ولعل معنى هذا أن الحيوية هي الفلسفة الحقيقية فعلا والمتميزة حقا التي تسند وتدعم البحث العلمي في علوم الإحياء، الفلسفة التلقائية النهارية للممارسة العلمية في البيولوجيا، ولكن الفلسفة التي لا تفتأ تتغير وتتحول في رؤيتها ومقولاتها بالترابط التام والعضوي مع تطور الممارسة العلمية نفسها. ولربما أن هذا هو الذي لم يدركه بعض كبار البيولوجيين في زماننا حينما رفضوا الحيوية جملة وتفصيلا كميتافيزيقا.
يود هذا المقال أن يعرض بالتحليل لأحد مفاهيم فلسفة التفكير البيولوجي، وهو مفهوم الحيوية. فلسفة التفكير البيولوجي، أي المبدأ العام أو نظام المبادئ النظرية التي تؤطر وتوجه الممارسة العلمية للبيولوجيا في إنتاجها للمعرفة بظواهر الحياة. إلا أن الحيوية قد عرفت، في تاريخ الفكر البيولوجي، وضعا هامشيا اعتبرت فيه عموما على أنها لا تعدو أن تكون مجرد ميتافيزيقا (أي أوهاما فارغة) بالية عديمة الجدوى بإطلاق في فهم وتفسير الحياة. وإذا كان هذا الموقف الفلسفي، لأنه فلسفي بمعنى ما، قد شكل طويلا قناعة راسخة عند مؤرخي البيولوجيا، بل حتى عند البيولوجيين أنفسهم، فإنه قد تعرض اليوم لإعادة نظر جذرية، نقدية تقويمية، أزالت عنه المسبقات التي لحقت به، وكشفت عن مضامين الأوصاف التحقيرية التي ألصقت به؛ ومن ثم بيان فعاليته والأهمية القصوى لدوره في تاريخ علم الحياة وممارسته.
ولكن، لم يكن لهذا العمل النقدي التقويمي أن يكون ولا أن يتم إلا ضمن رؤية لتاريخ التفكير البيولوجي تقوم على النقيض المطلق من الرؤية التي جعلت من الحيوية بالذات مجرد خيالات لا غير. إنها رؤية التاريخ الإبستمولوجي للعلوم كما بلور مفهومه جورج كانغلهم. فالحيوية، من هذا المنظور، هي حقا وفعلا فلسفة المعرفة البيولوجية، ضد الغائية والإحيائية والآلية وكل اختزال للحياة إلى ما ليس من الحياة في شيء. لذلك سيعتمد هذا التحليل على ما نعتقد أن أعمال كانغلهم صيرته، بخصوص هذا الموضوع، متجاوزا وغير قابل للتفكير.
إن الحيوية ليست فلسفة عامة عن "الحياة"، ولا هي ميتافيزيقا عن حدس صميمي بـ"حياة" الكون الطبيعي، على الأقل عندما يتعلق الأمر بالبيولوجيا. لأنه إذا كان من معنى دقيق للحيوية، فإنه لا يمكن أن يتأسس إلا انطلاقا من المعطيات الواقعية للممارسة البيولوجية، تفكيرا وبحثا وتجريبا.
نعم، يمكن أن تتكون، لدى الفلاسفة، فلسفة حيوية، وهي هنا تأمل فكري، على درجة ما من العمومية والعمق، في مشكلة الحياة، تأمل ينهض على معطيات ونتائج البحث البيولوجي بغية إعادة تركيبها في تصور نظري مجرد عن خصوصية الكائن الحي، وعدم كفاية الأدوات التحليلية لاستكشافه كما تستعمل في علوم المادة الجامدة. وشريطة ألا ينقلب هذا التصور إلى بيولوجيا فلسفية، التي لا يمكنها أن تكون غير مسخ نظري فظيع، فإن فلسفة من هذا النوع، حتى ولو كانت تحمل في طياتها بعدا إيديولوجيا ملازما، تظل تحمل معنى مشروعا من وجهة النظر الفلسفي.
وكانغلهم ليس بيولوجيا، ولا فيلسوفا للبيولوجيا؛ لذلك لن نجد عنده نظرية بيولوجية ذات أساس أو توجه حيوي، ولا فلسفة حيوية محددة. ولكن تدخله الحاسم في مشكلة الحيوية إنما يستند إلى أسس الممارسة الإبستمولوجية التاريخية لديه، بمعنى أن التفكير في الحيوية لا يستهدف، عنده، الدفاع عن صلاحية أي مبدأ حيوي مبلور أم لا، قد يكون كفيلا بما هو كذلك أن يعتمد لحل المشكلات العلمية التي تطرحها الحياة ضد مبادئ أخرى، اختزالية في جملتها، تتخذ من الآليات الفيزيو-كيماوية وسائل لإقامة المعرفة الموضوعية بالظواهر الحية؛ وإنما التفكير فيها يسعى، من منظور التاريخ الإبستمولوجي للعلم، إلى التقدير الدقيق لقيمتها الفكرية ودورها المعرفي كمتطلب أكثر منه كنظرية في تنشيط الإنتاج المعرفي في علوم الحياة. ولذلك، فإنه ليس من شأن القناعات الحيوية أن تولد الكسل أو الغباء الفكري، فتاريخ البيولوجيا يزخر بكثير من الأمثلة عن العكس. إن الحيوية تظهر، من هذه الزاوية، كتوجه للتفكير البيولوجي يكتسي دلالة إبستمولوجية غاية في الأهمية، أهم بدون شك من مرحلة معينة من مراحل ذلك التفكير، المرحلة التي سميت بـ"الآلية"، وحتى لو كان الوضع الراهن للمعرفة البيولوجية يقدم هذه المعرفة اليوم على أنها ذات طابع آلي صرف.
وبعبارة أخرى، فإن دفاع كانغلهم عن الحيوية إنما يعني بأنه يرى فيها "الفلسفة الواقعية والمتميزة التي تحرك الأبحاث المتقدمة في العلوم البيولوجية. وبعبارات باشلار، فإن الحيوية تمثل الفلسفة "النهارية" للبيولوجيين، الفلسفة التي تجد نفسها باستمرار، من حيث أنها كذلك، محاصرة من طرف فلسفة الفلاسفة والفلسفة الليلية للعلماء التي ليست سوى مسخا من الأولى".
والحقيقة أن إعادة الاعتبار للحيوية في ميدان علوم الحياة، في الوقت الذي لا ينظر إليها بعض كبار البيولوجيين إلا بعين الازدراء كميتافيزيقا عديمة الجدوى، إنما تندرج عند كانغلهم في سياق الانشغال الذي تولد لديه ضمن التعامل مع البيولوجيا من المنظور التاريخي الإبيستمولوجي الذي تكونت فيه إبستمولوجيته البيولوجية. ويتمثل هذا الانشغال في إبراز وتفكير "خصوصية" علم الحياة بالعلاقة مع العلوم الأخرى. "إن المعرفة البيولوجية هي الفعل الخلاق المتكرر دائما الذي تصير، بواسطته، فكرة العضوية أكثر فأكثر بالنسبة إلينا معاشا، نوعا من رؤية(…)، رؤية لا تفقد صلتها أبدا بالوقائع التجريبية". يمكن أن تتم المعرفة التحليلية بظواهر الحياة، وهي تتم فعلا في كثير من جوانبها، على أسس فيزيائية وكيميائية، بل رياضية؛ ولكن لا يمكنها أن تكون معرفة حقيقية بالحياة إلا بالقدر الذي تعتبر فيه خصوصية ما يميز الحي عن غير الحي (ظواهر المرض، والموت، والمساخة..) على أنه شيء ملازم، بالطبيعة والضرورة، لموضوعها ولميدان تكونها وممارستها. ولعل هذا ما يعنيه كانغلهم عندما يقول: "إن الذكاء لا يمكنه أن يطبق على الحياة إلا باعترافه بأصالة الحياة. فالتفكير في الكائن الحي ينبغي أن يأخذ من الحي (نفسه) فكرة حي(…). وإننا نظن بأنه، لكي نمارس الرياضايات يكفينا أن نكون ملائكة، ولكن لكي نمارس البيولوجيا، ولو بمساعدة الذكاء، فإننا نحتاج أحيانا لنشعر بأننا بهائم سذج". وإذا كان هذا يشكل مفارقة، وفيه ما يشبه المفارقة، فلربما إنها مفارقة علوم الحياة ذاتها؛ المفارقة الخاصة بها. ولعل في تفكير كانغلهم للحيوية بالذات ما يسمح بإضاءة هذه المفارقة في تميزها، وبالتالي تخصيصها كشيء يخصص البيولوجيا. إن البيولوجيا المفتونة بسحر ونفوذ العلوم الفيزيائية الكيميائية قد لا تقيم شيئا إيجابيا في معرفة الحياة، لأنها تضع نفسها في امتداد مباشر لتلك العلوم تلعب فيه دور مجرد تابع لا غير. إلا أن البيولوجيا، عندما تقدم ذاتها كذلك، أو عندما يراد لها أن تكون كذلك، فإنها تخاطر مخاطرة جسمية غير محسوبة العواقب، بفقدان موضوعها كليا، أو على الأقل بفقدان القيمة الأساسية لتميز موضوعها. وينتج عن ذلك أن البيولوجيا التي تهدف إلى أن تكون فعلا علما بالحي، أي التي تريد أن تكون مستقلة في موضوعها وفي طريقة تعاملها مع ذلك الموضوع، تجازف، دون أن تدعي بأن ليس فيها ما تفيده من علوم الطبيعة الأخرى، بأن تنعت وغالبا ما وصفت بـ"الحيوية" بمعنى تنقيصي واضح.
