" الفلسفة الموجودة اليوم عند العرب منقولة إليهم من اليونانيين وقد تحرى الذي نقلها في تسمية المعاني" أبو نصر الفارابي كتاب الحروف
استهلال:
يظن معظم المستشرقين أن حكماء العرب هم مجرد شراح للفلاسفة اليونان وأنهم عرضوا مؤلفاتهم ولخصوها بلغة الضاد وقد خلطوا في غالب الأحيان بينها وبين بعض المعتقدات الشرقية الهندية والفارسية واليهودية وأساءوا فهمها وأولوها على غير مواضعها فأنتجوا نظريات غنوصية غريبة وخلائط فكروية مجردة مثل التصور المشائي للكون والحكمة المشرقية ونظرية الفيض والأفلاطونية المحدثة وعلم الكلام وعلم الفقه والرسائل والقصص المجازية كحي ابن يقظان ولكنهم في مقابل ذلك يعترفون لهم بالعبقرية والجدة والأصالة خاصة في مستوى فن الترجمة والنقل فسموا ابن رشد الشارح الأكبر لفلسفة أرسطو والفارابي بالمعلم الثاني بعد أن سيطر أرسطو على علم الفكر كمعلم أول لقرون عديدة، وتعود شهرة الفارابي في الغرب حسب المحقق العراقي المرحوم محسن مهدي إلى كتاب الحروف وتعود شهرة كتاب الحروف إلى الفصل الخامس والعشرين الأخير من الباب الثاني والمعنون:اختراع الأسماء ونقلها، وسبب شهرة هذا الفصل أن المعلم الثاني لا يعرض فيه نظرية في الترجمة العلمية فحسب بل علاوة على ذلك يحدد فيه طرق نقل المعاني الفلسفية من لغة إلى لغة أخرى ويجيب عن سؤال: كيف ينبغي أن تؤخذ المعاني الفلسفية عند التعليم؟ ويرسم بذلك نقاط الإتباع والإبداع الفلسفي بين العرب والإغريق. إذ يقول في هذا السياق:"ينبغي أن تؤخذ المعاني الفلسفية إما غير مدلول عليها بلفظ أصلا بل من حيث هي معقولة فقط وإما إن أخذت مدلولا عليها بالألفاظ فإنما ينبغي أن تؤخذ مدلولا عليها بألفاظ أي أمة اتفقت والاحتفاظ فيها عندما ينطق بها وقت التعليم لشبهها بالمعاني العامية التي منها نقلت ألفاظها...فلذلك رأى قوم أن لا يعبروا عنها بألفاظ أشباهها بل رأوا أن الأفضل هو أن تجعل لها أسماء مخترعة لم تكن قبل ذلك مستعملة عندهم في الدلالة على شيء أصلا مركبة من حروفهم على عاداتهم في أشكال ألفاظهم..."
واذا استنطقنا هذه النقاط تبين لنا أن حد الفلسفة تلقاه حكماء العرب على جهة النقل والإتباع أما المعاني الفلسفية فقد تملكوها على جهة الخلق والإبداع عندما تحروا في التسمية وبذلوا الجهد لاختراع الكلمات المناسبة للأشياء والمعاني والحالات. واذا كنا لا نحتاج إلى امتحان الاستنتاج الأول فقد شاع بين المؤرخين أن العرف عرفوا الفلسفة على النحو الذي عرفها به الإغريق فإن الاستنتاج الثاني يطرح عدة شبهات وفي حاجة إلى توضيح وإبانة بتقديم الأدلة والبراهين من نصوص حكماء العرب أنفسهم، لكن كيف يكون هؤلاء الحكماء مقلدين على جهة اللفظ مبدعين على جهة المعنى؟ ما المقصود بالتلقي الإبداعي للمعاني الفلسفية الإغريقية في اللغة العربية؟ كيف تحول العرب من نقل حد الفلسفة إلى إبداع فلسفة في الحد؟ ماهي فلسفة الحد التي أبدعها العرب وميزتهم عن فلسفة الإغريق؟ هل يتعلق الأمر بنظرية في التعريف أم بنظرية منطقية؟
والحق الذي لا مجمجة فيه أن حكماء العرب وضعوا نظرية أصيلة في فن التعريف إذ درسوا مبحث الحد ضمن دلالة الألفاظ على المعاني وانقسام الألفاظ في ما بينها وضمن علاقة المعاني بعضها ببعض وسموا ذلك مبحث الألفاظ والمعاني وتطرقوا إلى انقسام الموجودات إلى ذاتية وعرضية وجعلوا التحديد اللفظي يقترن بالبعد الماهوي الوجودي وأدرجوا مبحث الحد ضمن المباحث الأساسية التي يعتني بها فن المنطق إضافة إلى مباحث القضية والقياس والبرهان،فلماذا أعيرت نظرية الحد هذه الأهمية في فن المنطق؟ ماهو موضوع الحد؟ وماهي قوانينه وأصوله؟ وماهي مواده وصوره؟ ولماذا تثار حوله عدة مغالطات وشبهات؟ وهل صعوبة تحديده هي إحدى هاته الشبهات؟ فأين يكمن العسر فيه؟ ولماذا بقي فن الحد فنا مستعصيا؟ وكيف يقع تذليله؟ وما الفرق بين الحد والرسم؟ ولماذا يحصل البرهان بالحد بينما لا يحصل الحد بالبرهان؟ ماهي الطرق الملائمة لطلب الحد؟ هل عن طريق السؤال أم بالتعريف؟هل يطلب بالألفاظ أم بالمعاني أم بالاثنين؟ ماهو حد الحد؟ وأي دور له في إدراك الكلي؟ وما المقصود بكلية الحد والحد الكلي؟ وهل هذا الكلي المنطقي واقعي أم اسمي أم تصوري؟
ما نراهن عليه هو تجاوز التصور الاستشراقي المتحامل الانتقاصي وتفكيك التصور التراثي المدحي التبجيلي المغالي وبناء نظرة نقدية متبصرة لتاريخ الأفكار التي أنتجها حكماء العرب في عصر الحركية والازدهار الذي عرفته حضارة اقرأ وإعادة تأصيلها وإخراجها من غربتها التي أبعدتها عن المدينة ومحاولة إنباتها في نفس التربة التي زرعت فيها منذ قرون.
