لا نقصد هنا بالمنظور الجديد تقديم تصور تأويلي جديد مضاف إلى التأويلات والدراسات التي جعلت من البلاغة السفسطائية موضوعا لها، بل نقصد هنا إعادة النظر في الأحكام الأفلاطونية التي رافقت المدرسة السفسطائية منذ زمن طويل، وإعادة النظر هذه، التي قام بها العديد من الدارسين للبلاغة السفسطائية، تهدف إلى محاولة التجرد من التأثير الأفلاطوني في قراءة ودراسة هذه البلاغة، والاتجاه نحو قراءة تضع السفسطائيين في سياقهم التاريخي وتبرز دورهم العلمي والمعرفي في تطور الأفكار عبر تاريخ الفلسفة واللغة والبلاغة.
يرى جل الباحثين المعاصرين أن السفسطائيين هم أبناء عصرهم؛ أي أنهم يعكسون بأفكارهم وتصوراتهم روح عصرهم وزمانهم، ولذلك "ينبغي وصل التعليم السفسطائي بسياق اللحظة التاريخية للزمن الديمقراطي، لكي نفهم دلالته ومنحاه. فالمدينة اليونانية الجديدة ونظام مؤسساتها، جعلا امتلاك مهارة الخطاب الإقناعي مطلبا مهما"(1)، وبالتالي كان لزاما توفر نمط من التعليم يلبي هذه الحاجة الجديدة لدى الإنسان اليوناني؛ إنها الحاجة إلى إتقان فن الإقناع داخل فضاء المناقشات السياسية والجمعيات العمومية. هنا يمكن القول بأن السفسطائية لم تكن نمطا من التفكير شاذا عن سياقات تطور الفكر اليوناني، بل إن السفسطائي هنا "يمثل حالة انتباه ثقافي تؤكد تفاعله مع المتطلبات التي فرضتها مستجدات الاجتماع السياسي"(2)؛ لقد انتبه السفسطائي إلى أن الوضعية السياسية الجديدة تفترض وجود نوع جديد من الثقافة والتربية، ثقافة وتربية تقتضيان أن "الشيء الذي يمكن، بل ويجب أن يربى عليه الإنسان هو الخطابة، والقدرة على التأثير في الناس، أي الناحية الشكلية في الروح الإنسانية"(3).
من هذا المنطلق سيُعتبر السفسطائيون "أول الواضعين الحقيقيين لعلم الخطابة"(4)، ولا شك أن هذه الأولوية التي منحت لهم تجعلهم، ليس كما كان ينظر إليهم أفلاطون مخادعين ومخاتلين ومتملقين، بل مفكرين حقيقيين لهم اهتماماتهم العلمية التي لا شك في قيمتها ومكانتها في الفكر الإنساني، فالسفسطائيون كانوا ينظرون إلى الخطابة باعتبارها علما وفنا من الفنون الحقيقية، وها هو "جورجياس يقول إن الخطابة هي الفن والفن الحقيقي، وليست أداة للتأثير فحسب"(5). وعلي يدي جورجياس أيضا "ترتفع الخطابة إلى مرتبة الفن الحقيقي، وإلى مرتبة الأسلوب الصحيح في التفكير، وتبعا لهذا يقول بأن المعرفة الحقيقية هي تلك الممثلة في الخطابة"(6). أصبحت الخطابة، إذن، مع السفسطائيين، الفن الأول والعلم الذي لا يمكن تشكيل ملامح الحياة والفكر إلا من خلاله. هنا تصبح النظرة الأفلاطونية للبلاغة والخطابة وكأنها نظرة اختزالية غير منفتحة تماما على قيمتها ومكانتها العلمية والمعرفية والأدبية، وهذا الاختزال والاحتقار لفن القول لا شك يعبر عن دوغمائية أفلاطون وعدم قدرته على تصور منظورات أخرى للعالم. لذلك يجب التنبيه إلى أن "معنى الخطابة السفسطائية لا يجب أن يفهم بالمدلول الذي سعى أفلاطون إلى إلصاقه بها، بل هي فن جديلي موصول بتقاليد دياليكتيكية سابقة، وخاصة في المدرسة الإيلية مع زينون"(7)، وهذا الأمر هو الذي يدفعنا دفعا إلى القطع تماما مع التصور الأفلاطون للمدرسة السفسطائية عامة وبلاغتها خاصة.
إذن، اهتم السفسطائيون بفن البلاغة والخطابة واعتبروه الفن الأول، وهم بهذا الاعتبار الكبير الذي أعطوه لهذا الفن ساهموا في تدشين "الوعي المستمر بعالم يمكن أن يكون متعلقا باللغة، عالم مخلوق ومحتوى في الكلام الإنساني فقط"(8)، وانطلاقا من هذا الوعي المسكون باللغة سيعمل السفسطائيون على تغيير اتجاه التفكير في العصر اليوناني من التفكير في الأشياء إلى التفكير في اللغة والكلام، حتى أصبح هذا الأخير هو الموضوع الأول للتفكير "ومن هنا أصبح القول – عند السفسطائي - لا يشير إلى العالم الخارجي ولا إلى الموجود بل إلى نفسه، ليس هناك إذن مكان لتمييز الدال عن المدلول، بل تضمحل كل دلالة عن اللغة، بما أن المنقولات لا تنقل من شخص لآخر"(9). هذه الفكرة التي تتأسس على مركزية اللغة والكلام هي التي بنيت عليها كل النسبية التي عرفت بها المدرسة السفسطائية في المعرفة والأخلاق، والتي كانت سببا في الانتقادات التي وجهها أفلاطون لأفكارهم ورؤاهم؛ غير أن النقاش المعاصر الذي جعل من اللغة والحجاج موضوعا لاهتمامه، أثبت بأن هذه الانتقادات في حقيقة الأمر لم تكن مبررة تماما؛ إذ أن تصورات السفسطائيين لها قيمتها ومرجعيتها داخل تاريخ الفلسفة والفكر، وكذلك لها امتداداتها وتأثيراتها في الفكر المعاصر.
