نقصد بالفلسفة عموما ذلك الجهد المجدي الذي يبذله الإنسان بمطلق الحرية على مستوى الفكر من أجل فهم الذات والعالم ونبض التاريخ. وبهذا الاعتبار تشكل الفلسفة معرفة لأنها تنتج المعنى؛ وإستراتيجية للتفكير في وقت واحد. وهنا تحديدا مكمن قوتها وفرادتها فضلا عن عظمتها عبر التاريخ؛ بحسبان استطاعتها بناء الإشكاليات الحيوية، والوجيهة، ولإقدارها على النظر في المفاهيم إلى جانب إخصاب الاستفهامات اللاهبة التي يحركها قلق اللحظة الحضارية الباعث على التساؤل والسؤال، والإنكار والانفصال وهذه، بلا غرو، عمليات ذهنية تعكس، في جزء هام منها، إحدى نزوعات الحكمة بما هي نشاط فكري فعال، يطمح إلى خلق المفارقات، والانقلاب على التقليد بكل أشكاله وتمظهراته؛ وتأزيم المؤسسة بتعرية ما استقر من معتقدات وضروب السلطة الثاوية خلفها؛ وصنوف الأصنام التي تروج لها.
بهذا المعنى تكون الفلسفة بحق روح عصرها؛ وبذات المعنى، وبسواه أيضا، تضحى الفلسفة إنصاتا واعيا لنداءات عصرها، ومواكبة متمعنة لما تزخر به تلك النداءات من دلالات عميقة ومختلفة نصنعها نحن في تفاعلنا معه مادمنا نقطن في عملية الفهم.
إن الكوكبية the globalization بما هي ظاهرة متشعبة ومتشابكة، لا تتجسد تأثيراتها القوية في إعادة تشكيل العالم بصورة لم تكن معهودة، ولا في المجالات التكنولوجية والمالية(...) وإنما أيضا في الاختراق الجارف للتركيبات المجتمعية؛ والتغيير العنيف للمنظومات الفكرية، وخلخلة الأطر المرجعية، وإعادة صياغة الهويات جراء هشاشة الحواجز والأسوار التي تحمي الاقتصاديات، والثقافات الوطنية والمحلية من جهة، وجراء ضعف متانة المتاريس، والحدود الفاصلة بين المنظومات الثقافية من جهة ثانية.
واعتبارا للتفاعل الحاصل بين الدينامية الخارجية الكاسحة، والدينامية الداخلية النزاعة إلى التغيير، هب الفاعلون السياسيون الأساسيون في المغرب إلى مباشرة سلسلة من الإجراءات تعلن عن إرادة القطع الواعي مع نمط من الثقافة ظل سائدا؛ ثم مع مقومات نموذج مجتمعي(=المجتمع المخزني) بدا متجاوزا بفعل تحديات المرحلة؛ وعائقا أمام استتباب ركائز«مجتمع جديد» وسم ب«المجتمع الديمقراطي الحداثي» استجابة للتموقعات الجديدة التي يفرضها المساق الحضاري الجديد؛ ويتطلبها ميزان القوى الدولي الذي اتجه شطر رسم حدود فاصلة بين«الغرب والبقية»على حد تعبير كيشوري محبوباني.
تحدد النقط التالية بعض تأثيثات هذا المشروع المجتمعي:
تجربة «التناوب السياسي»التي ميزت المشهد السياسي المغربي خلال العشرية الأخيرة من القرن المنصرم؛ وما صاحب التجربة من مقولات ماانفك التساؤل بصددها يجثم علينا بكل حدة وقوة نحو: التوافق، والتراضي، والتعاقد، والتداول، والتغيير في إطار الاستمرارية(...).
المطارحات الفكرية المتعددة، والهامة بصدد مسألة «الانتقال الديمقراطي» بغاية تجاوز اللبنة الأولى المؤسسة، أي لحظة«التناوب السياسي» المومإ إليها، ورسم مواصفات مجتمع المستقبل الذي أريد له أن يكون«حداثيا».
«المفهوم الجديد السلطة» كإطار لخلق ثقافة إدارية جديدة غايتها تعزيز دولة الحق والقانون(...)
