ما الفيلسوف؟ قد نتساءل بالطبع بأيّ معنى يمكن أن يكون هذا " الصائد للنجوم السابحة" ، وهذا " الشريد المقيم دوما في الريف، يقتفي أثر "لست أدري ما " ، والذي هو جانكيليفيتش، بإمكانه الزعم أنّه جدير بهذا اللقب؟
يتناقض فكر جانكيليفيتش من جميع الوجوه مع هذه الفلسفات النّسقيّة التي سخر منها دوما، وإن دون أيّ حقد ، إذ لم يشعر أبدا بمثل هذه الانفعالات.ما معنى فيلسوف؟
لقد طرحت هذا السؤال على تلامذتي بداية السنة الدراسية وطلبت منهم أن يقتصروا على الإشارة إلى المعنى المتداول لهذا اللفظ. ولم يكن جوابهم، الذي أفزعني، خاليا من الأهمية:" الفيلسوف شخص عارف جدا يملك رؤية للعالم شاملة ونسقية، يقدّر أنه من المشروع توصيلها ، واقتراحها ، بل فرضها على كلّ من يتوجّه إليه". ليس من العسير التكهّن بمصدر هذه الكليشيه! ومهما يكن ففلاديمير جانكيليفيتش يتوافق قليلا جدا مع هذا النموذج - المثال الذي قد يغرينا بأن نوجد عبارة خاصة لتعريفه ، لفظا لا يصلح إلا بالنسبة إليه. لكن يوجد رأي آخر: مخالطة هذا الوجه المتفرّد جدا للفكر يمكن أن يقودنا إلى اعتبار بعض أحكامنا المسبقة المتصلة بهذا المجال التخصّصي وبكل أولئك الذين أمكن لهم بوجوه مختلفة أن يجسّدوه. إنّهم الفلاسفة بالتأكيد ، وليس أقله ، أولئك الذين شيّدوا تصوّرات عَاِلَمة للعالم ، مُؤسِّسَة وبالتالي مريحة بالضرورة، مثلما أمكن أن تكون بعض الأديان أو الإيديولوجيات دنيوية. انطلاقا من هذه الملاحظة، سنتساءل بأيّ معنى يمكن لـ"صائد النجوم الهاربة" ، وهذا " المتشرّد دوما في الريف بحثا عمّا لست ادري"، الذي هو جانكيليفيتش ، أن يزعم على الإطلاق بأنّه جدير بلقب " فيلسوف"؟
يتعارض فكر جانكيليفيتش من جميع الوجوه مع أشباه العلم هذه التي سخر منها دائما، دون أي حقد إذ لم يراوده مثل هذا الشعور إطلاقا. يذكّرني فلاديمير جانكيليفيتش بوصفه كيميائيُّ الفعل ومهندسُ العرضيِ والساحر صاحب الإصرار، بهذا المصرفي في " الأمير الصغير" الذي يكنز النجوم في خزنة حديدية حيث تظل الغاية العملية لذلك لغزا محيّرا للجميع : ما الفائدة من عدّ الكواكب ، يسأله الأمير الصغير؟ . نفس الحيرة تجاه عمل فلاديمير جانكيفيتش الذي يتعذّر تصنيفه : لم التفلسف إذا " كانت الفلسفة لا تصلح لشيء؟" وإذا " كان الصمت هو أكثر اللغات ثراء" ؟ كيف ندرك فلسفة كانت أولا كيفية في الإقامة في العالم، والتي يبدو أسلوبها - صحّ أم لم يصحّ- يتفوّق على المحتوى( " نقدّر فحسب مثال الفيلسوف الذي يهب بحياته وأفعاله").
لم تكن دروسه دروسا بالمعنى المتداول للدرس- بل "تفصيلات متقلّبة " ، تربط بين حدوسات بارقة و تحليقات جامحة وتأملات دقيقة واستطرادات جنونية (" كم هي سرعة الإله في حالة طيران؟") . ويحدث أحيانا أن ينقطع المشهد بتوقّف مزعج حينما يشوشّ أحد الطلبة غير اللطفاء على إيقاع لطيف لفكر متقلب بمثل تقلب اندفاع الحياة ذاتها. هذا الصوت المتفرّد وهذا الأداء للجملة الخاص جدّا، الموسيقيّ أحيانا واللاهث أحيانا أخرى ، قد أثّر كثيرا على مستعميه الذين نعتقد أنّهم ما زالوا يستمعون إليه حينما نقرأ له أو ببساطة حينما نتذكّر هذه اللحظات السعيدة.