1- في الحاجة إلى الحد:
"ما أحوج إلى هذا من ركب متن الخطر في الارتفاع عن حضيض التقليد مع سلامة مغبته إلى يفاع الاطلاع والاستبصار مع خطر عاقبته وتفاقم غائلته فان لم يره الحق حقا كان نظره كله هباء وان لم يوفقه للعمل بما علمه كان جهده كله عناء"
الحد بصفة عامة هو عملية ذهنية تتمثل في تحديد المفهوم الخاص بتصور ما أي هو القول الدال على ماهية الشيء ويؤخذ عادة من الجنس والفصل كحد الانسان بأنه حيوان عاقل والفرق بين الحد والتعريف أن الأول يدل على ماهية الشيء ويتركب من الجنس القريب والفصل النوعي في حين أن الثاني لا يقصد منه إلا تحصيل صورة الشيء في الذهن أو توضيحها، فكل حد تعريف ولكن ليس كل تعريف حدا تاما بل قد يكون حدا ناقصا،لذلك ميز الحكماء العرب بين حدود الأسماء وحدود الأشياء فحد الشيء هو حد موضوع موجود حقا خارج العقل أما حد اللفظ فهو حد اسم يصطلح على استعماله للإشارة إلى أشياء موجودة في العقل أو خارجه، والحد الدقيق الكامل هو الذي يكون حدا شيئيا وحدا اسميا معا مثل حدنا للدائرة بقولنا:"إنها شكل يرسمه خط يكون أحد حديه ثابتا والآخر متحركا" يقول ابن سينا:" كل من تلفظ بلفظ فإليه تحديده إذا أجاد العبارة لما يقصد إليه من المعنى ولا مناقشة معه البتة إلا إذا كان قد زاغ عما قصده بشيء مما سيقوله..." ماهو دور الحد وصحته؟ وهل أن حكماء العرب لم يعوا من الحد سوى دوره الاسمي المميز عن الألفاظ؟
يصرح جابر ابن حيان:" إن الغرض بالحد هو الإحاطة بجوهر المحدود على الحقيقة حتى لا يخرج منه ماهو فيه ولا يدخل فيه ما ليس منه ولذلك قيل في الحد أنه لا يحتمل الزيادة والنقصان"، ونستنتج وجود اتجاهين في فن الحد: اتجاه أول يرى أن تحديد الشيء هو معرفة حقيقته كما هي في حد ذاتها واتجاه ثان يرى أن تحديد الشيء يكون بتفسير لفظه وشرح مفرداته.
غني عن البيان أن الحد يعالج الموازين والأقيسة ويهتم بصلة بين الألفاظ والمعاني ويبحث في ماهيات الأشياء وجواهر الأمور ولذلك ينبغي على الحاد الحاذق الذي يشتغل بالحد أن يحسن التعامل مع الأمثلة والتراكيب الشكلية والمصطلحات والمفاهيم وأن يكون بصيرا بالفرق بين الصفة والموصوف،في هذا الأمر يقول الغزالي:" الكتابة دالة على اللفظ واللفظ دال على المعنى الذي هو في النفس والذي في النفس هو مثال الموجود في الأعيان" والمقصود أن الغرض من الحد ليس التمييز اللفظي بل التعرف على الحقيقة العقلية ومدى انطباقها على الواقع وبالتالي لقد وجد حكماء العرب في فن الحد أنه وضع ليكف الناظر بالعين العوراء عن غلوائه في طعنه وإزرائه وليشهد على نفسه بالجهل ويقدر على تفهيم الأمر الخفي بماهو الأعرف عند مخاطب المسترشد ليقيس مجهوله إلى ماهو معلوم عنده فيستقر المجهول في نفسه. ويمكن التمييز بين الرسم والحد تماما مثلما نميز في المنطق بين التصور والتصديق لأن الحد هو قول دال على ماهية الشيء بينما الرسم هو القول المؤلف من أعراض الشيء وخواصه وان كان الوصول إلى التصديق بالحقيقة يكون بالحجة فان الوصول إلى التصور التام يكون بالحد،كما أن الفهم الحاصل من التحديد يسمى علما ملخصا مفصلا والعلم الحاصل بمجرد الاسم يسمى علما جمليا وهو أدنى من المعرفة العلمية بماهي إدراك للأسامي والمعاني المفردة. والطريف أن الحكماء في حضارة اقرأ جعلوا المعرفة أرفع شأنا من العلم وجعلوا الحد طريقا ملكيا لطلب هذه المعرفة فبدل أن يسمي الغزالي مبحث الحد تصورا يسميه المعرفة وبدل أن يكون التصور ينال بالحد يرى أن:" المطلوب من المعرفة لا يقتنص إلا بالحد والمطلوب من العلم الذي يتطرق إليه التصديق أو التكذيب لا يقتنص إلا بالحجة والبرهان وهو القياس"
هكذا جمع الغزالي بين الدور الاسمي التعريفي للحد والدور الماهوي الوجودي له عندما أسند للمحدد دورا تمييزيا يقوم فيه بالتفريق بين اللفظ وما عداه ودور تصوري لماهية الشيء وحقيقته،واذا كان الغرض من الحد هو التصور فان التصور يعني الإدراك الاسمي الماهوي لحقيقة الشيء أي حصول صورة الشيء بالعقل بادراك ماهيته من غير أن يحكم عيها بنفي أو إثبات وهذا ما يثبته الجرجاني بقوله:" ما يستلزم تصوره اكتساب تصور الشيء بكنهه أو بامتيازه عن كل ما عداه فيتناول التعريف بالحد"
