للإجابة على فك الاشتباك بين المكان والزمان وعلاقة الذاكرة بالخيال وعلاقة الاثنين مع الزمان :
- الذاكرة هي مستودع ما تختزنه الذات من تجارب الحياة على شكل تراكم خبراتي يصيبه النسيان مع مرور الزمن. الذاكرة ليست تموضع تجريدي في الوعي الادراكي فقط بل هي وجود عضوي في بعض خلايا الدماغ. كذلك الخيال وان كان يغلب عليه اللاشعور فهو ايضا يحسب على بعض الخلايا العصبية بالدماغ هي المسؤولة عن تداعيات الخيال.
- الخيال ليس مصدره الذاكرة بل مصدره المخيلة التي تبتدع الخيال بلغة التعبير عنه تجريديا بالفكر واللغة. هنا تكون المخيلة زمانا زائلا بخلاف الذاكرة التي تكون زمانية ثابتة بدلالة مكانها الثابت في تركيبة الدماغ العضوي لبعض الخلايا العصبية. الزمان حركة دائمية حتى حين يلازم كل مدرك وجودي ثابت.
الزمان في علاقته بكل من الذاكرة والخيال اوضحه بالتالي:
الذاكرة هي وسيلة التعامل مع الزمن الماضي كإستذكارات لحقائق تاريخية حدثت فيه، واخذت صفة الثبات كوقائع تاريخية وليست زمنية ملازمة حيادية تجريدية الادراك. اننا حين نقول ان الوقائع التاريخية هي ثبات زماني غير مدرك فاننا بذلك نعتبر ثبات الزمان الوهمي يقاس بدلالة ثبات المكان الواقعي الحقيقي كتاريخ ماضي وليس كزمن ماض.
رغم استحالة استذكار الذاكرة لوقائع التاريخ من دون ملازمة زمنية ادراكية محايدة تجريدية لها، فإن هناك فرقا كبير بين زمن الذاكرة الذي هو استمرار تداعيات التذكر لاحداث الماضي، وبين الزمان التاريخي الذي حدثت فيه وقائع ذلك التاريخ الذي تحاول الذاكرة استحضاره من ماضيه التاريخي الى زمانيتها في الحاضر الذي تعيشه الذاكرة. بالحقيقة الاستذكار الخيالي لا زمني.
اذا تساءلنا لماذا يكون استذكار الذاكرة لتاريخ الماضي ناقصا ولا يتطابق تماما مع تداعيات الذاكرة؟ الجواب هو ان الذاكرة مخزن تراكم خبرة زمنية واقعية تتآكل تدريجيا ويطالها النسيان. لذا ليس كافيا الاعتماد على الذاكرة في دراسة وقائع التاريخ زمانيا من غير الاعتماد على الكشوفات الاثرية والتنقيبات الحفرية ومقاربة معرفة زمن حدوث تلك الوقائع تماما.
اصبحت الاركيولوجيا اليوم هي وسيلة معرفة حقائق التاريخ وليس المدونات التي لا تسعفها حقائق اركيلوجيا الحفريات والتنقيب الاركيولوجي. تجري اليوم مراجعة معظم ما يسمى السرديات الكبرى باحدث الوسائل العلمية في الوصول الى حقائق وليس اقرار خرافات واساطير لا تحكمها تجارب العلم وكشوفات المعرفة.
اما عن الخيال فهو زمانية مرتبطة بالمخيلة في استحضاره ولا علاقة موجودة بينه وبين الذاكرة. المخيلة متحررة تماما من سطوة الزمن عليها في تسييرها فعلاقة الزمن بالخيال علاقة محايدة. ومتى ما تموضعت الخيالات في فكر تعبيري تفصح عنه اللغة، تكون فاعلية الزمن عليه محكمة تماما. فالخيال هو تصورات يمتزج احيانا فيها الشعور باللاشعورفي انتاجية يرغبها تفكير العقل. وفي تعبير دقيق لفرويد قوله " اللاشعور لا يحتاج الزمن" لأن خاصية افكار اللاشعور لا يحدها الزمان العقلي. الذي ترتبط به المخيلة لكن ليس على حساب تحررها من سطوة الزمان العقلي عليها في حدّها وتعيين مسارها في تعبير اللغة عما يبتدعه الخيال. ربما تبدو العبارة غير محكمة حين نقول الخيال لا زماني لكن الحقيقة العلمية والفلسفية تؤكد ذلك. الخيال في مقارنته باللاشعور الذي هو تداعيات غياب رقابة العقل عليها. لكن الخيال هو شعور يدرك تداعيات التذكر الذي يحتاج الزمن لانه خاضع الى تداخل الشعور الادراكي في توظيفه تداعيات اللاشعور الذي لا يحتاج الزمن. يعبر احد الفلاسفة الاميركان (ان الوعي هو نوع من التحرر من الواقع والزمن يسبق الوعي الحقيقي).