لقد كان فلاديمير جانكيليفيتش في الآن نفسه خطيبا غير عاديّ وعازف بيانو وموسيقيّي شغوف ، يزاوج بين الموسيقى والفلسفة إلى حدّ جعل الموسيقى فلسفية ولكن جعل الفلسفة أيضا موسيقيّة. لقد خُصّص جزء هام من عمله لدراسات متخصصة للموسيقيين ( دوبيسي ولغز اللحظة ، 1988، رافال ، 1988، ليزت والرابسوديا ، جزء 1، محاولة حول البراعة ، 1989). ولعلنا نجهل أنّ معرفته الموسيقية ترتكز على ممارسة شخصية للعرف على البيانو. مطوّعا كتاباته بمثل أغنيات بينما "يكتفي آخرون بنقنقة آلة الكتابة لديهم ". ويستمرّ في عزف مقطوعاته المفضّلة برقّة ما يفتأ يذكرها حتى آخر أيام حياته بإحساس مرهف. لقد كان الطفل دون شكّ موسيقيّا قبل أن يكون فيلسوفا: لقد قال بأنه كان يتردّد على عازفي البييانو قبل الكتب بكثير. وحينما نسأله برغم ذلك كيف يفسّر هذه العلاقة ، الذي يقدّر أنها وثيقة بين الموسيقى والفلسفة ، يلاحظ أنّ مثل هذا السؤال لا يسأل إلاّ لمن يجهل سحر الواحدة والأخرى. هو بمثل سؤالنا تقريبا، ملاحظا بشيء من التظنن الساخر:" ما رأيكم في جسم يبحث عن روحه؟". ما من تناقض مع ذلك من قبل مؤلف كتاب " رسالة في الفضائل" مثل مؤلفه الذي لا يمكن تجاوزه والمخصص للذاكرة الحية للمحرقة " غير القابل للتقادم"الصفح ؟ بشرف وكرامة " (1970). يوضحّ التعريف الذي يعطيه للفكر(" يجعل الفكر من نفسه مفكّرا حينما ينكسر"ببراعة هذا القول المأثور لباسكال" تسخر الفلسفة الحقيقية من الفلسفة" . لقد عزم مؤلف " لست أدري ماذا ا لاشيء وتقريبا"(1957) على أن " يرتب في مغازة اللواحق غير المفيدة " " الأنساق المفهومية" التي تخلط بين الفكر و" الفلسفة " التي "تكمّم وتتلوّن وتسحق وتُسطّح" على حساب كل شكل من المقتضى الفكري الأصيل.
يقول نيتشه بأنّه " لا يمكنه الإيمان إلاّ بإله يعرف الرقص". تستقيم الملاحظة تماما بالنسبة إلى هذا البلهواني الذي لا يكفّ عن التجوال على حدود اللامعقول و اللامعنى. ما من فلسفة حقيقية حسب جانكيليفيتش، دون هذه المسافة التي تكون الفكاهة السمة المميّزة لها. و يسحر جانكيليفيتش، بمثل سقراط أشهر من " أفسد عقول الشباب" ، بألف وجه خفيّي أجيالا من الطلبة: الفلسفة هي " البداية التي تعاد باستمرار" وهي "أدب اليأس،(...) وحياء يستخدم لتسرّب سرّ جدار من المزاح،(...) ليس بأقلّ جدية من الجدّي ذاته".
