خصص ا.فانزيني، سنة 1975، فصلا للحديث عن علاقة الفلسفة بالعلوم الإنسانية، حيث جعل منها علاقة« صراعات وشكوك »، وّبين أن الحاجة للفلسفة كانت بقدر عجز « علوم التربية »البنيوي على أن توليها مكانة خارج إطار إبستيمولوجيا الوضعية الجديدة التي تسعى إلى تبرير وجود تلك العلوم بالاستناد فقط على الإجراء العلمي وحده . وقد لاحظ، بذكاء كبير، أن غياب المصطلح الدال على هذه المعرفة « الما بعد علوم التربية » يشهد على الصعوبات الكبيرة،وعدم القابلية الشبه التامة لحل المشكل كما هو مطروح، بل إن صعوبة البحث التربوي نفسه تجسيد لاستمرار المشكل. لكن ماذا وقع بعد مرور عشرين سنة على هذا القول ؟ إذا كانت القاعدة المؤسساتية لعلوم التربية قد ترسخت، وإذا لم يعد مقبولا أن تشطب الوزارة عليها من ضمن لائحة المعارف الجامعية، وبغض النظر عن كل النزاعات الممكن خلقها لها،فالسؤال الجوهري الذي وضعه أفانزيني لا يزال مطروحا. ففي إطار التحول العميق الذي تعرفه البنية السوسيوثقافية الفرنسية، أصبحت الدعوة إلى التفكير في المعنى داخل الحقل التربوي أكثر إلحاحا من نقل مكتسبات العلوم الإنسانية و الاجتماعية والنفسية إلى المجال البيداغوجي الذي ظلت آثاره على التجديد بعيدة عن ما كان مأمولا فيه، بل، على العكس من ذلك، كان ذاك النقل سببا في شيوع جو من الغموض والخيبة، في الوقت الذي ظلت فيه ال « فلسفة الفرنسية »، في الطرف الآخر، تصب جام غضبها على معرفة تعتبرها مغتصبة. ترى، هل ستكون لدينا الجرأة على المراهنة على الأزمة التي تعيشها، ببلادنا، العلوم الاجتماعية والفلسفة على حد سواء، لجعل فعل التفكير في التربية يتقدم ؟.قد لا يكون الرهان متهورا إلى حد كبير: لنعمل على بلورته.
العودة الكبرى:
تشتهر فرنسا بذكرى 14يوليوز، لكن من الممكن أن تشتهر أيضا بكونها مجتمعا محافظا وأكثر إثارة لمصالحه : إنه ضحية التحولات التي تقوده، طوعا أو كرها، نحو مصيره المحتوم، أي نحو مجتمع الحريات. لابد أن نتفق على أننا لا نعني مجتمعا يحمل صورة مجردة عن الحرية،والمساواة و الأخوة، وإنما مجتمع يعطي للأفراد الذين ساهموا فعلا في تكونه وسائل تحقيق هذه الأفكار الديمقراطية المثلى. من بين هذه الوسائل نذكر التربية التي،باعتبارها تكوين للإنسان،أصبحت من دون شك الأكثر فعالية، علما أن الجواب عن الأسئلة المطروحة لا يمكن أن يأتي من « الفكر الشمولي » وإنما من المبادرة والقدرات التي يضطلع بها كل فرد كي يثير فيه و حوله هذه الأجوبة. لقد أصبح مجتمعنا، أردنا أم كرهنا، مجتمعا تربويا: فرجل السياسة المطلوب منه النجاح سيصبح الرجل الذي يثبت، إلى جانب برامجه و وعوده، أنه « رجل التربية الأفضل ».
غير أن هذا الأمر تطلب حدوث هزات عنيفة قبل الاقتناع به. فكانت أولا الصدمة الثقافية التي تميزت بأحداث ماي 68 والتي كان من أهم نتائجها تكسير النموذج التربوي الجمهوري، المبني على النزعة الإنسانية للدولة ، والذي ،رغم استحقاقاته التاريخية المعترف بها للمدرسة ،لوحظ عليه، في نهاية المطاف، أنه كان إلى« إعادة الإنتاج » و« المحافظة»على المجتمع أقرب منه إلى « تطوير »ه: إذ منذ ذلك الحين لم يندمل الجرح الذي انفتح في حضن المجتمع الفرنسي، وفي دعامته الأساسية الأكثر قيمة المتمثلة في نظامه التربوي. جرح لا يزال يسيل باستمرار تحلّل النسيج الاجتماعي، سواء من الداخل عبر المطالب القطاعية المتضاعفة وهزم أجهزة الضبط الكبرى ،أوفي إطار المبادلات الأوروبية والعالمية التي يتعذر ضمنها لأي بلد كان الظهور بوجه متميز. إنضاف إلى هذا انهيار نموذج الدولة المستورد من الشرق، الذي شكّل، بشكل مباشر أو غير مباشر، مرجعا لنخبتنا المثقفة إما بالتقليد أو كرد للفعل، بينما عمل رجال علم نبهاء، بشكل مواز، على هدم أسطورة الثورة الفرنسية الحامية لكل الخيرات. تابع النظام التعليمي اندحاره، ثم فقد معناه، إلى درجة أن كل من آمن وافتخر به ابتعدوا عنه، وأن شريحة واسعة من الشباب وجدوا الفرصة سانحة للتخلي عنه طواعية عبر الغياب، أو اللامبالاة، وبكلمة واحدة: عدم الثقة في المدرسة.
كان أمل « علوم التربية »، بعد تأسيسها عام 1967 ضمن حركة اليوتوبية الاجتماعية، معايشة لحظات ميلاد المجتمع الجديد. فقد استطاعت هذه العلوم بالفعل أن تشق لها موقعا في ظل وضعية سياسة صعبة، كان بإمكان الموجة الإصلاحية، في خضمها، أن تعصف بتلك العلوم في أية لحظة. لا أحد ينكر أنها قد ساهمت في التحول الاجتماعي الكبير، قدمت« مناضلين بيداغوجيين » من كل جنس، كأدوات نقدية ووسائل إبداع : إذ أن ميل« المحافظين » للثأر من هذه العلوم كان كافيا للبرهنة على أن معنى « المعرفة الجديدة » متمثل في ذاك التحول ذاته. فبعد احتضانها لطروحات وموحيات التربية التي اعتقدت، معه بداية هذا القرن، في الثورة البيداغوجية ،تبنت علوم التربية، رأسا، مشروع تحول اجتماعي واسع، الفاعل الأساسي فيه هي المدرسة، وشرعت توا في الاشتغال في هذا الاتجاه بشجاعة ملفتة. لقد كان دخول المعرفة التربوية الجامعة سنة 1967 حدثا مميزا، قدم لها، دفعة واحدة، مجالا للإنعتاق ساعدها على بلورة كل استيـهامـاتها اليافعة، بل-لم لا؟ - مدعوة أخيرا بكل آمال تربية معينة، في استقلالية الراشد، إلى أن تستوعب ذاتها بعيدا عن كل تعريف تمليه دولة أو كنيسة .
في هذا السياق النضالي لعلوم التربية لم يتعلق الأمر بمسألة فلسفية و ولم يكن ليكون الأمر كذلك؛ كانت فلسفة التربية تتمثل، على وجه التحديد، في هذه المعرفة النامية، التي تتأسس في خضم النقد الاجتماعي، وتنتقد ذاتها إبان البناء الاجتماعي. إنها علم إنساني مناضل، ممارسة صادمة، كان للتأثير الكبير لكل من ماركس، نتشه، فوكو والفلسفة النقدية، يد في معايشتها للحركة الاجتماعية الكبرى.
ثم كانت العودة الكبرى. عودة مجتمع حريص على استرجاع صفاته المميزة، يتحدث من جديد عن ال« خُلق »و« القيم »، ويجد نفسه على حين غرة، بعد الكثير مما قيل في معنى المدرسة، يطالب أن يكتسب التلميذ التعلّمات الأكثر أولوية اكتسابا جيدا. عودة شكلت اندحارا لنموذج مجتمعي راهن، أيضا، على الجمع بين الحرية، الانضباط والسعادة، وانتهى، بعد رفع الحجاب، بالكشف عن تجمهر مخيف للمصالح. لقد عانى المجال السياسي مما تراكم حوله من شكوك، وزادت موجة عدم الثقة من إضعافه .عودة ورجوع للحِكَم الداخلية … في هذا الخضم وجدت ال« علوم الاجتماعية » نفسها في وضعية مهتزة، فتراجعت بحكمة عن مجال الماكروسوسيولوجية، التي تكبلها الإيديولوجية، لتوجه اهتمامها بشكل خاص لمهام ميكروسوسيولوجية تغرف من ينابيع ال « واقعية ». وهكذا، بفضل التأثير المتواصل لعلم الاجتماع النقدي، ثم للواقعية السوسيولوجية، أمكن للمجتمع الفرنسي أن يتخلص من « الدوركايمية » (وفي هذا، علاوة على ذلك ،خدمة كبيرة للمنهج الذي وضعه أبو سوسيولوجيتنا [الفرنسية] ). ومنذ ذلك الحين وفي خضم بحثها عن نموذج إيبستيمولوجي قادر على جمع شتات أعضائها, لم يعد بإمكان علوم التربية إطلاقا الاقتناع بإطار معرفة اجتماعية تمثل في نفس الآن علما وضعيا للواقعة (اجتماعيا بالأساس) وفلسفة للمعنى (اجتماعية بالأساس) .
لقد أصبح من اللازم إذن البحث في موضع آخر. عندها شُرع في الحديث عن «طلب للمعنى», و«عودة القيم» بل وأيضا عن « فلسفة التربية», وذلك في إطار البحث, والحق يقال, عن طريقة سحرية لحل وضعية متأزمة , عوض الاقتناع و, بدرجة أقل, عن وجود إرادة مؤسساتية لخلق مناصب تسد هذه الحاجيات الجديدة: معلوم, ومنذ أفلاطون, انه حين تكون المدينة في حالة تشتت, فالخيار الوحيد يظل بين الفيلسوف المتوجه نحو الكوني والسفسطائي الذي يمارس دون مركب نقص لعبة المصالح؛ والواقع, والحالة هذه، أن جهودا تبذل لإسكات سقراط حماية للمصالح الخاصة..وتزيد المسألة تعقيدا حين نعلم أن الفكر الفرنسي لا يتوفر على تراث مرتبط بفلسفة التربية, بخلاف الفكر الألماني مع هربارت Herbart والإيطالي مع دجانتيل Gentile : إذ أن الإصلاح المرتجل الذي تقوم به حاليا مؤسساتنا المختصة في علوم التربية, يجد تفسيره أيضا في إحجام ال"فلسفة الفرنسية" عن القيام بدورها في الوقت المناسب, وأن صوت كوندورسيه ِCondorcet قد طوقه, بشكل واسع, صخب المؤامرات السياسية. علاوة على هذا, فإن الفلاسفة ذووا الصفة كانوا وسيظلون, من قلب الجامعة الفرنسية إلى أعلى هرم الدولة, أشد أعداء ال» معرفة التربوية « الحديثة صلابة, معلقين أن بها مزيجا مشكوكا فيه بين فكر –»شبه فلسفي« - حول المعنى, وتحليل –» شبه علمي«- للواقعة الإنسانية, من شأنه أن يلحق إساءة كبيرة لتلك ال"شمولية universités " في المعرفة التي حملوا شعلتها لمدة طويلة (والحال أن مجدهم قد انتهى). ثم علينا في الأخير,الآن ومستقبلا,أن لا نغفل تردد المربي الممارس الشبه الكلي في إبراز الوضعيـات والتحاليل ذات الصلة ب"علـم الأداء praxéologique ", وذلك, فقط, بغرض إيجاد حل مستند على التفكير النظري الصرف. غير أنه, هو الآخر, معذور تماما, مادام أن لا أحد كلمه في هذا الآمر. الوضعية راجعة بالتحديد إلى... تقليد خاص بفلسفة التربية.