النقاشات المتعلقة ب«المجتمع المدني»كقوة متحركة وفاعلة؛ ووازنة أيضا، لا غنى عنها بمطلق الأحوال في عملية التغير الاجتماعي المأمولة؛ وفي تفعيل مشاريع التنمية المحلية، هذا إلى جانب ترويج ودعم الثقافة الحقوقية، وقيم المدنية، والمواطنية بين الأفراد و الجماعات(...).
«الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية» التي جعلت النقاش الفكري، والديني، والاجتماعي، والسياسي بصدد المرأة بشكل أخص،، والقضية النسائية بشكل أعم، تنتقل إلى نطاق أكثر اتساعا وهو المرتهن بالمؤسسة الأسرية في كليتها؛ وذلك بالنظر إلى كونها تشكل مجالا عريضا من مجالات المسألة الاجتماعية في مدلولها الشامل بالمغرب. وهو الأمر الذي ترتبت عليه المصادقة على «مدونة الأسرة» في مستوى أول؛ ثم اعتمادها دعامة محورية للتربية، والمواطنة، والرعاية الاجتماعية، والتضامن، والتكافل داخل المجتمع في مستوى ثان.
السعي الحثيث صوب تأهيل «الاقتصاد الوطني» بشكل يتوق إلى الاستجابة التدريجية لمتطلبات اقتصاد معولم تنتفي فيه إلى حد ما دولة الرفاه welfare state لتحل محلها مؤسسات وفاعلون جدد يدعمون المبادرة الفردية الحرة ويشيعون الثقافة المقاولاتية وأسلوب التشغيل الذاتي(...).
تفعيل«ميثاق التربية والتكوين» كتجسيد فعلي على أرض الواقع لـ«المبادرة الوطنية للتنمية البشرية»فعلى هذا الأساس اتجه النظر صوب التفكير؛ بصيغة أخرى، في مقومات السياسة التربوية، والتكوينية، والاجتماعية والاقتصادية بناء على قواعد تنهل من المبادئ التي تؤسس لعلاقات جديدة يكون سداها التكافؤ؛ ورداؤها التكامل، والتوازن بين منظومة التربية من جهة، وقطاع الإنتاج المادي من جهة أخرى.
وفي هذا الصدد يعبر نظام التدريس ب«المجزوءات»، كما «بيداغوجيا الكفايات»، عن إستراتيجية جديدة لبناء فرد-مواطن ذي أهلية تقدره على صناعة حاضره، وتسعفه على ابتكار وإبداع الحلول الممكنة للقضايا التي تعترضه، ومعالجتها بتمام الوعي وبمطلق الاستقلالية، و المسؤولية أيضا؛ فرد-مواطن واع بشروطه الذاتية ولحظته الحضارية المتنفذة وسياقها الكوني في ثوبه الجديد ليتسنى له تملك زمنه المستقبلي على أفضل نحو ممكن.
فضمن هذا المساق نستطيع أن نحيط بالمبررات الموضوعية لمأسسة الممارسة الفلسفية في المنهاج الدراسي الراهن للطورين التعليميين الثانوي التأهيلي والجامعي قصد إرساء حقل ثقافي ديناميكي؛ بمكنته صياغة ذهنية مرنة، تواصلية، ومنفتحة مع الغير المختلف والآخر المتعدد والمتنوع، ومنسجمة، ومندمجة في عصر لا هوية له.
إن العودة إلى الاعتراف بالحق في الفلسفة، وبأهمية علوم الإنسان داخل منظومة التربية والتكوين يشي؛ إلى حد ما، إلى صحوة وعي المؤسسة Institution وإقرارها بمشروعية الحكمة، وشرعية اللوغوس كقيمة، وقوة خلاقة منظمة للعالم كانت قد عطلتها سلطة التقليد. كما يشي إلى الإقرار بمنزلة العلم والمعرفة الحقة في بناء شخصية الفرد- المواطن.