ارسطو والزمن
المعتقد الذي لم يفارق ارسطو هو أعتباره الزمان مقدار حركة الشيء وليس هو حركة بذاتها. يعود الى برهنة نظريته هذه بمقولته العبقرية (الزمان لا يحد بالزمان )، وهي مقولة صائبة صحيحة مئة بالمئة. ويذهب الى وجوب التفريق بين حركة الجسم وبين زمانية مقدار تلك الحركة، بقوله أن حركة الشيء داخل الزمان، هي سرعة بطيئة وسرعة سريعة وكلتاهما خارج الزمان الذي يحتوي الجسم او الشيء، معتبرا الزمان هو رتابة من الانتظام الثابت الذي لا يتغير ، بينما يكون الجسم او الشيء داخله هو حركة لا منتظمة ولا رتيبة وبذا يرسي ارسطو مفهوم أن الزمن ليس ما يدرك بدلالة حركة الجسم التي سبق وقالها. هو حقيقة الزمان لا تدرك زمانيته بخلاف الاشياء التي ندرك زمانيتها بدلالة حركتها المادية داخل الزمن. بعبارة ثانية اوضح اراد ارسطو القول أن الزمان ازلي سرمدي وهو كلي وحدة واحدة لا يمكن تجزئتها كمفهوم مطلق، ولا حتى كقطوعات زمنية تحقيبية هي صفات زمنية للاشياء المتحركة بلا انتظام وليست صفات ماهوية للزمن الثابت المنّظم. كما سبق لي القول الزمان ليس ثابتا بل متغيرا ملازما تغيرات المكان.
وفي تعبير بدوي لشرح ما اورده ارسطو نقلا عن المصدر الاجنبي يشير الى أن الزمان لا يكون زمانا الا في مجانسته الحركة، عندما يكون الزمن والحركة من جنس زمني واحد يحدهما ويجمعهما معا، وبذلك يعود ارسطو الى اصل مقولته الزمان يقاس بدلالة حركة الاجسام ولا يمتلك الزمان حركة ذاتية مستقلة يمكن ادراكها بغير دلالة حركة الاشياء والاجسام داخله.
ويذهب ارسطو ابعد من هذا في مخالفته الرأي السائد فيزيائيا المكان يرتبط ادراكه بزمن يلازمه، ليستنتج أن الزمان الملازم للمكان، هو الذي يسير بدلالة المكان وحركته وليس العكس الزمان يقود حركة المكان الذي يعرف بدلالة الزمان. عن ذلك يقول احد الفلاسفة ( الزمن هو بعد سببي للزمكان).
يشرح ارسطو كيف (يكون الزمان ليس حركة، ولكنه لا يقوم الا بدلالة الحركة التي تتضمن مقدارا او عددا)، وقبل الانتقال لمناقشة العبارة نرى تفسير عبد الرحمن بدوي لها قوله ( ثمت نوعين من العدد، عددا موضوعيا وهو للاشياء القابلة للعد، وعددا ذاتيا هو الفكرة التي يكونها العقل وبها يعد الاشياء القابلة للعد وهذا الاختلاف هو ما تقوم عليه الآنية). بمعنى هناك عدد موضوعي والى جانبه ومعه يلازمه عدد تجريدي بالفكر.
نتساءل هنا بدورنا :
- هل الزمان الذي هو مقدار حركة الجسم، والذي هو ليس حركة ذاتية يختص بها يقاس بمقدار " كمي" أم بمقدار عددي ؟ ارسطو نقل عنه بدوي ذهابه نحو الاختيار العددي. ولم يوضح لماذا وكيف يكون تمييز مقدار الحركة بالكم عنها الاختلاف بالعدد؟.