أمام مطلب التفكير في المعنى في التربية, محاولات عديدة جربت, سيكون من المفيد تقديمها وتقييمها الآن
الفلسفة الفرنسية والتربية:
تعرف ال"فلسفة الفرنسية" بميلها إلى النزعة الإنسانية الفكرية الضارب في التاريخ: فهي لا تحب, ولا أحبت أبدا الصخب الممنهج لمثيلتها الألمانية, ولا امبريقية الفكر الإنجليزي المنفلتة دوما. إنها فلسفة عقلانية من حيث المبدأ, اجتماعية من حيث الطبع, ممزوجة بنفحة روحانية مقبولة, علمانية دون أن تكون متعلمنة laïciste, وضعية دون أن تكون متوضعنة positiviste, مستمرة في الحفاظ على "فكر إنساني" يصاحب رجات مجتمعنا العاجز عن الاستقرار،وذلك على الرغم من كل أسئلتها النقدية. من بين أعلام هذه ال"فلسفة الفرنسية" نجد أو ليفيي روبول Olivier Reboul, الذي كان وسيظل, من خلال مؤلفاته, الفيلسوف الأكثر دقة وبراعة. وسيبقى على الخصوص, بالنسبة لهؤلاء المهتمين بالتربية, مؤلف الكتب التي نسميها عن طواعية بال"مفضلة". فبعد أطروحته حول ألان Alain, ثم دراساته حول كانط و نيتشه, نشر سنة 1989 كتيبه "فلسفة التربية" الذي أصبح أحد دعامات مكتبة المربي المجرب, والذي يعتبر عصارة تأملاته في التربية من خلال اللغة.
لقد استطاع أوليفيي روبول، في لغة رصينة، أن يكون متميزا في تناوله مواضيع سيطر غالبا ما سيطر فيها اللبس على العقول, وبرع في حل التناقض المذهبي الذي كلما وقعنا في شركه أصبحنا أسيري الرؤى الأحادية, ثم انتهى برسم حدود الفكر الفلسفي في التربية، والذي من الممكن تلخيصه فيما أوعز به آلان : تعلموا التفكير أولا, بكل ما تحمله الكلمة من صرامة وغزارة, وسيأتي الباقي تباعا. إنها طريقة لرفض الكوجيتو الديكارتي "أنا أفكر, إذن أنا موجود". بل إن روبول لم يستسلم، بل أعلن أنه إذا كان: "التزامنا التقليدي, ذو النزعة الإنسانية, أمر يقيني, فإنه لا وجود لفلسفة دون التزام. وللقارئ حق الإجابة على هذا " .
لكن هل تكفي عمليتا تحليل المفاهيم, وترجيح المتناقضات, الضروريتان بكل تأكيد في عالم تعرف فيه العلوم التربوية غموضا فكريا متشددا، وذلك حتى تضع فلسفة التربية، عنوان الكتاب الذي صدر سنة 1989, نفسها في المسار الصحيح ؟ يجيب روبول,باعتباره أحد مريدي آلان النجباء, بالإيجاب. إلا أن السؤال الكبير –الذي يجب طرحه أولا على آلان- يتلخص في معرفة ما إذا كان التعليم بالمعنى الاشتقاقي للكلمة, أي من حيث اعتباره "إشارة" تجاه معرفة توافقية تتجاوز الاختلافات, كاف للإحاطة بالظاهرة التربوية. ألا يتعلق الأمر, لدى روبول, بفلسفة ذات علاقة ب –ما فوق, وحول – التربية, التي تكتسب أهميتها من حيث كون فعل التفكير لا يضر أبدا, على الرغم من أنها تتجنب الدخول في صلب الموضوع, بل ويمكنها, أيضا, بناء عالم يسمو إليه الفكر بعد تخليه عن ال"غشاء الجلدي"(1 ). المشكل الوحيد هنا كون المربي يتواجد في صراع مع الفكر الذي يتشكل بقلب ال"غشاء الجلدي", وأن انتماءه الفعلي إلى مدرسة المفكرين, مشروط بحسمه, بشكل أو بآخر, في المتناقضات المذهبية التي لها علاقة بالفعل: رغبة أم إجبار؟ تلقائية أم نقل؟ استمرارية أم قطيعة؟....
لقد كان بإمكان حوار التربية والفلسفة، الذي واكب عمل وفكر روبول, أن يتركز على تلك الإحالة إلى المجال القدسي التي شكلت الصياغة النهائية التي انتهى بها مؤلف سنة 1989 . فإذا كانت تربية الطفل, كمثيلتها الخاصة بالنوع الإنساني, هي في العمق "تربية للقدسي"–منسجمين في هذا "مع التقليد الفلسفي الذي يمثله كل من كونت, دوركايهم وآلان":أي باعتبارها تربية متطهرة من "قدسية السلف"-، فبإمكانها التساؤل حول ما إذا كانت المشكلة المطروحة في التربية ومن طرفها قد سبق حلها, وحول ما إذا كانت وضعية المقدس كما تم استيعابها لا تزدري الواقع المبتذل المستنجد هو الآخر بالمقدس, ولا تزدري "فجور (هذا) العالم يتحتم على المربي بالتحديد الإمساك به(2). ليست المسألة تماما مسألة وجود مقدس على الرغم من النزاعات المادية التي تحاصر الإنسان, وإنما مسألة اختراق هذا المقدس, في عالم تفرض فيه كل من الروحانية والمادية نفسيهما. فإذا ما تحقق المعنى في موضع ما, في الفكر, في الإله, في مادة مبجلة, فأي معنى يبقى بعد ذلك للتربية؟ إنها لن تأخذ معناها إلا في عالم المعنى فيه غير بديهي تماما(3).
هكذا إذن تم طرح مسألة وضعية الخطاب الفلسفي" الإنساني والتقليدي" في التربية: وستكون لنا مناسبة للعودة إليه.
العلوم الإنسانية, التقد الاجتماعي والتكوين:
إضافة لما سبق ظهرت شرذمة كبيرة، غداة نشوء علوم التربية بفرنسا, قررت المراهنة كلية على العلوم الإنسانية, والتخلص, بالتالي, من الخطاب الفلسفي وادعائه بالفكر الكوني. لم يكن هناك شك في أن لهم مبرراتهم المعقولة للقيام بهذا : فلقد شوهت إيديويوجية فلسفية بعينها في الماضي التربية؛ ومنذ ذلك الحين أصبح مطلوب من البيداغوجية أن تكون ذات نتائج وفعالة؛ و كان مجيء فوكو خلال السبعينات في وقته، حيث كشف, اعتمادا على دراسات تحليلية, قابلية العلوم الإنسانية لأن تكون في نفس الآن الميدان, والأداة, وأفق التحول الاجتماعي الحاصل.
ثمة إذن ارتياحا لتعدد مقاربات الواقعة التربوية، التي تستثمرها مجموع العلوم الإنسانية, دون الاهتمام كثيرا بمعرفة ما إذا كان هناك مبدأ يوجهها. لقد جعل الفكر التأملي من نفسه زوبعة نقدية, بينما وجهت الدعوة للتربية قصد الإبحار في المصب الكبير للعلوم الإنسانية: إذ بفضل استمرار نوع من الشعاع النقدي, ستكون له القدرة على تكوين معنى من ميادين عديدة. ثم ما الحاجة لطرح سؤال المعنى: إذ لم يتعلق الأمر في الواقع سوى بـممارسة " تصنع معنى". وتحصيلا, فقد كانت المرجعيات الثقافية الحاضرة هنا هم: فوكو, موران, النيتشماركسية, والفكر الما-بعد-حداثي: إنه ريح العصر. لن نجازف بذكر أسماء إضافية مادام التيار, بحكم طبيعته, لا يزال متعدد الأشكال, مشتت ومنفلت( [4]).
هذه الوضعية –التي تعد, على الرغم من كل الحركات الإلتوائية المتعددة المراجع, وضعية-تطرح أسئلة عدة .
بدءا هناك صعوبة الإمساك بال"وضعية التعدد". يتعلق الأمر برجل ممارس للعلم, إلا أن الانفتاح لن يتحقق ما لم يتم التخلي عن الحدود الايبيستمولوجية المرسومة لذاك الرجل بهدف بناء معرفته, وهي الحدود التي تضمن بشكل قطعي مثانة هذه المعرفة. فما دام صحيحا أن العمل العلمي يتطلب, قبل كل شيء, زهدا في النظر, فإن خطورة "فكر تأملي متعدد" الذي يسهّل القفز والمرور من علم إنساني إلى آخر, تتمثل، بكل تأكيد، في فقدان العلم لكل معنى, والانتهاء إلى غموض ثقافي. وقد فهم المدافعون عن "نظرة التعدد" الصعوبة, فيتشبثوا بفطنة ب "علم أم", يبوح باسمه أولا يبوح به, لكنه, في كل الحالات بدون استثناء, يوجه المقاربة المنهـجية لكل علـم من تلك العـلوم (5). عندها سيتحتم على كل خطوة أن تبرر مسلمة انطلاقها, بل كيف سيمكنها إذ ذاك الانفلات من استشراف رؤيتها, المحدودة حتما, في الاتجاه الذي يعتبر فيه الإنسان هذه الرؤية موجهة نحو هذا الاتجاه عوض ذاك؟ فالتفكير الفلسفي لم يخلق إلا على هذه الشاكلة, وذلك منذ أن لم يقتنع أفلاطون بتعدد مقاربات الفلاسفة phusikoi .
اللجوء إلى التكوين- ال"مستمر" منه على الخصوص- كبديل عن الفلسفة يطرح سؤالا آخر. العملية واضحة: نيسر لعملية التكوين أن تتضمن" معرفة تربوية" ف "تحقق" لنفسها معنى, لكن مع امتياز عن الفلسفة كون هذا المعنى لا يأتي من السماء, بل إنه" حاصل" لدى الإنسان, لدى كل واحد على حدة. المحاولة تستحق التمحيص, لكونها تطرح بالنسبة للفيلسوف مشكلة كبيرة مرتبطة بخطابه عن الكوني والداعي إلى الكونية, الذي يحجب في الواقع ما أنشئ من أجله بشكل مسبق والمتمثل في : الفرد موضوع التكوين وصيرورته المتميزة باستمرار. يمكن أولا التساؤل حول الفلسفات المتولدة عن التكوين المختار, كما قام بذلك ببراعة ميشل فابر Michel Fabre ضمن مؤلفه التكوين كموضوع للتفكير (1994). لكن يبقى مع ذلك السؤال الأساسي: أي شرعية ستكون لهذا المعنى الذي تحقق عندما يكون نتاج عملية تكوين؟ إذا كان التكوين يفترض مرونة في الطبيعة, وإذا كان من المفترض أن الحرية هي في العمق من هذه الطبيعة, مما يحرم من حيث المبدأ كل إكراه, فمن الصعوبة عدم تسجيل أن المعنى الحاصل هو من طبيعة شرطية, أوعلى الأقل أن هناك نتيجة تم التوصل إليها عبر التكوين وبواسطة الطريقة التي اختارها المكون بشكل ذاتي ليقود فعله في هذا الاتجاه عوض اتجاه آخر. هنا توجد "حلقة تكوين" التي تطرح، ومن المفروض أن تطرح، مشكلة للبحث التربوي(6).