ولكن ينبغي ألا يعني هذا، على العكس، أن الحيوية "حقيقة"، لأنها كثيرا ما أنتجت ونشرت صورا وخيالات لم تكن من الحقيقة العلمية في شيء، ولا أنها يجب أن تشكل الفلسفة الكاملة والمكتملة التي تحتم على البيولوجيين أن يتبنوها، لأنها غالبا ما انغرست وتطورت في فضاء أقل الفلسفات عقلانية وصرامة. وإنما يعني فقط أنها قد لعبت، في تاريخ البيولوجيا، ولازالت تلعب من دون شك، دورا فلسفيا أساسيا هو الذي يجعل منها بالذات الفلسفة النهارية للعلماء، دور الموجه النظري والنقدي العام للمشكلات التي يجب أن تطرح وتحل على قاعدة أصالة الحياة ضدا على كل محاولات الاختزال، اختزال الحياة إلى ما لا صلة لها به؛ بل دور الحاجز الرئيسي الذي حال، على الرغم من كل المظاهر، دون تطاول الميتافيزيقا على ميدان البيولوجيا. ولكن دون أن يذهب التفكير بهذا الخصوص إلى حد اعتبار أن الحياة شيء مفارق، لا مادي، روحي أو ميتافيزيقي يستحيل أبدا تحديده وإخضاعه للدراسة التحليلية. الحيوية كمتطلب تقتضيه خصوصية الحياة، لا كمذهب أو نظرية: على هذا الأساس يتحدد العمق النظري لاهتمام كانغلهم بالحيوية، واحتلالها لديه موقعا استراتيجيا في نظام ممارسته لتاريخ العلوم البيولوجية.
وفي هذا الإطار بالذات، فإن التفكير الفلسفي يجب أن ينصرف، أول ما ينصرف، إلى فهم الحيوية التاريخية للتصور الحيوي. لأن ضرورة تفنيد الحيوية قد لا تعدو أن تكون اعترافا ضمنيا بحيوية الحيوية، حتى ولو نظر إليها كوهم. إن نظرة عامة على تاريخ الدراسة البيولوجية للكائن الحي تبين المكانة المتميزة التي تحتلها أسماء الحيويين على امتداد هذا التاريخ (من أبو قراط وأرسطو إلى دريش ومناكوف وغولدشتاين، مرورا ببيشا ولامارك وكلود برنار… الخ)، ولكنها تبين كذلك بأن التفكير، في هذه الدراسة، يظهر على أنه منقسم ومتذبذب: فالآلية والحيوية تصارعتا حول مشكلة البنيات والوظائف، والاتصال والانفصال، حول مشكلة تعاقب الأشكال الحية، والتشكل المسبق، والتخلق المتعاقب؛ حول مشكلة نمو الكائن الحي، والذرية والكلية، حول مشكلة الفرادة… الخ. فكيف ينبغي فهم هذا التعارض والانقسام؟ إن دراسة الكائن الحي، على مستوى كل ظواهره، لا يمكنها أن تتأسس على أي من هذين الاتجاهين المتعارضين، لسبب جوهري وهو أن "الحياة" تظهر صعبة التحديد ضمن إطار نظري أو منهجي صارم. فجدليتها تفرض على الفكر جدلية مماثلة يكون بموجبها مستعدا لاستقبال أي اكتشاف أو تحديد يناقض أو يكمل أو يطور القديم. ولعل هذا ما تقود إليه رؤية تاريخية مثل التي يصدر عنها كانغلهم وهو يعيد النظر في مشكلة الحيوية، وهي رؤية تتعارض مطلقا مع طريقة جاك مونو مثلا في عرضه للآلية والحيوية في المصادفة والضرورة: فمونو يعالج الحيوية والآلية في الفضاء الخالص للتزامن، بمعنى أن غياب البعد التاريخي للمشكلات، في عرضه، إنما يحصر بشكل جامد الدلالات والمعاني وينتج تقريرات آراء حصرية بدون أدنى فروقات؛ وهو الأمر الذي نجم عنه انعدام فهم جلي لعمق الوجود التاريخي للحيوية، وحيويتها المتجددة بما هي إدراك لمعنى العلاقة المتميزة بين الحياة وعلم الحياة.
ولعل من منظور البحث عن هذا المعنى، يلاحظ كانغلهم بأن الحيوية هي، مثلا، بيولوجيا الطب المتشكل في السلطة القسرية للأدوية. فنظرية أبو قراط في "التداوي الطبيعي"، التي سادت إلى القرن الثامن عشر وعلى امتداده، كانت تولي لرد فعل الجسم، في المرض، ولدفاعه الطبيعي عن نفسه، أهمية أكثر من البحث عن سبب المرض نفسه. لذلك كان "فن" التنبؤ بالمرض واستباقه أكثر تفوقا من فن التشخيص، وكانت العناية تولى للتنبؤ بمجرى المرض بقدر ما كانت تولى لتحديد السبب؛ لأن الطبيعة، في هذا التصور، كانت هي الطبيب الأول الذي يجب الاعتماد عليه. وذلك هو "الطب الانتظاري" كما يصفه ميشال فوكو مثلا في نشأة العيادة. وبهذا المعنى، يمكن القول بأن الحيوية والطبيعية هما هنا شيئان لا يمكنهما أن ينفصلا عن بعضهما، الشيء الذي يعني بأن الحيوية الطبية هي، في هذا الإطار، التعبير عن ثقة الكائن الحي في الحياة، أو عدم الثقة في السلطة التقنية على الحياة. وعليه تكون الحيوية هي هذه الثقة في هوية الحياة مع ذاتها في الكائن الحي الذي يعي بأنه يحيا. وإذن، يمكننا أن نقترح بأن الحيوية تترجم متطلبا دائما للحياة في الحي، والتطابق مع ذاتها للحياة المحايثة للحي". وإذا كانت الحيوية كذلك، أي أنها ترجمة لذلك المتطلب الأساسي، الأمر الذي يجعلها تلاقي صعوبات جمة في صياغته داخل تحديدات نظرية دقيقة، -ولعل هذا ما يعيبه عليها بالأساس منتقدوها الذين يتبنون بشكل أو بآخر التصور الآلي للظواهر-، فإن الآلية، على العكس من ذلك تترجم موقفا دائما للحي الإنساني من الحياة يرتقي، عندما يتعلق الأمر بالعلم، إلى درجة منهج صارم.
