية والروسية فهي جرائم مقترنة بحالة صراع، صراع أدى إليه انفجار ثوري نتيجة وصول حالة التردي والتوتر والتناقض والضغط في النظام السياسي الاجتماعي القائم إلى درجة لم يعد من الممكن استمرارها أو احتواؤها، وفي حالات الصراع هذه ترتكب جرائم حربية كما في غيرها في أية حالات صراع أخرى وحروب بين دول ودول أو بين جماعات وجماعات، وشكل العنف الممارس هنا هو عنف ضد الطرف الآخر الذي يصبح عدوا، وتتم شيطنته أو إلغاؤه بهذه الصفة لأنه يمثل كل ما هو شرير وخطير، وفيه تتجسد كل الصفات الفظيعة والوضيعة والنجسة وما شابه من الصفات الشريرة، إضافة إلى أن المصالح الخبيثة والعصبيات المتضخمة والعقد المرضية تجد فرصتها في هذه الصراعات، فأين هو دور العلمانية في هذه الأجواء المأساوية؟!
وحتى عندما تنتصر الثورات، لا تنتهي الأزمة ويتوقف العنف الثوري بل يستمر، وهذا العنف الثوري يكون محرَّكا بالخوف من الثورة المضادة أي أنه عنف ردي وجريمته ردية، أو عنف تعصبي للثورة وهذا عنف إيديولوجي أو طبقي أي عنصري وجريمته تدخل في نطاق "جريمة المقدس"، أو عنف مغرض وجريمته مصلحية، أو عنف مرضي وجريمته مرضية، وهذا كله لا علاقة له لا بالعلمانية!
والعنف الذي حدث في روسيا ستالين وصين ماو وكمبوديا بول بوت هو عنف يدخل فيه شكل متطرف من الإيديولوجيا الشيوعية والمصلحة الطبقية بشكل أساسي، والجرائم الناتجة عنه هي جرائم مقدس ومصلحة، كما تدخل فيه الخشية من أعداء الشعب والثورة، ومصالح ونزعات القائمين عليه، ما يعني أن الإجرام الناتج هنا ينتمي إلى أصناف الجريمة الردية والمصلحية والمرضية، وهنا العلمانية لا دور لها بتاتا!
البعض من الدينيين عموما والإسلامويين خصوصا يروج أحيانا لفكرة أن معظم جرائم العنف الذي تحدثنا عنه أعلاه سببه هو كفر القيادات التي قامت به وعدم إيمانها بالله وخشيتها له، ويدرج في عداد هذه الجرائم كل ضحايا الحروب والصراعات والثورات المرتبطة بالغرب!
هنا نسأل كم هو عد الضحايا الذين سقطوا في حروب المسلمين مع قريش وفي الفتوحات الإسلامية؟ أفلا يمكننا هنا اعتبار كل الضحايا الذي سقطوا في هذه الحروب من المسلمين والأطراف الأخرى ضحايا لجريمة إسلامية؟! فإذا كان الجواب هو لا، فلماذا إذا علينا اعتبار أن كل ضحايا الحروب الأخرى هم ضحايا جرائم حرب، لنحمّل بعدها مسؤوليتها للعلمانية أو لعدم الإيمان بالله؟ ليت كل حرب اعتبرت جريمة! ولكن هذا لا يحدث لأن هناك حروبا تخاض دفاعا عن الذات أو من أجل الحق، كما أن للحرب اعتباراتها التي لا يعتبر فيها كل ضحايا الحروب ضحايا جرائم حرب، فهذا لا ينطبق مثلا على من يسقطون قي ساحات المعارك من العسكريين أيا كانت أسباب الحرب، والكثير من ضحايا الحروب الغربية هم ضحايا من هذا النوع! ونحن هنا لا نبرر قطعا سقوطهم ..ولكننا نوضح حقائق الأمور!
أما ما يقال عن أن تلك الحروب والجرائم سببها عدم الإيمان بالله، فهذا ينفيه الواقع نفيا قاطعا، فالفتوحات الإسلامية من وجهة نظر غير إسلامية هي اعتداء على الآخرين، وهي حروب دينية كالحروب الصليبية حتى وإن لم يقم المسلمون بنفس القدر كمّا وكيفا من العنف الذي قام به الصليبيون، ومع ذلك ففي التاريخ الإسلامي يمكننا أن نجد الكثير من العنف الإجرامي في صراعات المسلمين بين بعضهم أو مع غيرهم، وفي التاريخ الديني نجد أيضا الكثير من الجرائم التي قامت بها كنيسة القرون الوسطى سواء ضد المسلمين كما حدث في الحروب الصليبية أو ضد مسيحيين آخرين كعملية إبادة البابوية للكثاريين في القرن الميلادي الثالث عشر، كما نجد جرائم الاستعمار - بكل ما فيها من قتل مباشر وتسبب بالموت واستعباد واغتصاب وتشريد وسواه في أمريكا وإفريقيا وغيرهما من مناطق العالم – التي شارك فيها بدوافع ودرجات مختلفة رجال دين مسيحيين وأعطوها الغطاء الشرعي!
ويضاف إلى ذلك كل جرائم العنصريين اليهود التي ارتكبوها تاريخيا ومازالوا يرتكبونها حتى اليوم باسم إلههم الذي اختارهم شعبا دون سواهم من الشعوب!
إضافة إلى الجرائم الشنيعة التي يرتكبها اليوم التكفيريون الإسلاميون! وجرائم جيش الرب الأوغندي المسيحي الذي لا يختلف عن داعش!