نستنتج مما سبق أن كل خطوة تربوية هي عاجزة لوحدها عن استنباط قيمة للمعنى, وأنه من الضروري, دوما في إطار المعنى, التخلي عنها من أجل الارتقاء نحو أفق الـما يجب أن يكون, في قطيعة ابستمولوجية صريحة مع ما هو كائن ومع كل الأشكال الاجتماعية لفهم ما هو كائن . أفلاطون نفسه لم يتصرف بعكس ذلك حينما طلب إليه في عهده عقلنة المعنى فلسفيا.
الفلسفات وفلسفة التربية:
الأمر بين: الذين يطعنون في الفلسفة ضمن بنياتهم الفكرية, لا يزالون يقومون به وباستمرار باسم مبدأ فلسفي. فالتعدد المقارباتي للواقعة التربوية يفترض أن الواقعة ليست إلا واقعة. لكن هل يمكن أن تكون هناك واقعة لواقعة؟ إمكانية وجود تعدد في الرؤى, بغض النظر عن حماس كل واحد في الدفاع عن أفضلية وجهة نظره, تبرز,على العكس من ذلك, أن مَكمْن الفهم يوجد بعيدا عن الواقعة. لماذا إذن لا يتم الذهاب إلى أقصى حدود هذه ال"أمكنة الأخرى " ؟...
الصعوبة تكمن في ايجاد الغطاء .
إن الفلسفة, ومنذ أن أخذت طريقها التاريخي, اقترحت عددا مهما من هذهالغطاءات.فهل يكفي أن نلصق بها التربية لننتج فلسفة للتربية؟ البعض يرى ذلك, و يجعلون فلسفة التربية تنتعل أحذية الفينومينولوجيا, أو الفلسفة التأويلية, أو الفلسفة التحليلية, أو الشخصانية, أو الماركسية أو غيرها. وبهذا ستكون لدينا فلسفات للتربية (7).
هنا أيضا يشكل التعدد مشكلة, حيث أن لكل فلسفته, بحسب ذوقه وتصوراته الثابتة... لكننا ننسى أن هذه الفلسفات قد ولدت وتستمر في الوجود بفضل السؤال السقراطي, وأنه كان سؤالا تربويا إلى حد كبير . أما الفلسفات التي نشأت ابتداءا من أفلاطون فلا قيمة لها إلا في علاقتها بهذا السؤال, مما يدفع إلى التساؤل حول ما إذا كان ترك هذا السؤال التربوي في جوهره هو في الحقيقة استنفاذ له في فلسفة تاريخية أو أخرى،وبالتالي يؤدي إلى فقدان التحكم في معنى فعل التفكير الفلسفي؟ والحال أن المشكل الذي يظل قائما هو معرفة ما إذا كان من الممكن طرح السؤال، الذي كان سببا في نشوء الفلسفة، خارج الفلسفات التي تداولته عبر التاريخ, ابتداء من الفلسفة الأفلاطونية. هذا غير ممكن بكل تأكيد, خصوصا وأننا لا نتوفر, على الأقل, على فلسفة لتربية أصيلة, والتي لن تكون سوى فلسفة للفعل السقراطي (لكن هل بإمكانها أن تتشكل دون أن تتحول بدورها إلى فلسفة تاريخية؟ ). في انتظار هذه اللحظة السعيدة, وإذا لم يكن ممكنا توفير الجهد بالمرور عبر الفلسفات القائمة, هل لا يزال أمل للقيام بذلك, على الأقل, بكيفية غير دوغمائية, غير احتوائية, وبطريقة تترك الإحساس باستمرار السؤال السقراطي في الوجود وفي مساءلة ال"نظام": إن نتنبه دوما إلى أن تلك الفلسفات –أيا كانت- تحافظ في منظورها إلى السؤال التربويي على الطابع الأداتي الذي اضطلع به منذ البدء.
ما يبقى واجبا نقاشه الآن هو استعمال هذه الفلسفات من قبل بعض غير المتفلسفين, أوبعض الزملاء المتخصصين في علم من العلوم الإنسانية، يعانون بدورهم من مشكل المعنى, ويختلقون لأنفسهم "فلسفة جاهزة للأخذ"، اعتمادا على هذا المذهب الشائع أو ذاك. ولن تكون مفاجأة أن نراهم يتوجهون برغبة إلى "الفلسفات التفسيرية" –الفينومينولوجيا, التأويلية والفلسفة التحليلية- مادامت أنها تتميز بالجمع بين تحليل الواقعة و"استخراج المعنى". حينها سنتوفر على "فلسفة للعلوم الإنسانية" تلائم تماما خطوات المنهج التربوي الذي يربط بوضوح بين الواقعة والمعنى. في المقام الأول لابد من نسيان أن القول الفلسفي ليس, ولم يكن ابدا "وليد هذا العالم". نعلم هذا منذ أفلاطون, الذي جعل من بحث سقراط في هذا الشأن مبحثا, في مقابل المشروع السفسطائي الذي أراد أن يكون مرتبطا ارتباطا وثيقا بالواقعة الإنسانية: فالفلسفة لا تبدأ إلا في اللحظة التي تحدث فيها القطيعة مع المحسوس, مع الوقائع, مع الملاحظ والقابل للتجربة. بل إن أرسطو نفسه حين يؤاخذ على أستاذه (بل الأصح على ال"أفلاطونيين", الذين تتفاوت درجة ولائهم له ) كونه استبدل العالم الحسي بعالم عقلي, معتبرا الخسارة الكبرى لمردودية التطبيق, فإنه لم يتخلى عن القطيعة المؤسسة للفلسفة. وغالبا ما ننسى أن فينومينولوجية هوسرل Husserl , وتأويلية كادامير Gadamer وشخصانية مونييهMounier , لم تتأسس لتفصح عن ما هو كائن, بل لتقوم بعملية التأسيس، مما هو كائن بكل تأكيد (وكيف التفكير في غير ذلك؟) ،" لكن أيضا مما يتجاوز الكائن في جملته"، لباراديكم من "المفروض أن يؤسس لمعنى الإنسان في كونيته. جعل هذه التأملات ذات علاقة بتفسير مرتبط بظواهر هذا العالم, خيانة لجوهر فعل التفكير الفلسفي ذاته .
إلى هذا, من الممكن قياس الصعوبات التي تعترض "فلسفة للتربية"، أقيمت بواسطة اختزال متناسب للبعد المتعالي لقول الفيلسوف, وذلك بأخذ الفلسفة الشخصانية كنموذج .
طبيعي جدا أن يتوجه المربون إلى هذه الفلسفة,لما يحسون به من علاقة قرابة معها: ألا يرومون تطوير الفرد, بعيدا عن أبعاده البيولوجية, النفسية والاجتماعية, وفق أنموذج أمثل؟ هنا مكمن كل بيداغوجية فردانية, مفارقة, ممركزة على الطفل. غير أن المشكل ليس في اختيار هذه الفلسفة: المشكل في ملاءمتها لرؤية المبحوث عنه في ومن طرف التربية. مسؤولية المربي هي بالضبط تعهده نمو هذا الطفل الماثل أما في اتجاه تحققه كشخص, حيث من البديهي أن تتبوأ فكرة الشخص مكانة الصدارة في فعله. هنا يبرز السؤال المفتاح: هل لها هذه المكانة انطلاقا من محتوى, ومن واقع انطولوجي يخص الشخص القادر على تأسيس " نزعة شخصانية", سواء بالطبيعة أم بمساعدة ما فوق –طبيعية؟ من الضروري الإجابة بالنفي : ما سيقوم به الشخص بالنسبة لمربٍ مثلي هوما سيقوم به، في الواقع، الفرد نفسه" الماثل أمامي. فبالمراعاة إليه وبالمراعاة إلى ما يجب أن يصيره, والذي أجهله في واقعه, لا يمكن للشخصية إلا أن تكون واقعا صوريا محضا.نعم إن الأمر حقيقي إلى درجة أنني إذا طفقت , كمربي, أقول :" يجب أن يصير كذا أو كذا", فإني أبخسه حقه في الاحترام في شخصه, معتبرا إياه وسيلة لتحقيق هدف حددته بطريقة أو بأخرى عوضا عنه ("لصالحه " , هذا بديهي! )، وليس كغاية تمكنه, بشكل أساسي, من التصرف في مصيره بحرية طبيعته. بل إنه غالبا ما يتطلب الأمر التوجس من أن يستغل مفكرون, بشكل مقصود طبعا, إشراقية فكرة الشخصية ليضاعفوا الخطابات حول هذه القيمة من أجل ترسيخ سلطتهم في الواقع...(8)
ما يهم, إذن, هو تسليط الضوء على وضعية فكرة الشخصية في التربية : ألا يتعلق الأمر في الغالب بـصوت ريح flatus vocis , أو بقناع ( per-sona ) يحتمي وراءه المربي ليفعل ما يريد؟.... والنتيجة أن فعله, في غياب هذه الفكرة, يظل بدون معنى. ينبغي إذن منحه كل قوة الواجب-الوجود الصوري, والذي هو حقيقي في صوريته, لكنه فارغ من حيث المحتوى, كل المحتوى ما دام أنه يهم الكائنات الحقيقية, ويتصرف في النهاية كأمر خلقي في أفق فعل المربي. ستكون لنا إذ ذاك فرصة التعرف على كل خصائص الفكرة الكانطية(9).