ولكن ما هي الآلية أو النزعة الآلية (أو المذهب الآلي لا فرق)؟
غالبا ما يفهم من الآلية، حينما يتعلق الأمر بالدراسة البيولوجية لبنية ووظائف الكائن الحي، التصور النظري الذي يقضي بأن الكائن الحي ليس، على هذين المستويين على الأقل، أكثر من كونه مجرد آلة تترابط فيها الأجزاء ميكانيكيا وتشتغل آليا أو هو شبيه إلى درجة عالية جدا بالآلة. من هنا التوجه الأحادي الجانب الذي حدا بالآليين، في الغالب الأعم وعلى قاعدة هذا التشبيه، إلى البحث، انطلاقا من الهيئة التي تتقدم عليها الآلة المصنوعة بنية واشتغالا، عن تفسير البنية المرئية وعمل العضوية الحية. إن الآلة، بصفة عامة، هي شيء محدد يصنعه الإنسان، وتتوقف وظائفها الأساسية على وجود آليات (ميكانيزمات) داخلها. والآلة هي هيئة تركيب بين أجزاء قابلة للتغيير والتشويه مع ترميم دوري لنفس الروابط بين الأجزاء. وفي كل آلة تكون الحركة متوقفة على تركيبها، بينما يكون الميكانيزم ذو صلة وثيقة بهيئاتها. وبطبيعة الحال، فإنه يمكن لميكانيزمات معينة أن تتركب فيما بينها بالتنضيض أو بالتركيب، فيمكن أن يقام ميكانيزم يغير هيئة ميكانيزم أول ويجعل الآلة قادرة بالتناوب على القيام بميكانيزمات متعددة، وهذا مثلا هو حال التغييرات التي يحدثها الإطلاق والكبح لجهاز العجلة الحرة في دراجة هوائية.
فكيف انطلاقا من هذه التحديدات البسيطة للحركة الآلية، يمكن تفسير أن الآلة والآلية شكلتا نموذجا أساسيا للتعامل مع بنية ووظائف العضوية الحية؟ يبدو أن الجواب بسيط عن هذا السؤال، لأن تمثل نموذج ميكانيكي عن الكائن الحي لا يستخدم آليات من النوع الحركي فقط؛ فالآلة، بالمعنى المشار إليه آنفا، لا تكفي ذاتها بذاتها، لأنها يجب أن تستقبل من خارجها حركة معينة تقوم هي بتحويلها. لذلك لا يمكن تصورها متحركة إلا مرتبطة بمصدر للطاقة.
إلا أنه لكي يكون هناك تفسير آلي للظواهر العضوية الحية، فإنه من الضروري، لا أن توجد الآلات بمعنى أجهزة أو مركبات حركية وحسب، ولكن أيضا أن توجد آلات بمعنى محركات تستمد طاقتها من مصدر خارجي غير العضلة الحيوانية. لذلك، فإن مماثلة العضوية الحية بالآلة إنما يرجع، جنيالوجيا، إلى أرسطو: "إنه لا جدال في أن أرسطو هو الذي وجد في صنع آلات الحصار العسكري كالمجانيق إمكانية مماثلة حركات الحيوان بحركات ميكانيكية آلية… وبالفعل، فإن أرسطو يماثل أعضاء الحركة الحيوانية بأجزاء من آلات الحرب كذراع منجنيق يرمي قذيفة، كما يماثل سريان هذه الحركة بحركة الآلات القادرة على رد طاقة مخزونة بعد تحريرها بالإطلاق، وهي الآلات التي كانت المجانيق تمثل نموذجا الأساسي يومئذ". ولكن، هل معنى هذا أن التفسير الآلي للظواهر البيولوجية عند ديكارت مثلا يستمد، تحت علاقة تأثير ما، مقوماته الأساسية من هذه المماثلة الأرسطية؟
إن هناك اختلافا أساسيا بين أرسطو وديكارت في تصور كل منهما للحركة الحيوانية. ولكن، رغم هذا الاختلاف، فإن مماثلة العضوية الحية بالآلة عند كلا الفيلسوفين يفترض، بصفة عامة، الصنع الإنساني لأجهزة يكون فيها الميكانيزم الآلي مرتبطا بمصدر للطاقة تستمر آثاره في الزمن مدة طويلة بعد انقطاع الجهد البشري أو الحيواني الذي ترده. إن المماثلة التي نتحدث عنها هنا ترتبط بشيئين أساسيين: وجود آلات تشتغل آلياتها في استقلال عن المصدر الأول الذي يشغلها من جهة، ومن جهة أخرى الوضع الذي توجد عليه حالة التقنية في عصر ما. من هذه الزاوية يمكن القول بأن ليس هناك أي تأثير لأرسطو على ديكارت في تشبيه الكائن الحي بالآلة، بمعنى أن ديكارت يمكنه أن يكون قد استعاد تصورا آليا بالمعنى الذي نفهم به الكلمة اليوم لأسباب تتعلق بأساسيات نظامه الفلسفي، وبندرة الإنتاج التقني في مجتمعه. وعليه، فإذا كان أرسطو يلتقي مع ديكارت في المماثلة الآلية، فإن ذلك يرجع إلى ظاهرة عامة ظلت شبه استثنائية هناك في اليونان القديمة، بينما آلت إلى وضع مغاير تماما في ظل شروط معرفية واجتماعية جذرية الاختلاف هنا في القرن السابع عشر. يقول كانغلهم بخصوص هذه الظاهرة: "طالما بقي الحي الإنساني أو الحيواني ملتصقا بالآلة، فإن تفسير العضوية الحية بواسطة الآلة لا يمكنه أن ينشأ، إن هذا التفسير لا يمكن تصوره إلا حين تصنع المهارة البشرية أجهزة تقلد الحركات العضوية كرمي القذيفة مثلا، أو حركة ذهاب وإياب منشار، وهي الحركة التي يستغني فعلها، عدا الصنع والإطلاق، عن الإنسان".
من هذا المنظور يطرح السؤال: إذا كان الأمر كذلك، فكيف يمكن تفسير الظهور، الواضح الجلي لتأويل ميكانيكي للظواهر البيولوجية عند ديكارت؟ كيف يجب فهم التبلور الدقيق لنظرية الحيوان –الآلة في تفكير ديكارت؟ هل يرجع إلى التغيير الجوهري الذي عرفته البنيات الاقتصادية والاجتماعية لمجتمع الغرب الحديث؟ أم يعود إلى بنية الفضاء المعرفي الذي تشكل في القرن السابع عشر والذي لعب فيه العلم الفيزيائي المريض الدور الأساسي؟
إن للنظرية الديكارتية علاقة حميمة بواقع التحولات المادية والفكرية التي شهدها القرن السابع عشر، ما في ذلك شك. ولكن، ما هي طبيعة هذه العلاقة؟ لقد ذهب البعض إلى تقرير أن ثورة ديكارت في مجال فلسفة التقنية إنما تفترض أساسا الثورة الفكرية التي تمخضت عن المسيحية. فلقد كان ينبغي، حسب هذا الطرح، أن يتصور الإنسان ككائن متعال على الطبيعة لكي يثبت حقه وواجبه في استغلال الطبيعة دون إحساس بقيمتها. فتثمين الإنسان يرتبط جوهريا باحتقار الطبيعة. ولقد كان ينبغي كذلك أن يكون الناس متساوين أصلا فيما بينهم كمخلوقات بشرية لكي تتبلور إمكانية تقنية استغلال الإنسان للطبيعة، مادام أن التقنية السياسية لاستغلال الإنسان للإنسان كانت مسألة منبوذة ومدانة في التفكير الديني للمسيحية. على هذا الأساس يفهم هذا البعض أن المسيحية هي الأصل في الفيزياء الديكارتية، بل إنها تشكل أصل أطروحة ديكارت في الإنسان سيد ومالك الطبيعة. وواضح أن مثل هذا التصور لا يفسر شيئا، لأن المسيحية نفسها قدمت نفسها، في صيغتها الأولى الوثوقية، كدين خلاص يحث الإنسان على العزوف عن مشاغل الدنيا من أجل التفرغ للعبادة والتقرب إلى الله. هذا بالإضافة إلى أن الاختراع التقني (كالبارود مثلا) لعب دورا تحريريا بالغ الأهمية في تاريخ الإنسان الغربي أكثر مما لعبته الوعوظ الدينية.