ولد فلاديمير جانكيليفيتش في بورغ يوم 31 اوت 1903. كان أبوه ، وهو طبيب، أول مترجم فرنسي لسيغموند فرويد. وقع قبول جانكيليفيتش ، وهو التلميذ المتفوّق، بمعهد لويس لوغران ، ثمّ 1922 في المدرسة العليا المعلمين بنهج إيلم ثم كان أول الناجحين في التبريز في الفلسفة عام 1926 ثم تحصل على الدكتوراه ( أطروحة عن شيللينغ) . كان يقول :أوجد في مدن مختلفة ، ففي عام 1940 ، علم بتنحيته من الجامعة بموجب قانون الإقصاء لفيشي الذي يقصد أبناء المهاجرين واليهود. وسرعان ما دخل في السرية في الجنوب الشرقي لفرنسا حيث شارك في شبكة " نجم"Etoile للمقاومة. وكان متميّزا في سريّته، يتنقل غالبا حتى لا يقتفى أثره حتى نهاية الحرب. وقد سمّي عام 1945 مديرا للبرامج الموسيقيّة لراديو تولوز بيرينيه غير أنه سرعان ما استقال . وفي عام 1947 التحق بجامعة ليل Lile وتزوج من لوسيان التي رافقته حتى وفاته. ومن 1949 ( تاريخ نشر مؤلفه الأول، "مقالة في الفضائل") إلى حد 1981، كان يتابع دروسه بوصفه أستاذا في السوربون . توفي جانكيليفيتش في مقر سكناه 6جوان 1985، 1 محطة الزهور بباريس 75004. وطيلة هذه السنوات الأخيرة ، كان يواصل إلقاء محاضرات في نفس الوقت الذي يترك فيه باب سكناه مفتوحا لطلبته القدامى وأصدقاءه. وقد أصبح مشهورا شيئا ما منذ اضطرابات ماي 1968، حيث كان فاعلا خفيّا ولكن واسع الحضور ، ولكن أيضا بموجب إعادة بثّ دروسه في راديو فرنسا، مثيرا غبطة باريسيين مترددين على المقاهي- الكثيرة في هذا المسار- والذين يشاهدونه مارا كل يوم ثلاثاء في نفس الساعة للالتحاق بالسوربون انطلاقا من مقر سكناه بمحطة الزهور . لم تكن دروسه محرّرة ، ولا مكتوبة من البداية إلى النهاية، ولكنّها مصاغة بعناية. يشهد جانكيليفيتش، تماما بمثل طاليس الذي سقط في بئر من فرط غفلته، وبمثل كانط في جولاته في ساعات محددة تسمح لأهل قريته بضبط مقارب ساعاتهم على موعد مروره، يشهد كامل حياته كجامعي حياة معتدلة بقدر ما هي بيتُوتِيّة. شريطة أن نمرّ مرور الكرام على واقعة أنه بعيد الحرب ، شاهده بعض المارة يسبّ ويلعن سياحا بائسين ألمان يتسكّعون تحت نافذته- بينما تجلب سيارات في نفس الوقت جحافل من الناجين من معتقلات الموت.
تنتهي هنا المقارنة بين جانكيليفيتش وكانط ( من بين آخرين). فكل شيء يقابل فلاديمير كانكيليفيتسش بأغلب سابقيه الذين تلتقي رؤاهم للعالم، حتى لو تعارضت من بعض الجوانب، مع ذلك في جهدهم في خلق الانسجام والنسقية. systématicité." نسقي الوحيد هو أن لا يكون لي نسق" كما يحلو له أن يقول لكلّ أولئك الذين يندهشون لهذه التفرّد. لقد ذهب بعض القراء إلى حدّ مقارنة فلسفته بـ:" حديقة بها سلسلة من الجبال، وأشجار عظيمة تعبر الأزمان وتمحو العواصف... كلّ ذلك مرصّع بالعشب وببعض الأعشاب الغريبة الجنونية". وقد كان جانكيليفيتش يستمتع بهذا ولا يسخر منه.وكونه ببساطة قد كتب مؤلفين عن الصفح في الوقت الذي كان يرفض بشكل شخصي الصفح عن الشعب الألماني، إلى حدّ عدم قراءته لأيّ كاتب و لا العزف لأيّ ملحن جرماني ، فهو أمر في هذا الصدد مثير للدهشة:" لست في هذا ربّما إنسانا أكثر مني فيلسوفا"، في نفس الوقت الذي يشير فيه إلى أنه وعلي أيّ حال ، بأنّ موسيقى باخ " غير نزيهة ومنافقة" ، وموسيقى بيتهوفن " متخمة ميتافيزيقا" . بينما لا يملك ، في شأن الفلسفة الأخلاقية لأقرانه ، سوى تجاهلها." فهو يقدّر بوصفه "عدوّا لكلّ حكمة" ، بأنّ " العقل لا يوجد إلا بقدر ما يفلت منّا"، وأنّ " فلسفات اليقين" التي تنتشر دون خجل أمام كتائب المشجعين المنضبطين لا يمكن أن تكون في النهاية سوى مُقْبِرة للحقيقة.
