منزلة المطالعة في حياة الفيلسوف ج ج. روسو
يقول روسو في كتابه " الاعتراف " وهو عمل في السيرة الذاتية :" بدأت أشعر قبل أن أفكر، وهو قدر الإنسانية العام، وقد جربت ذلك من غيري. فقد كنت أجهل من أنا إلى حدود 5 أو 6 سنوات. ولا أعرف كيف تعلمت القراءة وأتذكر أن من تأثير مطالعاتي الأولى أنني بدأت أعي ذاتي منذ ذلك الوقت. إنّ أمي تركت مجموعة من الروايات وقد بدأنا، أنا وأبي نقرأها بعد الغداء" (ص 36-37 . "الاعترافات" Poket 1996) .
بدأ روسو عن طريق المطالعة يعي ذاته "أحاسيسه ومشاعره"، قبل أن يعي بالعالم الخارجي من حوله.
لقد كان يقرأ أعلام النهضة في إيطاليا خاصة منهم Plutarque الذي ألف حول التاريخ الروماني بالأساس مثل كتابه " مشاهير الرجال Les hommes illustres " ، وقد علمته المطالعة أيضا التحاور مع أبيه. وهكذا بدأت تتكون لديه منذ الطفولة فضيلة الحوار والتعبير عن المشاعر والأفكار. وقد أصبحت هواية بل حبا جارفا إذ أنه قرأ إبان طفولته كل ما تضمه مكتبة La Tribu في مدينته.كما ساعدته المطالعة كذلك على تصور عوالم أخرى خيالية غير العوالم التي توجد في مرمى اليد والحواس بل شكلت شخصيته الميالة إلى العزلة نهائيا كما جاء في : الاعترافات " ص 76 من الطبعة المذكورة سابقا.
شغف روسو بالطبيعـــة :
تختلف الطبيعة لدى روسو عن كل ما اخترعه الإنسان من تقنيات أو سائل أو تصورات فكرية و معرفية، فما يعتبره بعض المفكرين والفلاسفة فضيلة الإنسان مثل العقل والتقنية واللغة يعتبره روسو اصطناعا ونتاج لما يسميه ملكة الاصطناع La faculté de se perfectionner . إنّ الطبيعة هي الأصل الإنساني المنسي والذي لا يمكن استرجاعه « فتقدم " الإنسان مثل الزمن غير قابل للرجوع irréversible.و شغف روسو بهذا الأصل المنسي يتخلل آثاره وحياته بصفة عامة منذ كان طفلا يتهجى الحرف حتى صار مفكرّا.
في شتاء 1730-1731 يحط روسو الرحال في جزيرة نوش تال السويسرية حيث يهتم بعالم النبات وهو اهتمام يتوفر على حرية الحركة وقد أعجب بلنيه Linné هذا " الملاحظ العظيم " كما يصفه في " الاعترافات " غير أنه يعيب عليه أنه كان يدرس النباتات في حديقة المخبر، أما هو فكان يحب أن يلاحظ النباتات على الطبيعة. يقول روسو :" أيتها الطبيعة! يا أمي ها أنا في مجال عنايتك. ليس هناك من بشر يمكن أن يفصل بيني وبينك".
بل إن شغف روسو بالطبيعة أي بما هو فطري و بما لم تصل إليه يد الإنسان ينسحب على كتابة السيرة الذاتية يقول عن كتابه " الاعترافات" وهو أول كتاب في السيرة الذاتية :" إنني أقوم بعمل ليس له سابق وتنفيذه لا يستطيع أن يكرره أحد، أريد أن أظهر إلى بني جنسي إنسانا حقيقيا مثلما هو في طبيعته، وهذا الإنسان هو أنا".
لقد فضل روسو دائما الطبيعة والعزلة على الحالة الاجتماعية التي هي حالة اصطناعية وليست فطرية كما يذهب إلى ذلك أرسطو مثلا. وهذه الفكرة تتخلل جميع مؤلفاته الأدبية والفلسفية:" هلويزة الجديدة" – " إميل " " العقد الاجتماعي " وقبل ذلك : "خطاب أصل اللامساواة" المنشور سنة (1755)
حول مؤلفــــه " أصل اللامساواة"
يأتي " خطاب في اصل وأسس اللامساواة بين الناس " الصادر سنة 1755 بعد خطاب آخر لروسو هو "خطاب حول العلوم والفنون" الصادر سنة 1750 وهما عملان الفهما روسو للمشاركة في مسابقتين اقترحتهما أكاديمية Dijon وقد نال الفيلسوف الجائزة عن " خطاب حول العلوم والفنون" في حين لم يحصل على أي جائزة عن الثاني أي " خطاب اللامساواة" ولكن روسو يعتبرأن خطابه الثاني يتجاوز مجرّد الرهان على الجائزة. يشترك الخطابان في كونهما يعتبران الفنون والصنائع والمعارف شوهت طبيعة الإنسان الأصلية. إن القدرة على الاصطناع La faculté de perfectionner se سبب ابتعاد الإنسان عن طبيعته الأصلية الأمرالذي سيعمل روسو على بيانه خاصة في كتابه " أصل اللامساواة ". وهو إجابة عن سؤال طرحته أكاديمية Dijon سنة 1753: ماهو أصل التفاوت بين الناس وهل يجيزه القانون الطبيعي؟Quelle est l'origine de l'inégalité parmi les hommes et si elle est autorisée par la lois naturelle?
يصف روسو السؤال بكونه سؤال خطير " Une grande question " كما يصف في" الاعترافات " تأثير هذا السؤال عليه بقوله :" لقد صدمني هذا السؤال فوجئت بجرأة هذه الأكاديمية عند طرحه. ولما كانت لها شجاعة طرحه فقد استطعت أن يكون لي شجاعة التفكير فيه" ( ص 145 من الطبعة المذكورة سابقا) .
ويذكر روسو أنه تابع التفكير في هذه المسألة داخل الغابات وبين الأشجار وفي الهواء الطلق مسترجعا حياة البشر الأولى متابعا تحوّلات التاريخ.
وقد بدا له أنّ البشر كلما ابتعدوا عن الأصل الطبيعي، غرقوا في الآلام والأمراض، يقول روسو في " الاعترافات" أيها السذج الذين يتذمرون دون انقطاع من الطبيعة، اعلموا أنّ كل الشرور تأتي منكم".
ـ انتهى ـ