هل يكون التصور الآلي للعالم هو ترجمة إيديولوجية للواقع الاقتصادي المتمثل في انتشار وتنظيم المصانع والمعامل، وبالتالي سيادة القيمة التجريبية، الحسابية، للعمل؟ هذا ما يراه البعض حين يقرر بأن إرجاع كل قيمة إلى القيمة الاقتصادية هو الذي حدد قاعدة قيام التصور الآلي للحياة، وبالتالي رسم معالم الرؤية البورجوازية للعالم. وهكذا، فوراء نظرية الحيوان-الآلة ينبغي، حسب هذا البعض، أن نقرأ معايير الاقتصاد الرأسمالي الناشئ. وهناك من يرى، اعتمادا على ماركس، بأن تكميم فكرة العمل قد تم رياضيا قبل أن يتم اقتصاديا، وأنه لم يكن هناك في المعامل أي تقسيم للعمل، بل أن المعمل كان في الأصل عبارة عن مكان يجتمع فيه الحرفيون المؤهلون الذين كانوا متفرقين قبل. وإذن، فليس حساب القيمة الاقتصادية، وإنما تطور الآلية وصناعة الآلات هو الذي شكل السبب الرئيسي في التصور الآلي للعالم، علما بأن أصول هذا التصور ترجع إلى بداية عصر النهضة. ويتأسس على ذلك بأن ديكارت إنما يكون قد عقلن، بوعي، تقنية آلية أكثر مما يكون قد ترجم، بكيفية لا واعية، ممارسات الاقتصاد الرأسمالي. لأن الميكانيكا هي، بالنسبة إليه أساسا، نظرية في الآلات.
على أن هذه العقلنة إنما تجد الشروط النظرية لإمكانها داخل الإطار العام لما يسميه ميشال فوكو بـ"إبيستيمي العصر الكلاسيكي". إن أحد الجوانب الأساسية في تلك الإبيستيمي كان يتمثل في الوضع الذي آل إليه العالم في بداية القرن السابع عشر على إثر التحول الفكري والمعرفي الهائل الذي أحدثته الثورة العلمية. لقد وجد هذا القرن نفسه داخل كون مادي كان قد انقلب جوهريا مركز ثقله؛ كون غدا كل شيء فيه، من الأجرام السماوية إلى الأحجار البسيطة، خاضعا لقوانين الميكانيكا التي يترجمها الحساب. فلقد استبدلت الفيزياء كلام الوحي بلغة المنطق، ووضعت مكان الغموض والإبهام والشروح اللامتناهية للنصوص المقدسة وضوح وأحادية وانسجام الحساب كلغة للنظام. إن هذا البحث عن النظام، الذي كان مقصورا في البداية على الموضوعات الرياضية، امتد تدريجيا إلى مجالات تجريبية لم تكن قابلة لأن ينطبق عليها تحليل النظام. "وشيئا فشيئا، يقول فرانسوا جاكوب بلغة فوكوية، بدا إرجاع المعقد إلى البسيط، وحل التعقد الظاهري بالبساطة التي تقبع خلفه(…)؛ بدا كل هذا ينطبق على ما ليس قابلا للقياس مباشرة. فالأشياء الأكثر تنوعا، والجواهر، والكائنات، وحتى الكيفيات، انتهت بأن قبلت الدخول في التصنيف. ومن أجل أن يستخرج منها أي نظام، فإنه كان يكفي، متى كان ذلك ممكنا، أن يقام قانون عام يسمح بجمع موضوعات أو قضايا حتى ولو كانت متغايرة، وتثبيت أصنافها؛ وفي حدود هذا النظام، الطواف إراديا في مجموع المجال الذي يطبق فيه القانون، ولكن بشرط أن يوجد نظام من الرموز لتمثيل هذه الموضوعات وإيجاد الروابط بينها".
وحينئذ، فإنه لم يكن من الممكن تعيين مكان محدد للكائنات الحية، وبالتالي تفسير نمط اشتغالها، إلا انطلاقا من أحد أمرين: فإما أن الكائنات الحية هي عبارة عن آلات ليس هناك للنظر ما يعتبرها فيها غير الأشكال والمقادير والحركات، وإما أنها تفلت من قوانين الميكانيكا، وفي هذه الحالة فإنه ينبغي التخلي عن كل وحدة أو نظام في العالم. وأمام هذا الاختيار، فإنه لم يكن يمكن للفلاسفة ولا للفيزيائيين، ولا حتى للأطباء، أن يترددوا: فالطبيعة هي آلة ضخمة، والآلة طبيعة. لذلك كان يمكن لديكارت أن يقول بأنه إذا كان من الطبيعي أن تنتج الشجرة الفاكهة، فإنه من الطبيعي كذلك أن تسجل الساعة بواسطة الآليات التي تتوفر عليها، الدقائق والساعات. والأمر هنا وهناك واحد ويتعلق بتطابق بين كل الأشياء الخاضعة لنفس قوانين الحركة. الشيء الذي نتج عنه أن "النزعة الآلية كانت طبيعية وضرورية في العصر الكلاسيكي، وذلك بنفس القدر الذي سيكون عليه شكل معين من الحيوية عند بداية البيولوجيا". لماذا؟
لأنه حتى نهاية القرن الثامن عشر، لم يكن هناك حد فاصل وواضح بين الكائنات والأشياء؛ فالحي كان متصلا، دون انفصال أو انقطاع، بغير الحي؛ ولم يكن هناك بعد أي تقسيم يفصل الحي عن غير الحي. أما التمييز الذي يقام عادة بين مملكات الطبيعة الثلاثة: الجماد والنبات والحيوان، فإنه لم يكن يشتغل، في الأساس، إلا من أجل إقامة تحديد الأصناف الكبرى التي تحوي كل أجسام العالم دون أن تكون بينها قطائع فاصلة. لذلك فـ "التنظيم لم يكن يمثل سوى تعقد في البنية المرئية. فلا في القرن السابع عشر، ولا أثناء كل القرن الثامن عشر تقريبا، كان يتعرف على هذه الكيفية الخاصة للتنظيم التي سيسميها القرن التاسع عشر بـ"الحياة" … فلم تكن هناك بعد وظائف كبرى ضرورية للحياة، بل كانت هناك فقط أعضاء تشتغل. وبالتالي، كان هدف الفيزيولوجيا يتحدد في التعرف على ترتيبها ودواليبها". ولعل هذا نفسه هو ما يعبر عنه ميشال فوكو، من منظور تحليله الأركيولوجي لإبيستيمي العصر الكلاسيكي، عندما يقول: "نريد أن نكتب تواريخ للبيولوجيا في القرن الثامن عشر، ولكننا لا ننتبه إلى أن البيولوجيا لم تكن موجودة، وأن قطاعة المعرفة، المألوفة لدينا منذ أزيد من مائة وخمسين عاما، لا يمكنها أن تصلح لمرحلة سابقة. إنه إذا كانت البيولوجيا لا وجود لها، فلسبب بسيط جدا وهو أن الحياة نفسها لم تكن موجودة. لقد كانت توجد فقط كائنات حية". وهكذا، لم يكن هناك في نظام هذه الإبيستيمي، أي سبب يسمح بتعيين مكان خاص للأجسام الحية بين أشياء العالم، وبسحبها من الآلة الضخمة التي تدير الكون. فوحده ما كان يرجع بوضوح إلى قوانين الحركة في جسم الحيوان هو الذي كان قابلا للتحليل والتفسير. ولقد كان هذا هو حال الهيكل العظمي وقامة الحيوان، وحال طيران الطيور، وبالخصوص حال دوران الدم في الأوعية مع وليام هارفي.
وبناء على ذلك، فإن نظرية الحيوان-الآلة، السائدة يومئذ على مستوى دراسة الكائن الحي، كانت تفرضها الطبيعة ذاتها للمعرفة بما هي معرفة تحليلية تنظيمية. فخصائص الموضوعات، بالنسبة لديكارت، لا يمكن أن تصدر إلا عن تنظيم المادة؛ وإذا كان هذا يصح بالنسبة لحركات آلة صنعت وركبت أجزاؤها بهدف قيامها بحركة تنتظر منها، فإنه يصح ضرورة بالنسبة لجسم حيواني لا فائدة مطلقا في أن نلتمس فيه "أي نفس نباتية أخرى، ولا أي نفس حساسة، ولا أي مبدأ آخر للحركة وللحياة، غير دمه وأنفاسه المتحركة بفعل حرارة النار التي تلتهب باستمرار في قلبه، والتي لا تختلف طبيعتها عن طبيعة كل النيران التي في الأجسام الجامدة". وبهذا يكون مجموع أجسام العالم الطبيعي، الحية وغير الحية، قد تعين خارج كل تفاعل مسافي، خارج كل علاقة مشبوهة، لأن لا شيء بات ممكنا بواسطة القوى الغيبية بل أضحى كل شيء ممكنا بواسطة القوى الفيزيائية، الميكانيكية وحدها.