- هل الزمان يمتلك ذاتية عددية خاصة به، تقوم على دلالة عددية منفصلة عن عددية المكان في قياس حركته عدديا داخل الزمان الذي يحتويه. بمعنى الزمن يقاس (كميّا) بدلالة احتواء مادة لفراغ.
- واضح يمكن تمرير الاختلاف بين العدد الموضوعي وبين العدد الذي هو فكرة مكتسبة يختزنها العقل تجريدا لا علاقة زمنية لها معها.، لكن هذا التمايز ما اوجه تعالقه بالزمن الآني الذي استنتجه بدوي؟. كيف يتم ربط العدد كفكرة او كموضوع بالآنية الزمانية؟ الاجابة لمجرد تدعيم نظرية أن الآنية(الزمن الحاضر) لا تنقسم على نفسها لا بالكم ولا بالعدد.
وفي تعبير بدوي لشرح ما اورده ارسطو نقلا عن المصدر الاجنبي يشير الى أن الزمان لا يكون زمانا الا في مجانسته الحركة، عندما يكون الزمن والحركة من جنس زمني واحد يحدهما ويجمعهما معا، وبذلك يعود ارسطو الى اصل مقولته الزمان يقاس بدلالة حركة الاجسام ولا يمتلك الزمان حركة ذاتية مستقلة يمكن ادراكها بغير دلالة حركة الاشياء والاجسام داخله.
ويذهب ارسطو ابعد من هذا في مخالفته الرأي السائد فيزيائيا المكان يرتبط ادراكه بزمن يلازمه، ليستنتج أن الزمان الملازم للمكان، هو الذي يسير بدلالة المكان وحركته وليس العكس الزمان يقود حركة المكان الذي يعرف بدلالة الزمان.
يشرح ارسطو كيف يكون الزمان ليس حركة، ولكنه لا يقوم الا بدلالة الحركة التي تتضمن مقدارا او عددا، وقبل الانتقال لمناقشة العبارة نرى تفسير عبد الرحمن بدوي لها قوله ( ثمت نوعين من العدد، عددا موضوعيا وهو للاشياء القابلة للعد، وعددا ذاتيا هو الفكرة التي يكونها العقل وبها يعد الاشياء القابلة للعد وهذا الاختلاف هو ما تقوم عليه الآنية). بمعنى هناك عد موضوعي والى جانبه ومعه يلازمه عد تجريدي بالفكر.
بحسب ارسطو الذي يذهب الى تحديد الآن او الحاضر بالمحددات التالية :
- الآن او الزمن الحاضر ليس جزءا من كل لأن الجزء مقياس للكل، والكل لابد أن يكون مركبا من أجزاء، بخلاف الزمن ليس مركبا من آنات. بل وحدة كلية متجانسة الصفات والماهية في مطلق ازلي لا نهائي ازلي.
- الآن الحاضر لا ينقسم لذا لا يتركب ما ينقسم المادة المدركة زمانيا مما لا ينقسم الزمان غير المدرك بغير ملازمته ما هو حركة ومدرك. .
- الآن الحاضر لا يوجد فيه حركة ولا سكون. هذه العبارة لارسطو جاءت بتاثير من افلاطون وبعض فلاسفة ما قبل سقراط في اعتبارهم الزمن الحاضر وهما افتراضيا لا حقيقي . " ناقشت هذه العبارة في مقالة سابقة منشورة لي بعنوان افلاطون والتحقيب التاريخي للزمان ).
الآن بمعنى الحاضر هي جزء من الكل الزماني في المجانسة الكيفية الواحدة، ولو كانت الآن جزئية مغايرة الكيفية الزمانية فلا يمكنها التوسيط التجسيري بين حدين زمانيين هما الماضي والمستقبل.
صحيح جدا أن الآنية هي زمن جزئي بسيط نقطة زائلة لكنها تحتفظ بماهية زمنية ليست متناقضة مع ماهية كلية الزمان الازلي غير المدرك. ثم لا يوجد ما يدعم أن الزمان كيفية غير قابلة الى تقسيم تحقيبي زماني مدرك ولا الى آنات لا نهائية. مقولة ارسطو الرائعة (الزمان لا يحدد بالزمان ) مقولة النقص بها انها تتعامل مع الزمان الكوزمولوجي وليس تعاملها مع الزمان الارضي التاريخي المختلف عن الزمان الكوني. فالزمان السرمدي الكوني الازلي لا يقبل التجزئة لا بالدلالة ولا بالادراك، فهو كلي لا يمكن الاستدلال بدلالة الجزء عليه في وقت لا يمكن تجزئة اي جزء منه. أما ان الزمان الارضي وهو ما لم يكن يقصده ارسطو فهو يقبل دلالة حدوده بتجزئته كتحقيب زماني ارضي وليس كوزمولوتي كوني. والتحقيب الزماني الارضي يبدأ بالثانية والدقيقة والساعة واليوم والاسبوع والليل والنهار والفصول الاربعة وهكذا. لكن اهم ميزة ان هذه التقسيمات التجزيئية افتراضية وهمية زمانيا ما لم تقترن بحركة مكانية.
