كتاب من تأليف فؤاد زكريا (1927-2010)، الفيلسوف المصري الراحل، والذي يوصف بكونه أب "الوجودية العربية". يُعد هذا العمل بمنزلة سيرة ذاتية وعرض عام وموجز لأهم الأفكار والمعتقدات التي اعتنقها الفيلسوف الهولندي التنويري اسبينوزا (1632-1677)، والتي تغطي مجالات الفلسفة والأخلاق والدين والسياسة. وسنحاول فيما يلي تكثيف أهم الأفكار التي تضمنها هذا الكتاب:
آراء اسبينوزا في الدين والعقيدة
للإحاطة على نحو أفضل بفلسفة اسبينوزا، تتعين العودة إلى ظروف نشأته التي كان لها وقع كبير عليه. فقد وُلد بهولندا لعائلة يهودية ميسورة الحال، وتلقى في صباه تعليما أصوليا محافظا، مما كانت له نتائج عكسية على الفيلسوف الهولندي، إذ سيثور الأخير على جمود وتعصب الطائفة اليهودية التي كان ينتسب إليها، لا سيما وأن هولندا كانت تعيش إلى حد ما في جو من التسامح الديني وحرية التفكير، إبان تلك الفترة، قياسًا إلى باقي دول أوروبا. وبعد تعرضه للملاحقة والمضايقة من لدن الأتباع المتعصبين للطائفة اليهودية، سيغادر اسبينوزا أمستردام ميممًا وجهه شطر الريف، حتى يتفرغ للتحصيل والإنتاج الفكري وينعم بالأمان.
وقد نافح فيلسوف القرن السابع عشر عن آراء جريئة إزاء مسائل الدين والمعتقد، الشيء الذي أثار عليه نقمة كثير من معاصريه، مخلخلًا بذلك يقينيات الفكر اللاهوتي المسيحي التقليدي. وهكذا اعتبر بأن الوجود الإلهي لا يحتاج إلى أنبياء أو معجزات لإدراكه، لأن الله يتجسد في الكون والطبيعة والعقل البشري. كما أنكر مجموعة من العقائد الأساسية في المسيحية مثل تَجَسد المسيح وتضحيته. ولم يقف اسبينوزا عند هذا الحد، حين ذهب إلى أن الظاهرة الدينية هي ذات طابع بشري، ولا تجسم بالتالي الإرادة الإلهية، منصرفًا إلى دراستها كأية ظاهرة تاريخية واجتماعية أخرى، وهو المنهج الذي طبقه على تفسير النصوص الدينية واليهودية على وجه الخصوص.
وعطفا على ذلك، فصل اسبينوزا بين الدين والأخلاق على غرار جل فلاسفة عصر التنوير، إذ اعتبر بأن السلوك الأخلاقي والفاضل يحقق الغاية المنشودة من الدين، حتى ولو لم يقم على أسس دينية. كما لم يفته التقليل من شأن الطقوس والشعائر الدينية، التي وإن كانت تفيد في تقويم سلوك عامة الناس، الذين يتخذ تدينهم شكلا طقوسيًا وصوريًا، فإن خاصة الناس، أي ذوي العقول النيرة والمتفتحة، ليسوا في حاجة إلى تلك الطقوس كي يكون سلوكهم مبنيا على أسس عقلية وأخلاقية.
نظرية الأخلاق عند اسبينوزا
يمتلك اسبينوزا نظرة نسبية للأخلاق، إذ ليس ثمة وجود لقيم أخلاقية مطلقة تضع حدا فاصلا بين الخير والشر، طالما أن القيم الاجتماعية السائدة وقناعاتنا وميولنا الذاتية هي التي تحدد منظورنا للقيم الأخلاقية. وعلى سبيل المثال، فإن انخفاض سعر سلعة ما في السوق الاقتصادية يعد خيرا بالنسبة للمشتري، لكنه شر من منظور بائع تلك السلعة. ويمكن الإشارة أيضا إلى اختلاف النظرة الأخلاقية إزاء أنماط معينة من السلوك من مجتمع إلى آخر، ومن ثقافة إلى أخرى.
وفي نظر مؤلف الكتاب، إذا كانت معظم المذاهب الفلسفية الكلاسيكية لم تتصور إمكانية قيام الأخلاق دون وجود إرادة حرة، فإن اسبينوزا يشكك في هذه الفكرة، ويقلل من شأن تَوفر حرية الإرادة لدى الإنسان، ذلك أن سلوك الأخير يظل محكوما بإكراهات خارجية تحد من حريته.
فلسفة اسبينوزا السياسية
إن تمجيد الحياة الاجتماعية ورفض نمط العيش الذي قوامه العزلة والتشرد قد شغل حيزًا هاما من فلسفة اسبينوزا السياسية، إذ يُعتبر الأخير من ضمن الفلاسفة الذين ينظرون إلى الإنسان كحيوان اجتماعي، لا يستطيع أن يكفي حاجاته بمعزل عن باقي أفراد المجتمع، ذلك أن الفرد لا يسعه ضمان حريته وتحقيق شخصيته الفردية إلا بالخضوع للقانون المدني، الذي تضعه الدولة بغرض تنظيم المجتمع. كما يرفض اسبينوزا تقليص أدوار الدولة إلى حدها الأدنى، كما ذهب إلى ذلك بعض الفلاسفة الليبرتاريين، بحيث يُسند إليها وظائف هامة بوصفها المسؤولة عن المستوى الأخلاقي والاجتماعي للرعايا.
وعطفا على ذلك، يدافع فيلسوفنا عن الفصل بين الدين والدولة، الكفيل بضمان حرية ممارسة جميع الأديان، ودرء شطط وعسف رجال الدين. وفي هذا الصدد، يشير المؤلف إلى أن تصور اسبينوزا للعلمانية لا يقتصر على الفصل بين المجالين الزمني والروحي، والاحتفاظ لكل منهما بمجال خاص، بل إنه يدعو صراحةً إلى خضوع رجال الدين إلى سلطة الدولة ومصالحها العليا. وهكذا ففساد السلطة الزمنية، عند اسبينوزا، يمكن التغلب عليه بتغيير الحكام، أمام ضرر السلطة الدينية فيكون وقعه أشد وطأة، نظرًا إلى أن رجال الدين يغلفون معتقداتهم بطابع ألوهي مقدس، يستعصي محو آثاره من نفوس الناس.
كما عُرف عن اسبينوزا دفاعه الشديد عن حرية الرأي والتفكير، شريطة ألا تتعارض مع الأمن والنظام العام. وبخصوص تصوره لنظم الحكم السياسية، يرى الفيلسوف الهولندي أن الاعتماد على أمانة الحكام لوحدها غير كافية لضمان الحكم الرشيد والحرية السياسية للأفراد، إذ لا بد من وضع ضوابط خارجية تحد من سلطتهم، حيث يرى بأن النظام الديمقراطي يظل الخيار الأفضل لكونه يتيح فرص المشاركة المتساوية أمام الأفراد، وبالتالي يحد قدر الإمكان من الميول التسلطية لدى الحكام.