ذلك هو الفضاء المعرفي العام الذي نشأت داخله الآلية واشتغلت فيه كموجه ومتطلب معرفيين في آن واحد. ولئن كانت النزعة الآلية قد مثلت الموقف الأساسي المتوافق مع بنية المعرفة الكلاسيكية، وعندما كانت الكائنات الحية تنتمي إلى نفس نظام الأشياء وذلك ضد الإحيائية وتنوعاتها المختلفة، وبناء على المقتضى الإبستمولوجي القاضي بتطهير الأشياء والكائنات من هالة المعتقدات والخرافات التي كانت تحيط بها من أجل إرجاعها إلى حدود المرئي والقابل للتحليل، فإنها سرعان ما أبانت عن قصورها في تفسير الاشتغال البيولوجي للكائنات الحية. فبقدر ما كانت تنكشف جوانب جديدة في التعقد البالغ لهذه الكائنات، بقدر ما كانت تزداد صعوبة اختزال كل خصائصها إلى ترابطات آلية بين أعضائها المشبهة بأجزاء آلة. لذلك لم تكن الآلية لتصمد طويلا، في صورتها الأولى، أمام ثقل وقوة الملاحظات. وهذا أمر قادها، عندما أرادت أن تمضي إلى أقصى مداها المنطقي، إلى الغائية والميتافيزيقا. وهو ما يعبر عنه كانغلهم أبلغ تعبير في معرفة الحياة عندما يكتب قائلا: "إن الآلية يمكنها أن تفسر كل شيء حينما نكون أمام آلات، ولكن لا يمكنها أن توضح الآلات. فليس هناك آلة تصنع آلات. بل يمكننا حتى أن نقول، بمعنى ما، بأن تفسير الأعضاء أو العضويات بنماذج ميكانيكية هو تفسير العضو بالعضو. وفي العمق، فإن هذا لا يعدو أن يكون تحصيلا لحاصل، لأن الآلات يمكنها أن تعتبر(…) بمثابة أعضاء النوع البشري. إن الأداة والآلة هي أعضاء، والأعضاء هي آلات، وبالتالي فإننا لا نرى بوضوح أين يوجد التعارض بين الآلية والغائية. فلا أحد يشك في وجوب توفر آلية لضمان نجاح قصدية وغائية، وبالعكس، فإن كل آلية ينبغي أن يكون لها معنى، لأن الآلية ليس تبعية حركية تكون بالمصادفة…".
صحيح أن الآلية ستعرف، مع نيوتن وفي عالم الجاذبية، تحولا في طبيعتها قاد إلى نشوء الكيمياء العلمية مع لافوازيه، وإن مجالا جديدا للفيزيولوجيا سيصبح، بواسطتها، موضوعا للدراسة كالهضم والتنفس من حيث أنهما ظاهرتين قابلتين للتحليل والتفسير بمناهج ومفاهيم الكيمياء؛ وإن الكائن الحي غدا، تبعا لذلك، ينظر إليه من منظور كيميائي صرف. ولكن هذا كله لم يغير في شيء من الآلية كما وصفناها أعلاه وطالما بقيت مسألة البيولوجيا هي أساسا مسألة الكائن الحي.
بيد أنه عندما يصبح موضوع البيولوجيا هو الحياة فإن الحيوية تصير أساسية لأنها تشكل نقطة تحول حاسمة لانفصال الكائنات عن الأشياء، ولتكون البيولوجيا كعلم بالحياة. فدراسة الكائنات الحية تغدو، من هذه الزاوية، شيئا لا يمكنه أن يكون مجرد امتداد لعلم الأشياء، ويصير تحليل الحي متطلبا لمناهج ومفاهيم ولغة خاصة ولأن الكلمات تنقل معها إذا لم تفحص بدقة، إلى عالم الأجسام المنظمة، أفكارا تأتي من علوم المادة الجامدة ولا تتلاءم مع الظواهر البيولوجية. "فلو كان الناس، يقول بيشا، قد انشغلوا بالفيزيولوجيا قبل أن يهتموا بالفيزياء، فإنني متيقن بأنهم كانوا سيقومون بتطبيقات متعددة للأولى على الثانية، وأنهم كانوا سيرون الأنهار تجري بالفعل المنشط لضفافها والبلورات تجتمع بفعل الإثارة الذي تمارسه على حساسيتها المتبادلة، والكواكب تتحرك لأنها تؤثر في بعضها البعض على مسافات بعيدة". ولقد أضحى من غير المناسب تماما، بالنسبة للقرن التاسع عشر، في وقت بدأت تتكون فيه البيولوجيا كعلم، أن يوصف اشتغال الكائنات المنظمة بعبارات الجاذبية والتشابه والحركة. ولذلك، فإنه لكي يتم الحفاظ على انسجام الكائن، وضمان نظام الحي بالتعارض مع "لا نظام" المادة، كان ينبغي أن تكون هناك قوة ذات طبيعة خاصة، قوة كان يسميها كانط بـ"المبدأ الداخلي للفعل"، أي "الحياة". وهكذا، فإن اللجوء إلى مبدإ حيوي إنما نتج عن الوضع ذاته للبيولوجيا، عن ضرورة فصل الكائنات عن الأشياء. فالحيوية أساسية بالنسبة لبداية البيولوجيا، تماما مثلما كانت الآلية في معرفة العصر الكلاسيكي أساسية، لا بالنسبة للطبيعيين والفيزيولوجيين والأطباء فحسب، ولكن أيضا بالنسبة للكيميائيين الذي يدرسون المكونات العضوية، أي المواد المشكلة للكائنات الحية أو المنتجة من قبلها. وإذا كانت الآلية كمنهج علمي وكفلسفة، هي المسلمة الضمنية التي يقوم عليها كل استعمال للآلات، وإذا كان اختراع الآلات واستخدامها، أي النشاط التقني بصفة عامة، هو ما يدعوه هيجل بـ"خدعة العقل" التي تتعلق بإنجاز غايات معينة بواسطة أشياء تعمل على بعضها البعض طبقا لطبيعتها الخاصة، فإن الخدعة الإنسانية لا يمكنها أن تنجح إلا إذا كانت الطبيعة لا تقوم على نفس هذه الخدعة. لذلك، فإن فرضية "الإله المخادع" التي صاغها ديكارت في التأملات إنما ترجع إلى تحويل الإنسان إلى حيوان تحيط به المكائد من كل جانب. فـ"من المستحيل، يقول كانغلهم، أن نمنح لله إزاء الإنسان الخدعة التي للإنسان إزاء الحيوان دون أن نلغي الإنسان من حيث هو كائن حي بإرجاعه إلى العطالة. ولكن، ألا يمكن أن نؤسس على ذلك، حينئذ، بأن نظرية الحي-الآلة هي خدعة إنسانية من شأنها، إذا أخذت في حرفيتها، أن تلغي الكائن الحي؟ فلو كان الحيوان مجرد آلة، وكذلك الطبيعة كلها، فلماذا كل الجهود الإنسانية من أجل إرجاعها إليها؟".
غير أن الحيوية، سواء كانت أساسية لبداية البيولوجيا، أو كانت تصور انتماء جوهريا إلى الطبيعة –الأمر الذي لا يعني بأنها لم تتبلور في شكل فلسفات هنا أو هناك-، فإنها تظل، في نظر كانغلهم، مستلزما أساسيا للتفكير في تميز ظواهر الحياة. فمن الأكيد أن الظاهرة الأساسية، بالنسبة للحيويين، التي تؤثر مشكلاتها الخاصة، بهذه الدرجة أو تلك، على دلالة الظواهر البيولوجية الأخرى، هي ظاهرة التولد (Génération). فالحيوي، بهذا المعنى، هو "الإنسان الذي ينساق إلى التفكير في مشكلات الحياة بتأمل بيضة أكثر مما يفعل باستعمال آلة لرفع الأثقال أو منفخ حداد". من هنا بدون شك هذا الجانب في الحيوية الذي هو خصوبتها.