من غير المقبول تمرير أن الآنية ليست جزءا ماهويا متجانسا مع زمان كلي سرمدي ازلي، مما يترتب على عدم المجانسة أنها ليست زمانا وان تكون ماهية ليست زمانية وزجها ومعالجتها على أنها توسيط لحظة انتقالية غير مدركة زمانيا، هذا غير وارد ولا صحيح. كما ان الانية لا تمتلك مجانسة الزمان خطأ ينسف كلية الوحدة التجانسية المطلقة للزمان. الزمان كمفهوم يعبر عن دلالة مطلقة لا يقبل التجزيء والتقسيم صحيحة جدا كما وردت في تعبير ارسطو العبقري (الزمن لا يحدد بالزمان ) هو توكيد ارسطو لحقيقة الزمان كلية موحدة واحدة ازلية كمفهوم مطلق سرمدي وازلي لا يمتلك الانسان معرفة ماهيتها كما لا يعرف آلية اشتغالها. ثم بهذه المقولة ميّز ارسطو بين مفهوم الزمن كمطلق لا يتجزأ، وبين مفهوم الزمن الارضي الذي يقبل القسمة والتحقيب بدلالة حركة الاجسام.
اما تعبير ارسطو نقلا عن بدوي بأن الان لا ينقسم وبذا لا يتركب ما ينقسم مما لا ينقسم، فهو يحمل تساؤل مررنا به اكثر من مرة هو اذا كانت الانية لا يتوزعها التوسيط التجسيري بين تحقيبين زمانيين هما الماضي والمستقبل من دون انقسام تجانسي زمني معهما فكيف يمكننا الاستدلال بان الآنية وهم غير موجود لأنه غير مدرك عقليا، في نفس وقت تجاهل ارسطو ومن بعده بدوي ان الآنية فيزيائيا كتحقيب زمني شغالة دائمية في مهمتها تجسير قطوعات الزمان التحقيبية على الارض حينما لا يكون الزمان مفهوما مطلقا لا يدركه العقل ولا تحد حدوده الازلية السرمدية. الشيء الذي ينهي اشكالية عدم مجانسة الآنية الحاضرة مع الزمان هو في التمييز بين الزمان الارضي بإختلافه عن الزمان كمفهوم كوني مطلق لا يقبل المقايسة الاستدلالية به في قول عبارة ارسطو الزمن لا يحد بالزمان وهو يقصد الزمن كمفهوم مطلق غير مدرك.
ختاما علينا التنبيه أن آنية الحاضر هي استدلال لا ضير أن يكون وهميا بالقياس لمدركات العقل، لكنه موجود كدلالة افتراضية غير وهمية زمانيا بمنطوق علم الفيزياء، بدليل كثير من الظواهر وقوانين الطبيعة والحياة العامة التي تحكم الانسان هي قوانين غير مدركة عقليا لكنها تفعل فعلها خارج رغائب الانسان، لكن عدم ادراكها لا يترتب عليه نزع فيزيائيتها الشغالة الدائمة في تنظيمها حياة الانسان منها باستقلالية عنه. اذ يقول الفيلسوف لي سمولن ( اذا كان هناك شيء اساسي انما يكون هو الزمن).
قوانين الفيزياء الطبيعية هي ليست قوانين العقل في ادراكه او في عدم ادراكه نظام العالم الخارجي من حولنا. فمثلا قولنا الآن ليست استدلالا لماضي ولا لمستقبل، ونزع صفتي الحركة والسكون عنها يحتاج اثبات برهاني فلسفي، لكن الفيزياء العلمية وليس الفلسفة تجعلها موضوعا فيزيائيا قائما لا يحتاج البرهنة الفلسفية له.
علي محمد اليوسف /الموصل