وحتى إذا ما كانت الحقيقة ، محكومة بالالتباس ، ولا تكفّ عن أن تكذّب ذاتها باستمرار ، فإنّ فلسفة جانكيليفيتش لا تختصر بالطبع في سلسلة مُسلّية ولكن عقيمة من المفارقات و الوقاحة المستهجنة. كثيرون هم الطلبة الذين تأثّروا بعمق بحدوساته الرائعة وسمات عبقريته المتعدّدة. أفكّر أولا في نصه المفجع ( غير القابل للتقادم . الصفح؟ بشرف وكرامة، ُسوي 1986) الذي يطرح الخصوصية المطلقة للجريمة ضدّ الإنسانية التي ارتكبها النازيون. وعلى صعيد آخر تمثّل الأعمال التي تقرّ بالتوافق غير المنتظر والواضح جدّا مع ذلك، بين الفلسفة والصمت ، أعمالا يتعذّر استبدالها. تأملاته في الزمن: " لحم لحمنا" ، وفي الجمال - تمظهر متلاشي - و في الموسيقى " التي لا تعني شيئا ولكنها ترافق حياتنا كلّها" ، هي أيضا أعمال يتعذّر استبدالها. دون أن ننسى بالتأكيد التنوعات المتهوّرة والرائعة عن " اليقين المحتمل للبداهات الأخلاقية".
لقد علمنا جانكيليفيتش بأنّ العنف ، بوصفه نقيضا للقوّة ، لم يكن أبدا واقعة طبيعية، بل تعبيرا باستمرار عن قصور للكائن البشري، قصورا غير قابل للعلاج( " أن تموت بين مخالب نمر فهذا ليس " عنفا" في الحقيقة ، ولكن أن تموت بفعل زميلك فنعم ، " إذ هو إنساني"). لقد برهن لنا جانكيليفيتش بأنّ مفارقة الفكر تكمن في هذا الجهد في متابعة شيء دون جدوى ، شيئا لا يمكن أن يُفكّر فيه، بمثل الصفح لأجل الحصول على ثمن مناسب يقارن بما لا يقبل الصفح ( مفارقة الصفح هي أيضا " استحالة الصفح").
لقد توصّل جانكيليفيتش إلى إقناع أجيال ومستمعين غير معروفين بأنّ الأخلاق - " الأفضلية المطلقة للآخر"- لا تردّ أبدا إلى مجموعة من القيم هي جدّ نزيهة ومحترمة :" " الفضائل أسوء من الشرور لأنّها منفصلة عن أصحابها وتوحّد بعضهم بعضا : الحبّ الذي هو حياتهم بالذات والذي دونه لن يكون السخاء سوى رذيلة ممجّدة وصخب مدوّي . أليس الحبّ أكثر حقيقية من الحقيقة وأكثر عدلا من العدالة؟" .
لقد تعلّمنا بقربه بانّ الموت هو ماهية الحياة (" لقد مُنحت لكم مع هدية جميلة هي الحياة، إنّها الوجه الآخر")، والقيمة الوحيدة التي تستحقّ هي تلك التي كان يطرقها إلى آخر نفس " لا تتخلّفوا عن صباحكم الربيعي الوحيد". لم تكفّ إيتيقا جانكيليفيتش وهي فرحة بقدر ما هي عفوية ، عن الاحتفاء بنقطة تماسّ الحبّ بالمطلق : " بزوغ الفجر، والعذراء البريئة والحكيم والبطل و الشهامة والليل الهادئ، والخالق في ذروة الفرح والضحية المصلوبة ، قيل كل شيء : لقد أحبّوا"
لورانس هانس - لوف Laurence Hansen-Löve ( مجلة العلوم الإنسانية أفريل 2022)