تشتهر الحيوية غالبا عند منتقديها بكونها وهمية، أو تنطوي على الكثير من الأوهام بخصوص ظواهر الحياة. والواقع أن المفاهيم النظرية التي تنتجها الحيوية، عندما يفشل التفسير الآلي أو يتعثر، هي مفاهيم لفظية لا تساعد البتة على تمثل الأشياء أو صياغة الأسئلة الصحيحة بشأنها (المبدأ الحيوي عند بارتيز، القوة الحيوية عند بيشا، الكمال الأول عند دريش…). فـ "التسليم بأن الحياة تنجم عن مبدأ حيوي، يقول كلود برنار، معناه تعريف الحياة بالحياة، أي إدخال المعرف في التعريف". لذلك فـ"نحن ننفصل عن الحيويين، لأن القوة الحيوية، أيا كان الاسم الذي يعطى لها، لا يمكنها أن تفعل أي شيء لوحدها، وأنه لا يمكنها أن تعمل إلا باستخدام القوى العامة للطبيعة، وإنها غير قادرة على التجلي خارج هذه القوى". والنتيجة، يضيف كلود برنار، إن هناك، في عمق المذاهب الحيوية، خطأ كبيرا يتعذر على التصحيح ويتعلق باعتبار أن تشخيصا مضللا لتنظيم الأشياء يشكل قوة، وبإعطاء وجود واقعي ونشاط مادي فعال إلى شيء لا مادي ما ليس، في الواقع، سوى فكرة ذهنية، اتجاها ساكنا بالضرورة". وإذا كان الأمر كذلك، فلا مجال للحديث عن خصوبة الحيوية، خصوصا، وأنها، كما يلاحظ كانغلهم، عندما تستعين باليونانية لتسمية الكائنات الغربية التي تضعها في مقام مبادئ تفسيرية، فإنها تتقدم دائما كعودة، نوع من العودة، إلى القديم، اليوناني بالأساس. فـ"حيوية" النهضة هي عودة إلى أفلاطون ضد أرسطية تحولت إلى منطق جاف وجامد، و"حيوية" ستاهل (Stahl) وبارتيز (Barthez) هي عودة، فيما وراء ديكارت، إلى أرسطو كتاب النفس… ولكن، ما هو المعنى الذي ينبغي إعطاؤه لهذه العودة؟ هل يتعلق الأمر فيه بإعادة تقويم لمفاهيم قديمة زمنيا، أم بحنين إلى حدوس أكثر أساسية، أنطولوجيا؛ وبالتالي أكثر قربا من موضوعها؟ إن تأويل العودة على أنها تراجع إنما يقتضي التيقن أولا، في نظام النظريات، من الأصول الحقيقية ومن معنى الحركة. وفي هذا الإطار، أليست حيوية أرسطو نفسه هي رد فعل ضد آلية ديمقريطس الذرية؟، وإن غائية أفلاطون هي كذلك رد فعل ضد آلية أناكساغوراس كما توصف في محاورة "فيدون"؟ "ومهما يكن، فمن المؤكد أن عين الحيوي تنصرف إلى البحث عن سذاجة معينة لرؤية ما قبل تكنولوجية، ما قبل منطقية؛ رؤية للحياة سابقة على الوسائل التي ابتكرها الإنسان من أجل مد وترسيخ الحياة كالأداة واللغة". على هذا الأساس نفهم أن فيما وراء أوهام الحيويين، إنما يتعلق الأمر دوما بحدس معين عن الحياة لا يسمح بتكوين فكرة عن تميزها وحسب، ولكنه يتيح أساسا إمكانية إدراك المعنى البيولوجي للوسائط بين الإنسان والطبيعة. على أن هذا وحده ليس كافيا للدلالة على الخصوبة التي برهنت عليها الحيوية في تاريخ التناول البيولوجي لظواهر الحياة، إن هذا التاريخ وما يتضمنه من وقائع الاكتشاف هو الذي بإمكانه أن يفصل فيها.
وفي هذا السياق، يرى كانغلهم بأنه يجب الاحتراس من النظر إلى الحيوية على أنها تقف جوهريا، وراء مكتسبات علمية ترجع بدون شك إلى باحثين يوصفون بالحيويين، ولكن بعد اكتشاف الوقائع، لا قبلها، بحيث أن تصوراتهم الحيوية تنتج أساسا عن هذا الما بعد: "إن الحيوية لا تتدخل في غالب الأحيان، يضيف فرانسوا جاكوب، إلا بعد الملاحظة، لا للرؤية وإنما للتأويل. فليست الحيوية هي التي توجه مشرط ويليس لتشريح مخيخ وإقامة ترابطاته، ولا نظر هارتسوكير لرؤية الحيوانات المنوية بواسطة المجهر في السائل المنوي الذكري. وعندما يبرز سوامردام الانسلاخ في الحشرات، فليس المهم أن يرى في ذلك فعل النفس وانتظام العناية الإلهية".
ولكن ليس معنى هذا أن خصوبة الحيوية هي شيء لا وجود له؛ فتاريخ شامل للبيولوجيا بحيث لا يمنح الامتياز لأي وجهة نظر معينة، ولا لأي موقف مسبق كما هو الشأن عند جورج كانغلهم، يثبت العكس. ومن منظور هذا التاريخ، فإن تبني وولف مثلا لتصورات حيوية معينة لم يمنعه، كما يثبت كانغلهم، من أن يكون هو المؤسس الحقيقي لعلم الأجنة الحديث بملاحظاته الدقيقة وتفسيراته الدينامية للحظات تطور البويضة الملحقة، وذلك ضدا على النظرية السائدة إلى عصره التي كانت ترجع تكون الجنين إلى تشكل مسبق. نفس الشيء يمكن أن يقال عن المساهمات الحاسمة لكارل فون بير في نفس الموضوع. غير أن نفس هذا التاريخ يبين كذلك بأنه، إذا كانت الحيوية لم تمنع، في هذه اللحظة أو تلك من تاريخ البيولوجيا، من تقدم البحث العلمي، فإنها قد انقلبت في أحيان كثيرة إلى تأمل فلسفي خالص يمدد أو يحول البيولوجيا إلى بيولوجيا فلسفية. ولكن الذي تنبغي إدانته بشدة، في عملية هذا التحويل، هو إفادة ممارسيه من معطيات البيولوجيا بغية بلورة وتشييد أنظمة فلسفية حول الحياة لا صلة لها بواقع البحث العلمي فيها. بهذا المعنى، تصير الحيوية مشروع استغلال إيديولوجي لمعطيات ونتائج الممارسة العلمية البيولوجية. يقول كانغلهم بهذا الخصوص: "يعتقد البيولوجي الحيوي الذي يتحول إلى فيلسوف بأنه يقدم للفلسفة رؤوس أموال، ولكنه لا يقدم لها، في الواقع، سوى ريع (أو إيراد) لا تكف قيمته عن النزول في بورصة القيم العلمية، لمجرد تواصل البحث الذي لم يعد يشارك فيه".