فليست ثمة تنمية حقيقية من غير بناء شخصية الفرد –المواطن- على أرضية ثقافية وفكرية متينة تكون بوابتها للعبور نحو الاندماج الاجتماعيوتجعلها بالنتيجة قيمة مطلقة في حد ذاتها لا تقبل المساومة بأي حال من الأحوال؛ ونزاعة باستمرار إلى الارتماء في أحضان الزمن المستقبلي، من خلال تطوير ذاتها، وتفجير طاقاتها بتمام الحرية(...) فلا تكمن الحداثة في المؤسسات إلا عندما تؤطرها قيم حداثية يتشربها الفرد- المواطن عبر مسلسل التنشئة الاجتماعية الذي يجعله واعيا بمضامينها الإنسانية النبيلة؛ وبمقاصدها التنويرية. عندئذ وعندئذ فقط تضحى الحداثة موقفا فلسفيا وحضاريا معا تسم نظرته (=الفرد- المواطن) إلى ذاته مثلما تسم رؤيته للعالم؛ ومقولاته الفكرية عنه.
وتأسيسا على هذا فإن الذات الحداثية ذات مفكرة وشفافة، نزاعة إلى التحرر من سلطان التقليد بكل تثاقلاته؛ فضلا عن كونها نقدية إلى أبعد الحدود؛ وغير مطمئنة لزعم الأصنام بحسبانها مقطن الحقيقة، ومبيت اليقين.
ويساوق هذه الذاتية أيضا اعتبار العالم نسقا يخضع لترتيب مضبوط؛ وتحكمه قوانين ترتكز على العقل القادر وحده على سبر أغوار الطبيعة؛ واستقصاء أسرارها وخباياها وضبط ترابطاتها، وقواعد انتظاماتها، وتفهم الأنساق الثقافية، والرمزية السائدة، وتيارات التاريخ، وإيقاعات صيرورته.
فمتى تم اكتشاف معقولية الطبيعة، ومنطق اشتغال المؤسسات الاجتماعية، تحصل للناس جميعهم قفزات نوعية من الوعي، ودرجات متطورة من الاستقلالية والتقدم؛ وهذه بكل تأكيد هي أسمى درجات تحرر الإنسان.
يتبين من خلال هاته الورقة أن الحق في الفلسفة وفي علوم الإنسان لا يختلف في شيء عن باقي الحقوق الأساسية الضامنة لآدمية الفرد، لتحقيق المزيد من فعاليته، ووجوده، واندماجه في خضم مجتمعه. إن الفلسفة [وعلوم الاجتماع أيضا] كمعرفة استـنارية، ونقدية في وقت واحد لا يمكن أن تكون باليقين المبين إلا السند الفكري، والداعم الثقافي، والرافد المثري لمأسسة قيم ومقومات المجتمع الديمقراطي ، وشرطيات الانخراط في ثقافة الحداثة كثقافة للتغيير؛ والتجديد، والإبداع التي ليس الفرد- المواطن سوى عدتها، وقاعدتها، ونواتها الصلبة.
إحــالات
Russell(Bertrand) :1980, Problèmes de philosophie, Payot(p.b.p), Paris, p : 186
Huntington(Samuel.P) : 1991, Troisième Vague, les démocratisations de la fin du XX e siècle, Nouveaux Horizions- France.
بورقية (رحمة):2044، مواقف، قضايا المجتمع المغربي في محك التحول، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالمحمدية- مطبعة النجاح الجديدة، الطبعة الأولى، الدار البيضاء، المغرب، ص ص ص:101- 105- 106
سعيد(إدوارد.و):1983، تغطية الإسلام، ترجمة سميرة نعيم خوري، مؤسسة الأبحاث العربية، ش.م.م، بيروت، لبنان ، ص:35 و ص93.
Mahbubani(Kishore) : The West and the rest, the national Interest, summer, 1992 pp : 3-13
EL Yaâgoubi (Mohammed): 2001, les grandes particularités du nouveau concept de l’autorité, in, le Nouveau concept de l’autorité, pub. De la R.E.M.A.L.D série « thèmes actuels » N°25 Edit : Maghrébines. Casablanca, Maroc, pp : 17-29.
Bouasla(Ettibari) :2002, Auto- Emploi ,et entreprise familiale e, milieu urbain au Maroc , publications de la faculté ds lettres- rabat. Imp.Najah El Jadida, Casablanca, Maroc, voir chap VI PP : 99-102
طه(حسين)1993 مستقبل الثقافة في مصر دار المعارف، القاهرة، مصر، ص ص:66- 67.
Habermas (J) : 1985, le discours philosophique de la modernité Gallimard, p : 20.