عندما يواجه العالم واقعا يتجاوزه، عندما تكون حياة البشر على المحك، تظهر مجددا الأسئلة الفلسفية. هكذا تجبرنا فترة الخوف والذعر والقلق هاته على إعادة وضع الفكر في صلب حياتنا اليومية. الأسئلة الذي التي تظهر في مثل هذا الموقف هي من صميم الحياة اليومية للفلاسفة الذين تساءلوا، منذ 2500 سنة على الأقل، عن العالم، اندهشوا منه، وحرصوا على إيجاد إجابات من العلم.
فهم العالم الذي ينكشف أمام أعيننا.
إن التساؤل لأجل فهم العالم أمر جوهري بالنسبة للفلاسفة. يقول أرسطو بهذا المعنى: "الدهشة، هى التى دفعت المفكرين الأوائل، وكما يحدث اليوم، إلى التأملات الفلسفية.". فأن تكون فيلسوفًا هو إذن ان تكون لديك قدرة معينة على الاندهاش. هذا الاندهاش ليست عبثا، ويجب أن يجد إجابات لأنه يطرح أسئلة، يزعج. في الحقيقة، لهذا السبب كان علماء الطبيعة والرياضيات، في العصور القديمة، فلاسفة أيضا، مثل طاليس المليطي.
ما يحدث في هذه الأزمة الصحية يتسبب في الاندهاش، والعودة إلى فهم - أو بالأحرى إلى لافهم - ما يحدث في العالم وبموازاة ذلك يفسح المجال للبحث العلمي. وبعبارة أخرى، لدينا اليوم طريقة معاصرة جدا لاختبار ما أمكن له أن يحدث في مناقشات الفلسفة القديمة، مع الحفاظ على الرهانات العلمية والأخلاقية. مثال أعمال البروفيسور راولت خير تجسيد لذلك، مع نتائج أولية مشجعة، ولكن في حالة عدم وجود بروتوكولات مصادق عليها، هل يجب وصف دواء؟ السؤال أخلاقي بقدر ما هو علمي.
إن مسألة فهم العالم والبحث عن إجابات للأسئلة لا تشكل تمشيا شائعا ولا طبيعيا. على خلاف ذلك، لم نعد نحاول مفاجأة أنفسنا في الوقت الحاضر، بل على العكس من ذلك نحاول معايرة أو تنظيم كل ما يحيط بنا. عالمنا بأكمله، تنظيمنا، حياتنا اليومية، عملنا، كل ذلك منظم مثل ورقة النوتة الموسيقية. ثم نجد أنفسنا مرتبكين عندما يقال لنا: "لن تذهبوا إلى العمل بعد الآن، المدارس سوف تغلق"، تنظيمنا الكلاسيكي التقليدي جدا، المحكم جيدا، والمهيكل جدا، والمسمى، ينفجر أخيرا!
أكثر من ذلك يضاف شكل من أشكال القيمة، بعض الأشياء يقال إنها ضرورية وأشياء أخرى غير ضروري. هكذا يقول أغلب الناس يقولون في قرارة أنفسهم إن ما يغذي حياتهم اليومية، هذا الذي يستيقظون من أجله في الصباح، المكان الذي يقضون فيه جزءا كبيرا من حياتهم ليس ضروريا في نهاية المطاف. يدركون أن هناك مجالات كاملة من النشاط، حرفا، زمنا انقضى، لم تكن ضرورية. الشيء الذي يصبح مهما هو أن التساؤل عما إذا توفر ما يكفي من الطعام والبقاء بصحة جيدة.
إن إدراك عدم جدوى وجودنا لا يخلو من شعور بالمرارة ولهذا السبب نلاحظ سلوكات المقاومة. منذ الساعات الأولى من الحجر الصحي، كان هناك مقاومون: "أنا لن تصيبني العدوى"، "أنا لست مثلهم"، "عملي مهم وأرغب في الذهاب إليه على أي حال"، إلخ. بعد ذلك أفسحت المقاومة المجال للذعر "سأذهب للتبضع، سأوفر مخزونا"، "علي الذهاب إلى الريف لأنني أشعر بالمزيد من الحماية هناك"، إلخ.