ولكن، ألا يمكن أن نجد لذلك أساسا تبريريا في الاقتضاء الحيوي نفسه؟ بمعنى أن الثقة الشاملة في الحياة هي التي تقود إلى مثل هذا الموقف العقيم؟ ألا يمكن أن تكون مسلمات الحيوية نفسها هي المسؤولة عن ذلك؟ وبلغة كانغلهم، هل الحيوية هي شيء آخر غير تحويل حدود الآلية والتفسير الفيزيو-كيميائي للحياة إلى محظورات وثوقية، وبالتالي تصور خاطئ للحد الإبستمولوجي؟ يقول موريس موليري: "يمكن أن نميز المرحلة الراهنة بإرجاع، يكتمل يوما بعد يوم، للظواهر الحيوية البسيطة إلى آليات فيزيو-كيميائية صرفة. وهذا فتح علمي بالغ الأهمية ويكتسي طابعا عاما ونهائيا. ويبقى، كمنظور لمراحل لاحقة، أن يقتحم سر الحياة ذاته، وأن تتم معرفة ما إذا كان يمكن أن يخضع كليا لتصور من نفس النظام (أي تصور فيزيو-كيميائي)". وهذا تقرير يذهب به جان روسطاند إلى أبعد مدى حين يقول: "إن للآلية، في اللحظة الراهنة (من المعرفة البيولوجية)، موقفا صلبا للغاية؛ ونحن لا نجد ما به يمكننا أن نجيبها عندما تطلب فقط، وهي مسلحة بنجاحاتها اليومية، بعض الآجال لإنهاء عملها، أي تفسير الحياة كليا بدون الحياة". ولعل هذا ما يبدو أن اليبولوجيا المعاصرة قد أنجزته كليا أو تكاد. فماذا يبقى من الحيوية؟ الواقع أن الحيوية، عندما تتقدم كمذهب للتحديد، تحديد المجالات، أو نظرية لتقسيم التجربة التي ينبغي تفسيرها، فإنها تضع حدودا قسرية هي في النهاية حدودا وهمية. فالحياة، حسب بيشا، تتعارض مطلقا، من حيث عدم ثباتها وعدم انتظامها، مع عدم قابلية القوانين الفيزيائية للتغير. ومعنى هذا بوضوح أن الحيوية الكلاسيكية (حيوية القرن الثامن عشر) تقبل اندراج الكائن الحي في الوسط الفيزيائي، ولكنها تشدد في ذات الحين على أنه يشكل استثناء أساسيا في انسحاب قوانين ذلك الوسط عليه. ولعل هنا بالذات يكمن الخطأ الفلسفي الذي لا يمكن أن يغتفر.
إن للظاهرة البيولوجية، بالعلاقة مع الظاهرة الفيزيائية أو الكيميائية، خصوصيتها المميزة لها، ما في ذلك شك، ولكن ينبغي ألا يعني هذا بأنها تشكل شيئا خارقا، متعاليا، يفرض في عالم الطبيعة المادية استثناء ما بخصوص القوانين التي تحكمها. لأنه، لو تصورنا الأمر على هذا النحو لفهمنا لماذا، حين تمارس الكيمياء عملية اختزال كلية خصوصية الحي إلى آليات فيزيو-كيميائية محضة، فإنها تظل وفية، كالفيزياء، لتماسكها المنطقي الذي يقضي بتحديد قوانين عامة للموضوعات، قوانين تصلح خارج كل إحالة على مركز مطلق منه تتم الإحالة، ولفهمنا كذلك لماذا يصر كلود برنار، كرد فعل ضد إثارة قوة حيوية تفسر ظواهر الحياة، على القول بأن في قاعدة ظواهر الحياة، أيا كان تعقدها، هناك أولا وأخيرا الشروط المادية، الفيزيو-كيميائية، التي هي شروط محددة: "إن الشروط التي بإمكاننا الوصول إلى تحديدها من أجل إبراز ظواهر الحياة هي كلها شروط مادية وفيزيو-كيميائية. فليس هناك أي فعل ممكن إلا على وبالمادة. والكون لا يقدم أي استثناء عن هذا القانون. لذا، فإن لكل تجل ظواهري، سواء أقام في الكائنات الحية أو خارجها، قاعدة ضرورية هي الشروط المادية. وعليه، فإن هذه الشروط هي التي ندعوها بـ"الشروط المحددة للظاهرة". وقد حدا هذا ببرنار إلى اعتبار أن الفيزيولوجيا لا يمكنها أن تكون إلا علما حتميا كباقي علوم الطبيعة: "إن الحتمية الفيزيولوجية، بالنسبة إلينا، لا يمكن أن تخضع لأي تقييد: فكل الظواهر التي تحدث في الكائنات الحية وفي الإنسان ظواهر فيزيولوجية ترتبط أشد الارتباط بشروط فيزيو-كيميائية محددة؛ تسمح بها عندما تتحقق، وتمنعها حين تنعدم".
لذلك يقرر كانغلهم من منظور فهم دقيق للاقتضاء الحيوي وضد الاستثناء المشار إليه، بأنه عندما نتعرف على أصالة الحياة، فإنه يجب أن نضمن المادة في الحياة، وعلم المادة، الذي هو العلم حصرا، في نشاط الكائن الحي. تضمين المادة في الحياة معناه اعتبار الحياة مجموعة سيرورات مادية، خاصة دون شك، ولكنها مادية، وتضمين علم المادة في نشاط الإنسان للتكيف المتواصل مع المادة.
وإذا كانت الفيزياء والكيمياء، في تحديدها للقوانين بين الموضوعات خارج كل مركز كما قلنا، قد أتت اليوم، ومن خلال هذا التحديد ذاته، إلى الاعتراف بملازمة القائس للمقيس وبالتعلق الوثيق للملاحظة بالفعل الملاحظ نفسه، فإن الوسط الذي كان يعني بالنسبة للفيزياء في البداية، "المجال"، انتقل مفهومه، وبواسطة الفيزياء، ليعني في البيولوجيا "المركز"، المركز الذي تنتظم من خلاله التجربة. وعليه، فلا مجال، بهذا المعنى، للحديث عن وسط خاص بالكائن الحي، لأن الوسط الذي يراد أن يرى فيه ظهور الحياة ليس له من معنى للوسط إلا بعملية تقنية أساسية. والنتيجة "أن هذا التأويل لا ينزع من الفيزياء أي شيء، كيفما كانت الحتمية التي تريدها وتستطيعها، ولا يسحب منها أيا من موضوعاتها. ولكنه يدمج التأويل الفيزيائي في تأويل آخر، أوسع وأكثر تفهما، لأن معنى الفيزياء مبرر فيه ونشاط الفيزيائي مضمون في كليته". واضح إذن أن البيولوجيا لا يمكنها أن تنشد خصوصيتها كعلم للحياة إلا عندما تقيم، لتصدر عنها، وجهة نظر كلية حول التجربة الإنسانية بما هي تجربة الإنسان الحي والعالم في آن، ولعل هذا بالذات هو المعنى الأساسي الذي ينبغي أن يكون للحيوية عندما تضمنها البيولوجيا كمستلزم جوهري يقتضيه مطلبها بالاستقلال المنهجي والمذهبي، وأصالة ظواهرها. وأيا كان، فإن هذا هو، في اعتقادنا، معنى الاهتمام النظري الدقيق الذي يوليه لها كانغلهم في عملية إعادة تقويمه لدورها التاريخي في التفكير البيولوجي، "إنه إذا كان العلم واقعا قائما في العالم في ذات الحين الذي هو فيه رؤية للعالم، فإنه إنما يقيم مع الإدراك علاقة دائمة وضرورية، وإذن، فالوسط الخاص بالإنسان ليس معينا في الوسط الكوني كمحتوى في حاو يحتويه. إن المركز لا يذوب في بيئته، والكائن الحي لا يرجع إلى ملتقى تأثيرات وحسب. من هنا عدم كفاية البيولوجيا التي، بخضوعها التام لروح العلوم الفيزيو-كيميائية، تود إلغاء كل اعتبار للمعنى من ميدانها. إن المعنى، من وجهة النظر البيولوجية، هو تقدير للقيم بالعلاقة مع الحاجة. والحاجة هي، بالنسبة لمن يحسها ويحياها، منظومة إحالة لا تقبل الإرجاع، ومن ثم فهي مطلقة".