من هذا المنطلق فان التصور التام يتم بالحد والحد هو ذكر ماهية الشيء وضبط مجموع ذاتياته،واذا كان الحد هو تصور كنه الشيء وتمثل حقيقته في النفس فان ذلك لا يكون لمجرد التمييز والتصوير بل الغرض منه الفهم والتفهيم بالتلخيص والتفصيل والتحقق من وجودية الشيء ومعرفة ذاتياته المقومة له،ورغم أن الرسم تابعا للحد ومشبها به إلا أنه يفترق عنه في كونه بالخاصة أما الحد بالجنس والفصول ويشترك كليهما في الكشف عن حال الجواهر العالية والأشخاص الذاتية للنفس وتحصيل صورها الجوهرية في العقل, لذلك تتمثل وظيفة الحد في قدرته على الإفصاح والكشف والإبانة والإيضاح لحقائق الأشياء كما يقول الغزلي في هذا الصدد:" اعلم أن قول القائل في الشيء ماهو؟ طلب لماهية الشيء. ومن عرف الماهية وذكرها فقد أجاب والماهية إنما تتحقق بمجموعة الذاتيات المقومة للشيء حتى يكون مجيبا وذلك بذكر حده فلو ترك بعض الذاتيات لم يتم جوابه"، فماهي الذاتيات التي يتحقق بها الحد؟
"إن الحد قول دال على ماهية الشيء...ويكون لا محالة مركبا من جنسه وفصله" والجنس هو أعم من النوع مثل الحي فانه أعم من الانسان والفرس والنوع هو مثل الانسان المطلق والفرش وهو كلي يعم الأشخاص والشخص هو العين والفصل هو ما يتميز به النوع عن الآخر بذاته ونوع الأنواع هو ما لا نوع أخص منه وجنس الأجناس هو الذي لا جنس أعم منه كالجوهر والعرض هو ما يتميز به الشيء عن الشيء لا في ذاته والخاصة هي عرض يخص به نوع واحد دائما واذا كان الحد يؤخذ من الجنس والفصل فان رسم الشيء يؤخذ من الجنس والخاصة.
ويذكر الغزالي أن تصور الحد هو بذكر جنسه القريب مع فصله الذاتي ومثاله وقد تشدد في إيراد الذاتيات والجنس القريب من خلال الأمثلة وصولا للتمييز التام بحيث يكون التحديد مطابقا للحد دون نسيان أحد الفصول لأن" الحد هو عنوان المحدود فينبغي أن يكون مساويا له في المعنى".
اللافت للنظر أن حكماء العرب يذكرون على غير العادة ثلاثة ضروب من فن التعريف: التعريف بالحد وهو الأتم والتعريف بالرسم والذي لا يمكن استبداله بالتعريف بالحد لأنه قد ينتفع به من جهة زيادته في التوضيح والكشف ثم التعريف بالتمثيل وهو تعريف الشيء بنظائره وبمشابهه ورغم كونه الأدنى إلا أنه تنوير ذهني بالألفاظ يساعد في تحديد المعنى وتفهيم المتعلم. أن الرسم أدنى من الحد لأنه يقتصر على الجنس مع الخاصة وهي صفة لازمة ولكنها عرضية بينما الحد يضع الجنس مع الفصل وهي صفة ذاتية أساسية ويقول الجرجاني في هذا الموضوع:"الحد قول دال على ماهية الشيء...في اللغة:المنع وفي الاصطلاح:قول يشتمل على ما به الاشتراك وعلى ما به الامتياز، الحد المشترك: جزء وضع بين المقدارين يكون منتهى لأحدهما ومبتدأ للآخر، ولابد أن يكون مخالفا لهما. الحد التام ما يتركب من الجنس والفصل وحده، أو به وبالجنس البعيد كتعريف الانسان بالحيوان الناطق. الحد الناقص ما يكون بالفصل القريب وحده أو به وبالجنس البعيد كتعريف الانسان بالناطق أو بالجسم الناطق."
يمكن أن نضيف إلى الحد الاسمي والحد المعنوي والحد الوجودي حدا رقميا مكتوبا يوازي ما يسمى اليوم بالوجود المكتوب في الغراماتولوجيا عند دريدا إذ يصرح الغزالي:" الشيء له في الوجود أربع مراتب،الأولى حقيقة في نفسه والثانية ثبوت مثال حقيقته في الذهن وهو الذي يعبر عنه بالعلم،الثالثة تأليف مثاله بحروف تدل عليه، الرابعة تأليف رقوم تدرك بحاسة البصر دالة على اللفظ وهي الكتابة...إن الأولين وجودان حقيقيان لا يختلفان بالأعصار والأخريان وهما اللفظ والكتابة تختلف بالأعصار والأمم"] في هذا النص تفطن الغزالي إلى أن اللغة ليست مجرد مستودع معاني وحقائق بل هي منبت الاختلاف ومكان ولادة جديدة للفوارق والمعاني المتعددة. غير أن تفرع الأدوار التي يؤديها فن الحد وتشعب المجلات التي ينطبق عليها حولته إلى مطلب صعب وعلم عصي المنال فما مرد هذا العسر والى ماذا ترجع هذه الصعوبة؟
2- استعصاء فن التحديد:
" يعرف الشيء بمساويه في المعرفة أو بماهو أعرف منه ومتأخر عنه في المعرفة أو يقدم الأخص فيها على الأعم أو غير الأعرف على الأعرف".
إن كان طريق الحصول على تعريفات يقينية عن حقائق الأشياء يكون بالحد والرسم واللفظ والمثل فان الإحاطة بحدود الأشياء ورسومها وألفاظها وأمثالها مهمة صعبة المسالك غير مألوفة الجانب وآيتنا في ذلك أن الألفاظ التي يكثر استعمالها يقع الالتباس في معانيها وتتعرض عادة إلى الإيجاز والاختصار وفيها المحكم والمتشابه والظاهر والباطن والجلي والمبهم،كما أنه يمكن أن ينظر إليها على قدر من التهويل والتضخيم وهذا ما يفقدها براءتها الأصلية ودلالتها الأولية ويبعدها عن مقاصدها ومعانيها الحقيقية. كما تخضع الحدود والتعريفات إلى جملة من إجراءات المنع والاستبعاد والانتقاد والتقييد من طرف الحاد احتراما للمذهب وتماشيا مع السياق المعرفي الذي ينتمي إليه ولذلك نراها تنتظم تحت ضروب من الشرح والتفسير والتأليف وتستبعد كل ما يتعلق بالإحالات والهوامش والتعاليق والإضافات والتنقيحات التي تثقلها ولا تجعلها في خدمة الخطاب الرسمي.