هذا الوضع مزعج أكثر إلى درجة أنه يؤثر علينا بقدر كبير على المستوى الفردي والجماعي، ونلاحظ كيف أن هناك مشاركة اجتماعية مكثفة للعواطف في المجتمعات. يتعلق الأمر بمحاولة كسب الطمأنينة، الشبكات الاجتماعية موجودة من أجل ذلك، والمفارقة هي أننا سنستمتع أيضا بالإحساس بالخوف بطريقة معينة. والنتيجة مختلفة لأننا نجد أنفسنا في وضع الانسحاق تحت الكم الهائل من الأخبار الكاذبة إلى حد ما، والتي نسارع إلى مشاركتها وننسى التفكير فيها وفهمها. لم نعد نفكر، تسحقنا الأخبار والوضعية، لم تعد هناك مسافة بين ما يحدث الآن وبين الأنا باعتباره فردا. أفكاري عنه لم تعد مهمة، أنا لا أفكر بل أشاهد الأخبار باستمرار، لقد سحقتني الأخبار. انطلاقا من هنا، كيف أفهم العالم وهو ينكشف؟ الذعر يمنعنا من التفكير.
بالنسبة للفلاسفة، لا ينبغي الاستسلام للذعر، يتعلق الأمر بفهم ما يحدث وعلى الأخص كيفية التصرف كفرد في المجتمع. في الحالة الراهنة هناك مفارقة بين الانطواء على الذات والتضامن. من وجهة نظر يومية ومفاهيمية يكتسي ذلك بالغ الأهمية. يقال لنا كونوا متضامنين لكن هذا لا يستقيم إلا إذا كانت لدينا سلوكات فردية. العمل الفردي هو غسل اليدين، حماية النفس، الخضوع للحجر الصحي. يجب أن نشكل سويا كتلة كما يردد الحاكمون، لكن هذا لا يمكن أن يحدث إلا من خلال السلوك الفردي. على المستوى المفاهيمي، يشير هذا إلى معضلة القنفذ° العزيزة على شوبنهاور. إن التفاعلات المجتمعية، إذا أريد لها أن تكون آمنة، يجب أن تتم على بعد مسافة كافية. لذلك من الضروري إيجاد المسافة الكافية بين الفرد من جهة والمجتمع من جهة أخرى وهذا ليس واضحا، هذه العادة ليست من ديدننا. تلك مسألة مهمة تتعلق بمحاولة إيجاد مساحة فكرية بيني وبين المجتمع.
كيف نعيش في مواجهة إشكاليات جديدة؟
كان الهدف من الفلسفة في العصور القديمة واضحا جدا: الإجابة عن سؤال كيفية العيش؟ إذا كان الفلاسفة مهتمين بكيفية العيش، بالفلسفة كطريقة للعيش، فذلك لأن الوجود يتكون من إشكاليات دائمة: العاطفة، البحث عن السلطة، البحث عن المال، الخوف، القلق، الشيخوخة، المرض، الخيانة والموت. كل هذه الأسئلة تزعجنا وتمنعنا من العيش بهدوء. كلنا عُذبنا كبشر بسبب الحياة وعقباتها. كيف نعيش رغم كل هذا؟ هناك ثلاث مدارس فلسفية مستنيرة بشكل خاص لفهم هذا الأمر: الرواقيون، الأبيقوريون والكلبيون. لا تعمل هذه المدارس على إزالة الشرور - حتى لو قالوا بالفلسفة كعلاج - ولكن لمحاولة محاربتها والحد منها. طورت هذه المدارس ما يسمى "التمارين الروحية". الفلسفة القديمة عبارة عن تمرين روحي، أي ممارسة تهدف إلى تغيير طريقة العيش، في النفس أو في الآخرين، ورؤية الأشياء. إنه خطاب سواء داخلي أو خارجي، وتطبيق عملي.