أليست هذه كلها جرائم قام أو يقوم بها مؤمنون، والأسوأ من ذلك أنها جرائم ارتكبت أو ترتكب باسم الدين! فلماذا لم يمنعها الإيمان بالله وخشيته، بل الذي حدث هو العكس؟!
هنا بالطبع سيقول المتدينون أن الدين بريء من هذه الجرائم، وأنها تناقض القرآن والسنة والإنجيل!
إن جرائم العنصريين اليهود لا تتناقض على أية حال مع التناخ والتلمود، أما إذا قبلنا أن جرائم الصليبين والعنصريين المسيحيين وجيش الرب وجرائم التكفيريين الإسلاميين هي مخالفة أو مناقضة للإنجيل والقرآن والحديث، وقلنا بأن الصليبين والعنصريين المسيحيين كانت تتحكم بهم كنيسة القرون الوسطى، وأن التكفيريين الإسلاميين وجيش الرب هم من صنعِ المخابرات الأمريكية ومخابرات حلفائها، فهذا لا ينفي قطعا أنه لو لم يستغل الدين، ولو لم يكن العامل الديني موجودا لما أمكن لأحد أن يستغل أحدا أو يصنع منه شيئا باسم الدين، فلا أحد يستطيع أن يصنع من الطحين جبنا مهما كان ماهرا في إعداد الطعام!
عندما يكون الشخص متدينا فهو قابل لأن يجيّش ويستخدم في العنف والإجرام إذا ناسبت الظروف، إما لأن دينه بحد ذاته دين عنصري وعنفي، أو بسبب ضلاله الذاتي أو تضليله من قبل الآخرين، وفي الحالة الإسلامية، نجد أن مركّبة العنف موجودة في المنظومة المعتقدية الإسلامية، التي يدخل في عدادها الكثير من الفقهاء والمفتين، الذين تعتبر أعمالهم وأقوالهم مرجعية بالنسبة للمسلمين، وإن كانت مرجعية درجة ثانية بعد القرآن والسنة، وفي هذا الفقه والافتاء هناك ما يكفي من دعوات ومحركات العنف التكفيري الفردي والجمعي، وما يزال هذا مستمرا حتى اليوم، ففتاوى التكفير ما تزال مستمرة وتشكل تواترا وتواصلا لما سبقها من فتاوى تكفيرية، وهذه الفتاوى القديمة والحديثة تعتبر مرجعية كافية لمن ينفذ جرائم العنف التكفيري الفردية أو الجماعية، وهذا هو الجانب الذاتي من عملية إنتاج العنف التكفيري!
أما الجانب الموضوعي منها فيتجسد في الظروف المتردية على كافة الصعد، في القمع السياسي والفقر الاقتصادي والفساد الاجتماعي والانحطاط العلمي والتردي الثقافي، وفي الدعاية الإعلامية المكثفة المكرسة للغيبية والتشدد الديني والعاملة على التحريض والتجييش الطائفي، التي يقف خلفها إسلاميون متزمتون متعصبون أحيانا، ومغرضون داخليون أو خارجيون أو كلهم معا غالبا!
في هذه الظروف نجد أن أكثر المتورطين في العنف التكفيري هم مؤمنون بسطاء لديهم إيمان متوارث شديد غيبي وطائفي الطابع، لا تتاح لهم فرصة التثقيف المناسب بسبب الديكتاتورية الدينية والسياسية المحيطتين، ولا تتاح لهم فرصة الانفتاح الاجتماعي المناسب بسبب تلك الديكتاتوريتين أو بسبب الفقر أو بسبب كل هذه الأشياء، ولديهم إحساس ظاهر أو دفين بالحرمان والغبن والقهر، ويتعرضون لدعاية دينية غيبية وتحريضية كثيفة، وجهود استقطابية تجييشية منظمة ونشيطة! وهكذا يصبحون إرهابيين!
إن الدين بطبيعته الغيبية التسليمية التقديسية، وبموقفه التقسيمي للناس إلى مؤمنين وكافرين، حتى وإن لم يكن يتضمن محركات عنف عدواني مباشرة في أصوله، ينتج غالبا الشخصية الفئوية التسليمية، المستعدة للانقياد والتوجيه، التي تقترن لديها صورة الآخر بالكافر، ما يجعلها قابلة للعنصرية والعدوان، ومناسبة لممارسة العنف ضد الآخر حتى بدرجاته القصوى، إما بتوجه ذاتي أحيانا أو بتوجيه خارجي غالبا، وهكذا وبالتكامل مع الظروف الموضوعية المناسبة يتحول الدين إلى مسبب مباشر للعنف على أيدي المتعصبين أو يستغل كأداة للعنف من قبل المغرضين!
أما العلمانية فهي غير قابلة للاستغلال التجييشي العنصري والمعتقدي من قبل أي من أولئك، فهي ليس لديها لا عقيدة ولا عنصرية خاصتين بها، ولأنها كذلك فهي نفسها لا تنتج تعصبا عنصريا أو معتقديا! وهي بذلك لا تتسبب ولا تتورط في أية جريمة مقدس ولا يمكن استغلالها في أية جريمة مصلحة، ولنفس الأسباب فهي لا تتسبب ولا توظف في الحروب والصراعات وجرائمها، وليست هي من ينتج الشخصيات المريضة المضطربة المجرمة، والعلماني إن لم يتعرض لعدوان فهو لا يعتدي بصفته علماني ولأسباب علمانية، وبالتالي فإن لم يتعرض لإجرام من قبل سواه، فلن يكون هناك أية جريمة ردية محتملة!
فعن أية جرائم علمانية يتحدثون؟!