لا بد من الاتفاق على أن هذه المقاربة الصورية لـفكرة الشخصية لن تتحقق دون أن تطرح للمارس البيداغوجي مشكلة حقيقية. فهذا الأخير يرغب في امتلاك معيار يوجه فعله, وتحديدٍ لل"تلميذ الحسن" يمكنه من التمييز بين ال"الحسن" وال"قبيح" في السلوكات التي يصادفها يوميا. ما الذي سيمكنه أن يصنع بمعيار صوري صرف؟ إن المسألة التي تتطلب منه عناية خاصة هي : ما هي الضمانة الموضوعية التي أمتلكها لأحكم على أن سلوكا "قبيحا" في ظاهره لن يسهل، بالنسبة وعكس الجميع، نمو الطفل نحو مصلحته؟ فعلماء النفس لم يفتؤوا يرددون أن خرق القانون يلعب دورا حاسما في مرور الطفل إلى سن الرشد, وأن ليس هناك استقلالية دون إحداث قطيعة مع حالة اعتبرت إلى ذلك الحين خيرة من الناحية الاجتماعية. فهل يحق لي حينها أن أغامر باعتماد معيار سيجعلني أتخلص مما هو, في عمق الأشياء, خير بالنسبة للطفل, وذلك فقط لأني أراه قبيحا؟.... وإذن, كيف يمكنني أن أوجه فعلي كمربي؟... يتطلب هذا بالتأكيد الحرص على الإنتباه إلى الطبيعة وإلى حركتها, مع مراقبة اللحظة بالضبط التي يتخلى فيها الطفل عن الطبيعة ليأخذ طابعه الإنساني: إنها صورة كونية بكل تأكيد, تتحدد بمجموعة من المستلزمات الصريحة, إلا أنها صورة تظل مادتها واقعة كل فرد. فإذا ما تم الاتفاق أن ميزة الراشد تكمن في قدراته على الحكم, واتخاذ القرار والتصرف بمسؤولية, فإن المادة التي ستطبق عليها هذه القدرات تبقى خاضعة لشروط كل واحد على حدة وبالظروف التي جعلت منه ما هو عليه في الواقع: فالطفل المعاق سيحققها بخلاف الطفل الذي لم تشوه طبيعته, المزاج الانفعالي بخلاف المزاج النشيط, الحساسية الأنثوية بخلاف العقلانية الذكورية.... إذا كانت القيمة تتمثل في الشخصية, فما الفائدة, الغير المشكوك فيها, من أقذمته ضمن محتوى ذي حساسية ينتج بالضرورة عن تقطيع اعتباطي لأمور "مرضية" وأخرى " غير مرضية "(10).
إن الفلسفة التي تم تشكيلها – وهنا أخذنا مثال النزعة الشخصانية, وكان من الممكن أن تكون التأويلية أو الفينومينولوجية- تعاني إذن بالنسبة للتربية من ضعف خِلْقي : إنها تحاول أن تطوق الإنسان بحبل عقلانيةٍ كلية واطلاقية, علما أن الجوهر الفعلي للتربية يكمن في تجاوز هذه العقلانية المعطاة إلى ما وراء كل إنسانية وكل نزعة إنسية, بحيث أنها بالأساس نافذة على اللانهائي(11). لامراء في إمكانية الـ"فلسفات" الاستمرار في الحضور, من موقع متميز, في خضم الـ"معرفة التربوية" ( مادام أن هذه المعرفة لا ينحصر وجودها فقط في العلوم الإيجابية التربوية), لكن لن تكون مفاجأة إذا ما اصطدمت هذه الفلسفات, في إطار تعددها, وتناقضاتها أيضا, بحاجز يسائل المربي: لم اختيار هذه الفلسفة دون غيرها ؟
من هنا وجب التأكيد على أن فلسفة التربية مشروع مستحيل, وأن هناك عتبة واحدة فقط لا يتردد البعض أمام اختراقها.
هل من الممكن قيام فلسفة للتربية ؟
من بين الذين احتقروا كل خطاب فلسفي عن التربية, نجد في الصدارة نانين شاربونيل Nanine Charbonnel التي تميزت بنفاذ رؤيتها, وشساعة معارفها وغزارة أعمالها, لكن أيضا بشجاعة موقفها الذي أثار حقد –جميع- هؤلاء الذين خدشت كرامتهم في ميدان "علوم التربية"، والتي قدمت مساهمة حاسمة في" الفكر التربوي", انطلاقا من نقطة من كيانها الدفاعي. من الضروري قراءة شاربونيل, واكتساب الجرأة لمواجهة استفزازها .
لقد استرعى انتباهنا مؤلفها الأساسي من أجل نقد العقل التربوي الصادر سنة 1988 , الذي سبقته دراسة حول رواية جوث Goethe ويلهالم مايستر Wilhelem Meister, والتي يعتبر أنموذجا paradigme للرواية التربوية, وقد كانت الدراسة تحت عنوان ذي دلالة :"الفكر التربوي المستحيل" (دوفال Deval ,1987 ), شكلت تقديما للعمل الضخم المتمثل في أطروحتها للدكتوراة المنشورة في ثلاثة أجزاء تحت عنوان رئيسي: المهمة العمياء : مغامرات الرمزية, المهم أن تكون نقيا و فلسفة النموذج.
إن الأطروحة, المستوحاة مباشرة من كانط ونزعته النقدية, تعيد تناول وتحسم في إعمال الفكر فيما راهنت عليه فلسفة التربية الذي سبق بلورته. فالبديل الوحيد الممكن بالنسبة لشاربوني يكمن إما في أن تقوم بمحاولات ترقيعية في مجال التطبيق, أو أن تستغرق في مطمحها الأحمق إلى أن تصبح خطابا ميتافيزيقيا حول الوجوب- الكينونة, والذي يتحول منذ الوهلة الأولى إلى خطاب ذي حمولة غير محتملة مشبعة بنزعة تقادمية ذي توجه أخلاقي. بل تجد نانين شاربونيل في رونيه جيرار René Girard سندها, خصوصا عندما تؤكد وتبرهن, استنادا على وثائق, أن خطاب التربية, بغض النظر عن كونه أخلاقيا , سيكولوجيا, دينيا أم ديداكتيكيا, خطاب للاستيعاب التماثلي على الدوام. فحينما يقول المربي هذا كائن فيجب ترجمتها على الفور بـيجب أن يكون وفهم ما معناه: كما أريد أن يكون. إن لغته ليست مقبولة,لا من الناحية العلمية ولا من الناحية الفلسفية, وما يمكن أن نأخذ منها مأخذ الجد ما ارتبط منها بالـمجاز, الذي يسمح بالحديث عن تربية بصيغة وكأن, لكن دون توهم أي قيمة انطولوجية لهذا الخطاب. بعد القيام بهذه الخطوة , رسمت شاربونيل دون تساهل جدولا ضم وظائف فلسفة التربية داخل محيط علوم التربية, وأبانت عن تفاهتها : ففلسفة التربية حين تجعل من نفسها متخصصة في العموميات, وتقدم للقيم والمرامي اقتراحات, تؤول البيداغوجيات وتؤرخ للأفكار البيداغوجية, فإنها تجد نفسها دوما أمام ما يعوقها كي تكون هي بذاتها, وتديم عليها حالة الوجود كطفيلية فطرية على جثة علوم التربية المتحللة (12).
ينتج عن هذا تركيز كبير على طريقة الحديث (في شأن) التربية, التي أصبحت تشكل مادتها. لقد قامت نانين شاربونيل, فعلا, بفحص كلي للغة المجازية التي تستعملها التربية, وأعلن دانييل هاملين Daniel Hameline على إثرها، لكن بأسلوب أكثر رهافة, أنها عند الافتتاحية تكون "كلها خطابات متصنعة", ثم بلور إيجابيا أطروحات في شأن ال"قول البيداغوجي", و"الدقة النسبية" وال"فقرات الشهيرة للذات وللآخر"(13). إن نية زمرة الفلاسفة الناقمين غير سليمة, هم الذين تورطوا في الخطيئة ووجدوا سبيلا لإنعاش شراستهم في البرهنة, المعللة على المستوى الفلسفي, على أن التربية لا تستطيع إنتاج سوى صور ثرثارة.
أطروحة شاربونيل مثينة, ويمكنها حقا أن تتأسس على تحاليل من هذا القبيل : فالطبيعة, لدى روسو, التي يستند عليها كل البيداغوجيين, واقع مزيف في حقيقة الأمر ( إن حالة الطبيعة, في رأي الجونيفي Genevois نفسه، لم يعد لها وجود, و ربما لم يسبق أن كان لها وجود, والتي لن يكون لها بالتأكيد أي وجود مستقبلا)؛ والحق أن صاحب إيميل لم يستعن بها إلا لاعتبارها فكرة قادرة على توجيه المؤلَّف التربوي, لكونها تسمح بـإصدار الحكم الصحيح على حالتنا الحالية. ومن الممكن صياغة تلميح روسو كالتالي:" من واجبك أيها المربي, في خضم الانحلال الاجتماعي, أن تظل وفيا للطبيعة". إلا أن هذا لا يجب أن يدفعنا إلى استنتاج وجود واقع تربية على الطبيعة : إذ أن هذا يعني أن نصوغ انطولوجيا، غير مبررة قانونيا، لما هو في مرتبة الوجوب-الكينونة الصرف. ما تقصد إليه شاربونيل أمر محمود: إذ ترغب في أن تحدث داخل الحقل التربوي ما يؤكد السلامة الإبستيمولوجية, كما فعل كانط سابقا على مستوى العلاقات بين العلم والفلسفة(14).
إلا أنه، في هذه الحالة، لابد من رفع تحدي وجود فراغ تربوي, والرد على النقد بنقد أكثر ملاءمة. فمما لا يقبل النقاش كون شاربونيل لا يمكنها إطلاقا أن تغمره ضمن صياغتها النقدية :فـثمة بيداغوجيين لا يعملون في جمع الأحذية ولا تفريغ قمامات الأزبال؛هناك أناس أذكياء، من العلماء أو الفلاسفة، الذين لهم رغبة في الكلام في التربية و أن يجعلوا منها موضوع دراسات, ربما تحدثوا عنها بشكل سيئ, لكنهم يتحدثون عن شيء ليس بالسياسة, ولا بالدين, ولا بالجمال ... ثم هل يمكن للخطاب المجازي نفسه أن يتشكل فقط في ارتباط بالواقعة التربوية حالة انعدام وجود مؤشر ذي معنى في "جهة ما"؟ الصورة هي صورة شيء له معنى مسبق في الواقعة.. بينما يظل السؤال القائم بالتأكيد مرتبطا بوضعية خطاب هذا المعنى : فنقدنا لفلسفـات التربية أبانت بشكل واضح أنه لا يمكن الاكتفاء بصياغة انطولوجيا للأفكار الفلسفية, فبالأحرى نتائج ملاحظةٍ سيكولوجية. من هذه الزاوية تبقى نقد شاربونيل بدون جدوى .
الحقيقة أن أطروحتها جزء لا يتجزأ من نقاش فلسفي واسع حول التربية. ألا ينحصر فعل المشروع التربوي في تسريع السيطرة على الـطبيعة بواسطة الحرية, أي في تسريع السيطرة على صيرورة الطبيعة في اتجاه تحقيق الحرية؟ إن مبدأ قابلية التربية لا يتحدث عن أكثر من ذلك . إلا أن المربي الممارس مطالب بالأخذ بعين الاعتبار الـوجود المسبقDéjà –là للطبيعة, الذي يتوجب على مشروعه في الحرية أن يتآلف معه دوما, بل ويمكنه أن يفرض عليه حدودا من غير الممكن اختراقها بشكل ملموس ( حالة المعوق مثلا). صحيح أن للمربي ميل قوي إلى اعتبار رغبته واقعا, وإلى بلورة فلسفة للتربية ليست في حقيقتها سوى تشخيص أخلاقي لحلم انتصار الحرية على الطبيعة, والذي يعتمد بالضرورة على إجراء من العلوم الإنسانية. لكن هل الوقوع في الفخ أمر محتوم؟ هل بإمكاننا أن نصوغ خطابا عن الواجب-الكينونة متعلق بالحرية دون الانغماس الكلي في المذهب الغائي أو النزعة السماوية؟.
إنه نقاش قديم حقا, نقاش فلسفي كبير تعقد، وإلى حد ما، ماانفك يتعقد, في لحظة معينة من تاريخ فكرنا الغربي, وبالضبط اللحظة التي تخلصت فيها الحرية من الطبيعة باحثة في نفس الوقت عن علاقة بينة جديد معها. هذه اللحظة هي التي يجب علينا الإمساك بها لدى هؤلاء الـ"فاتحين للحداثة" على قاعدة تربوية والمتمثلين في روسو, وكانط وباستلوتزي .