بالنسبة لسؤالنا، ربما يكون الرواقيون هم الأكثر أهمية، وهم الأفضل في العمل على هذه الإشكالية لأن الرواقية هي فلسفة القبول. لنستعد هنا قولة إبكتيتوس الشهيرة: "هناك أشياء تتوقف علينا وهناك أشياء لا تتوقف علينا". ما لا يتوقف علي، مثلا، هو الوضع الحالي، هذا الفيروس الذي أصبح جائحة. ما يتوقف عليّ هو التباعد الاجتماعي، وقواعد النظافة ، واحترام الذات (العناية بنفسك) إذا كنت ترغب في رعاية الآخرين. الرواقيون لديهم أربع فضائل أساسية يمكن وضعها في المنظور مع السياق الحالي. الأولى هي الحكمة، وهي معرفة كيفية الترحيب بما يحدث بهدوء وسكينة. لا للبحث عن الجاني ولا داعي للذعر. البعد الثاني هو العدل. مثلا، معرفة كيفية التفاعل مع الآخرين، التربية، إظهار القدوة، احترام التعليمات. المحور الثالث هو الاعتدال.يتعلق الأمر مرة أخرى بمسألة عدم الاستسلام لذعر الشراء، التحكم في الغرائز، الزهد عن الملذات، مثلا عدم محاولة الخروج، لشراء ما هو غير ضروري. البعد الرابع هو الشجاعة لاتخاذ قرارات غير سارة، تحديد ما هو خير للصالح العام، التحلي بالشجاعة لتغيير العادات . هذه أربع فضائل مهمة لتحديد نمط حياتنا.
ماذا نتعلم من هذه الأزمة؟
هذان البعدان، معرفة كيفية فهم العالم ومعرفة كيفية العيش، يمثلان في نهاية المطاف جذرا الفلسفة. يمكن أن يساعدنا الوضع الحالي على العودة إلى العناصر الفلسفية القوية والمفيدة بعد الأزمة. لأنه يبدو أننا نشهد شكلاً من أشكال تدمير العالم الجاري: العولمة، الاعتماد المتبادل، ضعف إعطاء الأولوية للأموال العامة، إلخ. ومع ذلك، فإن التدمير يستدعي الخلق (التدمير الخلاق الشهير) ويبقى الرهان هو خلق عالم جديد. كيف سيكون لدينا عالم قادم مختلف عن العالم الذي تم تدميره؟ عالم مبتكر ولكنه مسؤول أيضا. ومع ذلك، هناك خطر كبير من أن هذا العالم لم يتم تدميره بالكامل وأنه هو نفسه كما كان من قبل. قد يؤدي تكرار الأزمات، السارس، كوفيد 19، آش وان إن وان، إلى رؤية شيء آخر ولكن لا شيء غير مؤكد، لم نتعلم بالفعل من الأوبئة الأخيرة ولم نعدّل أنماط الحياة من حيث النظافة واستعمال الإقنعة. كنا نعلم أننا لم نكن مستعدين لوباء آخر، لكننا لم نفعل أي شيء، على الرغم من الإشارات. هذه المرة قد يكون لدينا دمار لخلق عالم أكثر مسؤولية.
الدرس الثاني الذي يجب أن نتعلمه بعد الأزمة هو الاشتغال على الذات. هذا تعلم آخر يأتي إلينا من باسكال الذي قال إن "مصيبة الناس هي عدم معرفتهم كيف يبقون أويمكثون وحدهم في راحة داخل غرفة". لماذا ا ؟ لأنك تريد السفر، القيام برحلة عمل، أو مقابلة الأصدقاء، أو الاجتماع لتناول العشاء، أو الذهاب في عطلة ذات اليمين وذات اليسار. أليس كل هذا سطحية في نهاية المطاف؟ أليست هذه فرصة لتعلم الاشتغال على الذات والقدرة على العيش بحضرة النفس؟ أليست هذه فرصة لإعادة تأسيس مساحة فكرية فردية وجماعية يبدو أننا افتقدناها منذ بضعة أسابيع.
__________________
° معضلة القنفذ هي كناية عن التحديات التي تواجه العلاقات البشرية الحميمة. فهي تصف الحالة التي تسعى فيها مجموعة من القنافذ إلى أن تبقى قريبة من بعضها البعض لتبادل الحرارة خلال الطقس البارد. في نفس الوقت يجب أن تبقى متفرقة لتتجنب إيذاء بعضها البعض بأشواكها. على الرغم من أنها تشترك جميعا في الرغبة في علاقة تبادل وثيقة، إلا أن هذا قد لا يحدث لأسباب لا يمكن للقنافيذ تجنبها.