لعل أكبر صعوبة تعترضنا هنا وتمنعنا من إدراك الحد التام هي أن القوة البشرية لا تقوى على التحفظ على ذلك إلا على جهة الندور عسر إرجاع السيلان والصيرورة إلى الثبات والوحدة ومجازفة الانتقال من المحسوس المتعين إلى التصور المجرد إذ كيف يمكن الانتقال من الاختلاف إلى الهوية ومن التعدد إلى التطابق ومن الكثرة إلى الوحدة. انه من البديهي أن يكون الارتجال والالتباس والقصور من العوائق التي تحول استيفاء الحدود والرسوم والتعريفات حق قدرها ودون أن يأمن الحاد الزلل فيها فتكون مواطن الزلل فيها كثيرة ويكون الجهل بالأمور التي تفسد الحدود كبيرا ومتفشيا في العقول. فمن أين يثار الغلط في الحد؟
إن مثارات الاشتباه في الحد والغلط في الرسم متأتي من ثلاثة أسباب:من الجنس والفصل وماهو مشترك بينهما.
· الخطأ في الحد يقع من جهة الجنس:
- أن يوضع الفصل مكان الجنس،مثلا: العشق إفراط المحبة.
- أن توضع المادة مكان الجنس،مثلا: السيف حديد يقطع.
- أن توضع الهيولى محل الجنس،مثلا: الرماد خشب محترق.
- أن تؤخذ الأجزاء بدل الجنس، مثلا: العشرة خمسة وخمسة.
- أن يوضع النوع بدل الجنس، مثلا:الشر هو ظلم الناس.
وهنا يثار إشكال أول:إنا شرطنا أن نأخذ الجنس الأقرب لنحصل على الحد التام لكن من أين للطالب أن لا يغفل عنه فيأخذ جنسا يظن أنه أقرب وربما يوجد ماهو أقرب؟
· الخطأ في الحد يقع من جهة الفصل:
- أن يوضع الجنس مكان الفصل
- أن توضع الخاصة أو اللازم أو العرض مكان الفصل.
هنا أيضا يثار إشكال ثان: إنه إذا شرطنا أن تكون الفصول كلها ذاتية واللازم الذي لا يفارق في الوجود والوهم مشتبه بالذاتي غاية الاشتباه وإدراك ذلك من أغمض الأمور فمن أين له أن لا يغفل فيأخذ لازما بدل الفصل فيظن أنه ذاتي؟
· الخطأ في الحد يقع من اشتراك الجنس والفصل:
هناك تعريفات خاطئة لا تصور الحد وتسمى ماهو مشترك مثل:
- أن يعرف الشيء بأخفى منه،مثلا:النار جسم شبيه بالنفس.
- أن يعرف الشيء بضده أو بماهو مثله في المعرفة،مثلا:الزوج ما ليس بفرد.
- أن يعرف الشيء بنفسه أو بماهو متأخر عنه في المعرفة،مثلا:الشمس كوكب يطلع بالنهار.
هنا يثار إشكال ثالث:إذا شرطنا أن نأتي بجميع الفصول الذاتية حتى لا نخل بواحد ومن أين نأمن من شذوذ واحد عنه لاسيما إذا وجد فصلا حصل به التمييز والمساواة للاسم في الحمل؟
وهذا أغمض ما يدرك نظرا لأن الفصل مقوم للنوع ومقسم للجنس واذا لم يراع شرط التقسيم أخذ في القسمة فصولا ليست أولية للجنس وهو عسير غير مرضي في الحد.
فمن أين للبشر أن يحضرهم في التحديد اتقاء أن يأخذ لازما مما لا يفارق فلا يجوز رفعه في التوهم مكان الذاتي؟ ومن أين له أن يأخذ الجنس الأقرب في كل موضع ولا يغفل فيأخذ الأبعد على أنه الأقرب؟ ومن أين للبشر أيضا أن يحصلوا جميع الفصول المقومة للحدود إذا كانت مساوية وأن لا يغفلوهم حصول التمييز في بعضها عن طلب الباقي وكيف يجدوا في كل واحد وجه الطلب؟
إن هذا وأمثاله مما يجب مراقبته في الحدود حتى لا يتطرق إليها الخطأ كما أن رعاية الترتيب في هذه الأمور شرط للوفاء بصناعة الحد التي هي في غاية العسر. واذا كان مدار النظر عندنا وغاية المراد هي جعل الحد يفيد في تصويره للاسم والمعنى وتحديده ماهية الشيء أليس من اللائق ألا نترك هذه الصعوبات وما يجري مجراها تؤيسنا من أن نكون مقتدرين على توفية الحدود الجامعة المانعة حقها إلا في النادر من الأمر؟ ألا يجدر بنا أن نطلب الطريقة التي اتبعها حكماء العرب في صناعة الحد التام؟
3- في طرق تحصيل الحد:
"اعلم أن من طلب المعاني من الألفاظ ضاع وهلك كمن استدبر المغرب وهو يطلبه من المشرق ومن قرر المعاني أولا في عقله بلا لفظ ثم أتبع المعاني الألفاظ فقد اهتدى"
ورد في تعريفات الجرجاني أن الطريق هو ما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى المطلوب ومطلب الحد التام ليس طريقه القياس ولا يمكن إثباته بالبرهان لأن الحد يحتاج بدوره إلى توسط حد آخر وهذا الوسيط يتطلب وسيطا آخر وهكذا إلى ما لانهاية له والمشكلة لا تكمن في الاستنباط أو الاستقراء الناقص بل في الحد الأوسط إذ ينبغي أن يكون مساويا للحد الأكبر وللحد الأصغر وهذا محال لأن الشيء لا يكون له حدان تامان طالما أن تعريف الحد هو ما يجمع من الجنس والفصل وذلك ما لا يقبل التبديل،فان لم يكتسب الحد بالتحليل والبرهان فبماذا سيكتسب يا ترى؟
إن الطريق الموصل هو طريق العقل المباشر التي يشتغل على آليات الحدس والتركيب والاستقراء، يرتكز التركيب على الجنس والفصل ويقوم الاستقراء على الحكم على كلي لوجوده في أكثر جزئياته ومقدمات الاستقراء لا تحصل إلا بتتبع الجزئيات، أما الحدس فهو سرعة انتقال الذهن من المبادئ إلى المطالب. اللافت للنظر أن الحد يحصل بطريقتين: الأولى استقرائية تقوم باستعراض المحمولات العليا والأفراد المندرجة تحت بعض الأنواع، الثانية تقسيمية يجري فيها التمييز بين هذه المحمولات واستثناء ما لا حاجة إليه فالشيء إما هذا أو ذاك،لكنه هذا فليس ذاك يتم الحذف بعدها.