الفلسفة الحديثة و التربية:
لا مراء في كون كانط هو من ذهب بعيدا في مناقشة علاقة الطبيعة بالحرية عند مستهل عصرنا الحديث. فالـانتقادات الثلاثة ليست سوى مصوغاتها, ملخصة في المقدمة الخاصة بـنقد مهارة الحكم كما يلي : على الرغم من أن هناك هوة شاسعة قائمة بين مجال مفهوم الطبيعة , المحسوس, ومجال مفهوم الحرية, الما فوق-المحسوس, بحيث تنعدم تماما إمكانية المرور من الأول إلى الثاني (بواسطة الاستعمال النظري العقلي), وكأن الأمر يتعلق بعوالم مختلفة , فلا يجب أن يكون أي تأثير للأول على الثاني –أو يجب(التشديد من كانط) على الأقل على هذا الأخير أن يؤثر في الأول, أقصد أنه يجب على مفهوم الحرية أن يجعل هدفه المفروض عبر قوانينه متحققا في الواقع على مستوى العالم الحسي؛ بينما يجب (بمعنى الضرورة الفيزيقية) بالتالي أن يتم التفكير في الطبيعة بطريقة تتناسب شرعية صياغتها, على الأقل, مع إمكانية الأهداف المفروض تحققها في حضنها بحسب قوانين الحرية. من المفروض إذن أن يكون ثمة أساس للوحدة الما فوق حسية, الذي هو بالنسبة لمبدأ الطبيعة, وبالنظر إلى ما يشتمل عليه مفهوم الحرية من معنى تطبيقي, أساس وإن لم يستطع مفهومه بعد , لا نظريا ولا تطبيقيا, أن يقدم عنه معرفة, و خاص به , فإنه مع ذلك جعل من الممكن المرور من طريقة التفكير بحسب مبادئ هذا إلى طريقة التفكير بحسب مبادئ الآخر. يجب (بمعنى الضرورة الأخلاقية) أن يكون هناك ممرا من الحرية إلى الطبيعة, وبالتالي من المفروض (بمعنى الاقتضاء الفيزيقي ) أن يوجد ممر من مستوى الطبيعة نحو مستوى الحرية. فالغاية هي التي تعبر بالضبط عن هذا الاقتران بين الحرية والطبيعة. إلا أن هذه الغاية لن تستوعب بالطريقة المفروض أن تكون عليها الواقعة الإنسانية: إذ أن هذه الواقعة لا تزال من سجل الواجب .
كان أمل « علوم التربية »، بعد تأسيسها عام 1967 ضمن حركة اليوتوبية الاجتماعية، معايشة لحظات ميلاد المجتمع الجديد. فقد استطاعت هذه العلوم بالفعل أن تشق لها موقعا في ظل وضعية سياسة صعبة، كان بإمكان الموجة الإصلاحية، في خضمها، أن تعصف بتلك العلوم في أية لحظة. لا أحد ينكر أنها قد ساهمت في التحول الاجتماعي الكبير، قدمت« مناضلين بيداغوجيين » من كل جنس، كأدوات نقدية ووسائل إبداع : إذ أن ميل« المحافظين » للثأر من هذه العلوم كان كافيا للبرهنة على أن معنى « المعرفة الجديدة » متمثل في ذاك التحول ذاته. فبعد احتضانها لطروحات وموحيات التربية التي اعتقدت، معه بداية هذا القرن، في الثورة البيداغوجية ،تبنت علوم التربية، رأسا، مشروع تحول اجتماعي واسع، الفاعل الأساسي فيه هي المدرسة، وشرعت توا في الاشتغال في هذا الاتجاه بشجاعة ملفتة. لقد كان دخول المعرفة التربوية الجامعة سنة 1967 حدثا مميزا، قدم لها، دفعة واحدة، مجالا للإنعتاق ساعدها على بلورة كل استيـهامـاتها اليافعة، بل-لم لا؟ - مدعوة أخيرا بكل آمال تربية معينة، في استقلالية الراشد، إلى أن تستوعب ذاتها بعيدا عن كل تعريف تمليه دولة أو كنيسة .
في هذا السياق النضالي لعلوم التربية لم يتعلق الأمر بمسألة فلسفية و ولم يكن ليكون الأمر كذلك؛ كانت فلسفة التربية تتمثل، على وجه التحديد، في هذه المعرفة النامية، التي تتأسس في خضم النقد الاجتماعي، وتنتقد ذاتها إبان البناء الاجتماعي. إنها علم إنساني مناضل، ممارسة صادمة، كان للتأثير الكبير لكل من ماركس، نتشه، فوكو والفلسفة النقدية، يد في معايشتها للحركة الاجتماعية الكبرى.
ثم كانت العودة الكبرى. عودة مجتمع حريص على استرجاع صفاته المميزة، يتحدث من جديد عن ال« خُلق »و« القيم »، ويجد نفسه على حين غرة، بعد الكثير مما قيل في معنى المدرسة، يطالب أن يكتسب التلميذ التعلّمات الأكثر أولوية اكتسابا جيدا. عودة شكلت اندحارا لنموذج مجتمعي راهن، أيضا، على الجمع بين الحرية، الانضباط والسعادة، وانتهى، بعد رفع الحجاب، بالكشف عن تجمهر مخيف للمصالح. لقد عانى المجال السياسي مما تراكم حوله من شكوك، وزادت موجة عدم الثقة من إضعافه .عودة ورجوع للحِكَم الداخلية … في هذا الخضم وجدت ال« علوم الاجتماعية » نفسها في وضعية مهتزة، فتراجعت بحكمة عن مجال الماكروسوسيولوجية، التي تكبلها الإيديولوجية، لتوجه اهتمامها بشكل خاص لمهام ميكروسوسيولوجية تغرف من ينابيع ال « واقعية ». وهكذا، بفضل التأثير المتواصل لعلم الاجتماع النقدي، ثم للواقعية السوسيولوجية، أمكن للمجتمع الفرنسي أن يتخلص من « الدوركايمية » (وفي هذا، علاوة على ذلك ،خدمة كبيرة للمنهج الذي وضعه أبو سوسيولوجيتنا [الفرنسية] ). ومنذ ذلك الحين وفي خضم بحثها عن نموذج إيبستيمولوجي قادر على جمع شتات أعضائها, لم يعد بإمكان علوم التربية إطلاقا الاقتناع بإطار معرفة اجتماعية تمثل في نفس الآن علما وضعيا للواقعة (اجتماعيا بالأساس) وفلسفة للمعنى (اجتماعية بالأساس) .
لقد أصبح من اللازم إذن البحث في موضع آخر. عندها شُرع في الحديث عن «طلب للمعنى», و«عودة القيم» بل وأيضا عن « فلسفة التربية», وذلك في إطار البحث, والحق يقال, عن طريقة سحرية لحل وضعية متأزمة , عوض الاقتناع و, بدرجة أقل, عن وجود إرادة مؤسساتية لخلق مناصب تسد هذه الحاجيات الجديدة: معلوم, ومنذ أفلاطون, انه حين تكون المدينة في حالة تشتت, فالخيار الوحيد يظل بين الفيلسوف المتوجه نحو الكوني والسفسطائي الذي يمارس دون مركب نقص لعبة المصالح؛ والواقع, والحالة هذه، أن جهودا تبذل لإسكات سقراط حماية للمصالح الخاصة..وتزيد المسألة تعقيدا حين نعلم أن الفكر الفرنسي لا يتوفر على تراث مرتبط بفلسفة التربية, بخلاف الفكر الألماني مع هربارت Herbart والإيطالي مع دجانتيل Gentile : إذ أن الإصلاح المرتجل الذي تقوم به حاليا مؤسساتنا المختصة في علوم التربية, يجد تفسيره أيضا في إحجام ال"فلسفة الفرنسية" عن القيام بدورها في الوقت المناسب, وأن صوت كوندورسيه ِCondorcet قد طوقه, بشكل واسع, صخب المؤامرات السياسية. علاوة على هذا, فإن الفلاسفة ذووا الصفة كانوا وسيظلون, من قلب الجامعة الفرنسية إلى أعلى هرم الدولة, أشد أعداء ال» معرفة التربوية « الحديثة صلابة, معلقين أن بها مزيجا مشكوكا فيه بين فكر –»شبه فلسفي« - حول المعنى, وتحليل –» شبه علمي«- للواقعة الإنسانية, من شأنه أن يلحق إساءة كبيرة لتلك ال"شمولية universités " في المعرفة التي حملوا شعلتها لمدة طويلة (والحال أن مجدهم قد انتهى). ثم علينا في الأخير,الآن ومستقبلا,أن لا نغفل تردد المربي الممارس الشبه الكلي في إبراز الوضعيـات والتحاليل ذات الصلة ب"علـم الأداء praxéologique ", وذلك, فقط, بغرض إيجاد حل مستند على التفكير النظري الصرف. غير أنه, هو الآخر, معذور تماما, مادام أن لا أحد كلمه في هذا الآمر. الوضعية راجعة بالتحديد إلى... تقليد خاص بفلسفة التربية.
أمام مطلب التفكير في المعنى في التربية, محاولات عديدة جربت, سيكون من المفيد تقديمها وتقييمها الآن
الفلسفة الفرنسية والتربية:
تعرف ال"فلسفة الفرنسية" بميلها إلى النزعة الإنسانية الفكرية الضارب في التاريخ: فهي لا تحب, ولا أحبت أبدا الصخب الممنهج لمثيلتها الألمانية, ولا امبريقية الفكر الإنجليزي المنفلتة دوما. إنها فلسفة عقلانية من حيث المبدأ, اجتماعية من حيث الطبع, ممزوجة بنفحة روحانية مقبولة, علمانية دون أن تكون متعلمنة laïciste, وضعية دون أن تكون متوضعنة positiviste, مستمرة في الحفاظ على "فكر إنساني" يصاحب رجات مجتمعنا العاجز عن الاستقرار،وذلك على الرغم من كل أسئلتها النقدية. من بين أعلام هذه ال"فلسفة الفرنسية" نجد أو ليفيي روبول Olivier Reboul, الذي كان وسيظل, من خلال مؤلفاته, الفيلسوف الأكثر دقة وبراعة. وسيبقى على الخصوص, بالنسبة لهؤلاء المهتمين بالتربية, مؤلف الكتب التي نسميها عن طواعية بال"مفضلة". فبعد أطروحته حول ألان Alain, ثم دراساته حول كانط و نيتشه, نشر سنة 1989 كتيبه "فلسفة التربية" الذي أصبح أحد دعامات مكتبة المربي المجرب, والذي يعتبر عصارة تأملاته في التربية من خلال اللغة.