من هذه الزاوية، يبدو أن وجهة النظر هذه تتمتع بدرجة عالية من النزاهة الفكرية والحس النقدي الدائم، على الرغم من أن هذين الطابعين يرفضهما كل الخصوم الآليين لبيولوجيا تحرص على استقلاليتها. كيف؟
تتصور الحيوية، عند رافضيها، على أنها متخلفة علميا، ولكن أيضا على أنها رجعية سياسيا، والواقع أن الحيوية، والكلاسيكية منها بوجه خاص، تعرض نفسها لهذا الاتهام بالعلاقة التي تقيمها مع الإحيائية، أي النظرية التي تكون بحسبها حياة الجسم الحيواني متعلقة بوجود ونشاط نفس تتمتع بكل صفات الذكاء وتعمل على الجسم كجوهر، على آخر متميز عنه أنطولوجيا، أي نفس هي بكل المعاني سبب الحركة في الجسم الذي تحركه، بحيث أن كل العمليات الحيوية الداخلية للجسم حتى ولو أفلتت من سلطة الاستدلال، تكون عمليات عقلية واعية، ولكن بوعي يختلف عن ذلك الذي يشتغل في التفكير والذاكرة… وعلى هذا الأساس، فإن الحيوية، الملوثة بالإحيائية، تسقط تحت طائلة النقد الفلسفي والسياسي الذي يجعل منها بيولوجيا رجعية. ولعل هناك اليوم، وهذا ما حدث في النصف الأول من هذا القرن، ما يزكي هذا الاتهام عندما استولت الإيديولوجيا النازية على البيولوجيا الحيوية قصد استغلالها في اتجاه تدعيم تصوراتها العنصرية وتنظيماتها السياسية الديكتاتورية. وبهذا الصدد، فإنه ينبغي طرح هذا السؤال الأساسي: هل يتعلق الأمر، في مثل هذا الاستغلال، بالبيولوجيا ذاتها أم بتأويل استغلالي للبيولوجيا؟ ألا تستعيد السياسة هنا من البيولوجيا ما سبق أن أعارته لها؟ يقول كانغلهم في نص بالغ الأهمية وعميق الدلالة من زاوية النقد الإبستمولوجي الدقيق الذي يميزه: "إن المسألة تتعلق، في حالة استغلال السوسيولوجيين النازيين لمفاهيم بيولوجيا لا آلية، بمشكلة العلاقات بين العضوية والمجتمع. فلا يمكن لأي عالم إحياء، من حيث هو كذلك، أن يعطي لهذه المشكلة حلا يجد ضمانته بالقوة في الوقائع البيولوجية وحدها. وكما أنه من العبث أن نبحث في البيولوجيا عن تبرير لسياسة واقتصاد استغلال الإنسان للإنسان، فإنه كذلك من العبث، وبنفس القدر، أن ننكر على العضوية الحية كل طابع حقيقي لتراتب وظيفي ولإدماج وظائف العلاقة على مستويات تصاعدية، لأننا نناصر، لأسباب تتعلق بالعدالة الاجتماعية، مجتمعا خاليا من الطبقات".
بيد أن لا مجال للخلط بين الوقائع التي يثبتها العلم وبين عملية استغلالها لأجل أغراض سياسية أو اجتماعية معينة هنا أو هناك. بل لا إمكان، قطعا، لاستخلاص إيديولوجية ما من العلم نفسه، لأن الإيديولوجيا لا تنشأ إلا من الإيديولوجيا. وفي هذا الإطار، يمكننا أن نفهم بأن استغلال الحيوية، في بيولوجيا حيوية، لاعتبارات إيديولوجية، ينبغي ألا يعني بأن الاقتضاء الحيوي كما نحلله في هذه الصفحات يتيح من ذاته مثل هذا الاستغلال. فاعتناق بعض البيولوجيين للنازية، لأغراض مختلفة، لا يثبت أي شيء ضد نوعية الوقائع التجريبية والافتراضات المعقولة لتفسيرها التي اعتقد هؤلاء البيولوجيون قبل تحولهم إلى النازية أن عليهم أن يمنحوها موافقتهم كعلماء. وإذا كان صحيحا، بمعنى ما وإلى حد ما، أن الانتصار اللحظي للحيوية، دفاعيا أو هجوميا، في هذا السياق المعرفي البيولوجي أو ذاك، يرتبط بأزمات ثقة المجتمع البورجوازي المعاصر في مؤسساته الرأسمالية، فإن هذا التأويل يظهر، رغم ذلك، ضعيفا إبستمولوجيا لأنه يقدم ظاهرة أزمة سياسية اجتماعية على أنها ظاهرة أزمة بيولوجية في النوع البشري لا تتعلق حصرا بفلسفة سياسية. وعلى ذلك، ينبغي أن نفهم بأن "العودة المتجددة للحيوية ربما تترجم بشكل انفصالي الحذر الدائم للحياة أمام مكننة الحياة. إنها الحياة التي تحاول أن ترد الآلية إلى مكانها في الحياة". لأن هناك في الحياة إبداعيتها التلقائية بالأساس، ما يتمرد جوهريا على كل محاولات اختزالها إلى مجرد آليات صرفة. ولعل هذا بالذات ما أوحى بالحيوية كاقتضاء نجده حتى في عمق كثير من الفلسفات المادية، بل إنه هو ما يبرر التأويل الجدلي للظواهر البيولوجية كما يدافع عنه الفلاسفة أو البيولوجيون الماركسيون. إنه "ينبغي التخلص، يضيف كانغلهم، من الاتهام بالميتافيزيقا، إذن بالوهم حتى لا نقول أكثر، الذي يطارد البيولوجيين الحيويين في القرن الثامن عشر… إن الحيوية هي الرفض لتأويلين ميتافيزيقين بخصوص أسباب الظواهر العضوية، الإحيائية والآلية. فكل حيويي القرن الثامن عشر كانوا نيوتونيين، أي أناسا يمتنعون عن وضع الفرضيات حول ماهية الظواهر، ويفكرون فقط في وصف وتنسيق الآثار التي يرونها مباشرة وبدون مسبقات".
ليست الحيوية إذن، كما صورها كثير من الفلاسفة ومؤرخي البيولوجيا، لأنهم لم يميزوها بالدقة الكافية عن الإحيائية، ميتافيزيقا خيالية، وإنما هي رفض للميتافيزيقا في البيولوجيا، بمعنى رفض لكل التصورات الميتافيزيقية حول ماهية الحياة وأسبابها الأولى. ولذلك كانت الغالبية العظمى من الحيويين تحيل، بصراحة ووضوح، على نيوتن على أنه نموذج العالم الذي يهتم قبل كل شيء بالملاحظات والتجارب، ولا يستخدم، لتأويلها، إلا المفاهيم الكفيلة بإتاحة إقامة وقائع إذا لم تكن دائما مدركة، فعلى الأقل تكون دائما مستقراة لا يبحث عن أسبابها في صورة فرضيات. من هنا، عند كانغلهم، الدلالة التاريخية للحيوية كـ"نيوتونية بيولوجية". وكما أن الفيزياء النيوتونية لم تكن تخلو من ميتافيزيقا، كما أثبت كويري بشكل علمي صارم، كذلك لم يكن الحيويون تجريبيين بسطاء، ولكنهم لم يكونوا كذلك، بوعي وعن قصد، ميتافيزيقيين معاندين. "لقد كان مبدأهم الحيوي هو الاسم الذي كانوا يطلقونه لعجزهم عن اعتبار الآلية المحضة أو فعل النفس قادرين على تفسير ظواهر الحياة(…). إنه ينبغي أن تكون لنا نزاهة الاعتراف بأن هذه الظواهر بحق على أنها متميزة، لم تكن تجد، في إطار الآلية والإحيائية، سوى تفسيرات بهلوانية أو مثيرة للسخرية"، ولئن كان جورج كانغلهم قد كتب يقول في معرفة الحياة بأن الحيوية هي الإدراك البسيط لأصالة الواقعة الحية، فإنه عاد ليؤكد، من زاوية هذه الرؤية التاريخية، بأن الحيوية هي ببساطة النظر إلى الحياة كنظام أصيل للظواهر، وبالتالي التعرف على خصوصية المعرفة البيولوجية".
ولعل معنى هذا، فيما وراء التحدي الذي يطرحه، أن الحيوية هي الفلسفة الحقيقية فعلا والمتميزة حقا التي تسند وتدعم البحث العلمي في علوم الإحياء، الفلسفة التلقائية النهارية للممارسة العلمية في البيولوجيا، ولكن الفلسفة التي لا تفتأ تتغير وتتحول في رؤيتها ومقولاتها بالترابط التام والعضوي مع تطور الممارسة العلمية نفسها. ولربما أن هذا هو الذي لم يدركه بعض كبار البيولوجيين في زماننا حينما رفضوا الحيوية جملة وتفصيلا كميتافيزيقا .