على هذا النحو يعرف الحد بالطريقة التركيبية التي تذكر الجنس مع الفصل ويتم الحصول على الجنس بعملية إدراج هذا الحد ضمن جنسه ويفتش عن هذا الجنس باستعراض المقولات العشر واذا وجدت هذه المقولة نأخذ بأجناسها العليا والدنيا أي الأنواع وأشخاصها تاركين الفصول والأعراض فنحذف المتكرر والبعيد ليبقى الجنس الأقرب الذي نضيف إليه الفصل حصولا على التطابق الماهوي بينه وبين الحد. ويقصد حكماء العرب بالتحديد لا مجرد التمييز الذاتي الذي يحصل من جنس عال وفصل نوعي بارتسام صورة معقولة مساوية للصورة الموجودة في النفس وتضمين جميع الأوصاف الذاتية للشيء بالقوة أو بالفعل ولهذا اشترطوا فيه وضع الجنس الأقرب حتى يكون وافيا بمقصوده وليتضمن جميع الذاتيات المشترك فيها وإتباع جميع الفصول.
في هذا الإطار يصرح الغزالي:"طريق التركيب وهو أن نأخذ شخصا من أشخاص المطلوب حده بحيث لا ينقسم وننظر من أي جنس من جملة المقولات العشر فنأخذ جميع المحمولات المقومة لها ولا يلتفت إلى العرض واللازم ثم يحذف منها ما يتكرر ويقتص من جملتها على الأخير ونضيف إليه الفصل فإن وجدناه مساويا للحدود فهو الحد" وفي نفس المعنى أدرك الساوي في مؤلفه البصائر النصيرية امكانية التوصل للحد بالقسمة والاستقراء مع التشديد على التركيب لأنه في اللغة جمع الحروف البسيطة لتكون كلمة أما اصطلاحا فهو التركيب جعل الأشياء الكثيرة بحيث يطلق عليها اسم واحد. إن وجدناه مساويا للمحدود من الوجهين فهو الحد، ونعني بأحد الوجهين:الطرد والعكس والتساوي مع الاسم في الحمل فمهما ثبت الحد انطلق الاسم ومهما انطلق الاسم حصل الحد، ونعني بالوجه الثاني المساواة في المعنى وهو أن يكون دالا على كمال حقيقة الذات لا يشد منها شيء,ويفرد الغزالي مثالا عن كيفية إصابة الحد التام عن طريق تركيب الجنس والفصل من دون إتباع البرهان بقوله:" إذا سئلنا عن حد الخمر فنشير إلى خمر معينة ونجمع صفاته المحمولة عليه فنراه أحمر يقذف بالزبد فهذا عرضي فنطرحه ونراه ذا رائحة حادة ومرطبا للشرب وهذا لازم فنطرحه ونراه جسما أو مائعا أو سيالا وشرابا مسكرا ومعتصرا من العنب وهذه ذاتيات. فلا نقول جسم مائع سيال شراب لأن المائع يغني عن الجسم فانه جسم مخصوص والمائع أخص منه ولا تقول مائع لأن الشراب يغني عنه ويتضمنه وهو أخص وأقرب. فنأخذ الجنس الأقرب المتضمن لجميع الذاتيات العامة وهو شراب فتراه مساويا لغيره من الأشربة فنفصله عنه بفصل ذاتي لا عرضي كقولنا مسكر يحفظ في الدن".
بيد أن معرفة الحد لا تكتمل إلا عن طريق طلبه من جهة السؤال وينحصر ترتيب طلب الحد بالسؤال في أربع:
1- مطلب هل؟
2- مطلب ما؟
3- مطلب لم؟ سؤال عن العلة.
4- مطلب أي؟ للتمييز.
ويعتبر مطلب ما أهمها لأنه يفيد ثلاثة أجوبة:
- يعرفنا بتمييز الاسم وشرحه أي حده اللفظي، العقار هو الخمر
- يدلنا على مميزات الشيء العرضية ويسمى حدا رسميا، الخمر هي المائع الذي يقذف بالزبد ثم يستحيل إلى الحموضة هنا يجمع من العوارض واللوازم ما يساوي حقيقة ذات الخمر.
- يجيبنا عن ماهية الشيء وحقيقته ويسمى حدا حقيقيا، الخمر شراب معتصر من العنب.