لقد استطاع أوليفيي روبول، في لغة رصينة، أن يكون متميزا في تناوله مواضيع سيطر غالبا ما سيطر فيها اللبس على العقول, وبرع في حل التناقض المذهبي الذي كلما وقعنا في شركه أصبحنا أسيري الرؤى الأحادية, ثم انتهى برسم حدود الفكر الفلسفي في التربية، والذي من الممكن تلخيصه فيما أوعز به آلان : تعلموا التفكير أولا, بكل ما تحمله الكلمة من صرامة وغزارة, وسيأتي الباقي تباعا. إنها طريقة لرفض الكوجيتو الديكارتي "أنا أفكر, إذن أنا موجود". بل إن روبول لم يستسلم، بل أعلن أنه إذا كان: "التزامنا التقليدي, ذو النزعة الإنسانية, أمر يقيني, فإنه لا وجود لفلسفة دون التزام. وللقارئ حق الإجابة على هذا " .
لكن هل تكفي عمليتا تحليل المفاهيم, وترجيح المتناقضات, الضروريتان بكل تأكيد في عالم تعرف فيه العلوم التربوية غموضا فكريا متشددا، وذلك حتى تضع فلسفة التربية، عنوان الكتاب الذي صدر سنة 1989, نفسها في المسار الصحيح ؟ يجيب روبول,باعتباره أحد مريدي آلان النجباء, بالإيجاب. إلا أن السؤال الكبير –الذي يجب طرحه أولا على آلان- يتلخص في معرفة ما إذا كان التعليم بالمعنى الاشتقاقي للكلمة, أي من حيث اعتباره "إشارة" تجاه معرفة توافقية تتجاوز الاختلافات, كاف للإحاطة بالظاهرة التربوية. ألا يتعلق الأمر, لدى روبول, بفلسفة ذات علاقة ب –ما فوق, وحول – التربية, التي تكتسب أهميتها من حيث كون فعل التفكير لا يضر أبدا, على الرغم من أنها تتجنب الدخول في صلب الموضوع, بل ويمكنها, أيضا, بناء عالم يسمو إليه الفكر بعد تخليه عن ال"غشاء الجلدي"(1 ). المشكل الوحيد هنا كون المربي يتواجد في صراع مع الفكر الذي يتشكل بقلب ال"غشاء الجلدي", وأن انتماءه الفعلي إلى مدرسة المفكرين, مشروط بحسمه, بشكل أو بآخر, في المتناقضات المذهبية التي لها علاقة بالفعل: رغبة أم إجبار؟ تلقائية أم نقل؟ استمرارية أم قطيعة؟....
لقد كان بإمكان حوار التربية والفلسفة، الذي واكب عمل وفكر روبول, أن يتركز على تلك الإحالة إلى المجال القدسي التي شكلت الصياغة النهائية التي انتهى بها مؤلف سنة 1989 . فإذا كانت تربية الطفل, كمثيلتها الخاصة بالنوع الإنساني, هي في العمق "تربية للقدسي"–منسجمين في هذا "مع التقليد الفلسفي الذي يمثله كل من كونت, دوركايهم وآلان":أي باعتبارها تربية متطهرة من "قدسية السلف"-، فبإمكانها التساؤل حول ما إذا كانت المشكلة المطروحة في التربية ومن طرفها قد سبق حلها, وحول ما إذا كانت وضعية المقدس كما تم استيعابها لا تزدري الواقع المبتذل المستنجد هو الآخر بالمقدس, ولا تزدري "فجور (هذا) العالم يتحتم على المربي بالتحديد الإمساك به(2). ليست المسألة تماما مسألة وجود مقدس على الرغم من النزاعات المادية التي تحاصر الإنسان, وإنما مسألة اختراق هذا المقدس, في عالم تفرض فيه كل من الروحانية والمادية نفسيهما. فإذا ما تحقق المعنى في موضع ما, في الفكر, في الإله, في مادة مبجلة, فأي معنى يبقى بعد ذلك للتربية؟ إنها لن تأخذ معناها إلا في عالم المعنى فيه غير بديهي تماما(3).
هكذا إذن تم طرح مسألة وضعية الخطاب الفلسفي" الإنساني والتقليدي" في التربية: وستكون لنا مناسبة للعودة إليه.
العلوم الإنسانية, التقد الاجتماعي والتكوين:
إضافة لما سبق ظهرت شرذمة كبيرة، غداة نشوء علوم التربية بفرنسا, قررت المراهنة كلية على العلوم الإنسانية, والتخلص, بالتالي, من الخطاب الفلسفي وادعائه بالفكر الكوني. لم يكن هناك شك في أن لهم مبرراتهم المعقولة للقيام بهذا : فلقد شوهت إيديويوجية فلسفية بعينها في الماضي التربية؛ ومنذ ذلك الحين أصبح مطلوب من البيداغوجية أن تكون ذات نتائج وفعالة؛ و كان مجيء فوكو خلال السبعينات في وقته، حيث كشف, اعتمادا على دراسات تحليلية, قابلية العلوم الإنسانية لأن تكون في نفس الآن الميدان, والأداة, وأفق التحول الاجتماعي الحاصل.
ثمة إذن ارتياحا لتعدد مقاربات الواقعة التربوية، التي تستثمرها مجموع العلوم الإنسانية, دون الاهتمام كثيرا بمعرفة ما إذا كان هناك مبدأ يوجهها. لقد جعل الفكر التأملي من نفسه زوبعة نقدية, بينما وجهت الدعوة للتربية قصد الإبحار في المصب الكبير للعلوم الإنسانية: إذ بفضل استمرار نوع من الشعاع النقدي, ستكون له القدرة على تكوين معنى من ميادين عديدة. ثم ما الحاجة لطرح سؤال المعنى: إذ لم يتعلق الأمر في الواقع سوى بـممارسة " تصنع معنى". وتحصيلا, فقد كانت المرجعيات الثقافية الحاضرة هنا هم: فوكو, موران, النيتشماركسية, والفكر الما-بعد-حداثي: إنه ريح العصر. لن نجازف بذكر أسماء إضافية مادام التيار, بحكم طبيعته, لا يزال متعدد الأشكال, مشتت ومنفلت( [4]).
هذه الوضعية –التي تعد, على الرغم من كل الحركات الإلتوائية المتعددة المراجع, وضعية-تطرح أسئلة عدة .
بدءا هناك صعوبة الإمساك بال"وضعية التعدد". يتعلق الأمر برجل ممارس للعلم, إلا أن الانفتاح لن يتحقق ما لم يتم التخلي عن الحدود الايبيستمولوجية المرسومة لذاك الرجل بهدف بناء معرفته, وهي الحدود التي تضمن بشكل قطعي مثانة هذه المعرفة. فما دام صحيحا أن العمل العلمي يتطلب, قبل كل شيء, زهدا في النظر, فإن خطورة "فكر تأملي متعدد" الذي يسهّل القفز والمرور من علم إنساني إلى آخر, تتمثل، بكل تأكيد، في فقدان العلم لكل معنى, والانتهاء إلى غموض ثقافي. وقد فهم المدافعون عن "نظرة التعدد" الصعوبة, فيتشبثوا بفطنة ب "علم أم", يبوح باسمه أولا يبوح به, لكنه, في كل الحالات بدون استثناء, يوجه المقاربة المنهـجية لكل علـم من تلك العـلوم (5). عندها سيتحتم على كل خطوة أن تبرر مسلمة انطلاقها, بل كيف سيمكنها إذ ذاك الانفلات من استشراف رؤيتها, المحدودة حتما, في الاتجاه الذي يعتبر فيه الإنسان هذه الرؤية موجهة نحو هذا الاتجاه عوض ذاك؟ فالتفكير الفلسفي لم يخلق إلا على هذه الشاكلة, وذلك منذ أن لم يقتنع أفلاطون بتعدد مقاربات الفلاسفة phusikoi .
اللجوء إلى التكوين- ال"مستمر" منه على الخصوص- كبديل عن الفلسفة يطرح سؤالا آخر. العملية واضحة: نيسر لعملية التكوين أن تتضمن" معرفة تربوية" ف "تحقق" لنفسها معنى, لكن مع امتياز عن الفلسفة كون هذا المعنى لا يأتي من السماء, بل إنه" حاصل" لدى الإنسان, لدى كل واحد على حدة. المحاولة تستحق التمحيص, لكونها تطرح بالنسبة للفيلسوف مشكلة كبيرة مرتبطة بخطابه عن الكوني والداعي إلى الكونية, الذي يحجب في الواقع ما أنشئ من أجله بشكل مسبق والمتمثل في : الفرد موضوع التكوين وصيرورته المتميزة باستمرار. يمكن أولا التساؤل حول الفلسفات المتولدة عن التكوين المختار, كما قام بذلك ببراعة ميشل فابر Michel Fabre ضمن مؤلفه التكوين كموضوع للتفكير (1994). لكن يبقى مع ذلك السؤال الأساسي: أي شرعية ستكون لهذا المعنى الذي تحقق عندما يكون نتاج عملية تكوين؟ إذا كان التكوين يفترض مرونة في الطبيعة, وإذا كان من المفترض أن الحرية هي في العمق من هذه الطبيعة, مما يحرم من حيث المبدأ كل إكراه, فمن الصعوبة عدم تسجيل أن المعنى الحاصل هو من طبيعة شرطية, أوعلى الأقل أن هناك نتيجة تم التوصل إليها عبر التكوين وبواسطة الطريقة التي اختارها المكون بشكل ذاتي ليقود فعله في هذا الاتجاه عوض اتجاه آخر. هنا توجد "حلقة تكوين" التي تطرح، ومن المفروض أن تطرح، مشكلة للبحث التربوي(6).
نستنتج مما سبق أن كل خطوة تربوية هي عاجزة لوحدها عن استنباط قيمة للمعنى, وأنه من الضروري, دوما في إطار المعنى, التخلي عنها من أجل الارتقاء نحو أفق الـما يجب أن يكون, في قطيعة ابستمولوجية صريحة مع ما هو كائن ومع كل الأشكال الاجتماعية لفهم ما هو كائن . أفلاطون نفسه لم يتصرف بعكس ذلك حينما طلب إليه في عهده عقلنة المعنى فلسفيا.
الفلسفات وفلسفة التربية:
الأمر بين: الذين يطعنون في الفلسفة ضمن بنياتهم الفكرية, لا يزالون يقومون به وباستمرار باسم مبدأ فلسفي. فالتعدد المقارباتي للواقعة التربوية يفترض أن الواقعة ليست إلا واقعة. لكن هل يمكن أن تكون هناك واقعة لواقعة؟ إمكانية وجود تعدد في الرؤى, بغض النظر عن حماس كل واحد في الدفاع عن أفضلية وجهة نظره, تبرز,على العكس من ذلك, أن مَكمْن الفهم يوجد بعيدا عن الواقعة. لماذا إذن لا يتم الذهاب إلى أقصى حدود هذه ال"أمكنة الأخرى " ؟...
الصعوبة تكمن في ايجاد الغطاء .
إن الفلسفة, ومنذ أن أخذت طريقها التاريخي, اقترحت عددا مهما من هذهالغطاءات.فهل يكفي أن نلصق بها التربية لننتج فلسفة للتربية؟ البعض يرى ذلك, و يجعلون فلسفة التربية تنتعل أحذية الفينومينولوجيا, أو الفلسفة التأويلية, أو الفلسفة التحليلية, أو الشخصانية, أو الماركسية أو غيرها. وبهذا ستكون لدينا فلسفات للتربية (7).