إن فكرة مركزية اللغة وفن القول عند السفسطائيين، ستجعلهم يلعبون دورا مهما في تطوير نظرية الحجاج القائمة على البلاغة، وحسب بروتون، فإن "إسهامات السفسطائيين في نظرية الحجاج تبقى جوهرية، فلقد وضعوا، على سبيل المثال، نظاما لاستخدام محسنات التأطير (figures de cadrage) التي تسمح بتقديم وجهة نظر، أو تصويب رؤية، أو تمييز لموضوع، أو لرأي ما"(10). وإذا كان السفسطائيون قد انحصر تأثيرهم نظرا للتأثير الأفلاطوني على تاريخ الفلسفة، فإنهم سيصبحون في الفترة المعاصرة موضوعا للكثير من الدراسات والمساهمات المهتمة بالحجاج، مما يبرز الأهمية التي بات يأخذها تفكيرهم في هذه المسائل، "وقد اندرجت هذه المساهمة في إطار مشروع متميز يسعى إلى إدماج السفسطة في نمذجة شاملة للمحاورة بما هي نمط خاص من الحوار يتسم بقدر معتبر من العقلانية"(11).
لكن، هل اهتم السفسطائيون بمسائل اللغة بحسب؛ أي بمعزل عن أي مرجعية ثقافية أو فلسفية؟ لا شك أن الجواب سيكون بالنفي، لأن السفسطائيين لم يهتموا فقط بتطوير النقاش – السابق لأوانه في بعض جوانبه – حول البلاغة والخطابة والحجاج ومسائل اللغة، بل كانت لهم مرجعيات فلسفية وآفاق معرفية ينهلون منها أحكامهم وتصوراتهم، "ولهذا نلحظ أن المحتوى المعرفي للتعليم السفسطائي كان من الوساعة والتنوع بحيث ضم العلوم والمذاهب الفلسفية الطبيعية وتأويل ونقد النصوص الشعرية"(12)، وهذا الانفتاح على المذاهب الفلسفية والثقافية الذي عبر عنه السفسطائيون، "لا يعني بأنهم استعملوا تلك الحصيلة الفلسفية بحس التقليد، بل كان لهم منها موقف نقدي يدل على وعي ودرس"(13). ومن هنا يمكن القول بأن السفسطائيين لم يكونوا مجرد متكلمين لا مبدأ فلسفي لهم، بل إنهم يقفون على أرض صلبة؛ تلك الأرض التي كان أفلاطون معارضا لها إلى الحد الذي جعله لا يميز في نقاشه للسفسطائية بين مناقشة الأفكار واحتقارها.
إذن، يبدو – من خلال الفقرات السابقة – أن السفسطائيين لم يكونوا كما يصفهم أفلاطون مخادعين أو متملقين أو بدون أسس علمية ومعرفية؛ بل إنهم مفكرون لهم منظورهم الخاص بَنوه على ضوء مقاصدهم الفكرية التي ارتبطت بسياقهم الثقافي والاجتماعي، منظور نهل من مشارب معرفية وفلسفية متعددة تشمل ما هو معرفي إبستمولوجي وما هو طبيعي وما هو لغوي وما هو سياسي، ولا يمكن فهم السفسطائيين فهما منصفا إلا بالنظر إليهم داخل هذه السياقات والآفاق والمقاصد، ولا يمكن الاستفادة منهم إلا بتطليق قراءة أفلاطون المختزلة لهم تطليقا نهائيا.
الإحالات المرجية:
([1]) بوعزة، الطيب: دفاعا عن السفسطائيين (دراسة في أطاريح بروتاغوراس، جورجياس، ليكوفرون، بروديقوس، هيبياس، ثراسيماخوس، أنتيفون، كريتياس)، مركز نماء للبحوث والدراسات، بيروت، 2017، ط:1، ص: 62.
(2) نفس المرجع، ص: 63.
(3) بدوي، عبد الرحمن: موسوعة الفلسفة، الجزء: 1، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1984، ط: 1، ص ص: 587.
(4) نفس المرجع، ص: 589.
(5) نفس المرجع، نفس ص: 589.
(6) نفس المرجع، نفس الصفحة.
(7) بوعزة، الطيب: دفاعا عن السفسطائيين، مرجع مذكور، ص: 73.
(8) بروتون، فيليب و جوتييه، جيل: تاريخ نظريات الحجاج، ترجمة: محمد صالح وناحي الغامدي، مركز النشر العلمي، جدة، 2011، ط:1، ص: 23.
(9) التريكي، فتحي: قراءات في فلسفة التنوع، الدار العربية للكتاب، تونس، 1988، ص: 44.
(10) بروتون، فيليب و جوتييه، جيل: تاريخ نظريات الحجاج، مرجع مذكور، ص: 24.
(11) رشيد، الراضي: السفسطات في المنطقيات المعاصرة التوجه التداولي الجدلي نموذجا، مجلة عالم الفكر، المجلد: 36، العدد: 4، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 2008، ص: 146.
(12) بوعزة، الطيب: دفاعا عن السفسطائيين، مرجع مذكور، ص: 67
(13) نفس المرجع، نفس الصفحة.