عن هذا الأمر أورد الكندي في رسالة في الفلسفة الأولى ما يلي:" المطالب العلمية أربعة:هل الباحثة عن الانية فقط وما الباحثة عن الجنس وأي الباحثة عن الفصل وما وأي تبحثان عن النوع ولم الباحثة عن العلة التمامية" ومن ناحية أخرى يختصر جابر ابن حيان المطالب الأربعة في رسالة الحدود في ما يلي:"وحد علم الحروف أنه العلم المحيط بمباحث الحروف الأربعة المقدمة من الهلية والمائية والكيفية واللمية"،غير أن الفارابي يستفيض في تحليل هذا الأمر في كتابه تحصيل السعادة بقوله:"إن مبادىء الوجود أربعة :ماذا وبماذا وكيف وجود الشيء فان هذا يعني به أمرا واحدا،وعماذا وجوده ولماذا وجوده فان قولنا عماذا وجود ربما دل به على المبادئ الفاعلة وربما دل به على المواد فتصير أسباب الوجود ومبادئه أربعة( الصورة والمادة والفاعل والغاية) ومن أجناس الموجودات ما لا يمتنع أن لا يكون لوجوده مبدأ أصلا وهو المبدأ الأقصى لوجود سائر الموجودات(الله)". ننتهي إلى أن الحد يتركب من جنس الشيء وفصله الذاتي ونعني بذلك ما يحصل في النفس صورة موازية لامحدودة مطابقة لجميع فصوله الذاتية ومن هنا يتبين لنا أن حكماء العرب جعلوا الحد يفيد الماهية ولم يركزوا على الكلي بمعنى التجريد العقلي والخلاص من المشخصات المحسوسة بل ارتبطوا باللغة والمبنى اللفظي الذي يعبر بتركيبه البنيوي عن الأفراد المستقلين ولهذا نادوا بالعام ولم يذكروا الكلي بالمفهوم المجرد إلا حينما استبدلوا الجزئي بالمتعين والتصور بالمعرفة والتصديق بالعلم وغيروا الموضوع بالمحكوم عليه والمحمول بالحكم وعندما رأوا أن القضية الشخصية هي قضية مطلقة متعينة والقضية الكلية هي قضية مطلقة عامة كما تصوروا القضية الجزئية على أنها قضية مطلقة وخاصة وبدلوا الايجاب والسلب بالنفي والإثبات والحد الأوسط بالعلة والشرطي المتصل سموه التلازم والشرطي المنفصل سموه كذلك التعاند كما أن الشكل أصبح النظم والمقدمة والنتيجة أضحيا عند العرب الأصل والفرع والأوليات بديهة العقل بل وصل بهم الأمر إلى خلق تصورات جديدة مثل السبر والتقسيم والإسقاط والميزان والعمود وأوجدوا ثلاث جهات في الأحكام:الواجب والمباح والحرام أما المندوب والمكروه فهما جهة مضافة ومن المعلوم أن الأحكام انطلقت من الله تعالى الحاكم القادر على الثواب والعقاب وحده والمحكوم عليه وهو المكلف الانسان العاقل أما المحكوم فيه فهو الفعل الحر المختار الذي يتقيد بإرادة الله التي لا تكلف إنسانا ما لا طاقة له،
الحاكم الأول(الله)
الحكم(المحكوم به) المحكوم فيه(الفعل الحر المختار)
المحكوم عليه (الانسان)
يترتب عن ذلك أن طلب الحد يرتبط بواحد من الأسئلة الأربعة ( هل وما وأي ولم) بحيث ينبغي أن يكون الحاد بصيرا بالفرق بين الصفات الذاتية واللازمة والعرضية وأن لا يحصل الحد بالبرهان بل بالاستقراء والتركيب وأن يكون له دور في التعريف بالماهية وأن يتفادى مداخل الخلل من جهة الجنس والفصل وماهو مشترك بينهما ولابد من التفطن إلى أنه لا تحديد للمعنى الذي لا تركيب فيه، لكن إذا كان أمر الحد بهذه الصعوبة فكيف سيكون مع حد الحد؟ ألا يوج حد لكل حد؟
4- في حد الحد:
" فحد الحد أنه القول الدال على ماهية الشيء أي على كمال وجوده الذاتي وهو ما يتحصل له من جنسه القريب وفصله. أما الرسم فالرسم التام هو قول مؤلف من جنس شيء وأعراضه اللازمة له حتى يساويه والرسم مطلقا هو قول يعرف الشيء تعريفا غير ذاتي ولكنه خاص أو قول مميز للشيء عما سواه لا بالذات".
يطلق الحد بالتشكيك على خمس أشياء وهي:
1- الحد الشارح لمعنى الاسم.
2- الحد بحسب الذات وهو نتيجة نحصل عليها بعد القيام بعملية البرهان.
3- الحد بحسب الذات وهو مبدأ برهان.
4- الحد التام الجامع لماهو مبدأ برهان ونتيجة برهان.
5- الحد لأمور ليس لها علل وأسباب أو التي لها علل غير داخلة في جواهرها.
اللافت للنظر في هذا التقسيم هو لانهائية عملية التحديد وعدم توقفها ولانفاذيتها مادام هناك تجديد وإبداع في عالم الأشياء بل إن وجود حد جامع تام يفترض بدوره وجود حد غير تام وبالتالي يمكن أن نقسم الحد إلى ثلاث أنواع:حد تام وحد ناقص وحد مشترك. فالحد الناقص هو ما يكون بالفصل القريب وحده أو به وبالجنس البعيد أما الحد المشترك فهو جزء وضع بين المقدارين يكون منتهى لأحدهما ومبتدأ للآخر ولابد أن يكون مخالفا لهما،في حين أن الحد التام يكون بالتركيب بين الجنس والفصل القريبين.