هنا أيضا يشكل التعدد مشكلة, حيث أن لكل فلسفته, بحسب ذوقه وتصوراته الثابتة... لكننا ننسى أن هذه الفلسفات قد ولدت وتستمر في الوجود بفضل السؤال السقراطي, وأنه كان سؤالا تربويا إلى حد كبير . أما الفلسفات التي نشأت ابتداءا من أفلاطون فلا قيمة لها إلا في علاقتها بهذا السؤال, مما يدفع إلى التساؤل حول ما إذا كان ترك هذا السؤال التربوي في جوهره هو في الحقيقة استنفاذ له في فلسفة تاريخية أو أخرى،وبالتالي يؤدي إلى فقدان التحكم في معنى فعل التفكير الفلسفي؟ والحال أن المشكل الذي يظل قائما هو معرفة ما إذا كان من الممكن طرح السؤال، الذي كان سببا في نشوء الفلسفة، خارج الفلسفات التي تداولته عبر التاريخ, ابتداء من الفلسفة الأفلاطونية. هذا غير ممكن بكل تأكيد, خصوصا وأننا لا نتوفر, على الأقل, على فلسفة لتربية أصيلة, والتي لن تكون سوى فلسفة للفعل السقراطي (لكن هل بإمكانها أن تتشكل دون أن تتحول بدورها إلى فلسفة تاريخية؟ ). في انتظار هذه اللحظة السعيدة, وإذا لم يكن ممكنا توفير الجهد بالمرور عبر الفلسفات القائمة, هل لا يزال أمل للقيام بذلك, على الأقل, بكيفية غير دوغمائية, غير احتوائية, وبطريقة تترك الإحساس باستمرار السؤال السقراطي في الوجود وفي مساءلة ال"نظام": إن نتنبه دوما إلى أن تلك الفلسفات –أيا كانت- تحافظ في منظورها إلى السؤال التربويي على الطابع الأداتي الذي اضطلع به منذ البدء.
ما يبقى واجبا نقاشه الآن هو استعمال هذه الفلسفات من قبل بعض غير المتفلسفين, أوبعض الزملاء المتخصصين في علم من العلوم الإنسانية، يعانون بدورهم من مشكل المعنى, ويختلقون لأنفسهم "فلسفة جاهزة للأخذ"، اعتمادا على هذا المذهب الشائع أو ذاك. ولن تكون مفاجأة أن نراهم يتوجهون برغبة إلى "الفلسفات التفسيرية" –الفينومينولوجيا, التأويلية والفلسفة التحليلية- مادامت أنها تتميز بالجمع بين تحليل الواقعة و"استخراج المعنى". حينها سنتوفر على "فلسفة للعلوم الإنسانية" تلائم تماما خطوات المنهج التربوي الذي يربط بوضوح بين الواقعة والمعنى. في المقام الأول لابد من نسيان أن القول الفلسفي ليس, ولم يكن ابدا "وليد هذا العالم". نعلم هذا منذ أفلاطون, الذي جعل من بحث سقراط في هذا الشأن مبحثا, في مقابل المشروع السفسطائي الذي أراد أن يكون مرتبطا ارتباطا وثيقا بالواقعة الإنسانية: فالفلسفة لا تبدأ إلا في اللحظة التي تحدث فيها القطيعة مع المحسوس, مع الوقائع, مع الملاحظ والقابل للتجربة. بل إن أرسطو نفسه حين يؤاخذ على أستاذه (بل الأصح على ال"أفلاطونيين", الذين تتفاوت درجة ولائهم له ) كونه استبدل العالم الحسي بعالم عقلي, معتبرا الخسارة الكبرى لمردودية التطبيق, فإنه لم يتخلى عن القطيعة المؤسسة للفلسفة. وغالبا ما ننسى أن فينومينولوجية هوسرل Husserl , وتأويلية كادامير Gadamer وشخصانية مونييهMounier , لم تتأسس لتفصح عن ما هو كائن, بل لتقوم بعملية التأسيس، مما هو كائن بكل تأكيد (وكيف التفكير في غير ذلك؟) ،" لكن أيضا مما يتجاوز الكائن في جملته"، لباراديكم من "المفروض أن يؤسس لمعنى الإنسان في كونيته. جعل هذه التأملات ذات علاقة بتفسير مرتبط بظواهر هذا العالم, خيانة لجوهر فعل التفكير الفلسفي ذاته .
إلى هذا, من الممكن قياس الصعوبات التي تعترض "فلسفة للتربية"، أقيمت بواسطة اختزال متناسب للبعد المتعالي لقول الفيلسوف, وذلك بأخذ الفلسفة الشخصانية كنموذج .
طبيعي جدا أن يتوجه المربون إلى هذه الفلسفة,لما يحسون به من علاقة قرابة معها: ألا يرومون تطوير الفرد, بعيدا عن أبعاده البيولوجية, النفسية والاجتماعية, وفق أنموذج أمثل؟ هنا مكمن كل بيداغوجية فردانية, مفارقة, ممركزة على الطفل. غير أن المشكل ليس في اختيار هذه الفلسفة: المشكل في ملاءمتها لرؤية المبحوث عنه في ومن طرف التربية. مسؤولية المربي هي بالضبط تعهده نمو هذا الطفل الماثل أما في اتجاه تحققه كشخص, حيث من البديهي أن تتبوأ فكرة الشخص مكانة الصدارة في فعله. هنا يبرز السؤال المفتاح: هل لها هذه المكانة انطلاقا من محتوى, ومن واقع انطولوجي يخص الشخص القادر على تأسيس " نزعة شخصانية", سواء بالطبيعة أم بمساعدة ما فوق –طبيعية؟ من الضروري الإجابة بالنفي : ما سيقوم به الشخص بالنسبة لمربٍ مثلي هوما سيقوم به، في الواقع، الفرد نفسه" الماثل أمامي. فبالمراعاة إليه وبالمراعاة إلى ما يجب أن يصيره, والذي أجهله في واقعه, لا يمكن للشخصية إلا أن تكون واقعا صوريا محضا.نعم إن الأمر حقيقي إلى درجة أنني إذا طفقت , كمربي, أقول :" يجب أن يصير كذا أو كذا", فإني أبخسه حقه في الاحترام في شخصه, معتبرا إياه وسيلة لتحقيق هدف حددته بطريقة أو بأخرى عوضا عنه ("لصالحه " , هذا بديهي! )، وليس كغاية تمكنه, بشكل أساسي, من التصرف في مصيره بحرية طبيعته. بل إنه غالبا ما يتطلب الأمر التوجس من أن يستغل مفكرون, بشكل مقصود طبعا, إشراقية فكرة الشخصية ليضاعفوا الخطابات حول هذه القيمة من أجل ترسيخ سلطتهم في الواقع...(8)
ما يهم, إذن, هو تسليط الضوء على وضعية فكرة الشخصية في التربية : ألا يتعلق الأمر في الغالب بـصوت ريح flatus vocis , أو بقناع ( per-sona ) يحتمي وراءه المربي ليفعل ما يريد؟.... والنتيجة أن فعله, في غياب هذه الفكرة, يظل بدون معنى. ينبغي إذن منحه كل قوة الواجب-الوجود الصوري, والذي هو حقيقي في صوريته, لكنه فارغ من حيث المحتوى, كل المحتوى ما دام أنه يهم الكائنات الحقيقية, ويتصرف في النهاية كأمر خلقي في أفق فعل المربي. ستكون لنا إذ ذاك فرصة التعرف على كل خصائص الفكرة الكانطية(9).
لا بد من الاتفاق على أن هذه المقاربة الصورية لـفكرة الشخصية لن تتحقق دون أن تطرح للمارس البيداغوجي مشكلة حقيقية. فهذا الأخير يرغب في امتلاك معيار يوجه فعله, وتحديدٍ لل"تلميذ الحسن" يمكنه من التمييز بين ال"الحسن" وال"قبيح" في السلوكات التي يصادفها يوميا. ما الذي سيمكنه أن يصنع بمعيار صوري صرف؟ إن المسألة التي تتطلب منه عناية خاصة هي : ما هي الضمانة الموضوعية التي أمتلكها لأحكم على أن سلوكا "قبيحا" في ظاهره لن يسهل، بالنسبة وعكس الجميع، نمو الطفل نحو مصلحته؟ فعلماء النفس لم يفتؤوا يرددون أن خرق القانون يلعب دورا حاسما في مرور الطفل إلى سن الرشد, وأن ليس هناك استقلالية دون إحداث قطيعة مع حالة اعتبرت إلى ذلك الحين خيرة من الناحية الاجتماعية. فهل يحق لي حينها أن أغامر باعتماد معيار سيجعلني أتخلص مما هو, في عمق الأشياء, خير بالنسبة للطفل, وذلك فقط لأني أراه قبيحا؟.... وإذن, كيف يمكنني أن أوجه فعلي كمربي؟... يتطلب هذا بالتأكيد الحرص على الإنتباه إلى الطبيعة وإلى حركتها, مع مراقبة اللحظة بالضبط التي يتخلى فيها الطفل عن الطبيعة ليأخذ طابعه الإنساني: إنها صورة كونية بكل تأكيد, تتحدد بمجموعة من المستلزمات الصريحة, إلا أنها صورة تظل مادتها واقعة كل فرد. فإذا ما تم الاتفاق أن ميزة الراشد تكمن في قدراته على الحكم, واتخاذ القرار والتصرف بمسؤولية, فإن المادة التي ستطبق عليها هذه القدرات تبقى خاضعة لشروط كل واحد على حدة وبالظروف التي جعلت منه ما هو عليه في الواقع: فالطفل المعاق سيحققها بخلاف الطفل الذي لم تشوه طبيعته, المزاج الانفعالي بخلاف المزاج النشيط, الحساسية الأنثوية بخلاف العقلانية الذكورية.... إذا كانت القيمة تتمثل في الشخصية, فما الفائدة, الغير المشكوك فيها, من أقذمته ضمن محتوى ذي حساسية ينتج بالضرورة عن تقطيع اعتباطي لأمور "مرضية" وأخرى " غير مرضية "(10).
إن الفلسفة التي تم تشكيلها – وهنا أخذنا مثال النزعة الشخصانية, وكان من الممكن أن تكون التأويلية أو الفينومينولوجية- تعاني إذن بالنسبة للتربية من ضعف خِلْقي : إنها تحاول أن تطوق الإنسان بحبل عقلانيةٍ كلية واطلاقية, علما أن الجوهر الفعلي للتربية يكمن في تجاوز هذه العقلانية المعطاة إلى ما وراء كل إنسانية وكل نزعة إنسية, بحيث أنها بالأساس نافذة على اللانهائي(11). لامراء في إمكانية الـ"فلسفات" الاستمرار في الحضور, من موقع متميز, في خضم الـ"معرفة التربوية" ( مادام أن هذه المعرفة لا ينحصر وجودها فقط في العلوم الإيجابية التربوية), لكن لن تكون مفاجأة إذا ما اصطدمت هذه الفلسفات, في إطار تعددها, وتناقضاتها أيضا, بحاجز يسائل المربي: لم اختيار هذه الفلسفة دون غيرها ؟
من هنا وجب التأكيد على أن فلسفة التربية مشروع مستحيل, وأن هناك عتبة واحدة فقط لا يتردد البعض أمام اختراقها.