ما يجدر ملاحظته أن الحد الناقص قريب من الرسم وهو من الذاتيات أي من أجناس وفصول بلغ بها مساواة الشيء في العموم ولم يبلغ بها مساواته في المعنى بينما الرسم قول يعرف الشيء تعريفا غير ذاتي ولكنه خاص أو قول مميز عما سواه لا بالذات غير أن السؤال الذي يطرح نفسه هنا يتعلق بمعنى التعريف وبدرجة قربه أو بعده عن الحد،فماذا نعني بالتعريف وماهو مقصده؟ ومن هو المعرف؟
المعرف هو ما يستلزم تصور اكتساب تصور الشيء بكنهه أو بامتيازه عن كل ما عداه فيتناول التعريف الحد الناقص والرسم فان تصورهما لا يستلزم تصور حقيقة الشيء بل امتيازه عن جميع الأغيار أما التعريف في اللغة فهو عبارة عن ذكر شيء نستلزم معرفته معرفة شيء آخر وهو ما غير الشيء عن ما عداه بسبب إيراد اللوازم البعيدة المفتقرة إلى الوسائط الكثيرة مع خفاء القرائن الدالة على المقصود. ويميز بين نوعين من التعريف:لفظي وحقيقي، التعريف اللفظي يشترط أن يكون اللفظ واضح الدلالة على معنى فيفسر بلفظ أوضح دلالة على ذلك المعنى فانه ليس يراد به إفادة تصور غير حاصل إنما مراده تعيين ما وضع له لفظ من بين سائر المعاني أما التعريف الحقيقي فانه يشترط أن يكون حقيقة ما وضع اللفظ بازاءه من حيث هي فيعرف بغيرها وهو بذلك غير بعيد عن الحد لأن الاختلاف بينهما ليس في النوع بل في الدرجة.
من البين أن الحد في حد ذاته هو إما لفظي أو رسمي أو حقيقي، الحد اللفظي فعبارة عن ما فيه شرح دلالة اسم على معناه وهو إما أن يكون بتبديل لفظ بلفظ هو أشهر عند السائل أو بالحد الكاشف عن المعنى. أما الحد الرسمي فعبارة عن ما يميز الشيء عن غيره تمييزا غير ذاتي وتمامه ونقصانه مثلما اكتفى المتكلمون بالمميز في صناعة الحدود عندما اعتبروا الحد هو القول الجامع المانع ولم يشترطوا فيه إلا التمييز فيلزم عنه الاكتفاء بذكر الخواص وذلك في غاية البعد عن غرض التعرف لذات المحدود، في حين أن الحد الحقيقي فعبارة عن ما يقع تمييزا للشيء عن غيره بذاتياته فان كان مع ذكر جميع الذاتيات العامة والخاصة فتام كحد الانسان بأنه الحيوان الناطق وإلا فناقص كحد الانسان بأنه الجوهر الناطق. انه "منذ جالينوس ينقسم التعريف الحقيقي إلى عمليتين الحد والرسم يضيف إليهما ابن سينا ومعظم المناطقة العرب من بعده تقسيما آخر فيفرعون كل واحد منهما إلى تام وناقص".
التعريف الحقيقي يختص بالموجودات الخارجية بحيث يتم انتزاع الخصائص المندرجة تحت الكليات الخمس والعائدة لها من اعتبار نماذج مختلفة وكافية من هذه الموجودات،بينما يختص التعريف الاسمي بالموجودات الذهنية وبالموجودات الخارجية التي لم يعلم وجودها أما التعريف اللفظي فانه يكون عندما يكون المعرف لفظ مفرد. واذا كان "التعريف الحقيقي واحد بالنسبة إلى شيء ما نظرا لأنه يفترض فيه أن يشتمل على كل الصفات التي تقوم ذلك الشيء" فان كل من التعريف الاسمي واللفظي" قد يتعددان إذ الأول يرتبط إلى حد كبير باختيار الواضع والثاني يتعلق بوجود المترادفات وهذه غالبا ما تزيد عن الكلمتين في اللغات الطبيعية"
ما ينبغي الانتباه إليه أن الحد يكاد يتماهى مع التعليل الذي هو إظهار علة الشيء سواء كانت تامة أو ناقصة وهو تقرير ثبوت المؤثر لإثبات الأثر أي انتقال الذهن من المؤثر إلى الأثر بينما الاستدلال هو انتقال الذهن من الأثر إلى المؤثر أي تقرير الدليل لإثبات المدلول سواء أكان ذلك من الأثر إلى المؤثر أو العكس. لكن إذا كانت مادة الحد هي الأجناس والأنواع والفصول فإن صورته هي أن يراعى فيه إيراد الجنس الأقرب ويردف بالفصول الذاتية كلها فلا يترك منها شيء وهذا لا يحدث إلا بالاستقراء التام والتركيب واذا عرفت شروط الحد عرفت أيضا أن الشيء الواحد لا يكون له إلا حد واحد وأنه لا يحتمل الإيجاز أو التطويل لأن إيجازه يحذف بعض الفصول هو نقصان وتطويله بذكر حد الجنس القريب بدل الجنس هو فضول يستغنى عنه فان المقصود أن يشتمل الحد على جميع ذاتيات الشيء أما بالقوة أو بالفعل أي تصور الشيء بجميع مقوماته مع مراعاة الترتيب بمعرفة الأعم والأخص بإيراد الأعم أولا وإردافه بالأخص الجاري مجرى الفصول.
ننتهي إلى أن حد الحد هو القول الدال على ماهية الشيء أي على كمال وجوده الذاتي وهو ما يتحصل له من جنسه القريب وفصله ويستلزم توفر شروط أربعة:
1- أن يكون أوليا.
2- أن يكون ضروريا.
3- أن يكون مقولا على الكل.
4- أن يكون ذاتيا لموضوعه.
من هذا المنطلق فان الحدود ذوات أفانين ومتصرفات بحسب المواضع التي وجدت لأجلها وان منزلتها من الشرف كمنزلة العلوم التي اختص بها وفضلها في أنها الطريق التي نلتمس بها كل شيء في عالم المعرفة ليغنينا عن بادىء الرأي والحس المشترك، وتنقسم وفق منظورات عدة وتتفرق إلى نواحي كثيرة وتطلب من علاقات الألفاظ بالمعاني وبالأشياء ومن العلاقات بين الألفاظ فيما بينها أو فيما بين المعاني أو فيما بين الأشياء أو فيما بين المعاني والأشياء ويمكن أن نذكر الاختلاف في الألفاظ لصعوبة فهم المعاني وكذلك التفسير السطحي أو استدعاء الكلام المطول والحد بإعطاء المثل المرادف أو حد المتضادين والحد بعكسه أو حد العرض الذي لا يقوم بنفسه وهي كلها درجات أقل من الحد بحقيقة الشيء أو باللفظ المفسر وهي كلها تتعلق برتبة الألفاظ من مراتب الوجود وتفرق بين اللفظ المفرد والمركب وترى أن اللفظ يدل على المعنى بالمطابقة والتضمن والالتزام وتعتبر الموجودات التي تخضع للتعيين أو لعدمه. إن التعيين هو ما به امتياز الشيء عن غيره بحيث لا يشاركه فيه غيره أما الألفاظ التي تدل على المعاني فهي أربعة أنواع:مترادفة ومتباينة ومتواطئة ومشتركة وتكون المعاني مرتبطة بعضها ببعض بعلاقة إما مساوية أو أعم أو أخص ونجد المعنى إذا نسب إلى معنى آخر إما ذاتيا أو لازما أو عارضا وتدرك المعاني إما بالحس أو التخيل أو التعقل وكلها ثلاث أسباب كافية لأن الإدراك يمر بالحواس الظاهرة إلى القوة المدركة عبر الخيال فيتم الإدراك لموجودات العالم الخارجي بواسطة الحواس الخمس ويتصرف الخيال في المحسوسات ويلعب دورا في تركيبها وجمعها في أشكال مختلفة، غير أنه ينبغي أن يتخلى الحاد عن الحس والخيال ويعول على العقل لأنه هو الوحيد القادر على إظهار انقسام الموجود إلى محسوس ومعقول.
رأس الأمر أن الحد يعالج الأمور اللغوية والطبيعية والوجودية الماهوية ويستند على الماهية وتسلسل الأنواع والأجناس ويقوم بتقسيم الكليات الخمس وذكر المقولات وبهذا تتلاقح الحدود بمفاهيم المعاني الماهوية والأدوار اللفظية وتصبح الأجناس والأنواع والفصول مقولات وجودية وعلل طبيعية متراتبة ومتسلسلة منطقيا ونرى المنطق والتصور مرتبط وهيكلية اللغة العربية في التمثل والترادف والتواطىء والتلازم والتعاند والتعاكس وتمييزها بين المساوي والأعم والأخص. بيد أن الأشياء التي يمكن تحديدها لانهاية لها لأن العلوم غير متناهية وعلى الجملة فكل شيء موجود وكل معنى معقول بالذهن وكل لفظ مكتوب منطوق باللسان ومرقون بالخط وكل ما ليس له اسم يمكن تحرير حده أو رسمه أو شرح اسمه وتحصل الدربة بكيفية فهمه وتأليفه وجمعه ومنعه وضربه وطرحه.غني عن البيان أنه ثمة حدود لسماء العلوم مثل حد علوم الدين والعلوم الفلسفية والعلوم الطبيعية وثمة حدود أخرى تحيط بالألفاظ التي يكثر استعمالها في المنطق والرياضيات واللغة وهي ألفاظ مشهورة في اصطلاح الحكماء والمتكلمين والمترجمين والمفسرين،كما توجد حدود للأشياء والموجودات المتعينة والتي لا يمكن بأي حال إنكار حضورنا معها وحضورها معنا في هذا العالم. إن كان أمر الحد هو كيفية الدلالة على حقيقة المحدود لتعرف حقائقه على الصحة وان كان مبحثا منطقيا بالأساس يتضمن بعض العناصر الميتافيزيقية وان كان المنطق عند حكماء العرب ليس فقط جزء من أجزاء العلم النظري بل آلة الفلسفة ومقدمة لكل علم حري بنا أن نبحث إن استطاع هؤلاء توظيف فن الحد الذي صاغوه ووضعوا مرتكزاته على غير المنحى الذي دأب عليه أرسطو في رؤيته للإنسان وللكون وفي تصوره للقيم.
خاتمة:
"يتجاوز المنطق العربي من عدة نواح المنطق الذي كان قبله والمنطق الذي تلاه مباشرة فاستقصاء الموجهات الزمانية وتأسيس نظرية المجموعات وبناء قياس العلاقات والتمثيل الخطي وغيرها من البحوث تسبق ابتكارات العصرين الكلاسيكي والحديث في هذه الموضوعات."
صفوة القول أن أرسطو وضع مجموعة من المؤلفات في دائرة المنطق وهي كتب المقولات والعبارة والتحليلات الأولى(القياس) والتحليلات الثانية( البرهان) والمسائل والدحوض السفسطائية والخطابة والشعر وأنه إذا أمعنا النظر فيها نجد أن كتب الثلاثة الأولى تبحث في مبادىء التصور والاستدلال وفي كيفية اعتماد النسق القياسي وطابعها صوري وشكلي بينما يبحث كتابا التحليلات الثانية والمسائل في طرق البرهان ويبحث الدحوض السفسطائية في صحة النتائج ويقينيتها، أما الجانب الصوري فيتناوله أرسطو في ثلاثة مباحث رئيسية هي الحد والقضية والقياس، وفي هذا الصدد ألحق المعلم الأول بمبحث الحد مجموعة من الحدود العليا سماها المقولات العشر التي تدرس مختلف أنحاء الوجود وهي الجوهر والكم والكيف والإضافة والفعل والانفعال والملكية والزمان الخ وعند اعتنائه بالحد درسه في إطار علاقة الألفاظ بالمعاني حيث أشار في بداية كتاب المقولات إلى أنواع الأسماء وميز فيها بين المتفقة Homonymes والمتواطئة synonymes والمشتقة paronymes ثم بعد ذلك انتقل إلى عرض مضامين الحدود فصنفها إلى أنواع وأجناس وحدود ذاتية وأخرى عرضية وانتهى به التحليل إلى ذكر أربعة ضروب من الوجود:
1 موجودات تقال على موضوع وليست في موضوع وه الكلي المجرد،
2 موجودات في موضوع ولا تقال على موضوع وهو الكلي العرضي،
3 موجودات في موضوع وتقال على موضوع وهي الحدود الكلية،
4 موجودات لا تقال على موضوع وليست في موضوع وهي الجواهر المفر