هل من الممكن قيام فلسفة للتربية ؟
من بين الذين احتقروا كل خطاب فلسفي عن التربية, نجد في الصدارة نانين شاربونيل Nanine Charbonnel التي تميزت بنفاذ رؤيتها, وشساعة معارفها وغزارة أعمالها, لكن أيضا بشجاعة موقفها الذي أثار حقد –جميع- هؤلاء الذين خدشت كرامتهم في ميدان "علوم التربية"، والتي قدمت مساهمة حاسمة في" الفكر التربوي", انطلاقا من نقطة من كيانها الدفاعي. من الضروري قراءة شاربونيل, واكتساب الجرأة لمواجهة استفزازها .
لقد استرعى انتباهنا مؤلفها الأساسي من أجل نقد العقل التربوي الصادر سنة 1988 , الذي سبقته دراسة حول رواية جوث Goethe ويلهالم مايستر Wilhelem Meister, والتي يعتبر أنموذجا paradigme للرواية التربوية, وقد كانت الدراسة تحت عنوان ذي دلالة :"الفكر التربوي المستحيل" (دوفال Deval ,1987 ), شكلت تقديما للعمل الضخم المتمثل في أطروحتها للدكتوراة المنشورة في ثلاثة أجزاء تحت عنوان رئيسي: المهمة العمياء : مغامرات الرمزية, المهم أن تكون نقيا و فلسفة النموذج.
إن الأطروحة, المستوحاة مباشرة من كانط ونزعته النقدية, تعيد تناول وتحسم في إعمال الفكر فيما راهنت عليه فلسفة التربية الذي سبق بلورته. فالبديل الوحيد الممكن بالنسبة لشاربوني يكمن إما في أن تقوم بمحاولات ترقيعية في مجال التطبيق, أو أن تستغرق في مطمحها الأحمق إلى أن تصبح خطابا ميتافيزيقيا حول الوجوب- الكينونة, والذي يتحول منذ الوهلة الأولى إلى خطاب ذي حمولة غير محتملة مشبعة بنزعة تقادمية ذي توجه أخلاقي. بل تجد نانين شاربونيل في رونيه جيرار René Girard سندها, خصوصا عندما تؤكد وتبرهن, استنادا على وثائق, أن خطاب التربية, بغض النظر عن كونه أخلاقيا , سيكولوجيا, دينيا أم ديداكتيكيا, خطاب للاستيعاب التماثلي على الدوام. فحينما يقول المربي هذا كائن فيجب ترجمتها على الفور بـيجب أن يكون وفهم ما معناه: كما أريد أن يكون. إن لغته ليست مقبولة,لا من الناحية العلمية ولا من الناحية الفلسفية, وما يمكن أن نأخذ منها مأخذ الجد ما ارتبط منها بالـمجاز, الذي يسمح بالحديث عن تربية بصيغة وكأن, لكن دون توهم أي قيمة انطولوجية لهذا الخطاب. بعد القيام بهذه الخطوة , رسمت شاربونيل دون تساهل جدولا ضم وظائف فلسفة التربية داخل محيط علوم التربية, وأبانت عن تفاهتها : ففلسفة التربية حين تجعل من نفسها متخصصة في العموميات, وتقدم للقيم والمرامي اقتراحات, تؤول البيداغوجيات وتؤرخ للأفكار البيداغوجية, فإنها تجد نفسها دوما أمام ما يعوقها كي تكون هي بذاتها, وتديم عليها حالة الوجود كطفيلية فطرية على جثة علوم التربية المتحللة (12).
ينتج عن هذا تركيز كبير على طريقة الحديث (في شأن) التربية, التي أصبحت تشكل مادتها. لقد قامت نانين شاربونيل, فعلا, بفحص كلي للغة المجازية التي تستعملها التربية, وأعلن دانييل هاملين Daniel Hameline على إثرها، لكن بأسلوب أكثر رهافة, أنها عند الافتتاحية تكون "كلها خطابات متصنعة", ثم بلور إيجابيا أطروحات في شأن ال"قول البيداغوجي", و"الدقة النسبية" وال"فقرات الشهيرة للذات وللآخر"(13). إن نية زمرة الفلاسفة الناقمين غير سليمة, هم الذين تورطوا في الخطيئة ووجدوا سبيلا لإنعاش شراستهم في البرهنة, المعللة على المستوى الفلسفي, على أن التربية لا تستطيع إنتاج سوى صور ثرثارة.
أطروحة شاربونيل مثينة, ويمكنها حقا أن تتأسس على تحاليل من هذا القبيل : فالطبيعة, لدى روسو, التي يستند عليها كل البيداغوجيين, واقع مزيف في حقيقة الأمر ( إن حالة الطبيعة, في رأي الجونيفي Genevois نفسه، لم يعد لها وجود, و ربما لم يسبق أن كان لها وجود, والتي لن يكون لها بالتأكيد أي وجود مستقبلا)؛ والحق أن صاحب إيميل لم يستعن بها إلا لاعتبارها فكرة قادرة على توجيه المؤلَّف التربوي, لكونها تسمح بـإصدار الحكم الصحيح على حالتنا الحالية. ومن الممكن صياغة تلميح روسو كالتالي:" من واجبك أيها المربي, في خضم الانحلال الاجتماعي, أن تظل وفيا للطبيعة". إلا أن هذا لا يجب أن يدفعنا إلى استنتاج وجود واقع تربية على الطبيعة : إذ أن هذا يعني أن نصوغ انطولوجيا، غير مبررة قانونيا، لما هو في مرتبة الوجوب-الكينونة الصرف. ما تقصد إليه شاربونيل أمر محمود: إذ ترغب في أن تحدث داخل الحقل التربوي ما يؤكد السلامة الإبستيمولوجية, كما فعل كانط سابقا على مستوى العلاقات بين العلم والفلسفة(14).
إلا أنه، في هذه الحالة، لابد من رفع تحدي وجود فراغ تربوي, والرد على النقد بنقد أكثر ملاءمة. فمما لا يقبل النقاش كون شاربونيل لا يمكنها إطلاقا أن تغمره ضمن صياغتها النقدية :فـثمة بيداغوجيين لا يعملون في جمع الأحذية ولا تفريغ قمامات الأزبال؛هناك أناس أذكياء، من العلماء أو الفلاسفة، الذين لهم رغبة في الكلام في التربية و أن يجعلوا منها موضوع دراسات, ربما تحدثوا عنها بشكل سيئ, لكنهم يتحدثون عن شيء ليس بالسياسة, ولا بالدين, ولا بالجمال ... ثم هل يمكن للخطاب المجازي نفسه أن يتشكل فقط في ارتباط بالواقعة التربوية حالة انعدام وجود مؤشر ذي معنى في "جهة ما"؟ الصورة هي صورة شيء له معنى مسبق في الواقعة.. بينما يظل السؤال القائم بالتأكيد مرتبطا بوضعية خطاب هذا المعنى : فنقدنا لفلسفـات التربية أبانت بشكل واضح أنه لا يمكن الاكتفاء بصياغة انطولوجيا للأفكار الفلسفية, فبالأحرى نتائج ملاحظةٍ سيكولوجية. من هذه الزاوية تبقى نقد شاربونيل بدون جدوى .
الحقيقة أن أطروحتها جزء لا يتجزأ من نقاش فلسفي واسع حول التربية. ألا ينحصر فعل المشروع التربوي في تسريع السيطرة على الـطبيعة بواسطة الحرية, أي في تسريع السيطرة على صيرورة الطبيعة في اتجاه تحقيق الحرية؟ إن مبدأ قابلية التربية لا يتحدث عن أكثر من ذلك . إلا أن المربي الممارس مطالب بالأخذ بعين الاعتبار الـوجود المسبقDéjà –là للطبيعة, الذي يتوجب على مشروعه في الحرية أن يتآلف معه دوما, بل ويمكنه أن يفرض عليه حدودا من غير الممكن اختراقها بشكل ملموس ( حالة المعوق مثلا). صحيح أن للمربي ميل قوي إلى اعتبار رغبته واقعا, وإلى بلورة فلسفة للتربية ليست في حقيقتها سوى تشخيص أخلاقي لحلم انتصار الحرية على الطبيعة, والذي يعتمد بالضرورة على إجراء من العلوم الإنسانية. لكن هل الوقوع في الفخ أمر محتوم؟ هل بإمكاننا أن نصوغ خطابا عن الواجب-الكينونة متعلق بالحرية دون الانغماس الكلي في المذهب الغائي أو النزعة السماوية؟.
إنه نقاش قديم حقا, نقاش فلسفي كبير تعقد، وإلى حد ما، ماانفك يتعقد, في لحظة معينة من تاريخ فكرنا الغربي, وبالضبط اللحظة التي تخلصت فيها الحرية من الطبيعة باحثة في نفس الوقت عن علاقة بينة جديد معها. هذه اللحظة هي التي يجب علينا الإمساك بها لدى هؤلاء الـ"فاتحين للحداثة" على قاعدة تربوية والمتمثلين في روسو, وكانط وباستلوتزي .
الفلسفة الحديثة و التربية:
لا مراء في كون كانط هو من ذهب بعيدا في مناقشة علاقة الطبيعة بالحرية عند مستهل عصرنا الحديث. فالـانتقادات الثلاثة ليست سوى مصوغاتها, ملخصة في المقدمة الخاصة بـنقد مهارة الحكم كما يلي : على الرغم من أن هناك هوة شاسعة قائمة بين مجال مفهوم الطبيعة , المحسوس, ومجال مفهوم الحرية, الما فوق-المحسوس, بحيث تنعدم تماما إمكانية المرور من الأول إلى الثاني (بواسطة الاستعمال النظري العقلي), وكأن الأمر يتعلق بعوالم مختلفة , فلا يجب أن يكون أي تأثير للأول على الثاني –أو يجب(التشديد من كانط) على الأقل على هذا الأخير أن يؤثر في الأول, أقصد أنه يجب على مفهوم الحرية أن يجعل هدفه المفروض عبر قوانينه متحققا في الواقع على مستوى العالم الحسي؛ بينما يجب (بمعنى الضرورة الفيزيقية) بالتالي أن يتم التفكير في الطبيعة بطريقة تتناسب شرعية صياغتها, على الأقل, مع إمكانية الأهداف المفروض تحققها في حضنها بحسب قوانين الحرية. من المفروض إذن أن يكون ثمة أساس للوحدة الما فوق حسية, الذي هو بالنسبة لمبدأ الطبيعة, وبالنظر إلى ما يشتمل عليه مفهوم الحرية من معنى تطبيقي, أساس وإن لم يستطع مفهومه بعد , لا نظريا ولا تطبيقيا, أن يقدم عنه معرفة, و خاص به , فإنه مع ذلك جعل من الممكن المرور من طريقة التفكير بحسب مبادئ هذا إلى طريقة التفكير بحسب مبادئ الآخر. يجب (بمعنى الضرورة الأخلاقية) أن يكون هناك ممرا من الحرية إلى الطبيعة, وبالتالي من المفروض (بمعنى الاقتضاء الفيزيقي ) أن يوجد ممر من مستوى الطبيعة نحو مستوى الحرية. فالغاية هي التي تعبر بالضبط عن هذا الاقتران بين الحرية والطبيعة. إلا أن هذه الغاية لن تستوعب بالطريقة المفروض أن تكون عليها الواقعة الإنسانية: إذ أن هذه الواقعة لا تزال من سجل الواجب .